تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وجيء بفعل (كانَ) بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليبا. وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه.

وجملة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بدل اشتمال من جملة (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أو بدل بعض من كل.

والمراد عذاب الآخرة لأن الإعداد التهيئة وإنما يهيّأ الشيء الذي لم يحصل.

وإن جعلت الحساب والعذاب المذكورين آنفا حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفا فجملة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) استئنافا لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله :(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠].

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا).

هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ).

وفي نداء المؤمنين بوصف (أُولِي الْأَلْبابِ) إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني ، ولأن فوائدها حقيقية دائمة ، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [يونس : ٦٢ ، ٦٣] ، وقوله : (أُولِي) معناه ذوي ، وتقدم بيانه عند قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) [الطلاق : ٤] آنفا و (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من (أُولِي الْأَلْبابِ). وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإيمان عنوان على رجاحة عقولهم. والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه.

وتأكيد الخبر ب (قَدْ) للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة

٣٠١

إرشاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والذكر : القرآن. وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك ، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في سورة الحجر [٦]. وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الملك واستعير له الإنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات ، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة.

وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم.

وقوله : (رَسُولاً) بدل من (ذِكْراً) بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ملازمة وملابسة فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه ، فقد أعمل فعل (أَنْزَلَ) في (رَسُولاً) تبعا لإعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر. وهذا كما أبدل (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) [البينة : ٢] من قوله: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) في سورة البينة [١].

والرسول : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما تفسير الذكر بجبريل ، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال (رَسُولاً) منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال ، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك ، وكذلك تفسير الذكر بجبريل.

ويجوز أن يكون (رَسُولاً) مفعولا لفعل محذوف يدل عليه (أَنْزَلَ اللهُ) وتقديره : وأرسل إليكم رسولا ، ويكون حذفه إيجازا إلا أن الوجه السابق أبلغ وأوجز.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم (مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء. وقرأه الباقون بكسرها ومآل القراءتين واحد.

وجعلت علة إنزال الذكر إخراج المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإيمان والأعمال الصالحات ، نظرا لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماما بشأنهم. وليس ذلك بدالّ على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر. وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف.

٣٠٢

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً).

عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيّد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات.

و (صالِحاً) نعت لموصوف محذوف دل عليه (يَعْمَلْ) أي عملا صالحا ، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته إياه في سياق النفي. فالمعنى : ويعمل جميع الصالحات ، أي المأمور بها أمرا جازما بقرينة استقراء أدلة الشريعة.

وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.

وجملة (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) حال من الضمير المنصوب في (يُدْخِلْهُ) ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها.

والرزق : كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم ، أي رزقا عظيما.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ندخله بنون العظمة. وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الله. وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي ، فإنه بعد أن جرى ذكر شئون من عظيم شئون الله تعالى ابتداء من قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) [الطلاق : ١] إلى هنا ، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يزاد تعريف الناس بهذا العظيم ، ولمّا صار البساط مليئا بذكر اسمه صح حذفه عند الإخبار عنه إيجازا وقد تقدم قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) في سورة مريم [٦٥] ، وكذلك عند قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] ، وقوله : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) في سورة البقرة [١٢٥].

فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

٣٠٣

والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى ، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده ، فعليهم أن يتقوه ، ولا يتعدوا حدوده ، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية ، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه.

وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض.

والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة ، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى في سورة نوح [١٥] : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

وقوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) عطف على (سَبْعَ سَماواتٍ) وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعطوف قوله : (مِنَ الْأَرْضِ) على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف (مِنَ) مزيدا للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة (مِنَ) أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيرا في الكلام ، وعدم الكثرة لا ينافي الفصاحة ، والتقدير : وخلق الأرض ، ويكون قوله : (مِثْلَهُنَ) حالا من (الْأَرْضِ).

ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى ، أي أن خلق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة.

وهذا أظهر ما تؤوّل به الآية.

وفي إفراد لفظ (الْأَرْضِ) دون أن يؤتى به جمعا كما أتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما.

والوجه الثاني : أن يكون المعطوف (مِثْلَهُنَ) ويكون قوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ) بيانا للمثل فمصدق (مِثْلَهُنَ) هو (الْأَرْضِ). وتكون (مِنَ) بيانية وفيه تقديم البيان على المبيّن ، وهو وارد غير نادر.

فيجوز أن تكون مماثلة في الكروية ، أي مثل واحدة من السماوات ، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة.

٣٠٤

وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا : إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات منبسطة تفرق بينها البحار. وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه ، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضها فوق بعض وهو قول الجمهور. وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) ، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات.

وفي «الكشاف» «قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه» اه. وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك.

وقال المازري في كتابه «المعلم» على «صحيح مسلم» عند قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب الشفعة : «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين يوم القيامة».

كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إليّ بعد فراقي له : هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعا ، فكتبت إليه قول الله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إليّ يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد. وأن الخبر من أخبار الآحاد ، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك ، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظواهر وأخبار الآحاد ، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطت القول في ذلك وترددت في آخر كتابي في احتمال ما قال. فقطع المجاوبة اه.

وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله : (مِثْلَهُنَ) راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم ، وأما الحديث فإنه في شأن من شئون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف ، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفا سبع مرات في الغلظ والثقل ، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة. ولو كان المراد طبقات معلومة لقال : طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف. وكلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري.

وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) من المماثلة في عدد السبع ، فيجوز أن يقال : إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقّل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولا. وهي

٣٠٥

أن آسيا مع أوروبا قارة ، وإفريقيا قارة ، وأستراليا قارة ، وأميركا الشمالية قارة ، وأميركا الجنوبية قارة ، وجرولندة في الشمال ، والقارة القطبية الجنوبية. ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار ، وتكون (مِنَ) تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض.

وقرأ غير عاصم (مِثْلَهُنَ) بالنصب. وقرأه عاصم بالرفع على أنه مبتدأ.

ومعنى (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أمر الله بالتكوين أو بالتكليف يبلغ إلى الذين يأمرهم الله به من الملائكة ليبلّغوه ، أو لمن يأمرهم الله من الرسل ليبلغوه عنه ، أو من الناس ليعلموا بما فيه ، كل ذلك يقع فيما بين السماء والأرض.

واللام في قوله : (لِتَعْلَمُوا) لام كي وهي متعلقة ب (خَلَقَ).

والمعنى : أن مما أراده الله من خلقه السماوات والأرض ، أن يعلّم الناس قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شيء. لأن خلق تلك المخلوقات العظيمة وتسخيرها وتدبير نظامها في طول الدهر يدل أفكار المتأملين على أن مبدعها يقدر على أمثالها فيستدلوا بذلك على أنه قدير على كل شيء لأن دلالتها على إبداع ما هو دونها ظاهرة ، ودلالتها على ما هو أعظم منها وإن كانت غير مشاهدة ، فقياس الغائب على الشاهد يدلّ على أن خالق أمثالها قادر على ما هو أعظم. وأيضا فإن تدبير تلك المخلوقات بمثل ذلك الإتقان المشاهد في نظامها ، دليل على سعة علم مبدعها وأحاطته بدقائق ما هو دونها ، وأن من كان علمه بتلك المثابة لا يظن بعلمه إلا الإحاطة بجميع الأشياء.

فالعلم المراد من قوله : (لِتَعْلَمُوا) صادق على علمين : علم يقيني مستند إلى أدلة يقينية مركبة من الدلالة الحسية والعقلية ، وعلم ظني مستند إلى الأدلة الظنية والقرائن. وكلا العلمين موصل إلى الاستدلال في الاستدلال الخطابي (بفتح الخاء).

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٦ ـ سورة التحريم

سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] إلخ سميت «سورة التحريم» في كتب السنة وكتب التفسير. ووقع في رواية أبي ذرّ الهروي «لصحيح البخاري» تسميتها باسم «سورة اللّم تحرّم» بتشديد اللّام ، وفي «الإتقان» وتسمى «سورة اللّم تحرّم» ، وفي «تفسير الكواشي» (أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة) وبفتح الميم وضم التاء محققة وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة (لِمَ تُحَرِّمُ) وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين.

وتسمى «سورة النبي» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الآلوسي : إن ابن الزبير سماها «سورة النساء».

قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب «الإتقان» هذين في أسمائها.

واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة.

وهي مدنيّة. قال ابن عطية : بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي. وقال في «الإتقان» عن قتادة : إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي ، كما وقعت حكاية كلامه. ولعله أراد إلى عشر آيات ، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنيّة والحادية عشرة مكيّة.

وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة.

ويدل قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢] أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي.

٣٠٧

وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إحداهما : ما ثبت في «الصحيح» عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش ، أو حفصة ، أو أم سلمة ، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصة على أن أيّتهما دخل عليها تقول له «إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير» (والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له ، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة (لأنه يكره غضبها) فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.

هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله : «ولن أعود له» (لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول : لقد حرمناه).

والثانية : ما رواه ابن القاسم في «المدونة» عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرّم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال : «والله لا أطؤك» ثم قال : «هي عليّ حرام» فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) [التحريم:١].

وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني «عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها ، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة : تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة فهي عليّ حرام إن قربتها. قيل : فقالت له حفصة : كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). وهو حديث ضعيف.

أغراض هذه السورة

ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة ، فإنّما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على

٣٠٨

نفسه أو بنفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن غيرة الله على نبيّه أعظم من غيرتهن عليه واسمى مقصدا.

وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.

وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برّها أن يكفّر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وفد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري ، وتقدم في سورة براءة.

وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.

وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.

وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.

وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١))

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه.

والاستفهام في قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ) مستعمل في معنى النفي ، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ الله لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاما بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصدا بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأن عليه لفرط غيرتهن ، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن ، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإكرام في بعض الأيام.

وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعى.

٣٠٩

وفعل (تُحَرِّمُ) مستعمل في معنى : تجعل ما أحلّ لك حراما ، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] وقرينته قوله هنا : (ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ).

وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراما كما في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، وقوله : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) [التوبة : ٣٧] ، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال : وسّع هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط : وسّع طوق الجبّة.

ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراما على الناس أو عليك. ومن العجيب قول «الكشاف» : ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ.

وصيغة المضارع في قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ) لأنه أوقع تحريما متجددا.

فجملة (تَبْتَغِي) حال من ضمير (تُحَرِّمُ). فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠].

وفي الإتيان بالموصول في قوله : (ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) لما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكر لله واعتراف بنعمته والحاجة إليه.

وفي قوله : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) عذر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيرا وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضا وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن ، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة.

وذيل بجملة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استئناسا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وحشة هذا الملام ، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣].

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢))

استئناف بياني بيّن الله به لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على

٣١٠

نفسه ، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه ، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم : «وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير».

وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تحلّة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيما للقسم. فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى في قصة أيوب (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] كما ذكرناه في تفسيرها و (فَرَضَ) عيّن ومنه قوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧]. وقال : فرض له في العطاء والمعنى : قد بيّن الله لكن تحلة أيمانكم.

واعلم أنه إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيء عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرّم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى. كان ذلك غير يمين فكان أمر الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطمينا لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقا باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يمينا ولا نذرا فقال في «الموطأ»: ومعنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله بطاعة إن كلم فلانا ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلّمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حلف فقال : «والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين» اه.

وقد اختلف هل كفّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه تلك.

فالتحلّة على هذا التفسير عند مالك هي : جعل الله ملتزم مثل هذا في حلّ من التزام ما التزمه. أي موجب التحلل من يمينه.

وعند أبي حنيفة : هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحلّة اليمين هي الكفارة عند الجميع.

وجملة (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) تذييل لجملة (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ). والمولى :

٣١١

الولي ، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه ، وهو هنا كناية عن الرءوف والميسّر ، كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

وعطف عليها جملة (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه ، أي يجري أحكامه على الحكمة. وهي إعطاء الأفعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات.

واختلف فقهاء الإسلام فيمن حرّم على نفسه شيئا مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولا وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فتؤول إلى سبعة.

أحدها : لا يلزمه شيء سواء كان المحرّم زوجا أو غيرها. وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك.

الثاني : تجب كفارة مثل كفارة اليمين. وروي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير ، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه. وهذا جار على ظاهر الآية من قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ).

الثالث : لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل : إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثا ، وإن لم يدخل بها ينوّ فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور. وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل. ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة. وقاله ابن أبي ليلى وهو عند عبد الملك بن الماجشون في «المبسوط». وقيل طلقة بائنة. ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خويزمنداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه. وقيل : طلقة رجعية في الزوجة مطلقا ، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيدا لما روي عنه في القول الثاني. وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون ، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه : إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فهي واحدة رجعية. وقيل : هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنويه.

الرابع : قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث. وإن لم ينو شيئا كانت يمينا وعليه كفارة فإن أباها كان موليا.

٣١٢

وتحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحلّ الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق. و (تَحِلَّةَ) تفعلة من حلّل جعل الفعل حلالا. وأصله تحللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣))

هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حرّم على نفسه من جرّائهما.

وهو معطوف على جملة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١] بتقدير واذكر.

وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب ، ومكارم وتنبيه وتحذير.

فاشتملت هذه الآيات على عشرين معنى من معاني ذلك. إحداها ما تضمنه قوله : (إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ).

الثاني : قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ).

والثالث : (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ).

الرابع : (عَرَّفَ بَعْضَهُ).

الخامس : (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).

السادس : (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا).

السابع : (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

الثامن والتاسع والعاشر : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) إلى (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) [التحريم : ٤].

الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر : (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ) [التحريم : ٤].

٣١٣

الرابع عشر والخامس عشر : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً) [التحريم :٥].

السادس عشر : (خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم : ٥].

السابع عشر : (مُسْلِماتٍ) [التحريم : ٥] إلخ.

الثامن عشر : (سائِحاتٍ) [التحريم : ٥].

التاسع عشر : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] ، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها.

العشرون : ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان (بَعْضِ أَزْواجِهِ) دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعر به أنها المقصودة باللوم.

وإنما نبّأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل.

والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصةو قوله لحفصة : «هي عليّ حرام ولا تخبري عائشة» وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسرّ إليها.

والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السرّ غير قصة تحريم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه بعض ما أحلّ له.

ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتها حفصة هي عائشة. وفي «الصحيح» عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال : تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها.

وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.

و (أَسَرَّ) أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّا والسرّ ضد الجهر ، قال تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [التغابن : ٤] فصار (أَسَرَّ) يطلق

٣١٤

بمعنى الوصاية بعدم الإفشاء ، أي عدم الإظهار قال تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) [يوسف : ٧٧].

وأسر : فعل مشتق من السرّ فإن الهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا سرّ ، يقال : أسرّ في نفسه ، إذا كتم سرّه. ويقال : أسرّ إليه ، إذا حدثه بسرّ فكأنه أنهاه إليه ، ويقال : أسرّ له إذا أسرّ أمرا لأجله ، وذلك في إضمار الشر غالبا وأسرّ بكذا ، أي أخبر بخبر سرّ ، وأسرّ ، إذا وضع شيئا خفيا. وفي المثل «يسرّ حسوا في ارتغاء».

و (بَعْضِ أَزْواجِهِ) هي حفصة بنت عمر بن الخطاب. وعدل عن ذكر اسمها ترفعا عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به. وكذلك طي تعيين المنبّأة بالحديث وهي عائشة.

وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإشارة إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع سرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجه. وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه.

وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفا.

ونبّأ : بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما : أخبر ، وقد جمعهما قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).

وقد قيل : السرّ أمانة ، أي وإفشاؤه خيانة.

وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة : «جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرتنا تنفيثا».

وكلام الحكماء والشعراء في السرّ وحفظه أكثر من أن يحصى. وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها.

ومعنى و (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.

استعير الإظهار إلى الاطلاع لأن اطلاع الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السرّ الذي بين حفصة وعائشة كان غلبة له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره. فالإظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار. وليس هو من الظهور ضد الخفاء ، لأنه لا

٣١٥

يتعدى بحرف (على).

وضمير (عَلَيْهِ) عائد إلى الإنباء المأخوذ من (نَبَّأَتْ بِهِ) أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله : (نَبَّأَتْ بِهِ) تقديره : أظهره الله على إفشائه.

وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتصاره له لأن اطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه ، عناية ونصح له.

وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفا.

ومفعول (عَرَّفَ) الأول محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي عرفها بعضه ، أي بعض ما أطلعه الله عليه ، وأعرض عن تعريفها ببعضه. والحديث يحتوي على أشياء : اختلاء النبي بسريته مارية ، وتحريمها على نفسه ، وتناوله العسل في بيت زينب ، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك ، وربّما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة ، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية. وإنما عرّفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها.

وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.

وإعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه.

قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وقال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع.

وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفا.

وقولها : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين.

والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك.

وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زلة خلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها ، فلم تتمالك عن أن تبشر

٣١٦

به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإخلاص للخلائل.

وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفا.

وإيثار وصفي (الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) هنا دون الاسم العلم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علما وخبرا بكل شيء.

و (الْعَلِيمُ) : القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم ، أي العلم المحيط بكل معلوم.

و (الْخَبِيرُ) : أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يقال خبرته ، أي بلوته وتطلعت بواطن أمره ، قال ابن برّجان (بضم الموحدة وبجيم مشددة) في «شرح الأسماء» : «الفرق بين الخبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضف ذلك إلى تلك الصفة وسم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حصلت فمتى حصلت من موضع الحضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد. وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير. وكذلك إن حصلت من علم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم ، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبور عن باطنه ببلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبر. والمسمّى به الخبير» اه. وقال الغزالي في «المقصد الأسنى» : «العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا اه».

فيتضح أن أتباع وصف (الْعَلِيمُ) بوصف (الْخَبِيرُ) إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى.

وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] وتنبيها على ما أبطنته من الأمر.

وهو الأدب السابع من آداب هذه الآيات.

واعلم أن نبّأ وأنبأ مترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد

٣١٧

لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف. وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم. والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو : نبأت به. وقد يحذف حرف الجر فيعدّيان إلى مفعولين ، كقوله هنا : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي بهذا ، وقول الفرزدق :

نبئت عبد الله بالجو أصبحت

كراما مواليها لآما ما صميمها

حمله سيبويه على حذف الحرف.

وقد يضمنان معنى : اعلم ، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب (اعلم) إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألحق الفراء خبّر وأخبر ، وألحق الكوفيون حدّث.

قال زكريا الأنصاري : لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول.

وقرأ الجمهور (عَرَّفَ) بالتشديد. وقرأه الكسائي عرف بتخفيف الراء ، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة ، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم. ونحوه كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣]. وقول العرب للمسيء:لأعرفن لك هذا. وقولك : لقد عرفت ما صنعت.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإرشاد إلى رأب ما انثلم من واجبها نحو زوجها. وإذ قد كان ذلك إثما لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سرّه ذكّرها بواجب التوبة منه.

وخطاب التّثنية عائدة إلى المنبئة والمنبأة فأمّا المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله : (إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) [التحريم : ٣].

٣١٨

وأما المنبّأة فمعادها ضمنيّ لأن فعل (نَبَّأَتْ) [التحريم : ٣] يقتضيه فأما المنبّئة فأمرها بالتوبة ظاهر. وأما المذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السرّ ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها.

و (صَغَتْ) : مالت ، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج ، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يميل سمعه إلى من يكلمه ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) في سورة الأنعام [١١٣]. وفيه إيماء إلى أن فيما فعلتاه انحرافا عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما.

وهذان الأدبان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات.

والتوبة : الندم على الذنب ، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة.

وإذ كان المخاطب مثنّى كانت صيغة الجمع في (قلوب) مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية ثقيلة لقلة دورانها في الكلام. فلما أمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.

وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس. وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعا كما في هذه الآية وقول خطام المجاشعي :

ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور الترسين

وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران. ويقلّ أن يؤتى بلفظ المفرد مضافا إلى الاسم المثنى. وقال ابن عصفور : هو مقصور على السماع.

وذكر له أبو حيّان شاهدا قول الشاعر :

حمامة بطن الواديين ترنّمي

سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها

وفي «التسهيل» : ترجيح التعبير عن المثنى المضاف إلى مثنى باسم مفرد ، على

٣١٩

التعبير عنه بلفظ المثنى. وقال أبو حيّان في «البحر المحيط» : إن ابن مالك غلط في ذلك. قلت : وزعم الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين» ، أن قول القائل : اشتر رأس كبشين يريد رأسي كبشين خطأ. قال : لأن ذلك لا يكون اه. وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاف المثنى بلفظ الإفراد مقصور على السماع ، أي فلا يصار إليه. وقيّد الزمخشري في «المفصل» هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين. فقال : «ويجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ولم يقولوا في المنفصلين : أفراسهما ولا غلمانهما. وقد جاء وضعا رحالهما». فخالف إطلاق ابن مالك في «التسهيل» وطريقة صاحب «المفصل» أظهر.

وقوله : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) هو ضد (إِنْ تَتُوبا) أي وإن تصرّا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه إلخ.

والمظاهرة : التعاون ، يقال : ظاهره ، أي أيده وأعانه. قال تعالى : (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) في سورة براءة [٤]. ولعلّ أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد ، وهو الظّهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد. وقريب من هذا فعل عضد لأنهم قالوا : شد عضده.

وأصل (تَظاهَرا) تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي (تَظاهَرا) بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف.

(وَصالِحُ) مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) [الحديد : ٢٦]. والمراد ب (صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد.

وجملة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولّى جزاء كما على المظاهرة عليه ، لأن الله مولاه. وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل.

وضمير الفصل في قوله : (هُوَ مَوْلاهُ) يفيد القصر على تقدير حصول الشرط ، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما ، أي وبطل نصركما الذي هو

٣٢٠