تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

والإشارة في (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إلى ما أشير إليه ب (ذلِكَ) ، وجيء له باسم إشارة التأنيث نظرا للإخبار عنه بلفظ (حُدُودُ) إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ، ومثله قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) في سورة البقرة [٢٢٩].

وجملة (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) تتميم لجملة (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي:ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو سنة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل ، فالظهار شرع الجاهلية. وهذا كقوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] ، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥))

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتراز منهم.

والمحادّة : المشاقّة والمعاداة ، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله ، فإن المحادة مشتقّة من الحد لأن كل واحد من المتعاديين كأنّه في حدّ مخالف لحدّ الآخر ، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة من عدوة الوادي لأن كلا من المتعاديين يشبه من هو من الآخر في عدوة أخرى.

وقيل : اشتقت المشاقّة من الشقة لأن كلا من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر.

والمراد بهم الذين يحادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرسل بدين الله فمحادته محادة لله.

والكبت : الخزي والإذلال وفعل (كُبِتُوا) مستعمل في الوعيد أي سيكبتون ، فعبّر عنه بالمضيّ تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمّن لا خلاف في خبره مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ولأنه مؤيّد بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر ب (إِنَ) لأن الكلام لو كان إخبارا عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع ، ويزيد ذلك وضوحا قوله : (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني الذين حادّوا الله في

٢١

غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة (مِنْ قَبْلِهِمْ) من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم.

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ).

معترضة بين جملة (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وجملة (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي لا عذر لهم في محادّة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات القرآن بيّنة على صدقه.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

عطف على جملة (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة.

وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين.

ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإهانة.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))

يجوز أن يكون (يَوْمَ) ظرفا متعلقا بالكون المقدّر في خبر المبتدأ من (لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) [المجادلة : ٥].

ويجوز أن يكون متعلقا ب (مُهِينٌ) ، ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل تقديره : اذكر تنويها بذلك اليوم وتهويلا عليهم ، وهذا كثير في أسماء الزمان التي وقعت في القرآن. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠].

وضمير الجمع عائد إلى (الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [المجادلة : ٥]. ولذلك أتى بلفظ الشمول وهو (جَمِيعاً) حالا من الضمير.

وقوله : (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) تهديد بفضح نفاقهم يوم البعث. وفيه كناية عن الجزاء على أعمالهم.

وجملة (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) في موضع الحال من (ما عملوا).

والمقصود من الحال هو ما عطف عليها من قوله : (وَنَسُوهُ) لأن ذلك محلّ العبرة.

٢٢

وبه تكون الحال مؤسسة لا مؤكدة لعاملها ، وهو (فَيُنَبِّئُهُمْ) ، أي علمه الله علما مفصلا من الآن ، وهم نسوه ، وذلك تسجيل عليهم بأنهم متهاونون بعظيم الأمر وذلك من الغرور ، أي نسوه في الدنيا بله الآخرة فإذا أنبئوا به عجبوا قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩].

وجملة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تذييل. والشهيد : العالم بالأمور المشاهدة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة : ٦] إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعضا ليري للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة ، وهم وإن كانوا يظهرون الإسلام يحبّون أن تكون لهم خيفة في قلوب المسلمين يتقون بها بأسهم إن اتهموا بعضهم بالنفاق أو بدرت من أحدهم بادرة تنمّ بنفاقه ، فلا يقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه. وكانوا إذا مرّ بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارّون لعلّ حدثا حدث من مصيبة ، وكان المسلمون يومئذ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهّمون أن مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدوّ أو عن هزيمة للمسلمين في السرايا التي يخرجون فيها ، فنزلت هذه الآيات لإشعار المنافقين بعلم الله بما ذا يتناجون ، وأنه مطلع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دخيلتهم ليكفّوا عن الكيد للمسلمين.

فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) الآية [المجادلة: ٨].

و (أَلَمْ تَرَ) من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يرى وسدّ المصدر مسدّ المفعول. والتقدير : ألم تر الله عالما.

و (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعمّ المبصرات والمسموعات فهو أعم من قوله: (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة : ٦] لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة هو علم المسموعات.

٢٣

وجملة (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) إلى آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ). وقوله : (إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) وقوله : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجيّ معهم.

و (ما) نافية. و (يَكُونُ) مضارع (كان) التامة ، و (مِنْ) زائدة في النفي لقصد العموم ، و (نَجْوى) في معنى فاعل (يَكُونُ).

وقرأ الجمهور (يَكُونُ) بياء الغائب لأن تأنيث (نَجْوى) غير حقيقي ، فيجوز فيه جري فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف (مِنْ) الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعيا لصورة تأنيث لفظه.

والنجوى : اسم مصدر ناجاه ، إذا سارّه. و (ثَلاثَةٍ) مضاف إليه (نَجْوى). أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم ، ولا خمسة إلا هو كسادس لهم ، ولا أدنى ولا أكثر إلّا هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى (ثَلاثَةٍ) وإلى (خَمْسَةٍ) وإلى (ذلِكَ) و (أَكْثَرَ).

والمقصود من هذا الخبر الإنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذي نزلت الآية بسببهم كانوا حلفا بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء : المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود.

وفي «الكشاف» عن ابن عباس : نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو (بن عمير من ثقيف) وصفوان بن أمية (السلمي حليف بني أسد) كانوا يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضا ولا يعلم بعضا. وقال الثالث : إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله. ا ه. ولم أر هذا في غير «الكشاف» ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدّوا في الصحابة وكأنّ هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) في سورة فصلت [٢٢]. كما في «صحيح البخاري» وبين هذه الآية. وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى إنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس.

والاستثناء في (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) مفرع من

٢٤

أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى : (ما يَكُونُ) والجمل التي بعد حرف الاستثناء في مواضع أحوال. والتقدير : ما يكون من نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم.

وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء.

وقرأ الجمهور (وَلا أَكْثَرَ) بنصب (أَكْثَرَ) عطفا على لفظ (نَجْوى). وقرأه يعقوب بالرفع عطفا على محل (نَجْوى) لأنه مجرور بحرف جر زائد.

و (أَيْنَ ما) مركب من (أين) التي هي ظرف مكان و (ما) الزائدة. وأضيف (أين) إلى جملة (كانُوا) ، أي في أي مكان كانوا فيه ، ونظيره قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) في سورة الحديد [٤].

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة.

وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم.

وجملة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل لجملة (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) فأغنت (أَنَ) غناء فاء السبية كقول بشار :

إن ذاك النجاح في التبكير

وتأكيد الجملة ب (أَنَ) للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدلّ على أن النهي عن التناجي كان سابقا على نزول هذه الآية والآيات بعدها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ

٢٥

الرَّسُولِ).

إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى : (نُهُوا عَنِ النَّجْوى) مؤذنا بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات ، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة : نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا ، فنزلت ، فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفا.

وإن كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [المجادلة : ٧] كما تقدم ، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، فالمراد ب (الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) هم الذين عنوا بقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] الآية.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يَعُودُونَ) للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثما لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها فقد زادوا به تمردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشاقّة للمسلمين.

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.

والاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) تعجيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه.

والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف (إِلَى).

والتعريف في (النَّجْوى) تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١٠].

ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سدّا للذريعة ، قال الباجي في «المنتقى» : روي أن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بدء الإسلام ، فلما فشا الإسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه.

٢٦

قال ابن العربي في «أحكام القرآن» عند قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) الآية [١١٤] في سورة النساء : إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين : أحدهما : الإخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه ، والثاني : النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعد هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويخص به بعضهم بعضا فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين اه.

وفي «الموطأ» حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد». زاد في رواية مسلم «إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه».

واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة ، وجمهور المالكية على أنه للتحريم ، قال ابن العربي في «القبس» : فإن كان قوله مخافة أن يحزنه من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد انحسم التأويل ، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره. وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : لا يتناجى أربعة دون واحد. وأما تناجي الجماعة دون جماعة فإنه أيضا مكروه أو محرم اه. وحكى النّووي الإجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التّين بحديث ابن مسعود قال : فأتيته (يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهو في ملأ فساررته. وحديث عائشة في قصة فاطمة دالّ على الجواز.

وقال ابن عبد البر : لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما.

وألحق بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما.

والقول في استعمال (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣].

وكذلك القول في موقع (ثُمَ) عاطفة الجملة.

وصيغة المضارع في (يَعُودُونَ) دالة على التجدد ، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا.

و (لِما نُهُوا عَنْهُ) هو النجوى ، فعدل عن الإتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) على ما في الصلة من التسجيل على سفههم.

٢٧

وقرأ الجمهور (يَتَناجَوْنَ) بصيغة التفاعل من ناجى المزيد. وقرأه حمزة ورويس ويعقوب وينتجون بصيغة الافتعال من نجا الثلاثي المجرد أي سارّ غيره ، والافتعال يرد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا.

والإثم : المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام الكفر وذم المسلمين.

و (الْعُدْوانِ) بضم العين : الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين.

ومعصية الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها.

والياء للملابسة ، أي يتناجون ملابسين الإثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإثم والعدوان ملابسة المتناجى في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملابسة المقارنة للفعل ، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها معصية وفي قوله : (نُهُوا عَنِ النَّجْوى) وقوله : (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة ، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين.

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفتون لفظ «السلام عليكم» لأنه شعار الإسلام ولما فيه من جمع معنى السلامة يعدلون عن ذلك ويقولون : أنعم صباحا ، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية. نقله ابن عطية عن ابن عباس.

فمعنى (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) ، بغير لفظ السلام ، فإن الله حيّاه بذلك بخصوصه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦]. وحيّاه به في عموم الأنبياء بقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل : ٥٩] وتحية الله هي التحية الكاملة.

٢٨

وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث : أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : السّامّ عليك ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرد عليهم بقوله : «وعليكم». فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفا ولو حمل ضمير (جاؤُكَ) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر.

أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين ، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٠٤] ولم يرد منه نهي اليهود.

ومعنى (يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١]. وقوله : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] ، أي ظن بعضهم ببعض خيرا ، أي يقول بعضهم لبعض.

ويجوز أن يكون المراد ب (أَنْفُسِهِمْ) مجامعهم كقوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) ، أي قل لهم خاليا بهم سترا عليهم من الافتضاح. وتقدم في سورة النساء [٦٣] و (لَوْ لا) للتحضيض ، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو ذلك ، أي يقولون ما معناه لو كان محمد نبيئا لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمة (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ) فإن (لَوْ لا) للتحضيض مستعملة كناية عن جحد نبوءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لو كان نبيئا لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له.

وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم ، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة. وفي الحديث : «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ، يدعون له ندّا وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا». وهذا من الغرور قال تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [فصلت : ٢٣] ، ولذلك قال تعالى ردا على كلامهم (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب.

وأصل (يَصْلَوْنَها) يصلون بها ، فضمّن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن.

٢٩

وقوله : (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩))

خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١] ومنه ما حكاه الله عن المشركين (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] أي يا أيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه ، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي.

ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإيمان إذا لقوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. ولذلك ضرب الله لهم مثلا بالنور في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ثم قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) [البقرة : ٢٠]. وهذا هو المناسب لقوله تعالى : (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) ، ويكون قوله : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) تنبيها على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة.

ويجوز أن تكون خطابا للمؤمنين الخلّص بأن وجه الله الخطاب إليهم تعليما لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضا بالمنافقين ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٥٦] ، ويكون المقصود من الكلام هو قوله : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) تعليما للمؤمنين.

والتقييد ب (إِذا تَناجَيْتُمْ) يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقا ولكنهم لما اعتادوا التناجي حذروا من غوائله ، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله : «لا تتناجوا بالإثم والعدوان». وهذا مثل ما وقع في حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حق الطريق».

وقرأ الجمهور (فَلا تَتَناجَوْا) بصيغة التفاعل. وقرأه رويس عن يعقوب وحده فلا

٣٠

تنتجوا بوزن تنتهوا.

والأمر من قوله : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) مستعمل في الإباحة كما اقتضاه قوله تعالى : (إِذا تَناجَيْتُمْ).

والإثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البرّ فهو ضد الإثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين.

و (التَّقْوى) : الامتثال ، وتقدمت في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) في سورة البقرة [٢].

وفي قوله : (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى : الذي إليه تحشرون فيجازيكم.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى ، على أنها قد تكون تعليلا لتأكيد النهي عن النجوى.

والتعريف في (النَّجْوى) تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والحصر المستفاد من (إِنَّمَا) قصر موصوف على صفة و (مِنَ) ابتدائية ، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان ، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان لأهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى. وهذه العلة ليست قيدا في الحصر فإن للشيطان عللا أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة ، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة ، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية.

وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله : (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو من قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

٣١

وقرأ نافع وحده (لِيَحْزُنَ) بضم الياء وكسر الزاي فيكون (الَّذِينَ آمَنُوا) مفعولا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزم فيكون (الَّذِينَ آمَنُوا) فاعلا وهما لغتان.

وجملة (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ) إلخ معترضة.

وضمير الرفع المستتر في قوله : (بِضارِّهِمْ) عائد إلى (الشَّيْطانِ).

والمعنى : أن الشيطان لا يضرّ المؤمنين بالنجوى أكثر من أنه يحزنهم. فهذا كقوله تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] أو عائد إلى النجوى بتأويله بالتناجي ، أي ليس التناجي بضارّ المؤمنين لأن أكثره ناشئ عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.

وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) استثناء من أحوال والباء للسببية ، أي إلا في حال أن يكون الله قدّر شيئا من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإذن أمر التكوين.

وانتصب (شَيْئاً) على المفعول المطلق ، أي شيئا من الضر.

ووقوع (شَيْئاً) وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضرّ من الشيطان ، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين ، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها ، والاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) من عموم (شَيْئاً) الواقع في سياق النفي ، أي لا ضرا ملابسا لإذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه ، أي ضر وسوسته.

واستعير الإذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسوّل إليها. وهو معنى قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] فإذا خلى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد من المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين. وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى في شأن الشيطان (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أحوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى.

ولهذا ذيل بقوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأنهم إذا توكلوا على الله توكلا حقا بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣].

٣٢

ويجوز أن يكون عموم (شَيْئاً) مرادا به الخصوص ، أي ليس بضارّهم شيئا مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل.

والمعنى : أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعا فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله في نفس الأمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.

وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام.

ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرت تلك عن آيات النجوى العامة إيذانا بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة ، فاتحاد الجنس في النجوى هو مسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني ، والإيماء إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي.

وأيضا قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى ، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف.

روي عن مقاتل أنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصفّة ، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس قد سبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله : قم يا فلان بعدد الواقفين من أهل بدر فشقّ ذلك على الذين أقيموا ، وغمز المنافقون وقالوا : ما أنصف هؤلاء ، وقد أحبّوا القرب من نبيئهم فسبقوا إلى مجلسه فأنزل

٣٣

الله هذه الآية تطييبا لخاطر الذين أقيموا ، وتعليما للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها ، وواجب الاعتراف بمزية أهل المزايا ، قال الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] ، وقال : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠].

والخطاب ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم.

والتفسح : التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذا أوجد له فسحة في مكان ، وفسح المكان من باب كرم إذا صار فسيحا. ومادة التفعل هنا للتكلف ، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة مع الجلّاس.

وتعريف (الْمَجالِسِ) يجوز أن يكون تعريف العهد ، وهو مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي إذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح على غيره والمجلس مكان الجلوس. وكان مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسجده والأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمّى بالروضة وهو ما بين منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيته.

ويجوز أن يكون تعريف (الْمَجالِسِ) تعريف الجنس. وقوله : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) مجزوم في جواب قوله : (فَافْسَحُوا) ، وهو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة الله على الممتثل جزاء على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره فضمير (لَكُمْ) عائد على (الَّذِينَ آمَنُوا) باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة وإنما الجزاء للذين تعلق بهم الأمر تعلقا إلزاميا.

وحذف متعلق (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) ليعم كل ما يتطلب الناس الإفساح فيه بحقيقته ومجازه في الدنيا والآخرة من مكان ورزق أو جنة عرضها السماوات والأرض على حسب النيات ، وتقديره الجزاء موكول إلى إرادة الله تعالى.

وحذف فاعل القول لظهوره ، أي إذا قال لكم الرسول : تفسحوا فافسحوا ، فإن الله يثيبكم على ذلك.

٣٤

فالآية لا تدلّ إلّا على الأمر بالتفسح إذا أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن يستفاد منها أن تفسح المسلمين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوبا أو ندبا لأنه من المكارمة والإرفاق. فهو من مكملات واجب التحابّ بين المسلمين وإن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحابّ وفوائده ، وذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة ومضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم والحديث وصفوف الصلاة. وذلك قياس على مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنه مجلس خير. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبكم إليّ ألينكم مناكب في الصلاة». قال مالك : ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر. يريد أن هذا الحكم وإن نزل في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب ومؤاساة ، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية ، وأراد مالك ب «نحوها» كل مجلس فيه أمر مهمّ في شئون الدين فمن حق المسلمين أن يحرصوا على إعانة بعضهم بعضا على حضوره. وهذا قياس على مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلته هي التعاون على المصالح.

وأفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين.

وقد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذا كثر الزحام فيها.

وقرأ الجمهور في المجلس وقرأه عاصم بصيغة الجمع (فِي الْمَجالِسِ) وعلى كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد وكونها للجنس وأن يكون المقصود مجالس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما تكررت أو ما يشمل جميع مجالس المسلمين ، وعلى كلتا القراءتين يصح أن يكون الأمر في قوله تعالى : (فَافْسَحُوا) للوجوب أو للندب.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) الآية عطف على (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ).

و (انْشُزُوا) أمر من نشز إذا نهض من مكانه يقال : نشز ينشز من باب قعد وضرب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقرّ فيه ومنه نشوز المرأة من زوجها مجازا عن بعدها عن مضجعها. والنشوز : أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص : من وجه على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم وأن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا

٣٥

سيما وقد كان سبب النزول بنشوز ، وهو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. ومن المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس وقتادة والحسن «إذا قيل انشزوا إلى الخير وإلى الصلاة فانشزوا».

وقال ابن زيد : إذا قيل انشزوا عن بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارتفعوا فإن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلمحوائج ، وكانوا إذا كانوا في بيته أحبّ كل واحد منهم أن يكون آخر عهده برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسبب النزول لا يخصص العام ولا يقيد المطلق.

وهذا الحكم إذا عسر التفسيح واشتد الزحام والتراصّ فإن لأصحاب المقاعد الحقّ المستقر في أن يستمرّوا قاعدين لا يقام أحد لغيره وذلك إذا كان المقوّم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأوّلية كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إقامة نفر لإعطاء مقاعدهم للبدريين. ومنه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس ، وأولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق ، ونحو ذلك ، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.

وللرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. وكان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سيرين قام الغلام له منه.

وفي «الموطأ» عن مالك بن أبي عامر قال : كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظلّ الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلّى الجمعة. فالطنفسة ونحوها حوز المكان لصاحب البساط.

فيجوز لأحد أن يأمر أحدا يبكر إلى المسجد فيأخذ مكانا يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر (انْشُزُوا فَانْشُزُوا) بضم الشين فيهما. وقرأه الباقون بكسر الشين. وهما لغتان في مضارع نشز.

وقوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) جواب الأمر في قوله : (فَانْشُزُوا) فقد أجمع القراء على جزم فعل (يَرْفَعِ) فهو جواب الأمر بهذا. وعد

٣٦

بالجزاء على الامتثال للأمر الشرعي فيما فيه أمر أو لما يقتضي الأمر من علّة يقاس بها على المأمور به أمثاله مما فيه علة الحكم كما تقدم في قوله تعالى : (فَافْسَحُوا).

ولما كان النشوز ارتفاعا عن المكان الذي كان به كان جزاؤه من جنسه.

وتنكير (دَرَجاتٍ) للإشارة إلى أنواعها من درجات الدنيا ودرجات الآخرة.

وضمير (مِنْكُمْ) خطاب للذين نودوا ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

و (من) تبعيضية ، أي يرفع الله درجات الذين امتثلوا. وقرينة هذا التقدير هي جعل الفعل جزاء للأمر فإن الجزاء مسبب عما رتب عليه بقوله : (مِنْكُمْ) صفة للذين آمنوا. أي الذين آمنوا من المؤمنين والتغاير بين معنى الوصف ومعنى الموصوف بتغاير المقدّر وإن كان لفظ الوصف ولفظ الموصوف مترادفين في الظاهر. فآل الكلام إلى تقدير : يرفع الله الذين استجابوا للأمر بالنشوز إذا كانوا من المؤمنين ، أي دون من يضمه المجلس من المنافقين. فكان مقتضى الظاهر أن يقال : يرفع الله الناشزين منكم فاستحضروا بالموصول بصلة الإيمان لما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى علة رفع الدرجات لأجل امتثالهم أمر القائل (انْشُزُوا) وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان لإيمانهم وأن ذلك الامتثال من إيمانهم ليس لنفاق أو لصاحبه امتعاض.

وعطف («الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) منهم» عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه ، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون ، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم ، أي لأجل إجلاسهم ، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا ، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل ، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم ، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا.

ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم.

ويجوز أن بعضا من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه ، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته.

هذا تأويل نظم الآية الذي اقتضاه قوة إيجازه. وقد ذهب المفسرون في الإفصاح عن

٣٧

استفادة المعنى من هذا النظم البديع مذاهب كثيرة وما سلكناه أوضح منها.

وانتصب (دَرَجاتٍ) ، على أنه ظرف مكان يتعلق ب (يَرْفَعِ) أي : يرفع الله الذين آمنوا رفعا كائنا في درجات.

ويجوز أن يكون نائبا عن المفعول المطلق ل (يَرْفَعِ) لأنها درجات من الرفع ، أي مرافع.

والدرجات مستعارة للكرامة فإن الرفع في الآية رفعا مجازيا ، وهو التفضيل والكرامة وجيء للاستعارة بترشيحها بكون الرفع درجات. وهذا الترشيح هو أيضا استعارة مثل الترشيح في قوله تعالى : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) [الرعد : ٢٥] وهذا أحسن الترشيح. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى في سورة الأنعام [٨٣](نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من أهل التفسير : إن قوله : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) كلام مستأنف وتم الكلام عند قوله : (مِنْكُمْ) قال ابن عطية : ونصب بفعل مضمر ولعله يعني : نصب (دَرَجاتٍ) بفعل هو الخبر عن المبتدأ ، والتقدير : جعلهم.

وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تذييل ، أي الله عليم بأعمالكم ومختلف نياتكم من الامتثال كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يكلم أحد في سبيل الله. والله أعلم بمن يكلم في سبيله» الحديث.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة. والمناسبة هي قوله تعالى : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المجادلة : ٩]. فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت عقب آي النجوى لاستيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم. وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية ، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة. فنقلت عن ابن عباس وقتادة وجابر بن زياد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة ، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة ، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقلّ الناس من النجوى. وكانت عبارات الأقدمين

٣٨

تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسم أسباب النزول ، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير ، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سببا واقتصر على قوله : نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقوا.

والذي يظهر لي : أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به ، وجعل سببها ووقتها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعا يوميا ، وكان الفقراء أيامئذ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصفّة ومعظم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم.

والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوما فيوما لأن الزكاة تدفع في رءوس السنين وفي معيّن الفصول ، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.

وعن ابن عباس : أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة ، وظاهر قوله في الآية التي بعدها (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المجادلة : ١٣] أن الزكاة حينئذ شرع مفرد معلوم ، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.

وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمنا قليلا ، قيل : إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال : كان ساعة من نهار ، أي أنها لم يدم العمل بها طويلا إن كان الأمر مرادا به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.

وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قد نسخه قوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣] الآية. وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب. وفي تفسير القرطبي وأحكام ابن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كانوا قد ألحفوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سندا ومعنى ، ومنافاتها مقصد الشريعة. وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة ما في «جامع الترمذي» عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال :

٣٩

لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ترى دينارا؟ قلت : لا يطيقونه ، قال فنصف دينار؟ قلت : لا يطيقونه. قال : فكم؟ قلت : شعيرة» قال الترمذي : أي وزن شعيرة من ذهب. قال : إنك لزهيد فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) [المجادلة : ١٣] الآية. قال : «فبي خفف الله عن هذه الأمة». قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، إنما نعرفه من هذا الوجه اه.

قلت : علي بن علقمة الأنماري قال البخاري : في حديثه نظر ، ووثقه ابن حبان. وقال ابن الفرس : صححوا عن علي أنه قال : «ما عمل بها أحد غيري». وساق حديثا.

ومحمل قول علي «فبي خفف الله عن هذه الأمة» ، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءا من أجزاء الدينار.

وفعل (ناجَيْتُمُ) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية. وقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨].

والقرينة قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ).

والجمهور على أن الأمر في قوله : (فَقَدِّمُوا) للوجوب ، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر ، وبقوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب. ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال : إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة ، وهو عن ابن عباس. وقال فريق : الأمر للندب وهو يناسب قول من قال : إن فرض الزكاة كان سابقا على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطل كلّ حقّ كان واجبا في المال.

و (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) معناه : قبل نجواكم بقليل ، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه. شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس.

ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). وقد تقدم في سورة البقرة [٢٥٥].

والإشارة ب (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) إلى التقديم المفهوم من «قدموا» على طريقة قوله:

٤٠