تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

حوله» وهذا كلام مكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألمّوا به في غزوة بني المصطلق ، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدي النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرق فقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين. وروايات حديث زيد مختلطة.

وقوله : (رَسُولِ اللهِ) يظهر أنه صدر من عبد الله بن أبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهرا في ملإ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذ بالإسلام.

و (حَتَّى) مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى (حَتَّى) انتهاء الفعل المذكور قبلها وغاية الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذا بلغها ، فهي سبب للانتهاء وعلّة له ، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم.

والانفضاض : التفرق والابتعاد.

(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ).

عطف على جملة (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين ، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العفاة ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقطع عنهم الإنفاق وذلك دأبه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ فإذا جاءني شيء قضيته. فقال عمر : يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه ، فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال : بهذا أمرت». رواه الترمذي في كتاب «الشمائل».

وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث.

و (خَزائِنُ) جمع خزانة بكسر الخاء. وهي البيت الذي تخزن فيه الطعام قال تعالى : (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) تقدم في سورة يوسف [٥٥]. وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها ، ومن هذا

٢٢١

ما جاء في حديث الصرف من «الموطأ» «حتى يحضر خازني من الغابة».

و (خَزائِنُ السَّماواتِ) مقارّ أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج. وأما خزائن الأرض فما فيها من أهرية ومطامير وأندر ، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من البلاد وما يفيء عليه من أهل القرى.

واللام في (لِلَّهِ) الملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى. ولما كان الإنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الدين الذي أرسل الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الإخبار بأن الخزائن لله كناية عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال له الأنصاري «ولا تخش من ذي العرش إقلالا» «بهذا أمرت». وذلك بما سيره الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات ، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها ، وما أفاء الله عليه بغير قتال.

وتقديم المجرور من قوله : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لإفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) حسبوا أنهم إذا قطعوا الإنفاق على من عند رسول الله لا يجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعا بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع.

واستدراك قوله : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر.

والمعنى : أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها.

ومفعول (يَفْقَهُونَ) محذوف ، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون (لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أو نزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال.

(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

٢٢٢

استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف. ومثله يكثر في مقام التوبيخ. وهذا وصف لخبث نواياهم إذ أرادوا التهديد وإفساد إخلاص الأنصار وأخوّتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذرا للفتنة والتفرقة وانتهازا لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين ، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أبيّ ابن سلول حين كسع حليف المهاجرين حليف الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة ، وعند قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [المنافقون : ٧] فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك.

وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤]. والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب.

و (الْأَعَزُّ) : القويّ العزة وهو الذي لا يقهر ولا يغلب على تفاوت في مقدار العزّة إذ هي من الأمور النسبية. والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعدة ، وأراد ب (الْأَعَزُّ) فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عددا من المهاجرين فأراد ليخرجن الأنصار من مدينتهم من جاءها من المهاجرين.

وقد أبطل الله كلامهم بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجدلي في علم آداب البحث.

والمعنى : إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ. وعزتهم بكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة ، وعزّة غيره ناقصة ، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراج من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق.

وتقديم المسند على المسند إليه في (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) لقصد القصر وهو قصر قلب ، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون.

وإعادة اللام في قوله : (وَلِرَسُولِهِ) مع أن حرف العطف مغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه ، وإعادة اللام أيضا في قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) للتأكيد أيضا إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة.

والقول في الاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) نظير القول آنفا في

٢٢٣

قوله : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون : ٧].

وعدل عن الإضمار في قوله : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ). وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل.

وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلا بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوما فيوما وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩))

انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم ، إلى الإقبال على خطاب المؤمنين بنهيهم عما شأنه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى ، ثم الأمر بالإنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم ، لئلا يستهويهم قول المنافقين (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [المنافقين : ٧] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يدرى وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) [المنافقون : ١٠] ، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأموال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق.

ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي.

وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالا يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها ، تشغل عن ذكره أيضا بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.

وأما ذكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شئونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة

٢٢٤

فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.

وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإلهاء عن الذكر ، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها ، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله ، فنزّل سبب الإلهاء منزلة اللّاهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا.

و (لا) في قوله : (وَلا أَوْلادُكُمْ) نافية عاطفة (أَوْلادُكُمْ) على (أَمْوالُكُمْ) ، والمعطوف عليه مدخول (لا) الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف (لا) الناهية أصلها (لا) النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملا على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال.

و (ذِكْرِ اللهِ) مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوة القرآن ، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحضار امتثاله قال عمر بن الخطاب : «أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه».

وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب.

وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ، دليل على قول علماء أصول الفقه «النهي اقتضاء كفّ عن فعل».

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد ، أي ومن يله عن ذكر الله ، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله ، أي مراعاة أوامره ونواهيه.

ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه.

وأفاد ضمير الفصل في قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قصر صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نهوا عنه ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسرانا بالنسبة إلى خسرانهم.

٢٢٥

والإشارة إليهم ب (فَأُولئِكَ) للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة ، أعني اللهو عن ذكر الله.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠))

هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [المنافقون : ٧] ، وهو يعمّ الإنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإنفاق على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل.

وفعل (أَنْفِقُوا) مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل ، مطلق الطلب ، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.

وفي قوله : (مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله ، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة.

و (مِنْ) للتبعيض ، أي بعض ما رزقناكم ، وهذه توسعة من الله على عباده ، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة ، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات ، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى ، وفي الحديث «الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار».

وقد ذكّر الله المؤمنين بما في الإنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت ، أي قبل تعذر الإنفاق والإتيان بالأعمال الصالحة ، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويغلب على قواه فيسأل الله أن يؤخر موته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعا أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له ، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير.

و (لَوْ لا) حرف تحضيض ، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه ، ويستعمل

٢٢٦

(لَوْ لا) للعرض أيضا والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) في سورة يونس [٩٨].

وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعا وإنما جاء ماضيا هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وقرينة ذلك ترتيب فعلي (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) عليه.

والمعنى : فيسأل المؤمن ربه سؤالا حثيثا أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح.

ووصف الأجل ب (قَرِيبٍ) تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسئول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا ، ولذلك ورد في الحديث «لا يقولنّ أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة فإنه لا مكره له». تنبيها على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.

وانتصب فعل (فَأَصَّدَّقَ) على إضمار (أن) المصدرية إضمارا واجبا في جواب الطلب.

وأما قوله : (وَأَكُنْ) فقد اختلف فيه القراء.

فأما الجمهور فقرأوه مجزوما بسكون آخره على اعتباره جوابا للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه ، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفردا على مفرد. وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط. فتقديره : إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين ، جمعا بين التسبب المفاد بالفاء ، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل.

وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقع أحدهما بعد فاء السببية والآخر بعد الواو العاطفة عليه. فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى محسن الاحتباك. فكأنه قيل : لو لا أخرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكون من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصّدّق وأكن من الصالحين.

ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حثّ سؤاله أعقبه بأن الأمر ممكن فقال : إن تؤخرني إلى أجل قريب أصّدق وأكن من الصالحين. وهو من بدائع

٢٢٧

الاستعمال القرآني لقصد الإيجاز وتوفير المعاني.

ووجّه أبو علي الفارسي والزجاج قراءة الجمهور بجعل (وَأَكُنْ) معطوفا على محل (فَأَصَّدَّقَ). وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة وأكون بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة. وقيل : إنها يوافقها رسم مصحف أبيّ بن كعب ومصحف ابن مسعود.

وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة ، ورويت عن مالك بن دينار وابن جبير وأبي رجاء. وتلك أقل شهرة.

واعتذر أبو عمرو عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصارا يريد أنهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتمادا على نطق القارئ كما تحذف الألف اختصارا بكثرة في المصاحف. وقال القراء العرب : قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه ، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داود وبكثرة يكتبونه داود. قال الفراء : ورأيت في مصاحف عبد الله «فقولا» نقلا بغير واو ، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن ملتقىّ بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها).

اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيرا للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد. فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي استجاب لأن الله قدر الآجال.

وهذا سر عظيم لا يعلم حكمة تحديده إلا الله تعالى.

والنفس : الروح ، سميت نفسا أخذا من النفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة ، فسميت النفس نفسا لأن النفس يتولد منها ، كما سمي مرادف النفس روحا لأنه مأخوذ الروح بفتح الراء لأن الرّوح به. قاله أبو بكر بن الأنباري.

٢٢٨

و (أَجَلُها) الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإنساني.

ويجوز أن يراد بالنفس الذات ، أي شخص الإنسان وهو من معاني النفس. كما في قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] وأجلها الوقت المعيّن مقداره لبقاء الحياة.

و (لَنْ) لتأكيد نفي التأخير ، وعموم (نَفْساً) في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم.

ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حيا بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة.

وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت ، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه ، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال ، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات ، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل الصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

عطف على جملة (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) [المنافقون : ٩]. أو تذييل والواو اعتراضية.

ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيق علم الله بما يعمله المؤمنون. ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوّي راجعا إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإنفاق المأمور به منه الواجب المندوب. وفعلهما يستحق الوعد. وترك أولهما يستحق الوعيد.

وإيثار وصف (خَبِيرٌ) دون : عليم ، لما تؤذن به مادة (خَبِيرٌ) من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيّات ، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعا ممتدا كالعمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طروّ مانع. وكالوقت المختار للصلوات ، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يرزئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزبا أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره.

٢٢٩

ومن هذا القبيل : أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصّحيح.

وقرأ الجمهور (بِما تَعْمَلُونَ) بالمثناة الفوقية. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائدا إلى (نَفْساً) الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى.

٢٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٤ ـ سورة التغابن

سميت هذه السورة «سورة التغابن» ، ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن». والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [التغابن : ٤] فتأمله. ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية.

ووجه التسمية وقوع لفظ (التَّغابُنِ) [التغابن : ٩] فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.

وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية. وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس «أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الحديث. وقال مجاهد : نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي.

وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصّف بناء على أنها مدنية.

وعدد آيها ثماني عشرة.

أغراضها

واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله ، أي ينزهونه عن النقائص تسبيحا متجددا.

وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بإفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن

٢٣١

بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمه إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حلّ بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم.

والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته.

وأنحى عليهم إنكار البعث وبيّن لهم عدم استحالته وهدّدهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها.

ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم.

وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبّطوهم عن الإيمان والهجرة.

وعرّض لهم بالصّبر على أموالهم التي صادرها المشركون.

وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

لما كان جلّ ما اشتملت عليه هذه السورة إبطال إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتدئت السورة بالإعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم ، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص : إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين ، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإيجاد والإمداد كحاجة

٢٣٢

الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها. وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنقائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإنس والشياطين فإنهم حجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر.

فالمعنى : يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك.

وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويكون لهم تعليما وامتنانا ويفيد ثانيا بطريق الكناية تعريضا بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء.

وجيء بفعل التسبيح مضارعا للدلالة على تجدّد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة.

وجيء به في فواتح سور : الحديد ، والحشر ، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان. فحصل من هذا التفنن في فواتح هذه السورة كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة ، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة.

وإعادة (ما) الموصولة في قوله : (وَما فِي الْأَرْضِ) لقصد التوكيد اللفظي.

وجملة (لَهُ الْمُلْكُ) استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائص لا مقتضى لها إلا انفراده بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه.

وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح.

فتقديم المسند على المسند إليه لإفادة تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوّه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه

٢٣٣

تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك.

وجملة (وَلَهُ الْحَمْدُ) مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض ، إذ التسبيح من الحمد ، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإدراك مختصا به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح.

فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده» وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضا مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها ، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر ، قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة.

وجملة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما ، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق.

وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين.

والاقتصار على ذكر وصف (قَدِيرٌ) هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولا لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢))

هذا تقرير لما أفاده قوله : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [التغابن : ١] ، وتخلص للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له. ولذلك قدم (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) على (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضا وتصريحا.

وأفاد تعريف الجزأين من جملة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) قصر صفة الخالقية على الله تعالى ، وهو قصر حقيقي قصد به الإشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فما كانت مستحقة لأن تعبد ، لأن العبادة شكر. قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

٢٣٤

والخطاب في قوله : (خَلَقَكُمْ) لجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) ، فإن الناس لا يعدون هذين القسمين.

والفاء في (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) عاطفة على جملة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) وليست عاطفة على فعل (خَلَقَكُمْ) وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.

ونظيره قوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ٢٦] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] فجملة (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) هي المقصود من التفريع ، وهو تفريع في الحصول ، وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [التغابن : ٥].

وجملة (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) تتميم وتنويه بشأن أهل الإيمان ومضادّة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تتميم واحتراس واستطراد ، فهو تتميم لما يكمّل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك. ودون تفصيل هذا تطويل نخصه بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله. ونقتصر هنا على أن نقول : خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقدرة العبد (والخلاف في التعبير). وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد ، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كلّ لأن النظم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح ، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سمي بالكسب على أصولنا أو بالقدرة الحادثة على أصول المعتزلة ، بل جعل بحكمته بين الخلق والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة ، وقد أشار إلى هذا قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي هو بصير به من قبل أن تعملوه ، وبعد أن عملتموه.

٢٣٥

فالبصير : أريد به العالم علم انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شائع في القرآن لا سيما إذا أفردت صفة (بَصِيرٌ) بالذكر ولم تذكر معها صفة «سميع».

واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة : العالم بالمرئيات. وقال بعضهم : هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها. والحق أنها استعمالات مختلفة. وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبار من السنة فاجعلوه مثالا يحتدى ، وقولوا هكذا. هكذا.

وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠].

وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد.

وشمل قوله : (بِما تَعْمَلُونَ) أعمال القلوب كالإيمان وهي المقصود ابتداء هنا.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] يبيّن أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم ، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦]. وقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] فمن حاد عن الإيمان ومال إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة.

(بِالْحَقِ).

وقوله : (بِالْحَقِ) معترض بين جملة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وجملة (وَصَوَّرَكُمْ).

وفي قوله : (بِالْحَقِ) إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل (خَلَقَ) تعلّق الملابسة المفاد بالباء ، أي خلقا ملابسا للحق ، والحق ضد الباطل ، ألا

٢٣٦

ترى إلى قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩٠ ، ١٩١]. والباطل مصدقه هنالك هو العبث لقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٨ ، ٣٩] فتعين أن مصدق الحقّ في قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أنه ضد العبث والإهمال.

والمراد ب (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) خلق ذواتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحقّ ، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة.

وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضا لمعنى ملابسة خلقها للحقّ ، فكان نفي البعث للجزاء على أعمال المخلوقات موجبا اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال. وتخلّف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيرا ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة ، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثير من أهل الصلاح غير لاق جزاء على صلاحه. وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعا بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته ، فكان خلق كلا هذين الفريقين غير ملابس للحق ، بالمعنى المراد.

ولزيادة الإيقاظ لهذا الإيمان عطف عليه قوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن : ٧] الآية.

وفي قوله : (بِالْحَقِ) رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد.

وفي قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ) إلى آخره إظهار أيضا لعظمة الله في ملكوته.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).

إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يناكد محاسن سائرها بخلاف محاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطير والحيتان من مشي على أربع مع انتكاس الرأس غالبا ، أو زحف ، أو نقز في

٢٣٧

المشي في البعض.

ولا تعتور الإنسان نقائص في صورته إلا من عوارض تعرض في مدة تكوينه من صدمات لبطون الأمهات ، أو علل تحلّ بهن ، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور. فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإنعام. وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥] ، وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١].

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

عطف على جملة (وَصَوَّرَكُمْ) لأن التصوير يقتضي الإيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإيجاد فناء ثم بعثا للجزاء.

والمصير مصدر ميمي لفعل صادر بمعنى رجع وانتهى ، ولذلك يعدّى بحرف الانتهاء ، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء.

وتقديم (إِلَيْهِ) على (الْمَصِيرُ) للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مرادا بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بله أن يدّعوا أنه مصير إلى غيره حتى يردّ عليهم بالقصر.

وهذه الجملة أشد ارتباطا بجملة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) منها بجملة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كما يظهر بالتأمل.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها. (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] ، فكان قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) دحضا لشبهتهم ، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها. والذي يعلم السرّ في نفس الإنسان ، والسرّ أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة ، لا تخفى

٢٣٨

عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٣ ، ٤].

فالمقصود هو قوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح ، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح. وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) تهديدا على ما يبطنه الناس من الكفر.

وأما عطف (وَما تُعْلِنُونَ) فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال.

وقد تضمن قوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) وعيدا ووعدا ناظرين إلى قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢].

وإعادة فعل (يَعْلَمُ) للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تنبيها على الوعيد والوعد بوجه خاص.

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل لجملة (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) لأنه يعلم ما يسرّه جميع الناس من المخاطبين وغيرهم.

وذات الصدور صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها ، أي صاحبات الصدور ، أي المكتومة فيها.

والتقدير : بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) [القمر : ١٣] وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في سورة الأنفال [٤٣].

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥))

انتقال من التعريض الرمزي بالوعيد الأخروي في قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [التغابن : ٢] ، إلى قوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [التغابن : ٣] ، وقوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [التغابن : ٤] ، إلى تعريض أوضح منه بطريق الإيماء إلى وعيد لعذاب دنيوي وأخروي معا فإن ما يسمّى في باب الكناية بالإيمان أقل لوازم من التعريض والرمز فهو أقرب إلى التصريح. وهذا الإيماء بضرب المثل بحال أمم تلقوا رسلهم بمثل ما تلقّى به المشركون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٣٩

تحذيرا لهم من أن يحلّ بهم مثل ما حلّ بأولئك ، فالجملة ابتدائية لأنها عدّ لصنف ثان من أصناف كفرهم وهو إنكار الرسالة.

فالخطاب لخصوص الفريق الكافر بقرينة قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) فهذا الخطاب موجه للمشركين الذين حالهم كحال من لم يبلغهم نبأ الذين كفروا مثل كفرهم ، مثل عاد وثمود ومدين وقوم إبراهيم.

والاستفهام تقريري ، والتقريري يؤتى معه بالجملة منفية توسعة على المقرر إن كان يريد الإنكار حتى إذا أقرّ لم يستطع بعد إقراره إنكارا لأنه قد أعذر له من قبل بتلقينه النفي وقد تقدم غير مرة.

وحذف ما أضيف إليه (قَبْلُ) ونوى معناه ، والتقدير : من قبلكم ، أي في الكفر بقرينة قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) [التغابن : ٢]. والكافرون يعلمون أنهم المقصود لأنهم مقدمون على الكفر ومستمرون عليه.

والوبال : السوء وما يكره.

والأمر : الشأن والحال.

والذّوق مجاز في مطلق الإحساس والوجدان ، شبه ما حلّ بهم من العذاب بشيء ذي طعم كريه يذوقه من حلّ به ويبتلعه لأن الذوق باللسان أشد من اللمس باليد أو بالجلد.

والمعنى : أحسوا العذاب في الدنيا إحساسا مكينا.

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مراد به عذاب الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريب من الصريح. وهو المسمى في الكناية بالإشارة. كانت مقالة الذين من قبل مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال.

فاسم الإشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم.

٢٤٠