تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

عمرو بن أمية ، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببئر معونة ، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قتلت قتيلين ولآدينّهما» ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حلف ، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم.

ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالسير إليهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودسّ إليهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال : إن قاتلكم المسلمون فنحن معكم ولننصرنّكم وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم فدرّبوا على الأزقة (أي سدّوا منافذ بعضها لبعض ليكون كلّ درب منها صالحا للمدافعة) وحصّنوها ، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم ، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتظروا عبد الله بن أبيّ ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويحمل كلّ ثلاثة أبيات منهم حمل بعير مما شاءوا من متاعهم ، فجعلوا يخرّبون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب.

فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر ، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن (أريحا) وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحيرة.

واللام في قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفا لعمل مثل قوله تعالى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] أي من وقت حياتي. وقولهم : كتب ليوم كذا. وهي بمعنى (عند). فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم ، وهذا إيماء إلى أن الله قدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي. فالتعريف في (الْحَشْرِ) تعريف العهد.

والحشر : جمع ناس في مكان قال تعالى : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) [الشعراء : ٣٦ ، ٣٧].

٦١

والمراد به هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها ، أي جمعهم للخروج ، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من متفرق ديار البلاد.

وليس المراد به : حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ «أول» لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه.

وعن الحسن : أنه حمل الآية على حشر القيامة وركّبوا على ذلك أوهاما في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة «سورة بني النضير» وفي جعل هذا الإخراج وقتا لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيل وفاته إذ قال : «لا يبقى دينان في جزيرة العرب». وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب. وقيل : وصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير ، فإن اليهود أجلوا من فلسطين مرتين مرة في زمن (بختنصر) ومرة في زمن (طيطس) سلطان الروم وسلّم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب. فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ).

أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم.

وكان اليهود يتخذون حصونا يأوون إليها عند ما يغزوهم العدوّ مثل حصون خيبر.

وكانت لبني النضير ستة حصون أسماؤها : الكتيبة (بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية) والوطيح (بفتح الواو وكسر الطاء) والسّلالم (بضم السين) والنّطاة (بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبهاء تأنيث آخره) والوخدة (بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة) وشقّ (بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف).

ونظم جملة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) على هذا النظم دون أن يقال : وظنّوا أن حصونهم مانعتهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد (مانِعَتُهُمْ) إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيرا إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومنعة ، وأن منعة حصونهم هي من شئون عزتهم.

٦٢

وفي تقديم (مانِعَتُهُمْ) وهو وصف على (حُصُونُهُمْ) وهو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل في مرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبرا عنه ، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم ، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلا باسم الفاعل وهو (مانِعَتُهُمْ) بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحا. قال المرزوقي في شرح (باب النسب) قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة :

فإن لم يكن إلا معرّج ساعة

قليلا فإني نافع لي قليلها

يجوز أن يكون (قليلها) مبتدأ و (نافع) خبر مقدم عليه ـ أي لقصد الاهتمام ـ. والجملة في موضع خبر (إنّ) والتقدير : إنّي قليلها نافع لي.

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

تفريع على مجموع جملتي (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ).

وتركيب (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) تمثيل ، مثّل شأن الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عدة وعدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها. وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) [النور : ٣٩].

والاحتساب : مبالغة في الحسبان ، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.

والقذف : الرمي باليد بقوة. واستعير للحصول العاجل ، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية آل عمران [١٥١](سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

والمعنى : وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام. وقذف الرعب في

٦٣

قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله ، وعطفه على «أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا» عطف خاص على عام للاهتمام.

و (الرُّعْبَ) : شدة الخوف والفزع. وهذا معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرعب» ، أي برعب أعداء الدين.

وجملة (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) حال من الضمير المضاف إليه (قُلُوبِهِمُ) لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه.

والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري.

والإخراب والتخريب : إسقاط البناء ونقضه. والخراب : تهدم البناء.

وقرأ الجمهور (يُخْرِبُونَ) بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع : أخرب. وقرأه أبو عمرو وحده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع : خرّب. وهما بمعنى واحد. قال سيبويه : إن أفعلت وفعّلت يتعاقبان نحو أخرجته وخرّبته ، وأفرحته وفرّحته. يريد في أصل المعنى. وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين : أنزل ونزّل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.

وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم ، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلّوا بقعة تركها بنو النضير.

وقوله : (بِأَيْدِيهِمْ) هو تخريبهم البيوت بأيديهم ، حقيقة في الفعل وفي ما تعلق به ، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير.

فعطف (أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) على (بِأَيْدِيهِمْ) بحيث يصير متعلّقا بفعل (يُخْرِبُونَ) استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لمّا وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة.

فالمعنى : ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل (يُخْرِبُونَ) على

٦٤

الحقيقة ووقع تعلق وتعليق (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) به على اعتبار المجاز العقلي ، فالمجاز في التعليق الثاني.

وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.

والاعتبار : النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة ، وهي الموعظة. وقول «القاموس» : هي العجب قصور.

وتقدم في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) في سورة يوسف [١١١].

والخطاب في قوله : (يا أُولِي الْأَبْصارِ) موجّه إلى غير معين. ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بصر مما شاهد ذلك ، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم ، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.

وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإثبات حجّيّة القياس بناء على أنه من الاعتبار.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣))

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا).

جملة معترضة ناشئة عن جملة (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ٢]. فالواو اعتراضية ، أي أخرجهم الله من قريتهم عقابا لهم على كفرهم وتكذيبهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر : ٤] ولو لم يعاقبهم الله بالجلاء لعاقبهم بالقتل والأسر لأنهم استحقّوا العقاب. فلو لم يقذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا لعاقبهم بجوع الحصار وفتح ديارهم عنوة فعذبوا قتلا وأسرا.

والمراد بالتعذيب : الألم المحسوس بالأبدان بالقتل والجرح والأسر والإهانة وإلّا

٦٥

فإن الإخراج من الديار نكبة ومصيبة لكنها لا تدرك بالحس وإنما تدرك بالوجدان.

و (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، تفيد امتناع جوابها لأجل وجود شرطها ، أي وجود تقدير الله جلاءهم سبب لانتفاء تعذيب الله إياهم في الدنيا بعذاب آخر.

وإنما قدر الله لهم الجلاء دون التعذيب في الدنيا لمصلحة اقتضتها حكمته ، وهي أن يأخذ المسلمون أرضهم وديارهم وحوائطهم دون إتلاف من نفوس المسلمين مما لا يخلو منه القتال لأن الله أراد استبقاء قوة المسلمين لما يستقبل من الفتوح ، فليس تقدير الجلاء لهم لقصد اللطف بهم وكرامتهم وإن كانوا قد آثروه على الحرب.

ومعنى (كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ) قدّر لهم تقديرا كالكتابة في تحقق مضمونه وكان مظهر هذا التقدير الإلهي ما تلاحق بهم من النكبات من جلاء النضير ثم فتح قريظة ثم فتح خيبر.

والجلاء : الخروج من الوطن بنية عدم العود ، قال زهير :

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

وأعلم أن (أَنْ) الواقعة بعد (لَوْ لا) هنا مصدرية لأن (أَنْ) الساكنة النون إذا لم تقع بعد فعل علم يقين أو ظن ولا بعد ما فيه معنى القول ، فهي مصدرية وليست مخففة من الثقيلة.

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ)

عطف على جملة (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ) الآية ، أو على جملة (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحشر : ٢] ، وليس عطفا على جواب (لَوْ لا) فإن عذاب النار حاقّ عليهم وليس منتفيا. والمقصود الاحتراس من توهم أنّ الجلاء بدل من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤))

الإشارة إلى جميع ما ذكر من إخراج الذين كفروا من ديارهم ، وقذف الرعب في قلوبهم ، وتخريب بيوتهم ، وإعداد العذاب لهم في الآخرة.

والباء للسببية وهي جارّة للمصدر المنسبك من (أنّ) وجملتها.

٦٦

والمشاقّة : المخاصمة والعداوة قال تعالى : (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [النحل : ٢٧] وقد تقدم نظيره في أول الأنفال.

والمشاقّة كالمحادّة مشتقة من الاسم. وهو الشقّ ، كما اشتقت المحادّة من الحدّ ، كما تقدم في أول سورة المجادلة. وتقدم في سورة النساء [٣٥](وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما).

وقد كان بنو النضير ناصبوا المسلمين العداء بعد أن سكنوا المدينة وأضروا المنافقين وعاهدوا مشركي أهل مكة كما علمت آنفا.

وجملة (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل ، أي شديد العقاب لكل من يشاققه من هؤلاء وغيرهم.

وعطف اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اسم الجلالة في الجملة الأولى لقصر تعظيم شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلموا أن طاعته طاعة الله لأنه إنما يدعو إلى ما أمره الله بتبليغه ولم يعطف اسم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجملة الثانية استغناء بما علم من الجملة الأولى.

وأدغم القافان في (يُشَاقِ) لأن الإدغام والإظهار في مثله جائزان في العربية. وقرئ بهما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) في سورة البقرة [٢١٧]. والفكّ لغة الحجاز ، والإدغام لغة بقية العرب.

وجملة (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) دليل جواب (مَنْ) الشرطية إذ التقدير : ومن يشاقق الله فالله معاقبهم إنه شديد العقاب.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

استئناف ابتدائي أفضى به إلى المقصد من السورة عن أحكام أموال بني النضير وإشارة الآية إلى ما حدث في حصار بني النضير وذلك أنهم قبل أن يستسلموا اعتصموا بحصونهم فحاصرهم المسلمون وكانت حوائطهم خارج قريتهم وكانت الحوائط تسمى البويرة (بضم الباء الموحدة وفتح الواو وهي تصغير بؤر بهمزة مضمومة بعد الباء فخففت واوا) عمد بعض المسلمين إلى قطع بعض نخيل النضير قيل بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل بدون أمره ولكنه لم يغيره عليهم. فقيل كان ذلك ليوسعوا مكانا لمعسكرهم ، وقيل لتخويف بني

٦٧

النضير ونكايتهم ، وأمسك بعض الجيش عن قطع النخيل وقالوا : لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقد ذكر أن النخلات التي قطعت ست نخلات أو نخلتان. فقالت اليهود : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ، وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فأنزل الله هذه الآية.

والمعنى : أن ما قطعوا من النخل أريد به مصلحة إلجاء العدوّ إلى الاستسلام وإلقاء الرعب في قلوبهم وإذلالهم بأن يروا أكرم أموالهم عرضة للإتلاف بأيدي المسلمين ، وأن ما أبقي لم يقطع في بقائه مصلحة لأنه آيل إلى المسلمين فيما أفاء الله عليهم فكان في كلا القطع والإبقاء مصلحة فتعارض المصلحتان فكان حكم الله تخيير المسلمين. والتصرف في وجوه المصالح يكون تابعا لاختلاف الأحوال ، فجعل الله القطع والإبقاء كليهما بإذنه ، أي مرضيا عنده ، فأطلق الإذن على الرضى على سبيل الكناية ، أو أطلق إذن الله على إذن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن بذلك ابتداء ، ثم أمر بالكف عنه.

وكلام الأئمة غير واضح في إذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ابتداء وأظهر أقوالهم قول مجاهد : إن القطع والامتناع منه كان اختلافا بين المسلمين ، وأن الآية نزلت بتصديق من نهي عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم. وفي ذلك قال حسان بن ثابت يتورك على المشركين بمكة إذ غلب المسلمون بني النضير أحلافهم ويتورك على بني النضير إذ لم ينصرهم أحلافهم المشركون من قريش :

تفاقد معشر نصروا قريشا

وليس لهم ببلدتهم نصير

وهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

يريد سراة أهل مكة وكلهم من بني لؤيّ بن غالب بن فهر ، وفهر هو قريش أي لم ينقذوا أحلافهم لهوانهم عليهم.

وأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومئذ مشرك :

آدام الله ذلك من صنيع

وحرّق في نواحيها السعير

ستعلم أيّنا منها بنزه

وتعلم أيّ أرضينا تضير

يريد أن التحريق وقع بنواحي مدينتكم فلا يضير إلا أرضكم ولا يضير أرضنا ، فقوله : أدام الله ذلك من صنيع ، تهكم.

ومن هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أن تحريق دار العدوّ وتخريبها وقطع

٦٨

ثمارها جائز إذا دعت إليه المصلحة المتعينة وهو قول مالك. وإتلاف بعض المال لإنقاذ باقيه مصلحة وقوله : (مِنْ لِينَةٍ) بيان لما في قوله : (ما قَطَعْتُمْ).

واللّينة : النخلة ذات الثمر الطيّب تطلق اسم اللينة على كل نخلة غير العجوة والبرنيّ في قول جمهور أهل المدينة وأئمة اللغة. وتمر اللّينة يسمى اللّون.

وإيثار (لِينَةٍ) على نخلة لأنه أخف ولذلك لم يرد لفظ نخلة مفردا في القرآن ، وإنما ورد النخل اسم جمع.

قال أهل اللغة : ياء لينة أصلها واو انقلبت ياء لوقوعها إثر كسرة ولم يذكروا سبب كسر أوله ويقال : لونة وهو ظاهر.

وفي كتب السيرة يذكر أن بعض نخل بني النضير أحرقه المسلمون وقد تضمن ذلك شعر حسان ولم يذكر القرآن الحرق فلعل خبر الحرق مما أرجف به فتناقله بعض الرواة ، وجرى عليه شعر حسّان وشعر أبي سفيان بن الحارث ، أو أن النخلات التي قطعت أحرقها الجيش للطبخ أو للدفء.

وجيء بالحال في قوله : (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) لتصوير هيئتها وحسنها. وفيه إيماء إلى أن ترك القطع أولى. وضمير (أُصُولِها) عائد إلى (ما) الموصولة في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ) لأن مدلول (ما) هنا جمع وليس عائدا إلى (لِينَةٍ) لأن اللّينة ليس لها عدة أصول بل لكل ليّنة أصل واحد.

وتعلق (عَلى أُصُولِها) ب (قائِمَةً). والمقصود : زيادة تصوير حسنها. والأصول : القواعد. والمراد هنا : سوق النخل قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤]. ووصفها بأنها (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) هو بتقدير : قائمة فروعها على أصولها لظهور أن أصل النخلة بعضها.

والفاء من قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) مزيدة في خبر المبتدأ لأنه اسم موصول ، واسم الموصول يعامل معاملة الشرط كثيرا إذا ضمن معنى التسبب ، وقد قرئ بالفاء وبدونها قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) في سورة الشورى [٣٠].

وعطف (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) من عطف العلة على السبب وهو (فَبِإِذْنِ اللهِ) لأن السبب في معنى العلة ، ونظيره قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية في آل عمران [١٦٦].

٦٩

والمعنى : فقطع ما قطعتم من النخل وترك ما تركتم لأن الله أذن للمسلمين به لصلاح لهم فيه ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ، أي ليهين بني النضير فيروا كرائم أموالهم بعضها مخضود وبعضها بأيدي أعدائهم. فذلك عزة للمؤمنين وخزي للكافرين والمراد ب (الْفاسِقِينَ) هنا : يهود النضير.

وعدل عن الإتيان بضميرهم كما أتي بضمائرهم من قبل ومن بعد إلى التعبير عنهم بوصف (الْفاسِقِينَ) لأن الوصف المشتق يؤذن بسبب ما اشتق منه في ثبوت الحكم ، أي ليجزيهم لأجل الفسق.

والفسق : الكفر.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

يجوز أن يكون عطفا على جملة (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) [الحشر : ٥] الآية فتكون امتنانا وتكملة لمصارف أموال بني النضير.

ويجوز أن تكون عطفا على مجموع ما تقدم عطف القصة على القصة والغرض على الغرض للانتقال إلى التعريف بمصير أموال بني النضير لئلا يختلف رجال المسلمين في قسمته. ولبيان أن ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة أموال بني النضير هو عدل إن كانت الآية نزلت بعد القسمة وما صدق (ما أَفاءَ اللهُ) هو ما تركوه من الأرض والنخل والنقض والحطب.

والفيء معروف في اصطلاح الغزاة ، ففعل أفاء أعطى الفيء ، فالفيء في الحروب والغارات ما يظفر به الجيش من متاع عدوّهم وهو أعم من الغنيمة ولم يتحقق أئمة اللغة في أصل اشتقاقه فيكون الفيء بقتال ويكون بدون قتال ، وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال.

وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى (الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ٢] الواقع في أول السورة وهم بنو النضير. وقيل : أريد به الكفار ، وأنه نزّل في فيء فدك فهذا بعيد ومخالف للآثار.

وقوله : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) خبر عن (ما) الموصولة قرن بالفاء لأن الموصول كالشرط لتضمنه معنى التسبب كما تقدم آنفا في قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) [الحشر : ٥].

٧٠

وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال ، مثل قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب : ٢٥] ، ويفيد مع ذلك كناية بأن يقصد بالإخبار عنه بأنهم لم يوجفوا عليه لازم الخبر وهو أنه ليس لهم سبب حقّ فيه. والمعنى : فما هو من حقّكم ، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم ولكن الله أعطاه رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصب.

والإيجاف : نوع من سير الخيل. وهو سير سريع بإيقاع وأريد به الركض للإغارة لأنه يكون سريعا.

والركاب : اسم جمع للإبل التي تركب. والمعنى : ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل.

وحرف (على) في قوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) للتعليل ، وليس لتعدية (أَوْجَفْتُمْ) لأن معنى الإيجاف لا يتعدى إلى الفيء بحرف الجر ، أو متعلق بمحذوف هو مصدر (أَوْجَفْتُمْ) ، أي إيجافا لأجله.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ خَيْلٍ) زائدة داخلة على النكرة في سياق النفي ومدخول (مِنْ) في معنى المفعول به ل (أَوْجَفْتُمْ) أي ما سقتم خيلا ولا ركابا.

وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) استدراك على النفي الذي في قوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) لرفع توهم أنه لا حقّ فيه لأحد. والمراد : أن الله سلط عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالرسول أحق به. وهذا التركيب يفيد قصرا معنويا كأنه قيل : فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) إيجاز حذف لأن التقدير: ولكن الله سلط عليهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله يسلط رسله على من يشاء وكان هذا بمنزلة التذييل لعمومه وهو دال على المقدر.

وعموم (مَنْ يَشاءُ) لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين.

والمعنى : وما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو بتسليط الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم والله يسلط رسله على من يشاء. فأغنى التذييل عن المحذوف ، أي فلا حقّ لكم فيه فيكون من مال الله يتصرّف فيه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وولاة الأمور من بعده.

٧١

فتكون الآية تبيينا لما وقع في قسمة فيء بني النضير. ذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقسمه على جميع الغزاة ولكن قسمه على المهاجرين سواء كانوا ممّن غزوا معه أم لم يغزوا إذ لم يكن للمهاجرين أموال. فأراد أن يكفيهم ويكفي الأنصار ما منحوه المهاجرين من النخيل. ولم يعط منه الأنصار إلا ثلاثة لشدة حاجتهم وهم أبو دجانة (سماك بن خزينة) ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمّة. وأعطى سعد بن معاذ سيف أبي الحقيق. وكل ذلك تصرّف باجتهاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله جعل تلك الأموال له.

فإن كانت الآية نزلت بعد أن قسمت أموال النضير كانت بيانا بأن ما فعله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ ، أمره الله به ، أو جعله إليه ، وإن كانت نزلت قبل القسمة ، إذ روي أن سبب نزولها أن الجيش سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخميس أموال بني النضير مثل غنائم بدر فنزلت هذه الآية ، كانت الآية تشريعا لاستحقاق هذه الأموال.

قال أبو بكر ابن العربي : «لا خلاف بين العلماء أن الآية الأولى خاصة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم» أي هذه الآية الأولى من الآيتين المذكورتين في هذه السورة خاصة بأموال بني النضير ، وعلى أنها خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعها حيث يشاء. وبذلك قال عمر بن الخطاب بمحضر عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد ، وهو قول مالك فيما روى عنه ابن القاسم وابن وهب. قال : كانت أموال بني النضير صافية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتفقوا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخمسها. واختلف في القياس عليها كل مال لم يوجف عليه. قال ابن عطية : قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح الله على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة اه. وسيأتي تفسير ذلك في الآية بعدها.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ).

جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام ، أي على الاستئناف الابتدائي ، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها. ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموال بني النضير خاصة ، وجعلوا الآية الثانية هذه إخبارا عن حكم الأفياء التي حصلت عند فتح قرى أخرى بعد غزوة بني النضير. مثل

٧٢

قريظة سنة خمس ، وفدك سنة سبع ، ونحوهما فعيّنته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها ، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضا وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه ، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعبير بقوله هنا : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بعد أن قال في التي قبلها (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) [الحشر : ٦] فإن ضمير (مِنْهُمْ) راجع ل (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ٢] وهم بنو النضير لا محالة. وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت عقب الآية الأولى ، ويجوز أن تكون نزلت بعد مدة فإن فتح القرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين.

ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبيانا للآية التي قبلها ، أي بيانا للإجمال الواقع في قوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ) الآية [الحشر : ٦] ، لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإعلام بأن أهل الجيش لا حقّ لهم فيه ، ولم تبين مستحقّه وأشعر قوله (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) [الحشر : ٦] أنه مال لله تعالى يضعه حيث شاء على يد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد بيّن الله له مستحقّيه من غير أهل الجيش. فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان. ولذلك فصلت.

وممن قال بهذا الشافعيّ وعليه جرى تفسير صاحب «الكشاف». ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يخمّس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمّسها بل ثبت ضدّه ، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكما خاصا ، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة.

قال ابن الفرس : آية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى). وهذه الآية من المشكلات إذا نظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) الآية [الحشر : ٦] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف ، وبذلك فسّرها عمر ولم يخالفه أحد.

وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف ، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها ، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها ، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر.

ومنهم من قال : إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين :

٧٣

واختلف الذاهبون إلى هذا : فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال ، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار (فتكون تخصيصا لآية الأنفال) وإلى هذا ذهب مالك. والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة. ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اه.

والتعريف في قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) تعريف العهد وهي قرى معروفة عدّت منها : قريظة ، وفدك ، وقرى عرينة ، والينبع ، ووادي القرى ، والصفراء ، فتحت في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحا أو فيئا. والأكثر على أن فدك كانت مثل النضير.

ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل مثله فيه أئمة المسلمين.

وتقييد الفيء بفيء القرى جرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصرون فيستسلمون ويعطون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار ، فأما النازلون بالبوادي فلا يغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) مفهوم عندنا ، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف. فمذهب مالك أنه لا يخمّس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال.

وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالخيار فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.

وذهب الشافعي إلى أن جميع أموال الحرب مخمّسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ.

وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمّس ، وأما الأرضون فالتفويض فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسّمها وخمس أهلها فهم أرقاء ، وإن شاء أقرّ أهلها بها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.

وهذه الآية اقتضت أن صنفا مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيبا للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس ، فقال جمع من العلماء : إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية.

٧٤

وقال جمع : هذه الآية نسخت آية الأنفال. وقال قتادة : كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال ، وبذلك قال زيد بن رومان : قال القرطبي ونحوه عن مالك اه. على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين.

إلا أن يقول قائل : إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديدا لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر ، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة مغانم بدر ، ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر. فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال القرطبي : قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال ، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل ، أي بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالإجماع.

وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة ، فشرع لها حكم خاص بها ، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونسخ حكمها واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين : حالة الفيء المجرد وما ليس مجرد فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإجماع. والإجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخا لأنه يتضمن ناسخا. وعن معمر أنه قال : بلغني أن هذه الآية ـ أي آية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ـ نزلت في أرض الخراج والجزية.

ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض. كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أنها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي ، ومع ما فعله عمر في سواد العراق ، وقد عرفت موقع كل. وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠].

ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة. وزعموا أنها منسوخة بآية الأنفال. وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيء والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانها في سورة الأنفال.

و (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) إلخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكا لأصناف كثيرة الأفراد ، أي جعلناه مقسوما على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء

٧٥

من المسلمين ، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهل الحاجة نصيب منه.

والمقصود من ذلك. إبطال ما كان معتادا في العرب قبل الإسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي : المرباع ، والصفايا ، وما صالح عليه عدوّه دون قتال ، والنشيطة ، والفضول.

قال عبد الله بن عنمة الضبّيّ يخاطب بسطام بن قيس سيد بني شيبان وقائدهم في أيامهم :

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فالمرباع : ربع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.

والصفايا : النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته ، كان يستأثر به قائد الجيش ، وأما حكمه فهو ما أعطاه العدوّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.

والنشيطة : ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.

والفضول : ما يبقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رءوس الغزاة مثل بعير وفرس.

وقد أبطل الإسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفا إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة ، فإن ما هو لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.

وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات ، والفيء ، واللقطات ، والركاز ، أو كان جزءا معينا مثل : الزكاة ، والكفارات ، وتخميس المغانم ، والخراج ، والمواريث ، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل : القراض والمغارسة ، والمساقاة ، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل : الفيء والرّكاز ، وما ألقاه البحر ، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميته «مقاصد الشريعة الإسلامية».

والدولة بضم الدال : ما يتداوله المتداولون. والتداول : التعاقب في التصرف في

٧٦

شيء. وخصها الاستعمال بتداول الأموال.

والدولة بفتح الدال : النوبة في الغلبة والملك. ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال.

وقرأ الجمهور (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) بنصب (دُولَةً) على أنه خبر (يَكُونَ). واسم (يَكُونَ) ضمير عائد إلى ما أفاء الله ، وقرأه هشام عن ابن عامر ، وأبو جعفر برفع دولة على أنّ (يَكُونَ) تامة ودولة فاعله.

وقرأ الجمهور (يَكُونَ) بتحتية في أوله. وقرأه أبو جعفر تكون بمثناة فوقية جريا على تأنيث فاعله. واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة (أي جعفر) في تاء تكون وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء.

والخطاب في قوله تعالى : (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) [الحشر : ٢] ثم قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) [الحشر : ٥] وما بعده. وجعله ابن عطية خطابا للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى.

والمراد ب (الْأَغْنِياءِ) الذين هم مظنة الغنى ، وهم الغزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

اعتراض ذيّل به حكم فيء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيء النضير ، والواو اعتراضية ، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أرض النضير.

والإيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم ، جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة : ٦٣ و ٩٣] واستعير الأخذ أيضا لقبول الأمر والرضى به والعمل.

وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وهو تتميم لنوعي التشريع. وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة. وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود : أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله الواشمات والمستوشمات» .. الحديث. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم

٧٧

يعقوب فجاءته فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي.

والمعنى : واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب ، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

بدل مما يصلح أن يكون بدلا منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها الكلام مباشرة وعطفا قوله : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الحشر : ٧] بدل بعض من كل.

وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم ، فكأنه قيل : ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل للفقراء منهم لا مطلقا ، يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.

وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير. ولإفادة التأكيد.

وكثيرا ما يقترن البدل بمثل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي ، وتقدم في قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) في سورة العقود [١١٤]. فبقي احتمال أن يكون قيدا (لِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الحشر : ٧] ، فيتعين أن يكون قوله : (لِلْفُقَراءِ) إلى آخره مسوقا لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها ، فيقتضي هذا أن يشترط الفقر في كل صنف من هذه

٧٨

الأصناف الأربعة ، لأن مطلقها قد قيّد بقيد عقب إطلاق ، والكلام بأواخره فليس يجري هنا الاختلاف في حمل المطلق على المقيد ، ولا تجري الصور الأربع في حمل المطلق على المقيد من اتحاد حكمهما وجنسهما. ولذلك قال مالك وأبو حنيفة : لا يعطى ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة. وقال الشافعي وكثير من الفقهاء : يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال إمام الحرمين : أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة ، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضارّه ويحادّه.

قلت : هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.

واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت على ذوي القربى كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيء والمغانم أنه لا يمتنع صرفه إليهم امتناع صرف الصدقات ، ثم قال : لا تغترّ بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفا لهم فمن علّله بالحاجة فوّت هذا المعنى اه.

وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول ، والبحث فيه يطول. ومحله مسائل الفقه والأصول.

ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) ابتدائية على حذف المبتدأ. والتقدير : ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء ، ومنهم من جعلها معطوفة بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل : فلله وللرسول ، إلى آخره ، ثم قيل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ). فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيدا للجملة التي قبلها ، وتنفتح طرائق أخرى في حمل المطلق على المقيد ، والاختلاف في شروط الحمل ، وهي طرائق واضحة للمتأمل ، وعلى الوجه الأول يكون المعوّل.

ووصف المهاجرون بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيها على أن إعطاءهم مراعى جبر ما نكبوا به من ضياع الأموال والديار ، ومراعى فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكرّرون نصر دين الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذيل بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

واسم الإشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما

٧٩

سبق اسم الإشارة من الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلا من الله ورضوانا ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يشهد للإخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاقّ وأذى وإضرار ، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.

وجملة (هُمُ الصَّادِقُونَ) مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأنّ صدق غيرهم ليس صدقا في جانب صدقهم.

وموقع قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) كموقع قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة البقرة [٥].

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

الأظهر أن (الَّذِينَ) عطف على (الْمُهاجِرِينَ) [الحشر : ٨] أي والذين تبوّءوا الدار. والذين تبوّءوا الدار هم الأنصار.

والدّار تطلق على البلاد ، وأصلها موضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨] ، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.

والتعريف هنا للعهد لأن المراد بالدار : يثرب ، والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ).

والتبوّؤ : اتخاذ المباءة وهي البقعة التي يبوء إليها صاحبها ، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله : (وَالْإِيمانَ) غموض إذ لا يصح أن يكون مفعولا لفعل تبوّءوا ، فتأوله المفسرون على وجهين : أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالمنزل وجعل إثبات التّبوّؤ تخييلا فيكون فعل تبوءوا مستعملا في حقيقته ومجازه.

وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملا مقدرا يدلّ عليه الكلام ، تقديره : وأخلصوا الإيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف :

٨٠