تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٦٧ ـ سورة الملك

سماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سورة تبارك الذي بيده الملك» في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي «سورة تبارك الذي بيده الملك» قال الترمذي : هذا حديث حسن.

فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر (تأبّط شرّا) ولفظ «سورة» مضاف إلى تلك الجملة المحكية.

وسميت أيضا «تبارك الملك» بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمع منه فيما

رواه الترمذي عن ابن عباس «أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان (أي دفين فيه) يقرأ سورة «تبارك الملك» حتى ختمها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» حديث حسن غريب فيكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عدّ الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية (لام ألف). ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ «تبارك» بصيغة الماضي ويحكى لفظ «الملك» مرفوعا كما هو في الآية ، فيكون لفظ «سورة» مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينها وبين «تبارك الفرقان» ، كما قالوا : عبيد الله الرّقيّات ، بإضافة مجموع «عبيد الله» إلى «الرقيات» تمييزا لعبيد الله بن قيس العامري (١) الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله

__________________

(١) هو من بني عامر بن لؤي شاعر مجيد من شعراء العصر الأموي.

٥

ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيب في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية (١) وهن ثلاث ولذلك يجب أن يكون لفظ «تبارك» في هذا المركب مفتوح الآخر. ولفظ «الملك» مضموم الكاف ، وكذلك وقع ضبطه في نسخة «جامع الترمذي» وكلتاهما حركة حكاية.

والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة «سورة الملك» وكذلك ترجمها الترمذي : باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه».

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال «كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة» ، أي أخذا من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.

وفي «الإتقان» عن «تاريخ ابن عساكر» من حديث أنس «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سماها المنجية» ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.

وفي «الإتقان» عن «كتاب جمال القراء» تسمى أيضا «الواقية» ، وتسمى «المنّاعة» بصيغة المبالغة.

وذكر الفخر : أن ابن عباس كان يسميها «المجادلة» لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.

فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.

وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي : باتفاق الجميع.

وفي «الإتقان» أخرج جويبر (٢) في «تفسيره» «عن الضحاك عن ابن عباس : نزلت

__________________

(١) هي رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد من بني عامر بن لؤي ، وابنة عم لها يقال لها : رقية ، ورقية أخرى امرأة من بني أمية وكن في عصر واحد.

(٢) كتب في نسخة مخطوطة جويبر بصيغة تصغير جابر والذي في المطبوعة جبير بصيغة تصغير جبر ترجمه في طبقات المفسرين في اسم جبير بن غالب يكنى أبا فراس كان فقيها شاعرا خطيبا فصيحا ، له كتاب «أحكام القرآن». وكتاب «السنن والأحكام». و «الجامع الكبير» في الفقه ، وله رسالة كتب بها إلى مالك بن أنس ، ذكره ابن النديم وعدّه من الشراة من الخوارج.

٦

تبارك الملك في أهل مكة إلّا ثلاث آيات ا ه. فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة. وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب «الإتقان» هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها ، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة ، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله : (عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥].

وقال في «الإتقان» أيضا «فيها قول غريب (لم يعزه) أن جميع السورة مدني». وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.

وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون.

أغراض السورة

والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.

ابتدئت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق ؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.

ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.

وأنه الذي يجازي عليها.

وانفراده بخلق العوالم العليا خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.

وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.

متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين ، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران ، وتنبيه المعاندين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى علم الله بما يحركونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.

والتذكير بمنّة خلق العالم الأرضي ، ودقة نظامه ، وملاءمته لحياة الناس ، وفيها

٧

سعيهم ومنها رزقهم.

والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء ليتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.

وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.

وآيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.

وفظّع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.

ثم وبّخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.

ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستريحوا من دعوته.

وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم ، وأنذرهم بما قد يحلّ بهم من قحط وغيره.

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحا يؤذن بأن ما حوته يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لمّا نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان.

وفعل (تَبارَكَ) يدل على المبالغة في وفرة الخير ، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة ، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى.

وصيغة تفاعل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تطاول وتغابن ، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل : تواصل الحبل.

وهو مشتق من البركة ، وهي زيادة الخير ووفرته ، وتقدمت البركة عند قوله تعالى : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) في [سورة هود : ٤٨].

وتقدم (تَبارَكَ) عند قوله تعالى : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) في أول [الأعراف : ٥٤].

٨

وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه ، وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] : إمّا على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء ، وإمّا باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها ، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هاذين المعنيين ، وقد تقدم في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١].

وجعل المسند إليه اسم موصول للإيذان بأن معنى الصلة ، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلّا لله.

وذكر (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) إلى قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ١ ـ ٢].

والباء في (بِيَدِهِ) يجوز أن تكون بمعنى (في) مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) [آل عمران : ١٢٣] وقول امرئ القيس :

بسقط اللوى

فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة الملك ، والملك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها ملكا.

والتعريف في (الْمُلْكُ) على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس ، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلّا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.

واليد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات : ٤٧] وقول العرب : ما لي بهذا الأمر يدان.

ويجوز أن تكون الباء للسببية ، ويكون (الْمُلْكُ) اسما فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم.

وتقديم المسند وهو (بِيَدِهِ) على المسند إليه لإفادة الاختصاص ، أي الملك بيده لا

٩

بيد غيره.

وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بملك غيره ، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك ملك غير تام لأنه لا يعمّ المملوكات كلها ، ولأنه معرض للزوال ، وملك الله هو الملك الحقيقي ، قال : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) [طه : ١١٤].

فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون.

واليد : تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد ؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) في [سورة آل عمران : ٢٦].

و (الْمُلْكُ) بضم الميم : اسم لأكمل أحوال الملك بكسر الميم ، والملك بالكسر جنس للملك بالضم ، وفسر الملك المضموم بضبط الشيء المتصرّف فيه بالحكم ، وهو تفسير قاصر ، وأرى أن يفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفا كاملا بتدبير ورعاية ، فكل ملك (بالضم) ملك (بالكسر) وليس كل ملك ملكا.

وقد تقدم في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) في [الفاتحة : ٤] وعند قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) في [سورة البقرة : ٢٤٧] ، وجملة : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معطوفة على جملة : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة ، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات ، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات ، فيكون قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) تفاديا من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وتكون هذه الجملة تتميما للصلة. وفي معنى صلة ثانية ثمّ عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) [الملك : ٢] وقوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) [الملك : ٣].

و (شَيْءٍ) ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق (الشيء) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات. وأما التزام

١٠

الأشاعرة : أن الشيء لا يطلق إلّا على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود ، فتفرعت عليه مسألة : أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلّا على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها ، والخلاف فيها لفظي ، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة.

وتقديم المجرور في قوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) للاهتمام بما فيه من التعميم ، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢))

صفة ل (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١] فلما شمل قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك : ١] تعلق القدرة بالموجود والمعدوم أتبع بوصفه تعالى بالتصرف الذي منه خلق المخلوقات وأعراضها لأن الخلق أعظم تعلق القدرة بالمقدور لدلالته على صفة القدرة وعلى صفة العلم.

وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه ، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء ، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه.

فليس ذكر خلق الموت والحياة تفصيلا لمعنى الملك بل هو وصف مستقل.

والاقتصار على خلق الموت والحياة لأنهما حالتان هما مظهرا تعلق القدرة بالمقدور في الذات والعرض لأن الموت والحياة عرضان والإنسان معروض لهما.

والعرض لا يقوم بنفسه فلما ذكر خلق العرض علم من ذكره خلق معروضه بدلالة الاقتضاء.

وأوثر ذكر الموت والحياة لما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضادين على معروض واحد ، وللدلالة على كمال صنع الصانع ، فالموت والحياة عرضان يعرضان للموجود من الحيوان ، والموت يعد الموجود للفناء والحياة تعد الموجود للعمل للبقاء

١١

مدة. وهما عند المتكلمين من الأعراض المختصة بالحي ، وعند الحكماء من مقولة الكيف ومن قسم الكيفيات النفسانية منه.

فالحياة : قوة تتبع اعتدال المزاج النوعي لتفيض منها سائر القوى.

و (الْمَوْتَ) : كيفية عدمية هو عدم الحياة عما شأنه أن يوصف بالحياة أو الموت ، أي زوال الحياة عن الحي ، فبين الحياة والموت تقابل العدم والملكة.

ومعنى خلق الحياة : خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة ، ففي خلقه خلق ما به قوامه ، وأما معنى (خَلَقَ الْمَوْتَ) فإيجاد أسبابه وإلّا فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي ، ولكنه لما كان عرضا للمخلوق عبّر عن حصوله بالخلق تبعا كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦].

وأيضا لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه. والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهرا عظيما من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصف القاهر.

فأما الإحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم.

فمعنى القدرة في الإماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة.

ومعنى القدرة في الإحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم ، وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإنعام. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) في [سورة البقرة : ٢٨].

وفي ذكرهما تخلص إلى ما يترتب عليهما من الآثار التي أعظمها العمل في الحياة والجزاء عليه بعد الموت ، وذلك ما تضمنه قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له وهو الجزاء على العمل للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين في الحيوان لتظهر حكمة خلق الإنسان ويفضيا به إلى الوجود الخالد ، كما أشار إليه قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

وهذا التعليل من قبيل الإدماج.

وفيه استدلال على الوحدانية بدلالة في أنفسهم قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

١٢

والمعنى : أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعلمون الصالحات والسيئات ، ثم أمواتا يخلصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها.

فالتعريف في (الْمَوْتَ) و (وَالْحَياةَ) تعريف الجنس. وفي الكلام تقدير : هو الذي خلق الموت والحياة لتحيوا فيبلوكم أيكم أحسن عملا ، وتموتوا فتجزوا على حسب تلك البلوى ، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة.

وجملة (لِيَبْلُوَكُمْ) إلى آخرها معترضة بين الموصولين.

واللام في (لِيَبْلُوَكُمْ) لام التعليل ، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم. إلخ.

وتعليل فعل بعلة لا يقتضي انحصار علله في العلة المذكورة فإن الفعل الواحد تكون له علل متعددة فيذكر منها ما يستدعيه المقام ، فقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) تعليل لفعل (خَلَقَ) باعتبار المعطوف على مفعوله ، وهو (وَالْحَياةَ) لأن حياة الإنسان حياة خاصة تصحح للموصوف بمن قامت به الإدراك الخاص الذي يندفع به إلى العمل باختياره ، وذلك العمل هو الذي يوصف بالحسن والقبح ، وهو ما دل عليه بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي وأيكم أقبح عملا.

ولذلك فذكر خلق الموت إتمام للاستدلال على دقيق الصنع الإلهي وهو المسوق له الكلام ، وذكر خلق الحياة إدماج للتذكير ، وهو من أغراض السورة.

ولا أشك في أن بناء هذا العالم على ناموس الموت والحياة له حكمة عظيمة يعسر على الأفهام الاطلاع عليها.

والبلوى : الاختبار وهي هنا مستعارة للعلم ، أي ليعلم علم ظهور أو مستعارة لإظهار الأمر الخفي ، فجعل إظهار الشيء الخفي شبيها بالاختبار.

وجملة (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مرتبطة ب (لِيَبْلُوَكُمْ).

و (أيّ) اسم استفهام ورفعه يعيّن أنه مبتدأ وأنه غير معمول للفظ قبله فوجب بيان موقع هذه الجملة ، وفيه وجهان :

أحدهما قول الفراء والزجاج والزمخشري في تفسير أول سورة هود أن جملة الاستفهام سادة مسدّ المفعول الثاني ، وأن فعل يبلوكم المضمن معنى (يعلمكم) معلق

١٣

عن العمل في المفعول الثاني ، وليس وجود المفعول الأول مانعا من تعليق الفعل عن العمل في المفعول الثاني وإن لم يكن كثيرا في الكلام.

الوجه الثاني أن تكون الجملة واقعة في محل المفعول الثاني (لِيَبْلُوَكُمْ) أي تؤول الجملة بمعنى مفرد تقديره : ليعلمكم أهذا الفريق أحسن عملا أم الفريق الآخر.

وهذا مختار صاحب «الكشاف» في تفسير هذه الآية. ومبناه على أن تعليق أفعال العلم عن العمل لا يستقيم إلّا إذا لم يذكر للفعل مفعول فإذا ذكر مفعول لم يصح تعليق الفعل عن المفعول الثاني ، وحاصله : أن التقدير ليعلم الذين يقال في حقهم أيهم أحسن عملا على نحو قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم : ٦٩] أي : لننزعنّ الذين يقال فيهم : أيهم أشد.

وجوز صاحب «التقريب» أن يكون التقدير : ليعلم جواب سؤال سائل : أيكم أحسن عملا.

قلت : ولك أن تجعل جملة : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مستأنفة وتجعل الوقف على قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) ويكون الاستفهام مستعملا في التحضيض على حسن العمل كما هو في قول طرفة :

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني

عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد

فجعل الاستفهام تحضيضا.

و (أَحْسَنُ) تفضيل ، أي أحسن عملا من غيره ، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها ، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأولى لأن إحصاءها والإحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع ، ومن الفساد في النفس ، وفي نظام العالم ، وذلك أولى بالعقاب عليه ففي قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إيجاز.

وجملة : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) تذييل لجملة : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إشارة إلى أن صفاته تعالى تقتضي تعلقا بمتعلقاتها لئلا تكون معطلة في بعض الأحوال والأزمان فيفضي ذلك إلى نقائضها ، فأما (الْعَزِيزُ) فهو الغالب الذي لا يعجز عن شيء ، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) كما تقدم آنفا ، أي ليجزيكم جزاء العزيز ، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة. وهذا

١٤

حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله (لِيَبْلُوَكُمْ).

وأما (الْغَفُورُ) فهو الذي يكرم أولياءه ويصفح عن فلتاتهم فهو مناسب للجزاء على الطاعات وكناية عنه ، قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢] فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين.

[٣ ـ ٤] (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))

صفة ثانية للذي بيده الملك ، أعقب التذكير بتصرف الله بخلق الإنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإنسان وهي السماوات ، ومفيدة وصفا من عظيم صفات الأفعال الإلهية ، ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجمل الثلاث جارية على طريقة واحدة.

والسماوات تكرر ذكرها في القرآن ، والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض ، كما تقدم عند قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) في [سورة البقرة : ٢٩] فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين ، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس.

والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وصفت به السماوات للمبالغة ، أي شديدة المطابقة ، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام.

ويجوز أن تكون (طِباقاً) جمع طبق ، والطبق المساوي في حالة ما ، ومنه قولهم في المثل : «وافق شنّ طبقه».

والمعنى : أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق ، أو المعنى : أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرّك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا ترتطم ولا يتداخل سيرها.

وليس في قوله : (طِباقاً) ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق (فلا تكن طباقاء).

وجاءت جملة (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) تقريرا لقوله : (خَلَقَ سَبْعَ

١٥

سَماواتٍ طِباقاً).

فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق ، أي التماثل. والمعنى : ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتا. وأصل الكلام : ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمن من تفاوت فعبر بخلق الرحمن لتكون الجملة تذييلا لمضمون جملة : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها ، أي كانت السماوات طباقا لأنها من خلق الرحمن ، وليس فيما خلق الرحمن من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات.

والتفاوت بوزن التفاعل : شدة الفوت ، والفوت : البعد ، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة.

ويقال : تفوّت الأمر أيضا ، وقيل : إن تفوّت ، بمعنى حصل فيه عيب.

وقرأ الجمهور (مِنْ تَفاوُتٍ). وقرأه حمزة والكسائي وخلف من تفوت بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء ، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة.

وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس.

والخطاب لغير معين ، أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا.

والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب ، وذلك ممكن لكل من يبصر ، قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق: ٦] فكأنه قال : ما ترون في خلق الرحمن من تفاوت ، فيجوز أن يكون (خَلْقِ الرَّحْمنِ) بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١] ، ويراد منه السماوات ، والمعنى : ما ترى في السماوات من تفاوت ، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه (الرَّحْمنِ) المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي.

ويجوز أن يكون (خَلَقَ) مصدرا فيشمل خلق السماوات وخلق غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم ، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء

١٦

الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهارا في مقام الإضمار.

والتعبير بوصف (الرَّحْمنِ) دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم ، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سببا لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧] وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥].

وأيضا في ذلك الوصف تورك على المشركين إذ أنكروا اسمه تعالى : (الرَّحْمنِ)(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠].

وفرع عليه قوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) إلخ. والتفريع للتسبب ، أي انتفاء رؤية التفاوت ، جعل سببا للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوما عن يقين دون تقليد للمخبر.

ورجع البصر : تكريره والرجع : العود إلى الموضع الذي يجاء منه ، وفعل : رجع يكون قاصرا ومتعديا إلى مفعول بمعنى : أرجع ، فأرجع هنا فعل أمر من رجع المتعدي.

والرّجع يقتضي سبق حلول بالموضع ، فالمعنى : أعد النظر ، وهو النظر الذي دل عليه قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي أعد رؤية السماوات وأنها لا تفاوت فيها إعادة تحقيق وتبصر ، كما يقال : أعد نظرا.

والخطاب في قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) وقوله : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) إلخ. خطاب لغير معين.

وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال. والبصر مستعمل في حقيقته. والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها.

وهذا يتصل بمسألة إيمان المقلد وما اختلف فيه من الرواية عن الشيخ أبي الحسن الأشعري.

والاستفهام في (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) تقريري ووقع ب (هَلْ) لأن (هَلْ) تفيد تأكيد

١٧

الاستفهام إذ هي بمعنى (قد) في الاستفهام ، وفي ذلك تأكيد وحث على التبصر والتأمل ، أي لا تقتنع بنظرة ونظرتين ، فتقول : لم أجد فطورا ، بل كرّر النظر وعاوده باحثا عن مصادفة فطور لعلك تجده.

والفطور : جمع فطر بفتح الفاء وسكون الطاء ، وهو الشق والصدع ، أي لا يسعك إلّا أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقا ، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامه الشمسي ، قال تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٩] وقال : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١].

وعطف (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) دال على التراخي الرتبي كما هو شأن (ثُمَ) في عطف الجمل ، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب (ثُمَ) هنا أهمّ وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخلق رسوخا ويقينا.

و (كَرَّتَيْنِ) تثنية كرّة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكرّة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككرة المقاتل يحمل على العدوّ بعد أن يفر فرارا مصنوعا. وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقها على عدد الاثنين ، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز ، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضيا تثنية مرة في قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة: ٢٢٩] لأنه أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولا.

وتثنية (كَرَّتَيْنِ) ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد ، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم : «لبّيك وسعديك» يريدون تلبيات كثيرة وإسعادا كثيرا ، وقولهم : دواليك ، ومنه المثل «دهدرّين ، سعد القين» (الدّهدر الباطل ، أي باطلا على باطل ، أي أتيت يا سعد القين دهدرين وهو تثنية دهدرّ الدال المهملة في أوله مضمومة فهاء ساكنة فدال مهملة مضمومة فراء مشددة) وأصله كلمة فارسية نقلها العرب وجعلوها بمعنى الباطل. وسبب النقل مختلف فيه وتثنيته مكنّى بها عن مضاعفة الباطل ، وكانوا يقولون هذا المثل عند تكذيب الرجل صاحبه وأما

١٨

سعد القين فهو اسم رجل كان قينا وكان يمرّ على الأحياء لصقل سيوفهم وإصلاح أسلحتهم فكان يشيع أنه راحل غدا ليسرع أهل الحي بجلب ما يحتاج للإصلاح فإذا أتوه بها أقام ولم يرحل فضرب به المثل في الكذب فكان هذا المثل جامعا لمثلين ؛ وقد ذكره الزمخشري في «المستقصى» ، والميداني في «مجمع الأمثال» وأطال.

وأصل استعمال التثنية في معنى التكرير أنهم اختصروا بالتثنية تعداد ذكر الاسم تعدادا مشيرا إلى التكثير.

وقريب من هذا القبيل قولهم : وقع كذا غير مرة ، أي مرات عديدة.

فمعنى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) عاود التأمّل في خلق السماوات وغيرها غير مرة والانقلاب : الرجوع يقال : انقلب إلى أهله ، أي رجع إلى منزله قال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣١] وإيثار فعل : (يَنْقَلِبْ) هنا دون : يرجع ، لئلا يلتبس بفعل (ارْجِعِ) المذكور قبله. وهذا من خصائص الإعجاز نظير إيثار كلمة (كَرَّتَيْنِ) كما ذكرناه آنفا.

والخاسئ : الخائب ، أي الذي لم يجد ما يطلبه ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها) في [سورة المؤمنين : ١٠٨].

والحسير : الكليل. وهو كلل ناشئ عن قوة التأمل والتحديق مع التكرير ، أي يرجع البصر غير واجد ما أغري بالحرص على رؤيته بعد أن أدام التأمل والفحص حتى عيي وكلّ ، أي لا تجد بعد اللأي فطورا في خلق الله.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقة السماوات ، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية ، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالة على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين ، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم. وتأكيد الخبر ب (قد) لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب (هل) أخت (قد) في الاستفهام.

١٩

والكلام على السماء الدنيا ولما ذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات.

وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ.

وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال ، أي زيّناها لكم مثل الامتنان في قوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) في سورة النحل [٦].

والمقصد : التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم.

وعدل عن تعريف (مصابيح) باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.

والرجوم : جمع رجم وهو اسم لما يرجم به ، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسمية للمفعول بالمصدر مثل الخلق بمعنى المخلوق في قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١].

والذي جعل رجوما للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقضّة ، وتسمى الشهب ومضى القول عليها في سورة الصافات.

وضمير الغائبة في (جَعَلْناها) المتبادر أنه عائد إلى المصابيح ، أي أن المصابيح رجوم للشياطين.

ومعنى جعل المصابيح رجوما جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] وقول العرب : قتلت هذيل رضيع بني ليث تمّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.

وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في (جَعَلْناها) عائد إلى (السَّماءَ الدُّنْيا) على تقدير : وجعلنا منها رجوما إما على حذف حرف الجر. وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) في سورة البقرة [٦٦] ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعا إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف [١٦٣]

٢٠