تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وأصحابه : له صلاة الظهر مطلقا حتى لو خرج بعد أن صلّى الظهر أو لم يخرج لم يبطل فرضه ، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظهره بمجرد السعي مطلقا وعند صاحبيه لا يبطل ظهره إلا إذا أدرك الجمعة.

وقال مالك والشافعي : لا يجوز أن يصلّي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعة أم لا ، خرج إليها أم لا (يعني فإن أدرك الجمعة فالأمر ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهرا آخر).

والنداء للصلاة : الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في «الصحيح» عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر. قال السائب بن يزيد : فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذانا على الزوراء (الزوراء موضع بسوق المدينة). وربما وصف في بعض الرّوايات بالأذان الثاني. ومعنى كونه ثانيا أنه أذان مكرّر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أن يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإمام على المنبر ، أي يؤذن به في باب المسجد ، إذ لم يكن للناس يومئذ صومعة ، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يعنى بذلك أنه ثالث بضميمة الأذان الأول. ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليسمع النداء من في أطراف المدينة ، وربما سموه الأذان الأول.

والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذّن به عقب الأذان الأول ، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولا ثم يخرج الإمام فيؤذن بالأذان بين يديه.

قال ابن العربي في «العارضة» : «لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداء على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أذّن الثاني الذي كان أولا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يخطب. ثم يؤذّن الثالث يعني به الإقامة» اه.

وقال في «الأحكام» : «وسمّاه في الحديث (أي حديث السائب بن يزيد) ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة ، (أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإقامة مشروعة وسمّى الإقامة أذانا مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة) كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين كل أذانين صلاة لمن شاء» يعني بين الأذان والإقامة ، فتوهم الناس أنه أذان أصليّ فجعلوا

٢٠١

الأذانات ثلاثة فكان وهما. ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم اه. فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة.

قال ابن العربي في «العارضة» : فأما بالمغرب (أي بلاد المغرب) فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين قال في «الرسالة» : «وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية» فوصفه بالثاني وهو التحقيق ، ولكنه نسبه إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان ، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يروه مسلم ولا مالك في «الموطأ».

والسبب في نسبته إلى بني أمية : أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يؤذّن للجمعة إلا أذانا واحدا كما كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألغى الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة. فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعض خلفاء بني أمية قال مالك في «المجموعة» : إن هشام بن عبد الملك أحدث أذانا ثانيا بين يديه في المسجد.

واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي في هذه الآية هو النداء الأول ، وما كان النداء الثاني إلا تبليغا للأذان لمن كان بعيدا فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نودي للجمعة.

والسعي : أصله الاشتداد في المشي. وأطلق هنا على المشي بحرص وتوقي التأخر مجازا.

و (ذِكْرِ اللهِ) فسر بالصلاة وفسر بالخطبة ، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. قال أبو بكر بن العربي «والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة».

قلت : وإيثار (ذِكْرِ اللهِ) هنا دون أن يقول : إلى الصلاة ، كما قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة. وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة. وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلّا في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر.

وفي حديث «الموطأ» «فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتدأ بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية. وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق

٢٠٢

منهم الجمعة إقبالا على عير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١].

ومثل البيع كل ما يشغل عن السعي إلى الجمعة ، وبعد كون البيع وما قيس عليه منهيا عنه فقد اختلف في فسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة. وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه ، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لدليل. وقول مالك في «المدونة» : إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ. وقال الشافعي : لا يفسخ. وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضا.

وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة : ففي «العتيبة» عن ابن القاسم : لا يفسخ. ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجبا لفسخ المقيس. وكذلك قال أئمة المالكية : لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع.

وخطاب الآية جميع المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان. وشذ قوم قالوا : إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس : ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه ، فنزّل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء.

ويجوز كون (مِنْ) للظرفية مثل التي في قوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] ، أي فيها من المخلوقات الأرضية.

والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى المذكور ، أي ما ذكر من أمر بالسعي إليها ، وأمر بترك البيع حينئذ ، أي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات. فلفظ (خَيْرٌ) اسم تفضيل أصله : أخير ، حذفت همزته لكثرة الاستعمال. والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمفضل : الصلاة ، أي ثوابها. والمفضل عليه : منافع البيع للبائع والمشتري.

وإنما أعقب بقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ

٢٠٣

فَضْلِ اللهِ تنبيها على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة ، وذكر الله. والأمر في (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) للإباحة.

والمراد ب (فَضْلِ اللهِ) : اكتساب المال والرزق.

وأما قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله ، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

عطف على جملة (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] الآية. عطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسلكت في المعطوفة طريقة الالتفات لخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذانا بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من عز الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين ، وفيه تعريض بالتوبيخ.

ومقتضى الظاهر أن يقال : وإذا رأيتم تجارة أو لهوا فلا تنفضّوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفرا منهم بقوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.

وفي «الصحيح» عن جابر بن عبد الله قال : «بينما نحن نصلّي مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير من الشام تحمل طعاما فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم». وفي رواية : وفيهم أبو بكر وعمر ، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) اه. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وجابر بن عبد الله ، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر : «أنه قال ليس مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أربعون رجلا».

٢٠٤

وعن مجاهد ومقاتل : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس». وفي رواية «أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام». وفي رواية «وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يسبقوا إلى ذلك». وقال جابر بن عبد الله «كانت الجواري إذا نكحن يمرّرن بالمزامير والطّبل فانفضّوا إليها» ، فلذلك قال الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) ، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات ، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العير وتارة لحضور اللهو.

وروي أن العير نزلت بموضع يقال له : أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال : بتجارة الزيت.

وضمير (إِلَيْها) عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم ، أو عمرو بن الحارث بن امرئ القيس :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

ولعل التقسيم الذي أفادته (أَوْ) في قوله : (أَوْ لَهْواً) تقسيم لأحوال المنفضّين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليمتاروا لأهلهم ، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.

و (إِذا) ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣] وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) [التوبة : ٩٢] الآية.

والانفضاض : مطاوع فضّه إذا فرقه ، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة ، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧].

وقوله : (أَوْ لَهْواً) فيه للتقسيم ، أي منهم من انفضّ لأجل التجارة ، ومنهم من انفضّ لأجل اللهو ، وتأنيث الضمير في قوله : (إِلَيْها) تغليب للفظ (تجارة) لأن التجارة

٢٠٥

كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.

وجملة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي تركوك قائما على المنبر. وذلك في خطبة الجمعة ، والظاهر أنها جملة حالية ، أي تركوك في حال الموعظة والإرشاد فأضاعوا علما عظيما بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل : وتركوا الصلاة.

وأمر الله نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة ، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيرا ، وربّ رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح ، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) [نوح : ١٠ ـ ١٢].

وذيل الكلام بقوله : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليما من الأكدار والآثام ، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة ، وليس غير الله قادرا على ذلك ، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر.

٢٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٣ ـ سورة المنافقون

سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير «سورة المنافقين» اعتبارا بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها.

ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله : «فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين». وسيأتي قريبا ، وروى الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين ، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين».

ووقع في «صحيح البخاري» وبعض كتب التفسير تسميتها «سورة المنافقون» على حكاية اللفظ الواقع في أولها وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية والمشرقية.

وهي مدنية بالاتفاق.

واتفق العادّون على عدّ آيها إحدى عشرة آية.

وقد عدّت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة.

والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في «جامع الترمذي» عن محمد بن كعب القرظي «أنها نزلت في غزوة تبوك». ووقع فيه أيضا عن سفيان : أن ذلك في غزوة بني المصطلق» (وغزوة بني المصطلق سنة خمس ، وغزوة تبوك سنة تسع).

ورجّح أهل المغازي وابن العربي في «العارضة» وابن كثير : أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر. لأن قول عبد الله بن أبيّ ابن سلول : «ليخرجن الأعز منها الأذلّ» ، يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف

٢٠٧

وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوءة وقد ضعف أمر المنافقين.

وسبب نزولها «ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال : كنا في غزاة فكسع (١) رجل من المهاجرين رجلا جهنيّا حليفا للأنصار فقال الجهني : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين : فسمع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، قالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال : «دعوها فإنها منتنة» (أي اتركوا دعوة الجاهلية : يا آل كذا) فسمع هذا الخبر عبد الله بن أبيّ فقال : أقد فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ». وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، قال زيد بن أرقم : فسمعت ذلك فأخبرت به عمي فذكره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فكذّبني رسول الله وصدّقه فأصابني همّ لم يصبني مثله فقال عمّي : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله ، وفي رواية : إلى أن كذّبك ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي : «إن الله قد صدقك».

وفي رواية للترمذي في هذا الحديث : «أن المهاجريّ أعرابيّ وأن الأنصاريّ من أصحاب عبد الله بن أبيّ ، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجّه ، وأن عبد الله بن أبيّ قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» يعني الأعراب ، وذكر أهل السير أن المهاجريّ من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب. وأن الأنصاريّ جهني اسمه سنان حليف لابن أبيّ ، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة. واضطراب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها ؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة.

وذكر الواحدي في «أسباب النزول» : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى عبد الله بن أبيّ وقال له : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ، فقال عبد الله بن أبيّ : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكاذب.

والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبيّ في سورة غضب تهييجا لقومه ثم خشي انكشاف نفاقه فأنكرها.

وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه وإنما قالها ابن أبيّ في سورة

__________________

(١) كسع ضربه على دبره ، وكان ذلك لخصومة في حوض ماء شربت منه ناقة الأنصاري.

٢٠٨

الناصح كما سيأتي في تفسير حكايتها.

وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب ، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة أو قبلها بقليل وهو بعيد.

أغراضها

فضح أحوال المنافقين بعدّ كثير من دخائلهم وتولد بعضها عن بعض من كذب ، وخيس بعهد الله ، واضطراب في العقيدة ، ومن سفالة نفوس في أجسام تغر وتعجب ، ومن تصميم على الإعراض عن طلب الحق والهدى ، وعلى صد الناس عنه ، وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح ب (إِذا) خصّ بغرض من هذه الأغراض. وقد علمت أن ذلك جرّت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أبيّ ابن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله.

وختمت بموعظة المؤمنين وحثهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل.

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١))

لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجري والأنصاري ومقالة عبد الله بن أبيّ في شأن المهاجرين. تعيّن أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبيّ وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعمّ المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» ومراده مولى بريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أمّ المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له ، وابتدئ بتكذيب من أريد تكذيبه في ادعائه الإيمان بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعارا بأن الله أطلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دخائلهم ، وهو تمهيد لما بعده من قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أن المنافقين قالوا : نشهد إنك لرسول الله.

فيجوز أن يكون قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) محكيا بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة.

ويجوز أن يكونوا تواطئوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإسلام. وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة (قالُوا) دون نحو : زعموا.

و (إِذا) ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماضيتين ، والظرف متعلق بفعل

٢٠٩

(قالُوا) وهو جواب (إِذا).

فالمعنى : إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله.

و (نَشْهَدُ) خبر مؤكّد لأن الشهادة الإخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة ، والمعاينة أقوى طرق العلم ، ولذلك كثر استعمال : أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم. وكثر أن يجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله ابن عطية. ومعنى ذلك : أن قوله : (نَشْهَدُ) ليس إنشاء. وبعض المفسرين جعله صيغة يمين. وروي عن أبي حنيفة.

والمقصود من قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) إعلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوحي تعيينهم أو تعيين بعضهم.

و (الْمُنافِقُونَ) جمع منافق وهو الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلا في سورة آل عمران.

وجملة (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) بيان لجملة (نَشْهَدُ).

وجملة (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أنه تكذيب لجملة (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) فإن المسلمين كانوا يومئذ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجّيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضيا دفع الإيهام وهذا من الاحتراس.

وعلق فعل (يَعْلَمُ) عن العمل لوجود (إنّ) في أول الجملة وقد عدوا (إنّ) التي في خبرها لام ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل (إنّ) ولكنها زحلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكّدين متصلين ، وأخذ ذلك من كلام سيبويه.

وجملة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) عطف على جملة (قالُوا نَشْهَدُ).

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم.

وجيء بفعل (يَشْهَدُ) في الإخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم.

٢١٠

والكذب : مخالفة ما يفيده الخبر للواقع في الخارج ، أي الوجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا أنهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولهم ما في نفوسهم. وبهذا بطل احتجاج النظّام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى : (قالُوا نَشْهَدُ). وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في «تلخيص المفتاح» وفي «الإيضاح».

وجملة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) مبنية لجملة (يَشْهَدُ) مثل سابقتاها.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢))

استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] يثير في أنفس السامعين سؤالا عن أيمانهم لدى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن.

والجنة : ما يستتر به ويتّقى ومنه سميت الدرع جنة.

والمعنى : جعلوا أيمانهم كالجنّة يتّقي بها ما يلحق من أذى. فلما شبهت الأيمان بالجنّة على طريقة التشبيه البليغ ، أتبع ذلك بتشبيه الحلف باتخاذ الجنة ، أي استعمالها ، ففي (اتَّخَذُوا) استعارة تبعية ، وليس هذا خاصا بحلف عبد الله بن أبيّ أنه قال : «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ، كما تقدم في ذكر سبب نزولها ، بل هو أعمّ ، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) الآية على حقيقتها ، أي اتخذ المنافقون كلّهم أيمانهم جنة ، أي كانت تلك تقيتهم ، أي تلك شنشنة معروفة فيهم.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد أمنوا اتّهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صدّ عن سبيل الله ، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها.

وفعل (صدّوا) هنا قاصر الذي قياس مضارعه يصدّ بكسر الصاد.

٢١١

وجملة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل لتفظيع حالهم عن السامع. وساء من أفعال الذم تلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعلها عن فعل المفتوح العين إلى فعل المضمومها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب «الكشاف» وأشار إليه صاحب «التسهيل».

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

جملة في موضع العلة لمضمون جملة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) [المنافقون : ٢].

والإشارة إلى مضمون قوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المنافقون : ٢] ، أي سبب إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها ، هو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى ، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرأت أنفسهم على الجرائم وضريت بها ، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير.

فقوله : (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) خبر عن اسم الإشارة. ومعنى الباء السببية. و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فإن إبطال الكفر مع إظهار الإيمان أعظم من الكفر الصريح. وأن كفرهم أرسخ فيهم من إظهار أيمانهم.

ويجوز أن يراد مع ذلك التراخي في الزمن وهو المهلة.

فإسناد فعل (آمَنُوا) إليهم مع الإخبار عنهم قبل ذلك بأنهم كاذبون في قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] مستعمل في حقيقته ومجازه فإن مراتب المنافقين متفاوتة في النفاق وشدة الكفر فمنهم من آمنوا لما سمعوا آيات القرآن أو لاحت لهم أنوار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تثبت في قلوبهم. ثم رجعوا إلى الكفر للوم أصحابهم عليهم أو لإلقائهم الشك في نفوسهم قال ابن عطية : وقد كان هذا موجودا. قلت : ولعل الذين تابوا وحسن إسلامهم من هذا الفريق. فهؤلاء إسناد الإيمان إليهم حقيقة.

ومنهم من خالجهم خاطر الإيمان فترددوا وقاربوا أن يؤمنوا ثم نكصوا على أعقابهم فشابه أول حالهم حال المؤمنين حين خطور الإيمان في قلوبهم.

ومنهم من أظهروا الإيمان كذبا وهذا هو الفريق الأكثر. وليس ما أظهروه في شيء من الإيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] فسمّاه إسلاما ولم يسمّه إيمانا. ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا

٢١٢

وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]. وإطلاق اسم الإيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل (يَحْذَرُ) في قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) الآية ، في سورة براءة [٦٤].

وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون (ثُمَ) مستعملا في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل (آمَنُوا).

ولو حمل المنافقون على واحد معيّن وهو عبد الله بن أبيّ جاز أن يكون ابن أبيّ آمن ثم كفر فيكون إسناد (آمَنُوا) حقيقة وتكون (ثُمَ) للتراخي في الزمان.

وتفريع (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) على قوله : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) ، فصار كفرهم بعد الإيمان على الوجوه السابقة سببا في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية ، وسببا في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فاء التفريع.

والفقه : فهم للحقائق الخفية.

والمعنى : أنهم لا يدركون دلائل الإيمان حتى يعلموا حقّيته.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

هذا انتقال إلى وضح بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم ، فكان الوضح الأول مفتتحا ب (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون: ١] وهذا الوضح مفتتحا ب (إِذا رَأَيْتَهُمْ).

فجملة (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) معطوفة على جملة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون : ٣] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم.

واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية :

لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ

جسم البغال وأحلام العصافير

وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين

٢١٣

لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي. ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنه أن يكون كمالا. فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فرّبما انقلب الحسن موجب نقص.

فالخطاب في هذه الآية لغير معيّن يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغرّه صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة الكهف [١٨](لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).

والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معيّن أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور. وعن ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان. وقال الكلبي : المراد ابن أبيّ والجد بن قيس ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وقال في «الكشاف» : وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أبيّ رؤساء المدينة.

وأجسام : جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإشارة إليه أو ما له طول وعرض وعمق. وتقدم في قوله تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) في سورة البقرة [٢٤٧]. وجملة (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) معترضة بين جملة (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) إلخ وبين جملة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

والمراد بالسّماع في قوله : (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) الإصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين.

فاللام في قوله : (لِقَوْلِهِمْ) لتضمين (تَسْمَعْ) معنى : تصغ أيها السامع ، إذ ليس في الإخبار بالسماع للقول فائدة لو لا أنه ضمن معنى الإصغاء لوعي كلامهم.

وجملة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم ، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف.

ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله : (رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ).

ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين.

٢١٤

و (خُشُبٌ) بضم الخاء وضم الشين جمع خشبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثمرة ، وقيل : ثمر جمع ثمار الذي هو جمع ثمرة فيكون ثمر جمع جمع. فيكون خشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع مفرده. ويقال : خشب بضم فسكون وهو جمع خشبة لا محالة ، مثل : بدن جمع بدنة.

وقرأه الجمهور بضمتين. وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بضمة فسكون.

والمسنّدة التي سندت إلى حائط أو نحوه ، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار. شبهوا بالخشب المسنّدة تشبيه التمثيل في حسن المرأى وعدم الجدوى ، أفيد بها أن أجسامهم المعجب بها ومقالهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخلوّ الخشب المسنّدة عن الفائدة ، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لبّ وشجاعة وعلم ودراية. وإذا اختبرتموهم وجدّتموهم على خلاف ذلك فلا تحتفلوا بهم.

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموّه ، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.

وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم ، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.

والصيحة : المرة من الصياح ، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجّسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإيقاع بهم.

و (كُلَ) هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجّسون خوفا من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله :

بها كل ذيّال وخنساء ترعوي

إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

وقوله : (عَلَيْهِمْ) ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل (يَحْسَبُونَ) وليس متعلقا ب (صَيْحَةٍ).

٢١٥

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ).

يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالا عن سبب هلعهم وتخوفهم من كلّ ما يتخيّل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألدّاء للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهم

ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لجملة (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) على هذا المعنى أيضا.

ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لذكر حالة من أحوالهم تهم المسلمين معرفتها ليترتب عليها تفريع (فَاحْذَرْهُمْ) وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم.

والتعريف في (الْعَدُوُّ) تعريف الجنس الدال على معيّن كمال حقيقة العدوّ فيهم ، لأن أعدى الأعادي العدوّ المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم.

و (الْعَدُوُّ) : اسم يقع على الواحد والجمع. والمراد : الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم.

(قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

تذييل فإنه جمع على الإجمال ما يغني عن تعداد مذامّهم (كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣] ، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعدولهم عن الحق.

فافتتح التعجيب منهم بجملة أصلها دعاء بالإهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جرّه صاحبه لنفسه فإن كثيرا من

٢١٦

الكلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروه مثل قولهم : ثكلته أمه ، وويل أمّه. وتربت يمينه. واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك ، إذ لا نفع له ولا للناس في بقائه ، ثم الملازمة بين الدعاء بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال. فهي ملازمة بمرتبتين كناية رمزية.

و (أَنَّى) هنا اسم استفهام عن المكان. وأصل (أَنَّى) ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته ، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى (كيف) كقوله تعالى : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) في سورة عمران [١٦٥] ، وفي قوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) في سورة الدخان [١٣]. ومنه قوله هنا (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله.

فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته. فجملة (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة (قاتَلَهُمُ اللهُ).

و (يُؤْفَكُونَ) يصرفون يقال : أفكه ، إذا صرفه وأبعده ، والمراد : صرفهم عن الهدى ، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى ، أو كيف أمكن لمضليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله.

وتقدم نظير هذه الآية في سورة براءة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥))

هذا حالهم في العناد ومجافاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعراض عن التفكر في الآخرة ، بله الاستعداد للفوز فيها.

و (تَعالَوْا) طلب من المخاطب بالحضور عند الطالب ، وأصله فعل أمر من التعالي ، وهو تكلف العلو ، أي الصعود ، وتنوسي ذلك وصار لمجرد طلب الحضور ، فلزم حالة واحدة فصار اسم فعل ، وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآية في سورة الأنعام [١٥١].

وهذا الطلب يجعل (تَعالَوْا) مشعر بأن هذه حالة من أحوال انفرادهم في جماعتهم

٢١٧

فهي ثالث الأغراض من بيان مختلف أنواع تلك الأحوال ، وقد ابتدأت ب (إِذا) كما ابتدئ الغرضان السابقان ب (إِذا إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون : ١]. و (إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) [المنافقون : ٤].

والقائل لهم ذلك يحتمل أن يكون بعض المسلمين وعظوهم ونصحوهم ، ويحتمل أنه بعض منهم اهتدى وأراد الإنابة.

قيل المقول له هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول على نحو ما تقدم من الوجوه في ذكر المنافقين بصيغة الجمع عند قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) [المنافقون : ١] وما بعده.

والمعنى : اذهبوا إلى رسول الله وسلوه الاستغفار لكم. وهذا بدل دلالة اقتضاء على أن المراد توبوا من النفاق وأخلصوا الإيمان وسلوا رسول الله ليستغفر لكم ما فرط منكم ، فكان الذي قال لهم ذلك مطّلعا على نفاقهم وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة [١٣](وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ).

وليس المراد من الاستغفار الصفح عن قول عبد الله بن أبيّ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). لأن ابن أبيّ ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبرأ من أن يكون قال ذلك ولأنه لا يلتئم مع قوله تعالى : (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦].

وليّ الرءوس : إمالتها إلى جانب غير وجاه المتكلم. إعراضا عن كلامه ، أي أبوا أن يستغفروا لأنهم ثابتون على النفاق ، أو لأنهم غير راجعين فيما قالوه من كلام بذيء في جانب المسلمين ، أو لئلا يلزموا بالاعتراف بما نسب إليهم من النفاق.

وقرأ الجمهور (لَوَّوْا) بتشديد الواو الأولى مضاعف لوى للدلالة على الكثرة فيقتضي كثرة اللي منهم ، أي لوى جمع كثير منهم رءوسهم ، وقرأه نافع وروح عن يعقوب بتخفيف الواو الأولى اكتفاء بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة.

والخطاب في (وَرَأَيْتَهُمْ) لغير معيّن ، أي ورأيتهم يا من يراهم حينئذ.

وجملة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) في موضع الحال من ضمير يصدون ، أي يصدون صدّ المتكبر عن طلب الاستغفار.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

٢١٨

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

جملة معترضة بين حكاية أحوالهم نشأت لمناسبة قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) [المنافقون : ٥] إلخ.

واعلم أن تركيب : سواء عليه أكذا أم كذا ، ونحوه مما جرى مجرى المثل فيلزم هذه الكلمات مع ما يناسبها من ضمائر المخبر عنه. ومدلوله استواء الأمرين لدى المجرور بحرف (على) ، ولذلك يعقّب بجملة تبين جهة الاستواء كجملة (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وجملة (لا يُؤْمِنُونَ) في سورة البقرة [٦]. وقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يس [١٠] وأما ما ينسب إلى بثينة في رثاء جميل بن معمر من قولها :

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا متّ بأساء الحياة ولينها

فلا أحسبه صحيح الرواية.

وسواء اسم بمعنى مساو يعامل معاملة الجامد في الغالب فلا يتغير خبره نقول : هما سواء ، وهم سواء. وشذ قولهم : سواءين.

و (على) من قوله : (عَلَيْهِمْ) بمعنى تمكّن الوصف. فالمعنى : سواء فيهم.

وهمزة (أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) أصلها همزة استفهام بمعنى : سواء عندهم سؤال السائل عن وقوع الاستغفار لهم وسؤال السائل عن عدم وقوعه. وهو استفهام مجازي مستعمل كناية عن قلة الاعتناء بكلا الحالين بقرينة لفظ سواء ولذلك يسمي النحاة هذه الهمزة التسوية. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) في سورة البقرة [٦] ، أي سواء عندهم استغفارك لهم وعدمه. ف (على) للاستعلاء المجازي الذي هو التمكن والتلبس فتؤول إلى معنى (عند) كما تقول سواء عليّ أرضيت أم غضبت وقوله تعالى : (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) في سورة الشعراء [١٣٦].

وجملة (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) معترضة بين جملة (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) وجملة (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) [المنافقون : ٧] وهي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

٢١٩

جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عن حال من أحوالهم.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧))

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا).

هذا أيضا من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانهم الذين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين تظاهرا بالإسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهر الإسلام بغير الإنفاق مثل قولهم لمن يقول لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، ولذلك عقبت بها. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أبيّ ابن سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين.

وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعرب عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالا من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى وصف لون آخر من كفرهم وهو الكيد للدّين في صورة النصيحة.

وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في (يَقُولُونَ) معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم ستروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمت أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضا تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) [ص : ٦٠]. وليكون للجملة الاسمية إفادة ثبات الخبر ، وليكون الإتيان بالموصول مشعرا بأنهم عرفوا بهذه الصّلة. وصيغة المضارع في (يَقُولُونَ) يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها.

و (مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من كانوا في رعايته مثل أهل الصفّة ومن كانوا يلحقون بالمدينة من الأعراب العفاة أو فريق من الأعراب كان يموّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة بني المصطلق. روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : «خرجنا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبيّ : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من

٢٢٠