تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

ولعل قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشكّوا في إنجاز وعده فإنه إذا أراد أمرا يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة.

ومعنى (بالِغُ أَمْرِهِ) : واصل إلى مراده. والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد. والأمر هنا بمعنى الشأن.

وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أي بعضهم) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، أي فيكم وعليكم اه.

وقرأ الجمهور بالغ بالتنوين وأمره بالنصب. وقرأه حفص عن عاصم (بالِغُ أَمْرِهِ) بإضافة (بالِغُ) إلى (أَمْرِهِ).

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، إلى قوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يتبع نظره فيرى بونا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس.

فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيرا بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدرا.

ولها موقع التعليل لجملة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق : ١] فإن العدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها علّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه.

ولهذا موقع التذييل لجملة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدرا لا يعدوه كما جعل الحدود.

٢٨١

ولها موقع التعليل لجملة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] فالمعنى : فإن لم يحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحطّ عنكم امتداد العدة.

ولها موقع التعليل لجملة (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فإن الله جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.

فهذه الجملة جزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة.

ومعنى (لِكُلِّ شَيْءٍ) لكل موجود ، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتا أو معنى من المعاني قال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢]. فعموم قوله : (لِكُلِّ شَيْءٍ) صريح في أن ما وعد الله به يجعل له حين تكوينه قدرا.

قال الراغب في «مفرداته» : وذلك أن فعل الله ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالصلاحية وقدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون. وتقديره نطفة الإنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر. فتقدير الله على وجهين : أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا أو لا يكون ، كذا إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً). والثاني بإعطاء القدرة عليه ، وعلى ذلك قوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات: ٢٣] أو يكون من قبيل قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) اه.

والقدر : مصدر قدره المتعدي إلى مفعول ـ بتخفيف الدال ـ الذي معناه وضع فيه بمقدار كمية ذاتية أو معنوية تجعل على حسب ما يتحمله المفعول. فقدر كلّ مفعول لفعل قدر ما تتحمله طاقته واستطاعته من أعمال ، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وعيه لما يكدّ به ذهنه من مدارك وأفهام. ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في سورة البقرة [٢٨٦]. وقوله هنا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧].

ومن جزئيات معنى القدر ما يسمى التقدير : مصدر قدّر المضاعف إذا جعل شيئا أو

٢٨٢

أشياء على مقدار معين مناسب لما جعل لأجله كقوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) في سورة سبأ [١١].

[٤ ، ٥] (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).

عطف على قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء ، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة. وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض ، أي في ذلك الوقت.

والوقف على قوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ، أي هن معطوفات على الآيسين.

واليأس : عدم الأمل. والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] ، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره ، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع. وهذا السنّ يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك. وقد اختلف في تحديد هذا السنّ بعدد السنين فقيل : ستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبّان اليأس.

والمقصود من الآية بيّن وهي مخصصة لعموم قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) من سورة البقرة [٢٢٨]. وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.

وقد خفي مفاد الشرط من قوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) وما هو متصل به. وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلا بالكلام الذي وقع هو في أثنائه ، وإنه ليس متصلا بقوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١] في أول هذه السورة خلافا لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام ، ثم خفي المراد من هذا الشرط بقوله : (إِنِ ارْتَبْتُمْ).

وللعلماء فيه طريقتان :

الطريقة الأولى : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف

٢٨٣

المتعلق ، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القروء وذوات الحمل ، أي في سورة البقرة ، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية ، ومثله مروي عن مجاهد ، وروى الطبري خبرا عن أبيّ بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة ، فنزلت هذه الآية. فجعلوا حرف (إِنِ) بمعنى (إذ) وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية ، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيّنّاه بهذه الآية قال ابن العربي : حديث أبيّ غير صحيح. وأنا أقول : رواه البيهقي في «سننه» والحاكم في «المستدرك» وصحّحه. والطبراني بسنده عن عمرو بن سالم أن أبيّا قال : وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث.

وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عمر بن سالم الأنصاري (١) عن أبي بن كعب وهو منقطع ، لأن أبا عثمان لم يلق أبي بن كعب وأحسب أنه في «مستدرك الحاكم» كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي : هو غير صحيح. فإن رجال سنده ثقات.

وفي «أسباب النزول» للواحدي عن قتادة أن خلاد (٢) بن النعمان وأبيّا سألا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل : إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة.

فالريبة على هذه الطريقة تكون مرادا بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

والفاء في (فَعِدَّتُهُنَ) داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) [النساء : ١٦] ومثله كثير في الكلام.

والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون (إِنِ) مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة.

والطريقة الثانية : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد ، وهو حالة المطلقة من المحيض ، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير

__________________

(١) هو قاضي مرو ، وروى عن القاسم بن محمد.

(٢) خلاد بخاء معجمة في أوله ابن النعمان الأنصاري. قال في «الإصابة» : لم يذكر إلّا في تفسير مقاتل.

٢٨٤

وإسماعيل بن هاد من المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري.

وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة.

وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خبر عن (اللَّائِي يَئِسْنَ) ، أي إن ارتبن هن وارتبتم أنتم لأجل ارتيابهن ، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليبا ويبقى الشرط على شرطيته. والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب.

وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطا بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطدم أصحابه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلا فنسب ابن لبابة (من فقهاء المالكية) إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يوقن أنها يائسة.

قلت ولا تعرف نسبة هذا إلى داود. فإن ابن حزم لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء ، قال ابن لبابة : وهو شذوذ ، وقال ابن لبابة : وأمّا ابن بكير وإسماعيل بن حمّاد ، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقّن يأسها ملحقة بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم ، وانتظار المراجعة ، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه.

وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها : فقال عكرمة وابن زيد وقتادة : ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدّة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقا بظاهر الآية (ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبيّن فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة) ، لأن الحمل بعد سنّ اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية.

وقال الأكثرون من أهل العلم : إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر (أي أمد الحمل المعتاد) فإن لم يظهر بها حمل ابتدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنة كاملة. وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالفه أحد من الصحابة ، وأخذ به مالك. وعن مالك في «المدونة» : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة. ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبّد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد ، وهو تقييد للإطلاق

٢٨٥

الذي في الآية.

وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي : تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء (أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر). فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدّت بثلاثة أشهر من يومئذ. ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة أشهر ، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره ، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبد ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتدّ. إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خلالها المطلّق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيزاد في المدة لأجل ذلك ، وفي «تفسير القرطبي» : «قال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض تحيض في أول الشهر مرارا ، وفي الأشهر مرة (أي بدون انضباط)» اه. ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد ، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية. والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها المحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غبّا بدون انتظام ثم ينقطع تماما.

وقوله تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) عطف على (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) والتقدير : عدتهن ثلاثة أشهر. ويحسن الوقف على قوله : (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ).

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

معطوفة على جملة (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق : ١] وتقدير الكلام : وأولات الأحمال منهن ، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن.

فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضا منها بيان لإجمال الآية التي في سورة البقرة.

(وَأُولاتُ) اسم جمع لذات بمعنى : صاحبة. وذات : مؤنث ذو ، بمعنى : صاحب. ولا مفرد ل (أُولاتُ) من لفظه كما لا مفرد للفظ (أولو) و (أُولاتُ) مثل ذوات كما أن أولو مثل ذوو. ويكتب (أُولاتُ) بواو بعد الهمزة في الرسم تبعا لكتابة لفظ (أولو) بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة النصب والجر وبين حرف (إلى). وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو

٢٨٦

المجرور وتركوا التكلف في غيرهما.

وجعلت عدة المطلقة الحامل منهّاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه ، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولد للمطلّق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له. وضمّ إلى ذلك غرض آخر هو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة ، فلما حصل الأهم ألغي ما عداه رعيا لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار ، على أن وضع الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلا بالغالب دون النادر ، خلافا لمن قال في المتوفى عنها : عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس.

وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة البقرة [٢٣٤](وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) لأن تلك في واد وهذه في واد ، تلك في شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات.

ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرة حكمته في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولد له إذ له فائدة فيه غير ذلك (ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي) ، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بينّاه في تفسير قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) إلخ في سورة البقرة [٢٣٤].

وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحامل إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشرا كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك.

من أجل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة من وفاة.

ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : إن عدة الحامل المتوفّى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العامّ المتأخر منهما ينسخ العامّ الآخر وهي طريقة المتقدمين.

٢٨٧

روى أهل الصحيح «أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن عليّ بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفّى عنها : إن عليها أقصى الأجلين ـ أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر ـ قال ابن مسعود : لنزلت سورة النساء القصرى ـ أي سورة الطلاق ـ بعد الطولى ـ أي بعد طولى السور وهي البقرة ـ ، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق. ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملا فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة. فاستأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج فقال لها : «قد حللت فانكحي إن شئت». روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم. وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفا.

واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمرجح والحنفية جعلوا المتأخر من العمومين ناسخا للمتقدم. فقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة طلاق أو في عدة وفاة ، وقوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] تعمّ كلّ امرأة تركها الميت سواء كانت حاملا أو غير حامل ، لأن (أَزْواجاً) نكرة وقعت مفعول الصلة وهي (يَذَرُونَ) المشتملة على ضمير الموصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم (أُولاتُ الْأَحْمالِ) فتعارض العمومان كل من وجه ، فآية (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر ، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفّى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشرا. وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل.

فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) على عموم (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) [البقرة : ٢٣٤] من وجوه.

أحدها : أن عموم (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم ، وأما قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) فإن (أَزْواجاً) نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعا لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض.

٢٨٨

وثانيها : أن الحكم في عموم (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة ، فما كان عمومه معلّلا بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل.

وثالثها : قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدّة سبيعة الأسلمية.

وذهب الحنفية إلى أن عموم (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) ناسخ لعموم قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) [البقرة : ٢٣٤] في مقدار ما تعارضا فيه.

ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها.

والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفّى عنها إن لم تكن حاملا ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر.

وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معا فأوجبوا على الحامل المتوفّى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر. وأجل وضع الحمل ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتّى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخر وزيادة فيصير معنى هذه الآية (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ما لم تكن عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفّين يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ما لم تكنّ حوامل فيزدن تربّصا إلى وضع الحمل. ولا يجوز تخصيص عموم (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] بما في آية (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفّى عنهن ، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفّى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عدة زوجها ، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى.

وفي «صحيح البخاري» «عن محمد بن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عظم من الأنصار (أي بالكوفة) وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين ، فحدثت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمن.

٢٨٩

لكن عمه (أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود) كان لا يقول ذلك (أي لم يحدثنا به) فقلت : إني إذن لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة (وكان عبد الله بن عتبة ساكنا بظاهر الكوفة) فخرجت فلقيت عامرا أو مالك بن عوف فقلت : كيف كان قول ابن مسعود في المتوفّى عنها زوجها وهي حامل ، فقال : قال ابن مسعود : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى (أي البقرة).

وفي «البخاري» عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس : آخر الأجلين : فقلت أنا (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي (أي مع أبي سلمة) فأرسل ابن عباس كريبا إلى أمّ سلمة يسألها فقالت : قتل (كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع) زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله. وقد قال بعضهم : إن ابن عباس رجع عن قوله. ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)

تكرير للموعظة وهو اعتراض. والقول فيه كالقول في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣]. والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالا لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسرا فيما لحقه من عسر.

والأمر : الشأن والحال. والمقصود : يجعل له من أمره العسير في نظره يسرا بقرينة جعل اليسر لأمره.

و (مِنْ) للابتداء المجازي المراد به المقارنة والملابسة.

واليسر : انتفاء الصعوبة ، أي انتفاء المشاقّ والمكروهات.

والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزله لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر به المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك.

٢٩٠

والإشارة بقوله : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة. وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين.

والأمر في قوله : (أَمْرُ اللهِ) : حكمه وما شرعه لكم كما قال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢].

وإنزاله : إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلق عليه الإنزال تشبيها لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعا. وهو استعارة كثيرة في القرآن. ففي قوله : (أَنْزَلَهُ) استعارة مكنية.

والكلام كناية عن الحث على التهمّم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم.

وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسير الصعوبات في الدنيا. وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير للأجور.

والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض.

وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦))

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ).

هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) [الطلاق : ٨] إلخ تشريع مستأنف فيه بيان لما أجمل في الآيات السابقة من قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١] وقوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق : ٢] ، وقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] فتتنزّل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض ، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل. وابتدئ ببيان ما في (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١] من إجمال.

والضمير المنصوب في (أَسْكِنُوهُنَ) عائد إلى النساء المطلقات في قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١]. وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلّا لفظ (أُولاتُ الْأَحْمالِ) [الطلاق : ٤] ، ولكن لم يقل أحد بأن الإسكان

٢٩١

خاص بالمعتدّات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَ) [الطلاق : ١] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلّهن ، وبذلك يشمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل ، لما علمته في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١].

وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعا. قال أشهب : قال مالك : يخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل. وروى ابن نافع قال مالك : فأما التي لم تبن فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اه. يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية. ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية. وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل : لا سكنى للمطلقة طلاقا بائنا. ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قيس : أن زوجها طلقها ثلاثا وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة ، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : «إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة». وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس. ولم يقبله عمر بن الخطاب فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شبّه عليها. وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرته من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم.

وروي أن عمر «روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن للمطلقة البائنة سكنى» (١). ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] إذ الأمر هو المراجعة ، فقصرا الطلاق في قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة.

روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قول مروان فاطمة بنت قيس فقالت : «بيني وبينكم القرآن ، قال الله عزوجل : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ، إلى قوله : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] قالت : هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث» اه.

ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصرا على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معا في إعادة المعاشرة بعقد جديد. وعلى تسليم اقتصار

__________________

(١) هكذا يروي المفسرون عن عمر : أنه سمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ولم أقف عليه مسندا.

٢٩٢

ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام. فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن ، وهو قول جمهور العلماء.

وقوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، أي في البيوت التي تسكنونها ، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته. وهذا تأكيد لقوله : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) [الطلاق : ١].

فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خرج المطلق منه وبقيت المطلقة ، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك.

و (مَنْ) الواقعة في قوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) للتبعيض ، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية ، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) بدل مطابق ، وهو بيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالبا لمن لم يكن مقترا على نفسه.

والوجد : مثلث الواو هو الوسع والطاقة. وقرأه الجمهور بضم الواو. وقرأه روح عن يعقوب بكسرها.

(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ).

أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محلّ أو تقتير في الإنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصدا للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) في سورة البقرة [٢٣١]. أو للإلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع.

والضارة : الإضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه ، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن.

والمراد بالتضييق : التضييق المجازي وهو الحرج والأذى.

واللام في (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) لتعليل الإضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض

٢٩٣

للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية ، كما تقرر في قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة : ٢٣١] وإلا فإن الإضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).

ضمير (كُنَ) يعود إلى ما عاد إليه ضمير (أَسْكِنُوهُنَ) كما هو شأن ترتيب الضمائر ، وكما هو مقتضى عطف الجمل ، وليس عائدا على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معادا لضمير آخر.

وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإنفاق دون بعض المطلقات أخذا بمفهوم الشرط ، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى.

ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات. ولذلك قال مالك : إن ضمير (أَسْكِنُوهُنَ) للمطلقات البوائن كما تقدم.

ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا : الآية تعرضت للحوامل تأكيدا للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإنفاق ، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله : (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإنفاق. وبه أخذ أبو حنيفة والثوري. ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنهما.

وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإنفاق جميع أمد الحمل.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى).

لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقا عليها كما كان في زمن العصمة أو حقا على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملا. وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة البقرة [٢٣٣](وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) الآية.

وأفهم قوله : (لَكُمْ) أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإنفاق والأم ترضع ولدها في العصمة تبعا لإنفاق أبيه عليها عند مالك خلافا لأبي حنيفة

٢٩٤

والشافعي ، إذ قالا : لا يجب الإرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك ، ولها أجل الإرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئرا لابنه فإن كان الطفل غير قابل ثدي غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه.

وقال أبو ثور : يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعد البينونة. نقله عند أبو بكر ابن العربي في «الأحكام» وهو عجيب. وهذه الآية أمامه.

والائتمار : التشاور والتداول في النظر. وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره. ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحّد مؤتمرا لأنه يقع الاستئمار فيه ، أي التشاور وتداول الآراء.

وقوله : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ) خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأمّ ولدها. وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك.

وقيد الائتمار بالمعروف ، أي ائتمارا ملابسا لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم ، أي معتاد مقبول ، فلا يشتطّ الأب في الشحّ ولا تشتط الأم في الحرص.

وقوله : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) عتاب وموعظة للأب والأمّ بأن ينزّل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتلبت للطفل ظئر ، فلا تسأل الأمّ أكثر من أجر أمثالها ، ولا يشحّ الأب عما يبلغ أجر أمثال أمّ الطفل ، ولا يسقط حق الأمّ إذا وجد الأب من يرضع له مجانا لأن الله قال : (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) وإنما يقال : أرضعت له ، إذا استؤجرت لذلك ، كما يقال : استرضع أيضا ، إذا آجر من يرضع له ولده. وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) [٢٣٣] الآية.

والتعاسر صدور العسر من الجانبين. وهو تفاعل من قولكم : عسرت فلانا ، إذا أخذته على عسره ، ويقال : تعاسر البيّعان إذا لم يتفقا.

فمعنى (تَعاسَرْتُمْ) اشتدّ الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق ، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة.

وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد ، كقوله : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سورة يوسف [٩٨]. وهذا المعنى ناشئ عن جعل علامة الاستقبال كناية عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقا لتحصيله.

٢٩٥

وهذا الخبر مستعمل كناية أيضا عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق (لَهُ) بقوله : (فَسَتُرْضِعُ).

فاجتمع فيه ثلاث كنايات : كناية عن موعظة الأب ، وكناية عن موعظة الأم ، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

تذييل لما سبق من أحكام الإنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك. ويعم كل إنفاق يطالب به المسلم من مفروض ومندوب ، أي الإنفاق على قدر السعة.

والسّعة : هي الجدة من المال أو الرزق.

والإنفاق : كفاية مئونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يحتاج إليه.

و (مِنْ) هنا ابتدائية لأن الإنفاق يصدر عن السعة في الاعتبار ، وليست (مِنْ) هذه ك (من) التي في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [الأنفال : ٣] لأن النفقة هنا ليست بعضا من السعة ، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون (من) من قوله : (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) تبعيضية.

ومعنى (قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) جعل رزقه مقدورا ، أي محدودا بقدر معين وذلك كناية عن التضييق. وضده (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [غافر : ٤٠] ، يقال : قدر عليه رزقه ، إذا قتّره ، قال تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) وتقدم في سورة الرعد [٢٦] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإنفاق ومراتبه في التقديم. وهذا مجمل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان : «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف».

والمعروف : هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة.

والرزق : اسم لما ينتفع به الإنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل. سواء كان أعيانا أو أثمانا. ويطلق الرزق كثيرا على الطعام كما في قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧].

ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس

٢٩٦

والأزمان والبلاد. وإنما اختلفوا في التوسع في الإنفاق في مال المؤسر هل يقضى عليه بالتوسعة على من ينفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافا في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفق عليه ومعتاده ، كالزوجة العالية القدر. وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهند : «ما يكفيك وولدك بالمعروف».

وجملة (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) تعليل لقوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ). لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في سورة البقرة [٢٨٦] ، وهي قبل سورة الطلاق.

والمقصود منه إقناع المنفق عليه بأن لا يطلب من المنفق أكثر من مقدرته. ولهذا قال علماؤنا : لا يطلّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف ، أي دون ضر.

و (مِمَّا آتاهُ اللهُ) يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان من يجب عليه الإنفاق قادرا على الاكتساب لينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمّل له ما ضاق عنه ماله ، يجبر على الاكتساب. وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين. وقد قال عمر بن الخطاب : «وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أينا» ، رواه مالك في «الموطأ».

وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف. فمن الفقهاء من رأى ذلك موجبا بينهما بعد أجل رجاء يسر الزوج وقدر بشهرين ، وهو قول مالك. ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة ، أي وتنفق من بيت مال المسلمين.

والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائما فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يتوصل إلى الإنفاق من بيت المال كان حقا أن يفرّق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوجها في احتياج. ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه.

وجملة (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) تكملة للتذييل فإن قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) يناسب مضمون جملة (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ).

وقوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ) إلخ تناسب مضمون (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) إلخ. وهذا

٢٩٧

الكلام خبر مستعمل في بعث الترجّي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال. ومعناه : عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. وهذا الخبر لا يقتضي إلا أنّ من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسرا لهم ، فمن كان في عسر رجا أن يكون ممن يشمله فضل الله ، فيبدل عسره باليسر.

وليس في هذا الخبر وعد لكل معسر بأن يصير عسره يسرا. وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر ، أو وعد للمنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحّون بشيء مما يسعه مالهم. وانظر قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥].

ومن بلاغة القرآن الإتيان ب (عسر ويسرا) نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

[٨ ـ ١١] (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

لما شرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاق ولواحقه ، وكانت كلها تكاليف قد تحجم بعض الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلا أو تقصيرا رغّب في الامتثال لها بقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢] وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق : ٤] ، وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٥] وقوله : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧].

وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] ، وقوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [الطلاق : ٢] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية

٢٩٨

بمراقبتهم ، لأن الصغير يثير الجليل ، فذكّر المسلمين (وليسوا ممن يعتو على أمر ربهم) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة ، فيلقي بهم ذلك في مهواة الضلال.

وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) الآيات. فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض.

و (كَأَيِّنْ) اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و (كَأَيِّنْ) بمعنى (كم) الخبرية. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في آل عمران [١٤٦].

والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم.

و (كَأَيِّنْ) في موضع رفع على الابتداء ، وهو مبني.

وجملة (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) في موضع الخبر ل (كَأَيِّنْ).

والمعنى : الإخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فرع عليه من قوله : (فَحاسَبْناها) فالمفرع هو المقصود من الخبر.

والمراد بالقرية : أهلها على حد قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] بقرينة قوله عقب ذلك (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) إذ جيء بضمير جمع العقلاء.

وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضا بالمشركين من أهل مكة ومشايعة لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٤].

وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم.

والعتوّ ويقال العتيّ : تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد. وضمن معنى الإعراض فعدي بحرف (عَنْ).

والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب ، تشبيها لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين ، وهو الحساب في الدنيا ، ولذلك جاء

٢٩٩

(فَحاسَبْناها) ، و (عَذَّبْناها) بصيغة الماضي.

والمعنى : فجازيناها على عتوّها جزاء يكافئ طغيانها.

والعذاب النكر : هو عذاب الاستئصال بالغرق ، والخسف ، والرجم ، ونحو ذلك.

وعطف العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره ، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به.

ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة. وشدته قوة المناقشة فيه والانتهار على كل سيئة يحاسبون عليها.

والعذاب : عذاب جهنم ، ويكون الفعل الماضي مستعملا في معنى المستقبل تشبيها للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤].

والنكر بضمتين ، وبضم فسكون : ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا.

وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب (نُكْراً) بضمتين. وقرأه الباقون بسكون الكاف. وتقدم في سورة الكهف.

والفاء في قوله : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) لتفريع (فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها).

والذّوق : هنا الإحساس مطلقا ، وهو مجاز مرسل.

والوبيل : صفة مشبهة. يقال : وبل (بالضم) : المرعى ، إذا كان كلأه وخيما ضارا لما يرعاه.

والأمر : الحال والشأن ، وإضافة الوبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب ، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه.

وعاقبة الأمر : آخره وأثره. وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضوا أنفسهم بإعراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره.

٣٠٠