تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرغب فيها الراغبون.

و (خَيْرٌ) يجوز أن يكون اسم تفضيل ، أصله : أخير وهو المزاوج لقوله : (وَأَطْهَرُ) أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون تقديم صدقة ، وإن كان في كلّ خير. كقوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١].

ويجوز أن يكون اسما على وزن فعل وهو مقابل الشّر ، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضى الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة.

وأما (أَطْهَرُ) فهو اسم تفضيل لا محالة ، أي أطهر لكم بمعنى : أشد طهرا ، والطهر هنا معنوي ، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣]. ومنه سميت الصدقة زكاة.

وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليناجيه.

وعذر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرة التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته.

وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست عبثا بل لتحصيل علم من أمور الدين.

وأما قوله : (رَحِيمٌ) فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعارا له بأن رحمة الله تنفعه.

واتفق العلماء على أن حكم هذه الآية منسوخ.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

٤١

نزلت هذه الآية عقب التي قبلها : والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها. وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة ، وقد قيل : لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه. ولعل غيره لم يحتج إلى نجوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب.

فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشقّ عليهم ذلك أو ثقل عليهم.

والإشفاق توقع حصول ما لا يبتغيه ومفعول (أَأَشْفَقْتُمْ) هو (أَنْ تُقَدِّمُوا) أي من أن تقدموا ، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر.

قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية.

والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء.

ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الآية. وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضا لم يفعل ذلك.

و (إذ) ظرفية مفيدة للتعليل ، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة.

وفاء (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي.

وجملة (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) معترضة ، والواو اعتراضية. وما تتعلق به (إذ) محذوف دل عليه قوله : (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) تقديره : خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفاء (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. أي فذلك لا تسامح فيه ، قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل مما كلفوا به يعفون منه.

وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل (آتُوا) مستعملا في طلب الدوام مثل فعل (فَأَقِيمُوا).

واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد (إذ) ومتعلّقها كقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ

٤٢

فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) في سورة الأحقاف [١١]. و (إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) في سورة الكهف [١٦].

وجملة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تذييل لجملة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله.

[١٤ ، ١٥] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥))

هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي تولّيهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا) [المجادلة : ٥] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده.

والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧].

والاستفهام تعجيبي مثل قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) [المجادلة : ٨].

ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولّوا قوما من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإسلام والمسلمين.

وضمير (ما هُمْ) يحتمل أن يعود إلى (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) وهم المنافقون فيكون جملة (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) حالا من (الَّذِينَ تَوَلَّوْا) ، أي ما هم مسلمون ولا يهود. ويجوز أن يعود الضمير إلى (قَوْماً) وهم اليهود. فتكون جملة (ما هُمْ مِنْكُمْ) صفة (قَوْماً) قوما ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود.

وكذلك ضمير (وَلا مِنْهُمْ) يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع. ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيرا للمعاني مع الإيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قوما أجانب عنهم على قوم هم أيضا أجانب عنهم ، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدّين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن

٤٣

المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقا ، أي ما هم منكم أيها المسلمون ، وهو المقصود. ويكون قوله : (وَلا مِنْهُمْ) على هذا الاحتمال احتراسا وتتميما لحكاية حالهم ، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء من ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق.

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) عطف على (تَوَلَّوْا) وجيء به مضارعا للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه. والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة في موضع الحال ، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.

وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين إذا كشف لهم بعض مكائدهم ، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٦] ، وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة : ٦٢] وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ٧٤].

قال السدّي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل (بنون فباء موحدة فمثناة فوقية) كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرفع أخباره إلى اليهود ويسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بلغ خبره أو أطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل.

وجملة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تعليل لإعداد العذاب الشديد لهم ، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالا سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن به المضارع من قوله : (يَعْمَلُونَ).

وبين (يَعْمَلُونَ) ، و (يَعْلَمُونَ) الجناس المقلوب قلب بعض.

(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦))

جملة مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون)] المحادثة : ١ [، لأن ذلك يثير سؤال سائل أن يقول : ما ألجاهم إلى الحلف على الكذب ، فأجيب بأن ذلك لقضاء مآريهم وزيادة مكرهم. ويجوز أن تجعل الجملة خبرا ثانيا لأن في

٤٤

قوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المجادلة : ١٥] وتكون داخلة في التعليل.

والجنّة : الوقاية والسترة ، من جنّ ، إذا استتر ، أي وقاية من شعور المسلمين بهم ليتمكنوا من صدّ كثير ممن يريد الدخول في الإسلام عن الدخول فيه لأنهم يختلقون أكذوبات ينسبونها إلى الإسلام والمسلمين وذلك معنى التفريع بالفاء في قوله تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

و «صدّوا» يجوز أن يكون متعدّيا ، وحذف مفعوله لظهوره ، أي فصدّوا الناس عن سبيل الله ، أي الإسلام بالتثبيط وإلصاق التهم والنقائص بالدين. ويجوز أن يكون الفعل قاصرا ، أي فصدّوا هم عن سبيل الله ومجيء فعل «صدوا عن سبيل الله» ماضيا مفرعا على (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) مع أن أيمانهم حصلت بعد أن صدوا عن سبيل الله على كلا المعنيين مراعى فيه التفريع الثاني وهو (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

وفرع عليه (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ليعلم أن ما اتخذوا من أيمانهم جنّة سبب من أسباب العذاب يقتضي مضاعفة العذاب. وقد وصف العذاب أول مرة بشديد وهو الذي يجازون به على تولّيهم قوما غضب الله عليهم وحلفهم على الكذب.

ووصف عذابهم ثانيا ب (مُهِينٌ) لأنه جزاء على صدّهم النّاس عن سبيل الله. وهذا معنى شديد العذاب لأجل عظيم الجرم كقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النمل : ٨٨].

فكان العذاب مناسبا للمقصدين في كفرهم وهو عذاب واحد فيه الوصفان. وكرر ذكره إبلاغا في الإنذار والوعيد فإنه مقام تكرير مع تحسينه باختلاف الوصفين.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧))

مناسب لقوله : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) [المجادلة : ١٦] فكما لم تقهم أيمانهم العذاب لم تغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئا يوم القيامة.

وكان المنافقون من أهل الثراء بالمدينة ، وكان ثراؤهم من أسباب إعراضهم عن قبول الإسلام لأنهم كانوا أهل سيادة فلم يرضوا أن يصيروا في طبقة عموم الناس. وكان عبد الله بن أبيّ ابن سلول مهيّا لأن يملكوه على المدينة قبيل إسلام الأنصار ، فكانوا يفخرون

٤٥

على المسلمين بوفرة الأموال وكثرة العشائر وذلك في السنة الأولى من الهجرة ، ومن ذلك قول عبد الله بن أبيّ ابن سلول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل» يريد بالأعز فريقه وبالأذل فريق المسلمين فآذنهم الله بأن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم مما توعدهم الله به من المذلة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ، ٦١]. وإذا لم تغن عنهم من الله في الدنيا فإنها أجدر بأن لا تغني عنهم من عذاب الآخرة شيئا ، أي شيئا قليلا من الإغناء.

وعن مقاتل : أنهم قالوا : إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن. فو الله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت هذه الآية.

وإقحام حرف النفي في المعطوف على المنفي لتوكيد انتفاء الإغناء.

ومعنى (مِنَ اللهِ) من بأس الله أو من عذابه. وحذف مثل هذا كثير في الكلام. وتقديره ظاهر. ويلقب هذا الاستعمال عند علماء أصول الفقه بإضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهر أحوالها نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي أكلها.

وجملة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) إلخ خبر ثالث أو ثان عن (إنّ) في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المجادلة : ١٥].

وجملة (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) في موضع العلة لجملة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي لأنهم أصحاب النار ، أي حق عليهم أنهم أصحاب النار. وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه. إذ قد تقرر من قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) [المجادلة : ١٥] ومن قوله : (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [المجادلة : ١٦] أنهم لا محيص لهم عن النار ، فكيف تغني عنهم أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب النار. وهذا كقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر : ١٩] أي ما أنت تنقذه من النار. فإن اسم الإشارة في مثل هذا الموقع ينبه على أن المشار إليه صار جديرا بما يرد بعد اسم الإشارة من أجل الأخبار التي أخبر بها عنه قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ

٤٦

هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨))

هذا متصل بقوله : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) إلى قوله : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) [المجادلة : ١٤ ـ ١٦] وتقدم الكلام على نظير قوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) [المجادلة : ٦]. كما سبق آنفا في هذا السورة ، أي اذكر يوم يبعثهم الله.

وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

والتشبيه في قوله : (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في صفة الحلف ، وهي قولهم : إنهم غير مشركين ، وفي كونه حلفا على الكذب ، وهم يعلمون ، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية الأنعام [٢٣] بقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

ومعنى (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) يظنون يومئذ أن حلفهم يفيدهم تصديقهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئا عظيما ، أي نافعا.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوه كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

وحذفت صفة (شَيْءٍ) لظهور معناها من المقام ، أي على شيء نافع ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٨]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا سئل عن الكهّان «ليسوا بشيء».

وهذا يقتضي توغّلهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة ، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضا يوم البعث. وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويها لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر. وقد تبقى في النفوس الزكية خلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف : ٦٧ ـ ٧٠]. وفي الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن رجلا

٤٧

من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله : أو لست فيما شئت قال : بلى ولكن أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال. وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابي».

وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبعث كل عبد على ما مات عليه». قال عياض في «الإكمال» : هو عام في كل حالة مات عليها المرء. قال السيوطي : يبعث الزمار بمزماره. وشارب الخمر بقدحه ا ه. قلت : ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة.

وختم هذا الكلام بقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) [المجادلة : ١٤]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب ، حتى قصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله : (إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيدا لمفاد الحصر الادعائي ، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم ، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذا الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرّفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية.

والاستحواذ : الاستيلاء والغلب ، وهو استفعال من حاذ حوذا ، إذا حاط شيئا وصرّفه كيف يريد. يقال : حاذ العير إذا جمعها وساقها غالبا لها. فاشتقّوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة ، ولذلك لا يقال : استحوذ إلا في استيلاء العاقل لأنّه يتطلب وسائل استيلاء. ومثله استولى. والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في : استجاب.

والأحوذي : القاهر للأمور الصعبة. وقالت عائشة : «كان عمر أحوذيا نسيج وحده».

٤٨

وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفا لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فرارا من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكنا سكونا ميتا إثر حركة فيقلب مدّة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يقوم ويبين وأقام ، فحق استحوذ أن يقال فيه : استحاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي ، وله نظائر قليلة منها : استنوق الجمل ، وأعول ، إذ رفع صوته. وأغيمت السماء واستغيل الصبيّ ، إذا شرب الغيل وهو لبن الحامل. وقال أبو زيد : التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله. وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ استحاذ عليهم الشيطان. وقال الجوهري : تصحيح هذا الباب كله مطرد. وقال في «التسهيل» : يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل : استنوق الجمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس.

وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى : (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة النساء [١٤١] ، فضم هذا إلى ذاك.

والنسيان مراد منه لازمه وهو الإضاعة وترك المنسي ، لقوله تعالى : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٦].

والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل. وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته ، أي مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة. والذي لا يتذكر شيئا لا يتوجه إلى واجباته.

وجملة (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) نتيجة وفذلكة لقول : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ). فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه.

واسم الإشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان.

وجملة (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فإن حزب الشيطان هم الخاسرون ، ولذلك عدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيها على أهمية مضمونها وأنه

٤٩

مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم ، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفا. وزيد هذا التحذير اهتماما بتأكيد الخبر بحرف (إِنَ) وبصيغة القصر ، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر ، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة.

وإظهار كلمة (حِزْبُ الشَّيْطانِ) دون ضمير هم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل به مستقلة بدلالتها.

وضمير الفصل أفاد القصر ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنه لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم.

وحزب المرء : أنصاره وجنده ومن يواليه.

[٢٠ ، ٢١] (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

موقع هذه الآية بعد ما ذكر من أحوال المنافقين يشبه موقع آية (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [المجادلة : ٥]. فالذين يحادون الله ورسوله المتقدم ذكرهم المشركون المعلنون بالمحادّة. وأما المحادّون المذكورون في هذه الآية فهم المسرّون للمحادّة المتظاهرون بالموالاة ، وهم المنافقون ، فالجملة استئناف بياني بينت شيئا من الخسران الذي قضى به على حزب الشيطان الذي هم في مقدمته. وبهذا تكتسب هذه الجملة معنى بدل البعض من مضمون جملة (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩] ، لأن الخسران يكون في الدنيا والآخرة ، وخسران الدنيا أنواع أشدّها على الناس المذلة والهزيمة ، والمعنى : أن حزب الشيطان في الأذلّين والمغلوبين.

واستحضارهم بصلة (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إظهار في مقام الإضمار فمقتضى الظاهر أن يقال : إنهم في الأذلين فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إلى الموصولية لإفادة مدلول الصلة أنهم أعداء لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإفادة الموصول تعليل الحكم الوارد بعده وهو كونهم أذلّين لأنهم أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم أعداء الله القادر على كل شيء فعدوّه لا يكون عزيزا.

٥٠

ومفاد حرف الظرفية أنهم كائنون في زمرة القوم الموصوفين بأنهم أذلّون ، أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلّون ، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال : أولئك هم الأذلّون.

واسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإشارة مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وتقدم الكلام على (يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في أوائل هذه السورة [٥].

وجملة (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ) علة لجملة (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي لأن الله أراد أن يكون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غالبا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغلبها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم ، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادته وإرادة الله لا يغيّرها شيء ، والإرادة تجري على وفق العلم ومجموع توارد العلم والإرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء. وهو المعبر عنه هنا ب (كَتَبَ اللهُ) لأن الكتابة استعيرت المعنى : قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإخلال به فإنه يكتب لكي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه.

فثبت لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقواما يحادّونه بطريق برهاني.

فجملة (لَأَغْلِبَنَ) مصوغة صيغة القول ترشيحا لاستعارة (كَتَبَ) إلى معنى قضى وقدر. والمعنى : قضى مدلول هذه الجملة ، أي قضى بالغلبة لله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله. والمراد : الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد. وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.

وجملة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل لجملة (لَأَغْلِبَنَ) لأن الذي يغالب الغالب مغلوب. قال حسان :

زعمت سخينة أن ستغلب ربّها

وليغلبنّ مغالب الغلّاب

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

٥١

الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم ، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادّة من يعادي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ورويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد استقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود ، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها.

وافتتاح الكلام ب (لا تَجِدُ قَوْماً) يثير تشويقا إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادّة من يعلم أنه محادّ الله ورسوله هي مما ينافي الإيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسا بها. فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم ، من قبيل قولهم : لا أرينّك هاهنا ، أي لا تحضر هنا.

ومنه قوله تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أراد بما لا يكون ، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجودا ، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة. وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذ مكشوفا والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة. فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستورا في المنافقين فكان التحرز من موادّتهم أجدر وأحذر.

والموادّة أصلها : حصول المودّة في جانبين. والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودّة ، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارا بأن شأن الودّ أن يجلب ودّا من المودود للوادّ.

٥٢

وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الودّ صادقا لأن الوادّ الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة ، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك لم يقل الله هنا (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨] ، لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية ، بخلاف قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨].

وقوله : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد يقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.

ثم إن الذي يحادّ الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان متجاهرا بذلك معلنا به ، أو متجاهرا بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية ، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته قال تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : ٩] ولم يرخّص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتّقاء شرّهم إن كان لهم بأس قال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨].

وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شرّه عن المسلمين ، قال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة : ٨].

ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بيّن شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البرّ والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة : ٨] وأن لكل منهما حالتها.

ف (لَوْ) وصلية وتقدم بيان معنى (لَوْ) الوصلية عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلّي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره.

وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه

٥٣

الآية أن أهل الإيمان الكامل لا يوادّون من فيه معنى من محادّة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخرق سياج شريعته عمدا والاستخفاف بحرمات الإسلام ، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدّين وينبئ عن ضعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإعراض عن أدلة الاعتقاد الحق ، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإسلامي الحق. فعن الثوري أنه قال : كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجور. وعن مالك : لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

وقال فقهاؤنا : يجوز أن يجب هجران ذي البدعة الضالّة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة.

وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصف من نوع المعنى ذي الحكم الثابت. وهذا يرجع إلى أنواع من الشبه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه.

وقد استدل أئمة الأصول على حجّيّة الإجماع بقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥] مع أن مهيع الآية المحتج بها إنما هو الخروج عن الإسلام ولكنهم رأوا الخروج مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلّهم فيه شبه اتّباع غير سبيل المؤمنين.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

الإشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادّة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابقا وآنفا ، وما توعدهم الله به أنه أعدّ لهم عذابا شديدا ولهم عذاب مهين ، وأنهم حزب الشيطان ، وأنهم الخاسرون ، مما يستشرف بعده

٥٤

السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك. وهم المؤمنون الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ص.

وكتابة الإيمان في القلوب نظير قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١]. وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره ، أي هم المؤمنون حقا الذين زين الله الإيمان في قلوبهم فاتّبعوا كماله وسلكوا شعبه.

والتأييد : التقوية والنصر. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) في سورة البقرة [٨٧] ، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرّر بالإتيان بفعل المضيّ للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه.

والروح هنا : ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره ، وروح من الله : عنايته ولطفه. ومعاني الروح في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) في سورة الإسراء [٨٥] ، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها.

ورضي‌الله‌عنهم حاصل من الماضي ومحقّق الدوام فهو مثل الماضي في قوله : (وَأَيَّدَهُمْ) ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه ، وحاصل في المستقبل بنوال رضي‌الله‌عنهم ونوال نعيم الخلود.

وأما تحول التعبير إلى المضارع في قوله : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) فلأنه الأصل في الاستقبال. وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).

وقوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) إلى آخره كالقول في (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) [المجادلة : ١٩]. وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم. وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقين يغبطونهم فيخلصون الإسلام.

وشتان بين الحزبين. فالخسران لحزب الشيطان ، والفلاح لحزب الله تعالى.

٥٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٩ ـ سورة الحشر

اشتهرت تسمية هذه السورة «سورة الحشر». وبهذا الاسم دعاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روى الترمذي عن معقل بن يسار «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر» الحديث ، أي الآيات التي أولها (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الحشر : ٢٢] إلى آخر السورة.

وفي «صحيح البخاري» عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : «قل بني النضير» ، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور. وابن عباس يسميها سورة بني النضير. ولعله لم يبلغه تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها «سورة الحشر» لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها «سورة بني النضير» لقوله لابن جبير «قل بني النضير».

وتأول ابن حجر كلام ابن عباس على أنه كره تسميتها ب «الحشر» لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة. وهذا تأول بعيد. وأحسن من هذا أن ابن عباس أراد أن لها اسمين ، وأن الأمر في قوله : قل ، للتخيير.

فأما وجه تسميتها «الحشر» فلوقوع لفظ (الْحَشْرِ) [الحشر : ٢] فيها. ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة. فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحياة.

وأما وجه تسميتها «سورة بني النضير» فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها.

وهي مدنية بالاتفاق. وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد.

٥٦

نزلت بعد سورة البيّنة وقبل سورة النصر.

وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة. وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادّين.

أغراض هذه السورة

وقع الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم ، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها.

وقد اشتملت على أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله ، وكون ما في السماوات والأرض ملكه ، وأنه الغالب المدبر.

وعلى ذكر نعمة الله على ما يسّر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلبته على أعدائه.

وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين.

وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين.

وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وعدهم.

وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرّق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله ، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار.

ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين.

وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله.

وتخلّل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشقّ على أصحاب الأموال.

والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٧

وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحشر : ٢٤] تزكية لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكير للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قال سبحوا لله كما سبح له ما في السماوات والأرض.

وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها.

والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد [١] ، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها : (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهاهنا قال : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو (ما) الموصولة التي صلتها قوله : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمنة الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم ، وهي (ما) الموصولة الثانية التي صلتها (فِي الْأَرْضِ) ، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بفعل المضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢))

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا).

٥٨

يجوز أن تجعل جملة (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخرها استئنافا ابتدائيا لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره ، ولما يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإخراج العجيب.

ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهل أحوالهما.

ويجوز أن تجعل مبينة لجملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر : ١] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته.

وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير.

وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير.

ولذلك فجملة (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر.

وجملة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) عطف على العلة ، أي وهم ظنوا أن المسلمين لا يغلبونهم. وإنما لم يقل : وظنوا أن لا يخرجوا. مع أن الكلام على خروجهم ، من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فعدل عنه إلى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن. والتقدير : وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم ، أي ظنوا ظنا قويا معتمدين على حصونهم.

والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بنو النضير (بوزن أمير) وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قريظة ، ويهود خيبر ، وكلهم من ذرية هارون عليه‌السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة : الكاهنان لأن كل فريق منهما من ذرية هارون وهو كاهن الملة الإسرائيلية ، والكهانة : حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه.

وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه‌السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصّروا في قتالهم وتوفي موسى قريبا من

٥٩

ذلك. فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحا فقال لهم قومهم: أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا ، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قرى حول يثرب (المدينة) وبنوا لأنفسهم حصونا وقرية سموها الزّهرة. وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائها في آخر تفسير الآية ، وصاروا أهل زرع وأموال. وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عاديا ، وكعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حلف ومعاملة ، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر.

ووسموا ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) لأنهم كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسجيلا عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وصفوا ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] إلى قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ) في سورة البقرة [٩٠].

وعليه فحرف (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود ، فوصفوا ب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) لئلا يظن أن المراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيظنّ أن الكلام وعيد.

وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكره جمهور أهل التفسير. أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاءوا فصالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، ويقال : إن مصالحتهم كانت عقب وقعة بدر لمّا غلب المسلمون المشركين لأنهم توسّموا أنه لا تهزم لهم راية ، فلما غلب المسلمون يوم أحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة ، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر (كدأب اليهود في موالاة القوي) فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عونا لهم على مقاتلة المسلمين ، فلما أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أمر محمد بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير.

وذكر ابن إسحاق سببا آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عمرو بن أمية الضّمري أسيرا عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل. فلما كان راجعا إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلا مع

٦٠