تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٥٨ ـ سورة المجادلة

سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة «سورة المجادلة» بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى «سورة قد سمع» وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس ، وسميت في مصحف أبيّ بن كعب «سورة الظهار».

ووجه تسميتها «سورة المجادلة» لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن مظاهرة زوجها.

ولم يذكر المفسرون ولا شارحو كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في «حاشية البيضاوي» عن «الكشف» أن كسر الدال هو المعروف (ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا) ، فكشف القزويني على «الكشاف» لا يوجد فيه ذلك ، ولا في التفسير المسمى «الكشف والبيان» للثعلبي. فلعلّ الخفاجي رأى ذلك في «الكشف» الذي ينقل عنه الطّيبي في مواضع تقريرات لكلام «الكشاف» وهو غير معروف في عداد شروح «الكشاف» ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال ، وهي التي ذكرها الله بقوله : (الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١]. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمداني على «الكشاف» المسماة «توضيح المشكلات» ، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل (تُجادِلُكَ) كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) [المجادلة : ١].

وهذه السورة مدنية قال ابن عطية : بالإجماع. وفي «تفسير القرطبي» عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى : (ما

٥

يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] الآية نزلت بمكة.

وهي السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم.

والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب [٤] : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) ، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله : (ما جَعَلَ) يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة. وإنما أبطل بآية سورة المجادلة. وقال السخاوي : نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات.

وآيها في عدّ أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون ، وفي عدّ أهل الشام والبصرة والكوفة اثنتان وعشرون.

أغراض هذه السورة

الحكم في قضيّة مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.

وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وأن عملهم مخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيظوهم ويحزنوهم.

ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب. وتخلل ذلك التعرض لآداب مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين. وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون.

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويها بالمرأة التي وجّهت شكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بنيها. ولم ترض بعنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية ، وتعليما لنساء الأمة الإسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها.

٦

تلك هي قضية المرأة خولة أو خويلة مصغرا أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دليج (مصغرا) العوفية. وربما قالوا : الخزرجية ، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج ، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عبادة بن الصامت.

قيل : إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي.

قال ابن عباس : وكان هذا في الجاهلية تحريما للمرأة مؤبّدا (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعا) فجاءت خولة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكرت له ذلك ، فقال لها : حرمت عليه ، فقالت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فقال : «ما عندي في أمرك شيء» ، فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقا. وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ فقال : «حرمت عليه». فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله ، فأنزل الله هذه الآيات.

وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملا بسند صحيح. وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض ، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادلة خولة أو خويلة أو جميلة ، وعلى أن زوجها أوس بن الصامت.

وروى الترمذي وأبو داود حديثا في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سلمة بن صخر البياضي تشبه قصة خولة أنه ظاهر من امرأته ظهارا موقنا برمضان ، ثم غلبته نفسه فوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر القصة ، إلّا أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك.

وإنما نسب ابن عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره. وأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل.

و (قَدْ) أصله حرف تحقيق للخبر ، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.

٧

فتعيّن أن حرف (قَدْ) هنا مستعمل في التوقع ، أي الإشعار بحصول ما يتوقعه السامع. قال في «الكشاف» : لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها ا ه.

ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف (قَدْ) في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلة المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب (إنّ) في قوله تعالى : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [المؤمنون : ٢٧] إنه جعل غير السائل كالسائل حيث قدم إليه ما يلوّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد. ولهذا جزم الرضيّ في «شرح الكافية» بأن قد لا بدّ فيها من معنى التحقيق. ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى.

والسماع في قوله : (سَمِعَ) معناه الاستجابة للمطلوب وقبوله بقرينة دخول (قَدْ) التوقعية عليه فإن المتوقّع هو استجابة شكواها.

وقد استحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويها بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها.

والمجادلة : الاحتجاج والاستدلال ، وتقدمت في قوله : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) في سورة الأنفال [٦].

والاشتكاء : مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه ، يقال : شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة. اشتكى ، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلة خلاص.

وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة : أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، وقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) [المؤمنون : ٢٧] وهو من المسألة الملقبة في «أصول الفقه» بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان في نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣].

والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب. فالتحاور حصول الجواب من جانبين ، فاقتضت مراجعة بين شخصين.

٨

والسماع في قوله : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالما بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإخبار به إفادة الحكم ، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ينزله عليه من وحي ، وترقب المرأة الرحمة ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.

وجملة : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) في موضع الحال من ضمير (تُجادِلُكَ). وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور.

وجملة (اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) تذييل لجملة (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي : أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢))

تتنزل جملة (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) وما يتم أحكامها منزلة البيان لجملة (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة : ١] الآية لأن فيها مخرجا ممّا لحق بالمجادلة من ضر بظهار زوجها ، وإبطالا له ، ولها أيضا موقع الاستئناف البياني لجملة (قَدْ سَمِعَ اللهُ) يثير سؤالا في النفس أن تقول : فما ذا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب يظهرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله : يتظهرون ، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف (يُظاهِرُونَ) بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعدها على أن أصله : يتظاهرون ، فأدغمت التاء كما تقدم ، وقرأ عاصم (يُظاهِرُونَ) بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظاهر.

ولم يأت مصدره إلّا على وزن الفعال ووزن المفاعلة. يقال : صدر منه ظهار

٩

ومظاهرة ، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظهر ، فقراءة نافع قد استغني فيها عن مصدره بمصدر مرادفه.

ومعناه أن يقول الرجل لزوجه : أنت عليّ كظهر أمّي. وكان هذا قولا يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحها وبتّ عصمته. وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، يريد بذلك أنه حرمها على نفسه. كما أن أمه حرام عليه ، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها ، وهي حالة الاستمتاع المعروف ، سلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حين يقربها زوجها بالراحلة ، وإثبات الظهر لها تخيّل للاستعارة ، ثم تشبيه ظهر زوجته بظهر أمه ، أي في حالة من أحواله ، وهي حالة الاستمتاع المعروف. وجعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أخصّ أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.

فالتقدير : قربانك كقربان ظهر أمي ، أي اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حذف ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي «أنت عليّ كظهر أمّي» إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من التحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.

قال المفسرون وأهل اللغة : كان الظهار طلاقا في الجاهلية يقتضي تأبيد التحريم.

وأحسب أنه كان طلاقا عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنّه كان معروفا عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم. وحسبك أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب.

والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم ، فإنهم كانوا قبل الإسلام ممتزجين باليهود متخلّقين بعوائدهم ، وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأته من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) في سورة البقرة [٢٢٣]. فلذلك جاء في هذه الصيغة لفظ الظّهر ، فجمعوا في هذه الصيغة تغليظا من التحريم وهي أنها كأمّه ، بل كظهر أمه. فجاءت صيغة شنيعة فظيعة.

وأخذوا من صيغة «أنت علي كظهر أمي» أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ «ظهر» فاشتقّوا منه الفعل بزنات متعددة ، يقولون : ظاهر من امرأته ، وظهّر مثل ضاعف وضعّف ، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة ، فيقولون : تظاهر منها وتظهر ، وليس هذا من

١٠

قبيل النحت نحو : بسمل ، وهلّل ، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها.

والخطاب في قوله : (مِنْكُمْ) يجوز أن يكون للمسلمين ، فيكون ذكر هذا الوصف للتعميم بيانا لمدلول الصلة من قوله : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) لئلا يتوهّم إرادة معيّن بالصلة.

ومن بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر. وليس خصوصية لخولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاد.

وأما (مِنْ) في قوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) فابتدائية متعلقة ب (يُظاهِرُونَ) لتضمنه معنى البعد إذ هو قد كان طلاقا والطلاق يبعد أحد الزوجين من الآخر ، فاجتلب له حرف الابتداء. كما يقال : خرج من البلد.

وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاث من أدوات الربط من أفعال وحروف نحو : أنت عليّ كظهر أمّي ، وأنت منّي مثل ظهر أمي ، أو كوني لي كظهر أمي ، أو نحو ذلك.

فأما إذا فقد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها. نحو : وجهك عليّ كظهر أمي. أو كجنب أمّي ، أو كظهر جدتي ، أو ابنتي ، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة ، أو إلحاقها بإحدى النساء من محارمه بقصد تحريم قربانها ، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقوال أصحابه وجمهور الفقهاء ، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدم المؤاخذة.

ولم يشر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجردا واضحا.

والصور عديدة وليست الإحاطة بها مفيدة ، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير.

وجملة (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) خبر عن (الَّذِينَ) ، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم : أنت عليّ كظهر أمّي ، أي لا تصير الزوج بذلك أمّا لقائل تلك المقالة.

١١

وهذا تمهيد لإبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة ، بما يشير إلى أن الأمومة حقيقة ثابتة لا تصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء ، كما قال تعالى في سورة الأحزاب [٤] : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) ولذلك أعقب هنا بقوله : (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي فليست الزوجات المظاهر منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين : أنت عليّ كظهر أمي ، فلا يحرمن عليهم ، فالقصر في الآية حقيقي ، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثّر إيجاده.

وجملة (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) إلخ واقعة موقع التعليل لجملة (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام. أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار ، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل.

وزيد صنيعهم ذمّا بقوله : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) توبيخا لهم على صنيعهم ، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر ، أي قبيح لما فيه من تعريض حرمة الأم لتخيّلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عند ما يسمع قول المظاهر : أنت عليّ كظهر أمّي. وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله : «كظهر أمي».

وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أوّل من نطق بها كان مليئا بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم : امصص بظر أمك في المشاتمة ، وهو أيضا قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله. وقد قال تعالى في سورة الأحزاب [٤] : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ).

وتأكيد الخبر ب (إِنْ) واللام ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنزلوا منزلة من يتردد في كونه منكرا أو زورا ، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعا في شرع قديم ولا في شريعة الإسلام ، وأنه شيء وضعه أهل الجاهلية كما نبه عليه عدّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ). وقد تقدم في سورة الأحزاب [٤].

وبعد هذا التوبيخ عطف عليه جملة (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) كناية عن عدم مؤاخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية ، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية : أن حكم إيقاعه الحرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في «اللّباب» لقوله بعده : (وَتِلْكَ

١٢

حُدُودُ اللهِ) [المجادلة : ٤] أن إيقاع الظهار معصية ، ولكونه معصية فسّر ابن عطية قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). وبذلك أيضا فسّر القرطبي قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ). وقال ابن الفرس : هو حرام لا يحلّ إيقاعه. ودل على تحريمه ثلاثة أشياء :

أحدها : تكذيب الله تعالى من فعل ذلك.

الثاني : أنه سمّاه منكرا وزورا ، والزور الكذب وهو محرّم بإجماع.

الثالث : إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عنه ويغفر ولا يعفى ويغفر إلّا على المذنبين.

وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة. ولا حجة في وصفه في الآية بزور ، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة.

وعدّ السبكي في «جمع الجوامع» الظهار من جملة الكبائر وسلمه المحلي. والكاتبون قالوا : لأن الله سماه زورا والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية ، وفيه نظر فإنهم لم يعدوا الكذب على الإطلاق كبيرة. وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة.

وأعقب (لَعَفُوٌّ) بقوله : (غَفُورٌ) فقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) في معنى : أن الله عفا عنهم وغفر لهم لأنه عفوّ غفور ، يغفر هذا وما هو أشد.

والعفو : الكثير العفو ، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم : الذي هو منكر وزور.

والغفور : الكثير الغفران ، والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه ، فذكر وصف (غَفُورٌ) بعد وصف (عفوّ) تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي ، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما (مُنْكَراً) و (زُوراً) ، بشيئين هما (عفوّ غفور).

وتأكيد الخبر في قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً).

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك.

وقد أومأ قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إلى أن مراد الله من هذا الحكم

١٣

التوسعة على الناس ، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة ، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون. ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سدّ الذريعة ، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

وقد قال مالك في «المدونة» : لا يقبّل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعر. قال الباجي في «المنتقى» : فمن أصحابنا من حمل ذلك على التحريم ، ومنهم من حمله على الكراهة لئلا يدعوه إلى الجماع. وبه قال الشافعي وعبد الملك.

قلت : وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع. وقال مالك : لو تظاهر من أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولا واحدا. وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما.

والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرآة التي يظاهر منها زوجها. وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرّما على المظاهر زوجه التي ظاهر منها.

وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجرا ليكفّ الناس عن هذا القول.

ومن هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لصاحبه : تعالى أقامرك فليتصدق» أي من جرى ذلك على لسانه بعد أن حرم الله الميسر.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣))

عطف على جملة (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال : فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة ، فيكون عطفا على جملة الخبر من قوله : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢].

و (ثُمَ) عاطفة جملة (يَعُودُونَ) على جملة (يُظاهِرُونَ) ، وهي للتراخي الرتبي تعريضا بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعد أن انقطع ذلك بالإسلام. ولذلك علق بفعل (يَعُودُونَ) ما يدل على قولهم لفظ الظهار.

والعود : الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله : الرجوع إلى المكان الذي

١٤

غادره ، وهو هنا عود مجازي.

ومعنى (يَعُودُونَ لِما قالُوا) يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهر لا يكون مظاهرا إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أولى. وبهذا فسر الفراء. وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس : بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفوا عنه. غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادلة يدفع هذا الظاهر لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأوس بن الصامت : «أعتق رقبة» كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار.

ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم ، أي لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة. وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبكير بن الأشج وأبا العالية. وفي «الموطأ» قال مالك في قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال سمعت : أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه.

وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليث تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به.

وعليه فقد استعمل فعل (يَعُودُونَ) في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عودا بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسيس معنى ، فانتظم من هذا معنى : ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] أي إذا أردتم القيام ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله».

وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت : ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول : اتقي الله. فإنه ابن عمك؟ فما برحت حتّى نزل القرآن. فقال : «يعتق رقبة». قالت : لا يجد. قال : «فيصوم شهرين

١٥

متتابعين». قالت : إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال : «فليطعم ستين مسكينا». قالت : ما عنده شيء يتصدق به. فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت : يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال : «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستّين مسكينا وارجعي إلى ابن عمّك». قال أبو داود في هذا : إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره.

والمراد «بما قالوا» ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ : أنت عليّ كظهر أمي ، لأن : أنت عليّ. في معنى : قربانك ونحوه عليّ كمثله من ظهر أمي. ومنه قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) [مريم : ٨٠] ، أي مالا وولدا في قوله تعالى : (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] ، وقوله : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) [آل عمران : ١٨٣] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ففعل القول في هذا وأمثاله ناصب لمفرد لوقوعه في خلاف جملة مقولة ، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحريم له. فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به. فالمعنى : ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم.

وفهم من قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أن من لم يرد العود إلى امرأته لا يخلو حاله: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع عليها طلاقا آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقا ، وإما أن لا يريد طلاقا ولا عودا. فهذا قد صار ممتنعا من معاشرة زوجه مضرّا بها فله حكم الإيلاء الذي في قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة: ٢٢٦] الآية. وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي. ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال : «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتايع بي (بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية ، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله : (بي) زائدة للتأكيد) حتى أصبح ، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان». الحديث.

واللام في قوله : (لِما قالُوا) بمعنى (إلى) كقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] ونظيره قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨]. وأحسب أن أصل اللام هو التعليل ، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] ، وما يقع فيه حرف (إلى) من ذلك مجاز بتنزيل من يفعل الفعل لأجله

١٦

منزلة من يجيء الجائي إليه ، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العود فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجّز أو تضمين يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢] ، أي جريه المستمر لقصده أجلا يبلغه. ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية.

وفي «الكشاف» في قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الزمر [٥] أنه ليس مثل قوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة لقمان [٢٩] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا ضيّق العطن ، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله : (إِلى أَجَلٍ) معناه يبلغه ، وقوله : (لِأَجَلٍ) يريد لإدراك أجل تجعل الجري مختصا بالإدراك ا ه.

فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا ، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم ، فيصير متعلّق فعل (يَعُودُونَ) مقدّرا يدل عليه الكلام ، أي يعودون لما تركوه من العصمة ، ويصير الفعل في معنى : يندمون على الفراق.

وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه ، تحلة لما قصده من التحريم ، وتأديبا له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع.

وبهذا يكون محمل قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن ، كما قال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧].

ولذلك جعلت الكفارة عتق رقبة لأنه يفتدي بتلك الرقبة رقبة زوجه.

وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ). واسم الإشارة في قوله: (ذلِكُمْ) عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ : التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب ، أي فرض الكفارة تنبيه لكم لتتفادوا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسمّاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في «جامع الترمذي» وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في «الأحكام».

١٧

فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهر منها ، أي ممنوع من علائق الزوجية ، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التكفير لأنه سبب واحد فلا يضرّ تكرر مسببه ، وإنما جعلت الكفارة زجرا ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زنا. وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكفارة واحدة ، وهو قول جمهور العلماء. وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين.

وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تذييل لجملة (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أي والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً).

رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكّها عن فكّ عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة.

وأعيد قيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام ، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كاف في العود إلى الاستمتاع.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) ، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله له أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا عوضا عن الصيام فالإطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكينا ألم الجوع عوضا عما كان التزمه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذّاته ، وإنما حددت بستين مسكينا إلحاقا لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمدا بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيبا مناسبا.

١٨

وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعاما فيحمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعارف في فعل طعم. فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين. وعن مالك رحمه‌الله في ذلك روايتان ، إحداهما : أنه مدّ واحد لكل مسكين بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثانية : أنه مدّان أو ما يقرب من المدّين وهو مدّ بمدّ هشام (بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة) وقدره مدّان إلا ثلث مدّ قال : قال أشهب : قلت لمالك : أيختلف الشبع عندنا وعندكم؟ قال : نعم الشبع عندنا مدّ بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشبع عندكم أكثر (أي لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة). وقوله هذا يقتضي أن يكون الإطعام في المدينة مدّا بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدرا بمدّين أو بمدّ وثلثين ، وقال : لو أطعم مدّا ونصف مدّ أجزأه. فتعين أن تضعيف المقدار في الإطعام مراعى فيه معنى العقوبة على ما صنع ، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس. قال أبو الحسن القابسي : إنما أخذ أهل المدينة بمدّ هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة.

وقدّر أبو حنيفة الشبع بمدّين بمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعله راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة ، وقدّره الشافعي بمدّ واحد لكل مسكين قياسا على ما ثبت في السنة في كفارة الإفطار وكفارة اليمين.

ولم يذكر مع الإطعام قيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزّأ لمثل أيام الصيام. هذا قول جمهور الفقهاء.

وعن أبي حنيفة أن الإطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسّا.

ثم إن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر ، وهذا ما بيّنه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها ، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفّر. وهذا قول جمهور الفقهاء ، وقال مجاهد : عليه كفّارتان.

وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير ، وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته.

ولا يمسّ امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثم ووجب

١٩

عليه إعادة الشهرين. وقال الشافعي : إذا كان الوطء ليلا لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلا للصوم ، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر.

وأما كون آثما بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى ، فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعدّ فلا بدّ من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء اه.

والمسكين : الشديد الفقر ، وتقدّم في سورة براءة.

والمظاهر إن كان قادرا على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفّر انقلب ظهاره إيلاء. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزا عن خصال الكفارة كلها كان كالعاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر.

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحقّ على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه ، وأنه يعود إلى مسيس امرأته ، وتبقى الكفارة ذنبا عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار.

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

الإشارة إلى ما ذكر من الأحكام ، أي ذلك المذكور لتؤمنوا بالله ورسوله ، أي لتؤمنوا إيمانا كاملا بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإيمان بأعمال أهل الجاهلية ، وهذا زيادة في تشنيع الظهار ، وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد ، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصة في عدم الاعتداد به وفي الخلاص منه بالكفارة ، لتيسير الإيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].

و (لِتُؤْمِنُوا) خبر عن اسم الإشارة ، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه وهو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا عوضا عن تحرير رقبة كان من علّل به تحرير رقبة منسحبا على الصيام والإطعام ، وما علّل به الصيام والإطعام منسحبا على تحرير رقبة ، فأفاد أن كلّا من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكينا مشتمل على كلتا العلّتين وهما : الموعظة والإيمان بالله ورسوله.

٢٠