تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

بالخير على فعل الصالحات تشبيها لفعل المتفضل بالجزاء بشكر المنعم عليه على نعمة ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات. فإنما نفعها لأنفسهم ولكن الله تفضّل بذلك حثا على صلاحهم فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم ، وتلطف لهم فسمى ذلك الثواب شكرا وجعل نفسه شاكرا.

وقد أومأ إلى هذا المقصد اتباع صفة (شَكُورٌ) بصفة (حَلِيمٌ) تنبيها على أن ذلك من حمله بعباده دون حق لهم عليه سبحانه.

وأمّا وصف ب (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فتتميم للتذكير بعظمة الله تعالى مع مناسبتها للترغيب والترهيب اللذين اشتملت عليهما الآيات السابقة كلها لأن العالم بالأفعال ظاهرها وخفيّها لا يفيت شيئا من الجزاء عليها بما رتب لها ، ولأن العزيز لا يعجزه شيء.

و (الْحَكِيمُ) : الموصوف بالحكمة لا يدع معاملة الناس بما تقتضيه الحكمة من وضع الأشياء مواضعها ونوط الأمور بما يناسب حقائقها.

والحكيم فعيل بمعنى : المحكم ، أي المتقن في صنعه ومعاملته وهما معا من صفاته تعالى فهو وصف جامع للمعنيين.

٢٦١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٥ ـ سورة الطلاق

سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] إلخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة : سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موسوم بالقبول.

وذكر في «الإتقان» أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال : كنّا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفّى عنها تعتد أقصى الأجلين (أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر ، وأجل الأربعة الأشهر وعشر) فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطّولى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] اه. وفي «الإتقان» عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ، ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق. وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١]. وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفّى عنها. وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود. وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.

وهي مدنية بالاتفاق.

وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر. وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.

٢٦٢

وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة.

وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا؟ فقال : طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ليراجعها ، فردّها وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك. قال ابن عمر وقرأ النبي : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١].

وظاهر قوله : وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلخ. إنها نزلت عليه ساعتئذ. ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة. وقال الواحدي عن السدي : إنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر ، وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ولم يصح. وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدإ.

أغراضها

الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدّة والإرضاع والإنفاق والإسكان. تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة.

والإيماء إلى حكمة شرع العدة.

والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن.

والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة.

وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله.

والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما.

وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته.

وأن الله وضع لكلّ شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه.

وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حثّ

٢٦٣

للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر.

وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) [الأنفال : ٦٥] لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها. فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملا على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وإن كان التشريع خاصا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧].

قال أبو بكر بن العربي : «وهذا قولهم أن الخطاب له لفظا. والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) [المائدة : ٦٧] اه. ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعدّة سنذكره عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ).

فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وما بعده من الضمائر مثله مراد بها هو وأمته. وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون.

وظاهر كلمة (إِذا) أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا : إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن ، أي في أطهارهن كما سيأتي.

وتكرير فعل (فَطَلِّقُوهُنَ) لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلطهرهن وقد

٢٦٤

تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) في سورة الشعراء [١٣٠] ، وقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) في سورة الفرقان [٧٢].

واللام في (لِعِدَّتِهِنَ) لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كتب ليوم كذا من شهر كذا. ومنه قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام. ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان علم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر.

ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتا لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالأطهار.

وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمة هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العدة وإنما تبتدأ العدة بأول طهر من أطهار ثلاثة لدفع المضرة عن المطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يبنّ منهم.

وفعل (طَلَّقْتُمُ) مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية والقرينة ظاهرة.

والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدّر حصول فعل محرّم من دون أن يبيّن منعه.

والطلاق مباح لأنه قد يكون حاجيّا لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشارا حديثا في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديدا ويعسر تذليله ، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجيّ ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإذن فيه ذريعة للنكاية من أحد الزوجين بالآخر. أو من ذوي قرابتهما ، أو لقصد تبديل المذاق. ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

وتعليق (طَلَّقْتُمُ) بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين

٢٦٥

التي قال الله فيها : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١].

واختلف العلماء في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق وجزم به الخطابي في «شرح سنن أبي داود» : ولم يثبت تطليق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبران ، أولهما ما رواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وفي هذا السند ضعف لأن سويد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي. وقبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم. وكذلك مسروق بن المرزبان يضعف أيضا. وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحا لكنه غريب وهو لا يقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا. وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراد سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس ، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة ولكن كانت قضية الإيلاء بسبب حفصة.

والمعروف في «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه. قال عمر : «فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك؟ ، قال : «لا آليت منهن شهرا». فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفيئة بلفظ راجع على أن ابن ماجه يضعف عند أهل النقد.

وثانيهما : حديث الجونية أسماء أو أميمة بنت شراحيل الكندية في «الصحيح» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له : «أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك» وأمر أبا أسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها ، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خلق شائع في النساء.

والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) في سورة الأحزاب [٢٨]. فلا يعارض ذلك قوله : «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». إذ يكون قوله ذلك مخصوصا بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء تجنبا من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وبالا عليها ، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها.

٢٦٦

وعلم من قوله تعالى : (لِعِدَّتِهِنَ) أنهن النساء المدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعا بنص آية الأحزاب.

وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالأطهار لا بالحيض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمرا بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض. واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافا يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم.

وحكمة العدة تقدم بيانها.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

الإحصاء : معرفة العدّ وضبطه. وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاة ثم عدوا ذلك الحصى ، قال تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨].

والمعنى : الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين ؛ إما التزويج قبل انتهائها فربّما اختلط النسب ، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها.

وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته.

والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفا والكلام على تقدير مضاف لأن المحصى أيام العدة.

والمخاطب بضمير (أَحْصُوا) هم المخاطبون بضمير (إِذا طَلَّقْتُمُ) فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشى الاستخفاف بما قصدته الشريعة. وقد بيّنا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي «مقاصد الشريعة».

٢٦٧

ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلّق والمطلّقة وهي تستتبع حقوقا للمسلمين وولاة أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم.

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ).

اعتراض بين جملة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) وجملة (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) والواو اعتراضية.

وحذف متعلّق (اتَّقُوا اللهَ) ليعم جميع ما يتقي الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله.

فقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة. ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزنا وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدّي ، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف (رَبَّكُمُ) للتذكير بأنه حقيق بأن يتقى غضبه.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

استئناف أو حال من ضمير (أَحْصُوا الْعِدَّةَ) ، أي حالة كون العدة في بيوتهن ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة (أَحْصُوا الْعِدَّةَ) لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة.

ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو جوازا أو وجوبا.

وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللّاتي كنّ فيها أزواجا استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب «ربّة البيت» وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق.

وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلّق والمطلقة. وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلّق حتى يبرأ النسب من

٢٦٨

كل شك.

وجملة (وَلا يَخْرُجْنَ) عطف على جملة (لا تُخْرِجُوهُنَ) وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج. فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة.

وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعرضه فهذا مقتضى الآية. ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية ، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب ، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها. وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق : ٦] الآية. وتعلم أن ذلك تأكيدا لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق : ٦] وما عطف عليه.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول. ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقا لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة. وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله : (لا تُخْرِجُوهُنَ وَلا يَخْرُجْنَ). فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجن ، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه.

والفاحشة : الفعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) الآية في سورة النساء [١٥].

وشمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) [الأعراف : ٢٨]. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) في سورة الأعراف [٣٣]. قال ابن عطية : قال بعض الناس : الفاحشة متى وردت في القرآن معرّفة فهي الزنا (يريد أو ما يشبهه) كما في قوله : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٨٠] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي.

٢٦٩

وقرأ الجمهور (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الياء التحتية ، أي هي تبيّن لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازا عقليا وإنما المبيّن ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين.

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم مبينة بفتح التحتية ، أي كانت فاحشة بينتها الحجة أو بينها الخارج ومحمل القراءتين واحد.

ووصفها ب (مُبَيِّنَةٍ) إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش ، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفا. وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج.

وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعدود أبي يوسف : أن الفاحشة الزنا ، قالوا : ومعاد الاستثناء الإذن في إخراجهن ، أي ليقام عليهن الحد.

وفسرت الفاحشة بالبذاء على الجيران والأحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ «إلا أن يفحشن عليكم» (بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش) وروي عن ابن عباس أيضا واختاره الشافعي.

وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بله الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضا وابن عمر وقاله السدي وأبو حنيفة.

وعن قتادة الفاحشة : النشوز ، أي إذا طلقها لأجل النشوز فلا سكنى لها.

وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة (وَلا يَخْرُجْنَ) أي هن منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة ، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن ، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

٢٧٠

فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي (بفتح الخاء) فيكون هذا الاستثناء منعا لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي.

ومحمل فعل (يَأْتِينَ) على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦].

وقد ورد في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عمرو (وكان وجهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع عليّ إلى اليمن) فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه ، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها : ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا ، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وفي رواية أنها قالت : أخاف أن يقتحم عليّ (بالبناء للمجهول) ، وفي رواية أنها كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالانتقال.

واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة : هو رخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك ، روى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عمرة بنت عبد الرحمن بن الحكم وكان عمّها مروان بن الحكم أمير المدينة يومئذ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشة أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتّق الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس؟ قالت عائشة : لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة ، فقال مروان : إن كان بك الشّرّ فحسبك ما بين هذين من الشّر ، (ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه).

وفي «الصحيح» عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت. وقالت عائشة : ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشدّ العيب. وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالانتقال. ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال. قال مالك : وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في «المنتقى».

وقال ابن العربي : إن الخروج للحدث والبذاء والحاجة إلى المعايش وخوف العودة من المسكن جائز بالسنة.

٢٧١

ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبذاء قال سعيد بن المسيب : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لسنة فأمرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافا لفظيا لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قبله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس.

أما قول عمر بن الخطاب : لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة أحفظت أم نسيت. فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشكّ له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص. وقال ابن العربي : قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد.

وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام. وأما خروجها نهارا لقضاء شئون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقا.

وقال الشافعي : المطلقة الرجعية لا تخرج ليلا ولا نهارا والمبتوتة تخرج نهارا. وقال أبو حنيفة : تخرج المعتدة عدة الوفاة نهارا ولا تخرج غيرها ، لا ليلا ولا نهارا.

وفي «صحيح مسلم» أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : «فبيني وبينكم القرآن قال الله عزوجل : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). هذا لمن كان له رجعة فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستبقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملازمة بذلك لأجل الإنفاق.

والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الإعراض فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت

٢٧٢

من ذلك المسكن وجرى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظنة قد عارضتها مئنّة. ومن الحكم أيضا في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقا على مفارقها استصحابا للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها. ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعله أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها. فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ).

الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة (وَلا يَخْرُجْنَ) ، وجملة (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامة لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها ، وخاصة المطلّقة والمطلّق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفرادا أو اشتراكا.

والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا.

والحدود : جمع حد وهو ما يحد ، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقا مثل حدود الحمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة.

والمعنى : أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا.

ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسدا ككثرة الملح في الطعام.

ووقوع (حُدُودُ اللهِ) خبرا عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مرادا منها تشريف المضاف وتعظيمه.

والمعنى : وتلك مما حدّ الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموما لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله.

٢٧٣

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

عطف على جملة ، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ). فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعا معرفا بالإضافة كان مفيدا للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق.

والمعنى : من يتعد شيئا من حدود الله فقد ظلم نفسه ، وبهذا تعلم أن ليس في قوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي.

وأخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيرا من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب سيئة تنجر من مخالفة أحكام الدين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها.

قال : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). [المائدة : ٦].

ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدّين قال تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر : ٥٦ ـ ٥٨] فإن للمؤمنين حظا من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

هذه الجملة تعليل لجملة (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها. ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها.

ويجوز كونها بدلا من جملة (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها. وقد

٢٧٤

سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها.

فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق ، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فيعدّ ما أضجرهما من بعض خلقهما شيئا تافها بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما.

والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع. أي أمرا موصوفا بصفة محذوفة ، أي أمرا نافعا لهما.

وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة ، ومن غضب إلى رضى ، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء ، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلزّ ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة. على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفا.

والخطاب في قوله : (لا تَدْرِي) لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فكره بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى : (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). [النساء : ١٩].

ولعل كلمة (لا تَدْرِي) تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين.

و (لَعَلَ) ومعمولاها سادّة معلقة فعل (تَدْرِي) عن العمل.

[٢ ، ٣] (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ

٢٧٥

أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق : ١] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها.

وبلوغ الأجل أصله انتهاء المدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الانتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به.

وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل.

ومنه قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) في سورة البقرة [٢٣١].

والإمساك : اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه.

ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقا جديدا في قوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

والأمر في (فَأَمْسِكُوهُنَ أَوْ فارِقُوهُنَ) للإباحة ، و (أَوْ) فيه للتخيير.

والباء في (بِمَعْرُوفٍ) للملابسة أي ملابسة كل من الإمساك والفراق للمعروف.

والمعروف : هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق.

فالمعروف في الإمساك : حسن اللقاء والاعتذار لها عما فرط والعود إلى حسن المعاشرة.

٢٧٦

والمعروف في الفراق : كف اللسان عن غيبتها وإظهار الاستراحة منها.

والمعروف في الحالين من عمل الرّجل لأنه هو المخاطب بالإمساك أو الفراق.

وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٢٨].

وتقديم الإمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة ، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأوفق بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك ، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق.

ولمّا قيد أمر الإباحة من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ أَوْ فارِقُوهُنَ) ، بقيد بالمعروف ، فهم منه أنّه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياما ثم طلقها يفعل ذلك ثلاثا ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضرارا بها.

وقد تقدم هذا عند قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ، إلى قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) في سورة البقرة [٢٣١].

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)

ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإمساك أو الفراق ، أنه راجع إلى كليهما لأن الإشهاد جعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيدا وشأن الشروط الواردة بعد جمل أن تعود إلى جميعها.

وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بتّ الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور : الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بتّ الطلاق.

أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ) فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدم جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم ، وقياسه

٢٧٧

على الإشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإشهاد دونها منع ، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب ، وما في البيوعات مما يغني عن الإشهاد وهو التقايض في الأعواض. وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابن بكير.

واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما وتجنبا لنوازل الخصومات خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق ، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك ، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور ، على أن جعل الشيء شرطا لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة ، وبالثوب المغصوب. قال الموجبون للإشهاد : لو راجع ولم يشهد أو بتّ الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك.

قال يحيى بن بكير : معنى الإشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إن راجعها ، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت.

ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج ، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلا على المراجعة عند من جعله كذلك.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ).

عطف على (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كل يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين. وليس هو من قبيل (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة.

فتعريف الشهادة للاستغراق ، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمور به الشهادة الشرعية.

٢٧٨

ومعنى إقامة الشهادة : إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعا مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) في سورة البقرة [٢٨٢].

وقوله : (لِلَّهِ) ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته. وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) في سورة البقرة [٢٨٢].

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) [الطلاق : ١] ، إلى قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ).

والوعظ : التحذير مما يضر والتذكير المليّن للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) في سورة البقرة [٢٣٢] وعند قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) في سورة النور [١٧].

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

اعتراض بين جملة (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) وجملة (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) [الطلاق : ٤] الآية ، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أعقب ذلك بقضيّة عامة ، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب.

ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق ، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجا من الضائقات ، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعل منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضايق فيه.

ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المخرج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضا بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار

٢٧٩

فالمخرج لهم في الآخرة هو الإسراع بهم إلى النعيم.

ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضا كثيرا للناس بعد التطليق ، أتبع الوعد بجعل المخرج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق.

وقوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) احتراس لئلا يتوهّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل ما لا ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسبابا غير مرتقبة.

فمعنى (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه.

و (حَيْثُ) مستعملة مجازا في الأحوال والوجوه تشبيها للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يرد منه الوارد ولذلك كانت (مِنْ) هنا للابتداء المجازي تبعا لاستعارة (حَيْثُ). ففي حرف (مِنْ) استعارة تبعية. وذكر الواحدي في «أسباب النزول» أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذ أسر المشركون ابنه سالما فأتى عوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتق الله واصبر» وأمره وزوجه أن يكثرا قولا : لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فساق عنزا كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكرب والخلاص من المضائق ، وملاحظة المسلم ذلك ويقينه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

وحسب : وصف بمعنى كاف. وأصله اسم مصدر أو مصدر.

وجملة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) في موضع العلة لجملة (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده وإذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه.

٢٨٠