تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

وقرأ نافع وأبو جعفر (يزلقونك) بفتح المثناة مضارع زلق بفتح اللام يزلق متعديا ، إذا نحاه عن مكانه.

وجاء (يَكادُ) بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل ، وجاء فعل (سَمِعُوا) ماضيا لوقوعه مع (لَمَّا) وللإشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.

واللام في (لَيُزْلِقُونَكَ) لام الابتداء التي تدخل كثيرا في خبر (إِنْ) المكسورة وهي أيضا تفرق بين (إِنْ) المخففة وبين (إنّ) النافية.

وضمير (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية لكلامهم بينهم ، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم ، أو ليس للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.

والمعنى : يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه ، فلذلك أبطل الله قولهم : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) بقوله : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، أي ما القرآن إلّا ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين ، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.

والذكر : التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس.

فضمير (هُوَ) عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام ، وقرينة السياق ترجع كلّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده ، كقول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

أي لأحرز الكفار ما جمّعه المسلمون.

وفي قوله : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) مع قوله في أول السورة (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] محسن ردّ العجز على الصدر.

وقوله : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) إبطال لقولهم : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكر بطل أن يكون مبلّغه مجنونا. وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير : ويقولون إنه لمجنون وإن القرآن كلام مجنون ، وما القرآن إلّا ذكر وما أنت إلّا مذكر.

١٠١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٩ ـ سورة الحاقة

سميت «سورة الحاقّة» في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى أحمد بن حنبل أن عمر بن الخطاب قال : «خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت : هذا والله شاعر ، (أي قلت في خاطري) ، فقرأ (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) [الحاقة : ٤١] قلت : كاهن ، فقرأ (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الحاقة : ٤٢ ـ ٤٣] إلى آخر السورة ، فوقع الإسلام في قلبي كلّ موقع».

وباسم (الْحَاقَّةُ) عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير. وقال الفيروزآبادي في «بصائر ذوي التمييز» : إنها تسمى أيضا «سورة السلسلة» لقوله : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) [الحاقة : ٣٢] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور «الواعية» ولعله أخذه من وقوع قوله (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١٢] ولم أر له سلفا في هذه التسمية.

ووجه تسميتها «سورة الحاقة» وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.

وهي مكية بالاتفاق. ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.

وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول. نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج.

واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.

١٠٢

أغراضها

اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة ، وتهديد المكذبين بوقوعه.

وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة وتهديد المكذبين لرسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت.

وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب ، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان.

ووصف أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه.

ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام ، والتنويه بالقرآن.

وتنزيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أن يكون غير رسول.

وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه.

وتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنذار المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن.

[١ ـ ٣] (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣))

(الْحَاقَّةُ) صيغة فاعل من : حقّ الشيء إذا ثبت وقوعه ، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون (الْحَاقَّةُ) وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب ، والخاتمة للختم ، والباقية للبقاء والطاغية للطغيان ، والنافلة ، والخاطئة ، وأصلها تاء المرة ، ولكنها لما أريد المصدر قطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعلة غير مراد به المرة مثل قولهم ضربة لازب. فالحاقة إذن بمعنى الحق كما يقال «من حاقّ كذا» ، أي من حقه.

وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقّة المعنى الوصفي ، أي حادثة تحق أو حقّ يحق.

ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة ، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك «يوم القيامة» لأنه يوم محقق وقوعه ، كما قال تعالى : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الشورى : ٧] ، أو لأنه تحق فيه الحقوق ولا يضاع

١٠٣

الجزاء عليها ، قال تعالى (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٤٩] وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨].

وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.

فيجوز أيضا أن تكون (الْحَاقَّةُ) وصفا لموصوف محذوف تقديره : الساعة الحاقة ، أو الواقعة الحاقة ، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرّض بهم مثل يوم بدر أو وقعته وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه ؛ أو وصفا للكلمة ، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة ، قال تعالى : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٦] ، أو التي حقّت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ينصره الله ، قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٤].

ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق ، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) [الأنبياء : ٩٧] ، أو وصفا للقرآن كقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] ، أو أريد به الحق كله مما جاء به القرآن من الحق قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] وقال : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [الأحقاف : ٣٠].

وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.

و (الْحَاقَّةُ) مبتدأ و (مَا) مبتدأ ثان. و (الْحَاقَّةُ) المذكورة ثانيا خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.

و (مَا) اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل : أتدري ما الحاقة؟ أي ما هي الحاقة ، أي شيء عظيم الحاقّة. وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧].

وجملة (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) يجوز أن تكون معترضة بين جملة (مَا الْحَاقَّةُ)

١٠٤

وجملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) [الحاقة : ٤] ، والواو اعتراضية.

ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة (مَا الْحَاقَّةُ).

و (ما) الثانية استفهامية ، والاستفهام بها مكنّى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقّة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يتساءل عن فهمه.

والخطاب في قوله : (وَما أَدْراكَ) لغير معيّن. والمعنى : الحاقة أمر عظيم لا تدركون كنهه.

وتركيب «ما أدراك كذا» مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من (ما) الاستفهامية وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلم وأرى ، فصار فاعل فعله المجرد وهو (درى) مفعولا أول بسبب التعدية. وقد علق فعل (أَدْراكَ) عن نصب مفعولين ب (ما) الاستفهامية الثانية في قوله : (مَا الْحَاقَّةُ). وأصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول : أدركت الحاقّة أمرا عظيما ، ثم صار أدركني فلان الحاقّة أمرا عظيما.

و (مَا) الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف ، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكاريا ، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.

والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.

هذا السؤال كما تقول : علمت هل يسافر فلان.

و (ما) الثالثة علقت فعل (أَدْراكَ) عن العمل في مفعولين.

وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.

واستعمال (ما أَدْراكَ) غير استعمال (ما يُدْرِيكَ) في قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣] وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) في سورة الشورى [١٧].

روي عن ابن عباس : «كل شيء من القرآن من قوله : (ما أَدْراكَ) فقد أدراه وكل

١٠٥

شيء من قوله : (وَما يُدْرِيكَ) فقد طوي عنه». وقد روي هذا أيضا عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بين سلّام فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول (ما أَدْراكَ) محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول (ما يُدْرِيكَ) غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار وهو في معنى نفي الدارية.

وقال الراغب : كل موضع ذكر في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد عقب ببيانه نحو (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١٠ ـ ١١] ، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٢ ـ ٣] ، (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٨ ـ ١٩] ، (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) [الحاقة : ٣ ـ ٤] ، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.

ولم أر من اللغويين من وفّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلا.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤))

إن جعلت قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣] نهاية كلام فموقع قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) وما اتصل به استئناف ، وهو تذكير بما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليهم مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] إلخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.

وإن جعلت الكلام متصلا بجملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) وعيّنت لفظ (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] ليوم القيامة وكانت هذه الجملة خبرا ثالثا عن (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١].

والمعنى : الحاقة كذبت بها ثمود وعاد ، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] فيقال : كذبت ثمود وعاد بها ، فعدل إلى إظهار اسم (القارعة) لأن (القارعة) مرادفة (الْحَاقَّةُ) في أحد محملي لفظ (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] ، وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣].

و (القارعة) مراد منها ما أريد ب (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١].

وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا.

١٠٦

والقارعة : اسم فاعل من قرعه ، إذا ضربه ضربا قويا ، يقال : قرع البعير. وقالوا : العبد يقرع بالعصا ، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارع لما فيها من زجر الناس عن أعمال. وفي المقامة الأولى «ويقرع الأسماع بزواجر وعظه» ، ويقال للتوبيخ تقريع ، وفي المثل «لا تقرع له العصا ولا يقلقل له الحصاء» ، ومورده في عامر بن الظرب العدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت.

ف (القارعة) هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثا ليوافق وصفه المذكور نحو الساعة أو القيامة. القارعة : أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع ، أو التي تصيب الموجودات بالقرع مثل دك الجبال ، وخسف الأرض ، وطمس النجوم ، وكسوف الشمس كسوفا لا انجلاء له ، فشبه ذلك بالقرع.

ووصف (السَّاعَةِ) [الأعراف : ١٨٧] أو (الْقِيامَةِ) [البقرة : ٨٥] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأوّل لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية [القارعة : ١ ـ ٤]. وهي ما سيأتي بيانها في قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) الآيات [الحاقة : ١٣].

وجيء في الخبر عن هاتين الأمتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعتا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.

(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥))

ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصيحة. والطاغية : الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة : نزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم ، لأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها ، قال تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] ، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضا.

وإنما سميت الصاعقة أو الصيحة (بِالطَّاغِيَةِ) لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش.

والباء في قول (بِالطَّاغِيَةِ) للاستعانة.

١٠٧

و (ثَمُودُ) : أمة من العرب البائدة العاربة ، وهم أنساب عاد. وثمود : اسم جد تلك الأمة ولكن غلب على الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة.

وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) في سورة الأعراف [٧٣].

[٦ ـ ٧] (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧))

الصرصر : الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) في سورة فصلت [١٦]. والعاتية : الشديدة العصف ، وأصل العتوّ والعتيّ : شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوز الحدّ المعتاد تشبيها بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.

والتسخير : الغصب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكوينا متجاوزا المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه.

وعلق به (عَلَيْهِمْ) لأنه ضمن معنى أرسلها.

و (حسوم) يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قعود جمع قاعد ، وشهود جمع شاهد ، غلّب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عددا إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان :

أحدها أن يكون المعنى : يتابع بعضها بعضا ، أي لا فصل بينها كما يقال : صيام شهرين متتابعين ، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي (١) :

ففرّق بين بينهم زمان

تتابع فيه أعوام حسوم

قيل : والحسوم مشتق من حسم الداء بالمكواة إذ يكوى ويتابع الكي أيّاما ، فيكون إطلاقه استعارة ، ولعلها من مبتكرات القرآن ، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن.

__________________

(١) شاعر من شعراء صدر الدولة الأموية ، كان لأبيه وله حظوة عند الخليفة معاوية وكان سيد أهل البادية توفي في غزوة القسطنطينية سنة ٤٦ ه‍.

١٠٨

المعنى الثاني : أن يكون من الحسم وهو القطع ، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف حساما لأنه يقطع ، أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا ، وعلى هذين المعنيين فهو صفة ل (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) أو حال منها.

المعنى الثالث : أن يكون حسوم مصدرا كالشكور والدخول فينتصب على المفعول لأجله وعامله (سَخَّرَها) ، أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم.

وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام ، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه.

وقد سمّى أصحاب الميقات من المسلمين أياما ثمانية منصّفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالبا ، أيام الحسوم على وجه التشبيه ، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح ، وهو من الأوهام ، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام.

ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها : أيام العجوز أو العجز ، وهي آخر فصل الشتاء ويعدها العرب خمسة أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة ، وشتان بينها وبين حسوم عاد في العدة والمدة.

وفرع على (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أنهم صاروا صرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضرا تلك الحالة.

والخطاب في قوله : (فَتَرَى) خطاب لغير معين ، أي فيرى الرائي لو كان راء ، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مهلكهم أو شاهدهم بعده ، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية ، فيعتبر خطابا فرضيا فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين ، وقريب منه قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٥] ، وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان : ٢٠] ، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي.

والتعريف في (الْقَوْمَ) للعهد الذّكري ، والقوم : القبيلة وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة.

وضمير (فِيها) عائد إلى الليالي والأيام.

١٠٩

و (صَرْعى) : جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتا.

وشبهوا بأعجاز نخل ، أي أصول النخل ، وعجز النخلة : هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها.

ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسقف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عمدا وأساطين.

والنخل : اسم جمع نخلة.

والخاوي : الخالي مما كان مالئا له وحالا فيه.

وقوله : (خاوِيَةٍ) مجرور باتفاق القراء ، فتعين أن يكون صفة (نَخْلٍ).

ووصف (نَخْلٍ) بأنها (خاوِيَةٍ) باعتبار إطلاق اسم «النخل» على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة ، ففيه استخدام. والمعنى : خالية من الناس ، وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه ، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية ، فإن لهذا الوصف وقعا في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها ، ومنه قول كعب بن زهير :

لذاك أهيب عندي إذ أكلمه

وقيل إنّك منسوب ومسئول

من خادر من ليوث الأسد مسكنه

من بطن عثّر غيل دونه غيل

الأبيات الأربعة ، وقول عنترة :

فتركته جزر السباع ينشنه

يقضمن حسن بنانه والمعصم

(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

تفريع على مجموع قصتي ثمود وعاد ، فهو فذلكة لما فصل من حال إهلاكهما ، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق ، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى) [النجم : ٥٠ ـ ٥١] أي فما أبقاهما.

والخطاب لغير معين.

والباقية : إما اسم فاعل على بابه ، والهاء : إما للتأنيث بتأويل نفس ، أي فما ترى

١١٠

منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة ، أي ما ترى فرقة منهم باقية.

ويجوز أن تكون (باقِيَةٍ) مصدرا على وزن فاعلة مثل ما تقدم في الحاقة ، أي فما ترى لهم بقاء ، أي هلكوا عن بكرة أبيهم.

واللام في قوله : (لَهُمْ) يجوز أن تجعل لشبه الملك ، أي باقية لأجل النفع.

ويجوز أن يكون اللام بمعنى (من) مثل قولهم : سمعت له صراخا ، وقول الأعشى :

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

كما استعان بريح عشرق زجل

وقول جرير :

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أي ونحن منكم أفضل.

ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإضافة إذا لم تكن الإضافة على معنى (من). والأصل : فهل ترى باقيتهم ، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب (من) الزائدة لزم تنكير مدخول (من) الزائدة فأعطي حقّ معنى الإضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥] فإن أصله: عبادنا.

وموقع المجرور باللام في موقع النعت ل (باقِيَةٍ) قدم عليها فصار حالا.

[٩ ـ ١٠] (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

عطف على جملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) [الحاقة : ٤].

وقد جمع في الذكر هنا عدة أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه‌السلام إجمالا وتصريحا ، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكرا عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم ، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.

وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم ، فحصل في الكلام احتباك.

١١١

والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه‌السلام وهو (منفطاح الثاني). وإنما أسند الخطء إليه لأن موسى أرسل إليه ليطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [النازعات : ١٧] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالا لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.

وشمل قوله : (وَمَنْ قَبْلَهُ) أمما كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.

وقرأ الجمهور (وَمَنْ قَبْلَهُ) بفتح القاف وسكون الباء. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء ، أي ومن كان من جهته ، أي قومه وأتباعه.

و (الْمُؤْتَفِكاتُ) : قرى لوط الثلاث ، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قراهم في طريقهم إلى الشام ، قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨] وقال : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) [الفرقان : ٤٠].

ووصفت قرى قوم لوط ب (الْمُؤْتَفِكاتُ) جمع مؤتفكة اسم فاعل ائتفك مطاوع أفكه ، إذا قلبه ، فهي المنقلبات ، أي قلبها قالب ، أي خسف بها قال تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [هود : ٨٢].

والخاطئة : إمّا مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدرا قطع النظر عن المرة ، كما تقدم في قوله : (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] فهو مصدر خطئ ، إذا أذنب. والذنب : الخطء بكسر الخاء ، وإما اسم فاعل خطئ وتأنيثه بتأويل : الفعلة ذات الخطء فهاؤه هاء تأنيث.

والتعريف فيه تعريف الجنس على كلا الوجهين ، فالمعنى : جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب. وفرع عنه تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخاطئة فقال (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٩] في أنه تفريع بيان على المبيّن.

وضمير (عصوا) يجوز أن يرجع إلى (فِرْعَوْنُ) باعتباره رأس قومه ، فالضمير عائد إليه وإلى قومه ، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور ، وإما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير (عصوا) يكون المراد ب (رَسُولَ رَبِّهِمْ)

١١٢

موسى عليه‌السلام. وتعريفه بالإضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياه إلها لهم.

ويجوز أن يرجع ضمير (عصوا) إلى (فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ).

و (رَسُولَ رَبِّهِمْ) هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء.

فإفراد (رَسُولَ) مراد به التوزيع على الجماعات ، أي رسول الله لكل جماعة منهم ، والقرينة ظاهرة ، وهو أجمل نظما من أن يقال : فعصوا رسل ربّهم ، لما في إفراد (رَسُولَ) من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفاديا من تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان [٣٧] (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) ، وإنما كذبوا رسولا واحدا ، وقوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) وما بعده في سورة الشعراء [١٠٥] ، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه.

والأخذ : مستعمل في الإهلاك ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) في سورة الأنعام [٤٤] وفي مواضع أخرى.

و (أَخْذَةً) : واحدة من الأخذ ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق ، كما قال تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] ، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى (فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ) كان إفراد الأخذة كإفراد (رَسُولَ رَبِّهِمْ) ، أي أخذنا كل أمة منهم أخذة.

والرابية : اسم فاعل من ربا يربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة ، قلبت الواو ياء لوقوعها متحركة إثر كسرة.

واستعير الرّبوّ هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٤].

والمراد بالأخذة الرابية : إهلاك الاستئصال ، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.

[١١ ـ ١٢] (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ قَبْلَهُ) [الحاقة : ٩] لما شمل قوم نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حسّن اقتضاب التذكير بأخذهم لما فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين

١١٣

تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة ، وهذا من قبيل الإدماج.

وقد بني على شهرة مهلك قوم نوح اعتباره كالمذكور في الكلام فجعل شرطا ل (لَمَّا) في قوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان.

والطغيان : مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.

و (الْجارِيَةِ) : صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) [الرحمن : ٢٤].

وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله ، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة.

وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية [المؤمنون : ٢٧].

وذكر إحدى الحكم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الأعصار ليكون لهم باعثا على الشكر ، وعظة لهم من أسواء الكفر ، وليخبر بها من علمها قوما لم يعلموها فتعيها أسماعهم.

والمراد ب (أُذُنٌ) : آذان واعية. وعموم النكرة في سياق الإثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر : ١٨].

والوعي : العلم بالمسموعات ، أي ولتعلم خبرها أذن موصوفة بالوعي ، أي من شأنها أن تعي.

وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية.

[١٣ ـ ١٨] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ

١١٤

عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) َوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صدرت به السورة من قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٣] فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا. ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم ، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد ، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعث وهي الواقعة.

و (الصُّورِ) : قرن ثور يقعر ويجعل في داخله سداد يسد بعض فراغه حتى إذا نفخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوّت صوتا قويا ، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضا عند إرادة النفير أو الهجوم ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في سورة الأنعام [٧٣].

والنفخ في الصور : عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مثّل الإحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة ، وقد يكون للملك الموكّل موجود يصوّت صوتا مؤثّرا.

و (نَفْخَةٌ) : مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة ، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق ، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكّل بالنفخ في الصور وهو إسرافيل.

ووصفت (نَفْخَةٌ) ب (واحِدَةٌ) تأكيد لإفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصا على الوحدة المفادة من التاء.

والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيبا عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فتعداد أهواله مقصود ، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحد في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) في سورة الروم [٢٥].

فحصل من ذكر (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة ، وهذا يبين ما روي عن صاحب «الكشاف» في تقريره بلفظ مجمل نقله الطيبي ، فليس المراد بوصفها

١١٥

ب (واحِدَةٌ) أنها غير متبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان ، بل المراد أنها غير محتاج حصول المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة ، أي يوم الواقعة.

وأما ذكر كلمة (نَفْخَةٌ) فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذكر (نَفْخَةٌ) تبع غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقراض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات.

وجملة (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) إلخ في موضع الحال لأن دكّ الأرض والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا.

ومعنى (حُمِلَتِ) : أنها أزيلت من أماكنها بأن أبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أخرى في الفضاء (فَدُكَّتا) ، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئا ليلقيه على الأرض ، مثل حمل الكرة بين اللاعبين ، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبها بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لحفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى.

والدك : دقّ شديد يكسر الشيء المدقوق ، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.

وبنيت أفعال (نُفِخَ ،) و (حُمِلَتِ ،) و (فَدُكَّتا) للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال ، والكل بإذن الله وقدرته.

وجملة (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) مشتملة على جواب (إذا) ، أعني قوله (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ، وأما قوله : (فَيَوْمَئِذٍ) فهو تأكيد لمعنى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) إلخ لأن تنوين (يومئذ) عوض عن جملة تدل عليها جملة (نُفِخَ فِي الصُّورِ) إلى قوله (دَكَّةً واحِدَةً) ، أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكّد ، فإن المراد ب (يوم) من قوله (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ، مطلق الزمان كما هو الغالب في وقوعه مضافا إلى (إذا).

ومعنى (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) تحقق ما كان متوقّعا وقوعه لأنهم كانوا يتوعّدون بواقعة عظيمة فيومئذ يتحقق ما كانوا يتوعدون به.

فعبر عنه بفعل المضي تنبيها على تحقيق حصوله.

١١٦

والمعنى : فحينئذ تقع الواقعة.

و (الْواقِعَةُ) : مرادفة للحاقة والقارعة ، فذكرها إظهار في مقام الإضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة.

و (الْواقِعَةُ) صار علما بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [الواقعة : ١ ـ ٢].

وفعل (انْشَقَّتِ السَّماءُ) يجوز أن يكون معطوفا على جملة (نُفِخَ فِي الصُّورِ) فيكون ملحقا بشرط (إذا) ، وتأخير عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها ، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات وذكر حملته.

ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير : وقد انشقت السماء.

وانشقاق السماء : مطاوعتها لفعل الشق ، والشقّ : فتح منافذ في محيطها ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٥ ، ٢٦].

ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧] ويحتمل أنه عينه.

وحقيقة (واهِيَةٌ) ضعيفة ومتفرقة ، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة ، يقال: وهى عزمه ، إذا تسامح وتساهل ، وفي المثل «أوهى من بيت العنكبوت» يضرب لعدم نهوض الحجة.

وتقييده ب (يَوْمَئِذٍ) أن الوهي طرا عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزائها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق ، أي فهي يومئذ مطروقة مسلوكة.

والوهي : قريب من الوهن ، والأكثر أن الوهي يوصف به الأشياء غير العاقلة ، والوهن يوصف به الناس.

والمعنى : أن الملائكة يترددون إليها صعودا ونزولا خلافا لحالها من قبل قال تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧].

وجملة (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) ، حال من ضمير (فَهِيَ) ، أي ويومئذ الملك على

١١٧

أرجائها.

و (الْمَلَكُ) : أصله الواحد من الملائكة ، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع ، أي جنس الملك ، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق ، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول ، ولذلك قال ابن عباس : الكتاب أكثر من الكتب ، ومنه (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤].

والأرجاء : النواحي بلغة هذيل ، واحدها رجا مقصورا وألفه منقلبة عن الواو.

وضمير (أَرْجائِها) عائد إلى (السَّماءُ).

والمعنى : أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفّذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسوق أهل النار إلى النار.

وعرش الرب : اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات.

والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش : ثمانية من الملائكة ، فقيل : ثمانية شخوص ، وقيل : ثمانية صفوف ، وقيل ثمانية أعشار ، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة ، وقيل غير ذلك ، وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها ، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية.

ولعل المقصود بالإشارة إلى ما زاد على الموعظة ، هو تعليم الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يرد تشغيلنا بعلمها.

وكأنّ الدّاعي إلى ذكرهم إجمالا هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضابا بعد ذكر الملائكة.

وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا ذكر فيه أبعاد ما بين السماوات ، وفي ذكر حملة العرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية ، وأحد رواته عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس قال البخاري : لا نعلم له سماعا عن الأحنف.

وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها ، وقال ابن العربي فيها : إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت ، ولم يصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشد بين يديه فصدّقه. ا ه.

١١٨

وضمير (فَوْقَهُمْ) يعود إلى (الْمَلَكُ).

ويتعلق (فَوْقَهُمْ) ب (يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) وهو تأكيد لما دل عليه يحمل من كون العرش عاليا فهو بمنزلة القيدين في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) الآية [الحج : ٢٦] ، والله منزه عن الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت.

والخطاب في قوله : (تُعْرَضُونَ) لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل.

والعرض : أصله إمرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره ، وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة مع جواز إرادة المعنى الصريح.

ومعنى (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) : لا تخفى على الله ولا على ملائكته. وتأنيث (خافِيَةٌ) لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفعلة من أفعال العباد ، أو يقدر بنفس ، أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد ، ولا يلتبس كافر بمؤمن ، ولا بارّ بفاجر.

وجملة (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) مستأنفة ، أو هي بيان لجملة (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ، أو بدل اشتمال منها.

و (مِنْكُمْ) صفة ل (خافِيَةٌ) قدمت عليه فتكون حالا.

وتكرير (يَوْمَئِذٍ) أربع مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجمل بعده ، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) تكرير ل (إذا) من قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) إذ تقدير المضاف إليه في (يَوْمَئِذٍ) هو مدلول جملة (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ، فقد ذكر زمان النفخ أولا وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات.

وقرأ الجمهور (لا تَخْفى) بمثناة فوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث (خافِيَةٌ) غير حقيقي ، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله.

١١٩

[١٩ ـ ٢٤] (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

الفاء تفصيل لما يتضمنه (تُعْرَضُونَ) [الحاقة : ١٨] إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعمال. و (أمّا) حرف تفصيل وشرط وهو يفيد مفاد (مهما يكن من شيء) ، والمعنى : مهما يكن عرض (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) ، وشأن الفاء الرّابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين (أما) بجزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول (أما) كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسينا لصورة الكلام ، فقوله : (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أصله صدر جملة الجواب ، وهو مبتدأ خبره (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) كما سيأتي.

ودل قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) على كلام محذوف للإيجاز تقديره فيؤتى كلّ أحد كتاب أعماله ، فأما من أوتي كتابه إلخ على طريقة قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣].

والباء في قوله : (بِيَمِينِهِ) للمصاحبة أو بمعنى (في).

وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير ، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به ، قال الشمّاخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

وقال تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) الآية [الواقعة: ٢٧ ـ ٢٨] ثم قال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) الآية [الواقعة : ٤١ ـ ٤٢].

وجملة (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) جواب شرط (أمّا) وهو مغن عن خبر المبتدأ ، وهذا القول قول ذي بهجة وحبور يبعثان على اطلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار ، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العرض.

١٢٠