تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفا فصارت جملة (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران.

ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند. وخصوصية التعريف بالإضافة. فكان إيجازا في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول وبجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعرفوا بذلك وبحصر نصر الدين فيهم حصرا يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقيّة قومهم من بني إسرائيل.

وفرع على قول الحواريين (نَحْنُ أَنْصارُ) الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به ، وطائفة كفرت بذلك وهذا التفريع يقتضي كلاما مقدرا وهو فنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل (لوقا) أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين.

والمقصود من قوله : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) التوطئة لقوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) والتأييد النصر والتقوية ، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس.

وإنما قال : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يقل : فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومثّل بهم وألقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم ، وكان ممن قتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس ، أي الصخرة في ثباته في الله.

ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القدّيس بطرس والحكم على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول : نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل. والمقصود نصر الدين.

والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أمروا أن يكونوا أنصارا لله بأن الله مؤيدهم على عدوّهم.

والعدوّ يطلق على الواحد والجمع ، قال تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الكهف : ٥٠] وتقدم

١٨١

عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) في سورة الممتحنة [١].

والظاهر : هو الغالب ، يقال : ظهر عليه ، أي غلبه ، وظهر به أي غلب بسببه ، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد. وهو الظهر الذي هو العمود الوسط من جسد الإنسان والدّواب لأن بالظهر قوة الحيوان. وهذا مثل فعل (عضد) مشتقا من العضد. و (أيد) مشتقا من اليد ومن تصاريفه ظاهر عليه واستظهر وظهير له قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤]. فمعنى (ظاهِرِينَ) أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق.

١٨٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٢ ـ سورة الجمعة

سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير «سورة الجمعة» ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة قال : «كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة» الحديث. وسيأتي عند تفسير قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة : ٣].

ووجه تسميتها وقوع لفظ (الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.

وقال ثعلب : إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصيّ بدار الندوة. ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.

ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.

وقد أطلق اسم «الجمعة» على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» ، ووقع في كلام عائشة «كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي» إلخ.

وفي كلام أنس «كنا نقيل بعد الجمعة» ومن كلام ابن عمر «كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف» ، (أي من المسجد). ومن كلام سهل بن سعد «ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة». فيحتمل أن يكون لفظ «الجمعة» الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة. ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.

١٨٣

وهي مدنية بالاتفاق.

ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر ، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا «أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر».

وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قضية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك.

وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول هذه السورة فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف. وثبت أن أهل المدينة صلّوها قبل قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كما سيأتي. فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا. وما ذكر في هذه السورة من قوله : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع ، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي.

وقد عدّت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.

وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.

وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادّين من قراء الأمصار.

أغراضها

أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها. وقدم لذلك : التنويه بجلال الله تعالى.

والتنويه بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم.

وأن رسالته لهم فضل من الله.

وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.

ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد.

وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله.

١٨٤

وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١))

افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حرصا على الابتياع من عير وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة.

وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله : (يُسَبِّحُ).

ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر.

سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مضارعا وجيء به في سواها ماضيا لمناسبة فيها وهي : أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضا بالذين لم يتموا صلاة الجمعة.

ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر.

ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا ينصرف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.

و (الْقُدُّوسِ) : المنزّه عن النقص وهو يرغب في حضرته. و (الْعَزِيزِ) : يعتز الملتفون حوله. فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة. وكذلك (الْحَكِيمِ) إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العير ما خطب به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ تركوه قائما في الخطبة.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢))

استئناف بياني ناشئ عن إجراء الصفات المذكورة آنفا على اسم الجلالة إذ يتساءل السامع عن وجه تخصيص تلك الصفات بالذكر من بين صفات الله تعالى فكأن الحال

١٨٥

مقتضيا أن يبين شيء عظيم من تعلق تلك الصفات بأحوال خلقه تعالى إذ بعث فيهم رسولا يطهر نفوسهم ويزكيهم ويعلمهم. فصفة (الْمَلِكِ) [الجمعة : ١] تعلقت بأن يدبر أمر عباده ويصلح شئونهم ، وصفة (الْقُدُّوسِ) [الجمعة : ١] تعلقت بأن يزكي نفوسهم ، وصفة (الْعَزِيزِ) [الجمعة : ١] اقتضت أن يلحق الأميين من عباده بمراتب أهل العلم ويخرجهم من ذلة الضلال فينالوا عزة العلم وشرفه ، وصفة (الْحَكِيمِ) [الجمعة : ١] اقتضت أن يعلمهم الحكمة والشريعة.

وابتداء الجملة بضمير اسم الجلالة لتكون جملة اسمية فتفيد تقوية هذا الحكم وتأكيده ، أي أن النبي ص مبعوث من الله لا محالة.

و (فِي) من قوله : (فِي الْأُمِّيِّينَ) للظرفية ، أي ظرفية الجماعة ولأحد أفرادها. ويفهم من الظرفية معنى الملازمة ، أي رسولا لا يفارقهم فليس مارا بهم كما يمرّ المرسل بمقالة أو بمالكة يبلغها إلى القوم ويغادرهم.

والمعنى : أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع النّاس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة الأعراف [١٥٨](قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وفي سورة سبأ [٢٨](وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً).

والمراد ب (الْأُمِّيِّينَ) : العرب لأن وصف الأميّة غالب على الأمة العربية يومئذ. ووصف الرسول ب (مِنْهُمْ) ، أي لم يكن غريبا عنهم كما بعث لوطا إلى أهل سدوم ولا كما بعث يونس إلى أهل نينوى ، وبعث إلياس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بعل ، ف (من) تبعيضية ، أي رسولا من العرب.

وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم ، فإن كون رسول القوم منهم نعمة زائدة على نعمة الإرشاد والهدي ، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.

وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم ويحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.

و (الْأُمِّيِّينَ) : صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء ، أي في الناس

١٨٦

الأميين. وصيغة جمع الذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي ، أي في الأميين والأمّيات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.

والأميون : الذين لا يقرءون الكتابة ولا يكتبون ، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة ، يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادرا ، فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم ، قال تعالى في ذكر بني إسرائيل (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) وقد تقدم في سورة البقرة [٧٨].

وأوثر التعبير به هنا توركا على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهلا منهم فيقولون : هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا. وقد قال ابن صياد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال له : «أتشهد أني رسول الله». أشهد أنك رسول الأميين. وكان ابن صياد متدينا باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.

وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولا إلى الأميين وبأن الرسول أمي ، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا بغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥ ، ٦].

ووصف الرسول بأنه منهم ، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية. وهذا من إيجاز القرآن البديع.

وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله ، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب ، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة ، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي هو مع كونه أمّيا قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرّسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا ، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى.

وفي وصف الأميّ بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن

١٨٧

الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.

وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي ، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجس المعنوي وهو الشرك ، وما يعلق به من مساوئ الأعمال والطباع.

وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تبيّن لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٨ ، ١٩] ، وقال : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة : ٢٣١] ونظيرها قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في سورة آل عمران [١٦٤].

وجملة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في موضع الحال من الأميين ، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإشراك بالله. وإنما كان ضلالا مبينا لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة ، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى ، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة.

و (إِنْ) مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها. وقد سد مسدها فعل (كان) كما هو غالب استعمال (إِنْ) المخففة. واللام في قوله : (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) تسمى اللام الفارقة ، أي التي تفيد الفرق بين (إن) النافية و (إِنْ) المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر (إن) إذ الأصل : وإنهم لفي ضلال مبين ، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالبا لئلا تلتبس بالنافية ، إلا إذا أمن اللبس.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

لا يجوز أن يكون (وَآخَرِينَ) عطفا على (الْأُمِّيِّينَ) [الجمعة : ٢] لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين ، أي غير العرب والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف (وَآخَرِينَ) على (الْأُمِّيِّينَ) لئلا يتعلق بفعل

١٨٨

(بَعَثَ) مجرور القي ولا على الضمير في قوله : (مِنْهُمْ) كذلك.

فهو إما معطوف على الضمير في (عَلَيْهِمْ) من قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) [الجمعة : ٢] والتقدير : ويتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أوحي به إليه.

وإما أن يجعل (وَآخَرِينَ) مفعولا معه. والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي «(يَتْلُوا) ويزكي ، ويعلم». والتقدير : يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين.

وجملة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : ٢] معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه و (آخَرِينَ) : جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق. وإذ قد جعل (آخَرِينَ) هنا مقابلا للأميين كان مرادا به آخرون غير الأميين ، أي من غير العرب المعنيين بالأميين.

فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان ، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول ، وجعلنا قوله : (مِنْهُمْ) بمعنى أنهم من الأميين ، وقلنا : أريد وآخرين من العرب غير الذين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، أي عربا آخرين غير أهل مكة ، وهم بقية قبائل العرب ناكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد آخرهم على الأوّلين عن أبي هريرة قال : كنّا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال له رجل : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا ، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء؟ وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى : (وَآخَرِينَ).

والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن (آخَرِينَ) صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس ، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين.

ثم بنا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى : (مِنْهُمْ). فلنا أن نجعل (من) تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعل الضمير المجرور ب (من) عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (كانُوا) من قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : ٢] ، فالمعنى : وآخرين من الضّالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل (من) اتصالية كالتي

١٨٩

في قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩].

والمعنى : وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم ، ويكون قوله : (مِنْهُمْ) موضع الحال ، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى : (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لأن اللحوق هو معنى الاتصال.

وموضع جملة (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) موضع الحال ، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم ، وينشأ منه أيضا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.

وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس ، والأرمن ، والأكراد ، والبربر ، والسودان ، والروم ، والترك ، والتتار ، والمغول ، والصين ، والهنود ، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات.

وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع الأمم.

والنفي ب (لمّا) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقّب الثبوت كقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، أي وسيدخل كما في «الكشاف» ، والمعنى : أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى.

واعلم أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» إيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب (آخَرِينَ) في قوم سلمان. وعن عكرمة : هم التابعون. وعن مجاهد : هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عمر : هم أهل اليمن.

وقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم. فإن (الْعَزِيزُ) لا يغلب قدرته شيء. و (الْحَكِيمُ) تأتي أفعاله عن قدر محكم.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

الإشارة إلى جميع المذكور من إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب

١٩٠

والحكمة والإنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب ، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة ، وهذا أجدع لأنفهم إذ حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.

وقال : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران : ١٣] يختص به. وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) [الجمعة : ٥] الآيات.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوما أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاف في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم ، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظاهروا المشركين.

وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بحال حمار يحمل أسفارا لا حظّ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم.

ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطا بأخطاء وضلالات ومتبعا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها ، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. وقال في «الكشاف» عن بعضهم : افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب. والعرب لا كتاب لهم. فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارا.

ومعنى (حُمِّلُوا) : عهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا ، يقال : حمّلت فلانا أمر كذا فاحتمله ، قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) سورة الأحزاب [٧٢].

١٩١

وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة ، بتشبيه إيكال الأمر بحمل الحمل على ظهر الدابة ، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفارا تمثيلا للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وهو من لطائف القرآن.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عهد إليهم أعجب من تحملهم إياه. وجملة (يَحْمِلُ أَسْفاراً) في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظا نكرة معنى ، فصحّ في الجملة اعتبار الحاليّة والوصف.

وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ، ولذلك ذيل بذم حالهم (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ).

و (بِئْسَ) فعل ذم ، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبا بآيات الله وهي القرآن.

و (مَثَلُ الْقَوْمِ) ، فاعل (بِئْسَ). وأغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإبهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثل المذكور قبله في قوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً). فصار إعادة لفظ المثل ثقيلا في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من تفننات القرآن. و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) صفة (الْقَوْمِ).

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل إخبارا عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب دون نظر ، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر.

قال في «الكشاف» : «وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث» ، أي آيات من هذه السورة : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦]. وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم ، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا ، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦))

١٩٢

أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم. وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شئونهم أفضل من شئون غيرهم. ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا ، وفي «الكشاف» «افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة».

وافتتح بفعل (قُلْ) للاهتمام.

و (الَّذِينَ هادُوا) : هم الذين كانوا يهودا ، وتقدم وجه تسمية اليهود يهودا عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) في سورة البقرة [٦٢]. ويجوز أن يكون (هادُوا) بمعنى تابوا لقول موسى عليه‌السلام بعد أن أخذتهم الرجفة : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) كما تقدم في سورة الأعراف [١٥٦]. وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد. وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.

وجيء ب (إِنْ) الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود [١٨] : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية.

والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت. وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.

والأمر في قوله : (فَتَمَنَّوُا) مستعمل في التعجيز : كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣].

ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.

١٩٣

والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تحصّل أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما ، واختلاف أحوال أهلهما ، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس. وهذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) [المائدة : ١٨].

وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت. وما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، فقالت عائشة : «إنا نكره الموت فقال لها ليس ذلك» الحديث. وما روي عنه أنه قال : «أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» إلى قوله : «قال موسى فالآن».

ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله ، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود.

فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذ ، وهم عامة غلبت عليهم الأوهام والغرور بعد انقراض علمائهم ، فهو حكاية عن مجموع قوم ، وأما الأخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معيّنة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان ، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء.

فعلى الأول يحمل حال عمير بن الحمام في قوله :

جريا إلى الله بغير زاد

وحال جعفر بن أبي طالب يوم موتة وقد اقتحم صفّ المشركين:

يا حبّذا الجنة واقترابها

وقول عبد الله بن رواحة :

لكنني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونة الجزاء الأحسن والمغفرة التامة.

وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة في تأويل قوله : «من أحب لقاء الله أحب

١٩٤

الله لقاءه» إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله فليس شيء أحبّ إليه مما أمامه فأحب لقاء الله. وقول موسى عليه‌السلام لملك الموت : «فالآن».

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧))

اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحديهم لإقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله.

وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم بتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ). وقد مرّ ذلك في تفسير سورة العقود [١٨].

والباء في (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) سببية متعلقة بفعل (يَتَمَنَّوْنَهُ) المنفي فما قدمت أيديهم هو سبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمنّي الموت لتقدم الحجة عليهم.

و (ما) موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله.

والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالبا. ومصدق «ما قدمت أيديهم» سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام.

وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرته هنا أتم مما هنالك فاجمع بينهما.

والتقديم : أصله جعل الشيء مقدّما ، أي سابقا غيره في مكان يقعون فيه غيره. واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيها له بشيء يسبقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه.

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين. وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها. وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) [البقرة : ١٤٠] والمقصود أن إحجامهم عن تمنّي الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا ، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم.

١٩٥

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بعد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسيانا ، إذ هو عالم الغيب والشهادة. وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] ، وإعادة فعل (قُلْ) من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) في سورة العقود [١١٤].

ووصف (الْمَوْتَ) ب (الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة.

واقتران خبر (إن) بالفاء في قوله : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) لأن اسم (إن) نعت باسم الموصول والموصول كثيرا ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم (إن) المنعوت بالموصول معاملة نعته.

وإعادة (إنّ) الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير :

إن الخليفة إن الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) في سورة الكهف [٣٠]. وفي سورة الحج أيضا.

والإنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه ، وهو تعريض بالوعيد.

[٩ ، ١٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠))

هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفا. وقد تقدم ما حكاه «الكشاف» من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله

١٩٦

للمسلمين الجمعة. فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيدا وتوطئة. اللام في قوله : (لِلصَّلاةِ) لام التعليل ، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة ، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة.

والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز. وبنو عقيل بسكون الميم.

والتعريف في الصلاة تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة. وقد ثبتت شرعا بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.

وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة. روي عن ابن سيرين أن الأنصار جمّعوا الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قالوا : إن لليهود يوما يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا : إن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم.

وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمّع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعلهم بلغهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين.

فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل إجابته رغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤].

وأما أول جمعة جمّعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أهل السير : كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد ، فجمّع بهم في ذلك المسجد ، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في «تفسيره».

وقولهم : «فأدركه وقت الجمعة» ، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذ وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عازما أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني

١٩٧

سالم ، ثم صلّى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانية بالأخبار الصحيحة.

وأول جمعة جمّعت في مسجد من مساجد بلاد الإسلام بعد المدينة كانت في مسجد جؤاثاء (١) من بلاد البحرين وهي مدينة الخطّ قرية لعبد القيس. ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبت أهل جؤاثاء على الإسلام.

وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام وهو الذي كان يسمّى في الجاهلية عروبة. قال بعض الأئمة : ولا تدخل عليه اللام. قال السهيلي : معنى العروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اه. قلت وذلك مروي عن ثعلب ، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيد الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع. وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمّى العرب القدماء يوم الأحد أول.

فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي : أوّل ، أهون جبار ، (كغراب وكتاب) ، دبار (كذلك) ، مؤيس (مهموزا) ، عروبة ، شيار (بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة).

ثم أحدثوا أسماء لهذه الأيام هي : الأحد ، الاثنين ، الثّلاثاء ـ بفتح المثلثة الأولى وبضمها ـ ، الإربعاء ـ بكسر الهمزة وكسر الموحدة ـ ، الخميس ، عروبة أو الجمعة ـ في قول بعضهم ـ السّبت. ـ وأصل السبت : القطع ، سمي سبتا عند الإسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل ، وشاع ذلك الاسم عند العرب ـ.

وسمّوا الأيام الأربعة بعده بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام. وفي سفر التكوين منها «ذكرت أيام بدء الخلق بأعدادها أول

__________________

(١) جؤاثاء بضم الجيم وهمزة مفتوحة بعدها ألف وفي آخره ألف ممدودة وقد تقصر. مدينة بلاد الخط من البحرين (الذي تنسب إليه الرماح الخطيّة لأنها تجلب إليه من بلاد الهند والخطّ الساحل) وهذا الخط يسمّى سيف عمان لأنه يمتد إلى عمان. ومن مدنه قطر والقطيف (بفتح القاف وكسر الطّاء) والفقير مصغرا (وهذه البلاد تعرف في زماننا سنة ١٣٨٥ بعضها ببلاد الكويت ، وبعضها بجزائر البحرين ، وبعضها ببلاد عمان ، وبعضها من البلاد السعودية مثل القطيف وهجرا.

١٩٨

وثان» إلخ ، وأن الله لم يخلق شيئا في اليوم الذي بعد اليوم السادس. وسمته التوراة سبتا ، قال السهيلي : قيل أول من سمى يوم عروبة الجمعة كعب بن لؤي جدّ أبي قصي. وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال : وفي قول بعضهم. لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإسلام.

جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماع الخطبة ليعلّموا ما يهمهم في إقامة شئون دينهم وإصلاحهم.

قال القفّال : ما جعل الله النّاس أشرف العالم السفلي لم يخف عظم المنة وجلالة قدر موهبته لهم فأمرهم بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم. ولكل أهل ملة معروفة يوم من الأسبوع معظم ، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة. وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون» ، أي آخر الدنيا السابقون يوم القيامة (يوم القيامة يتعلق ب «السابقون»). بيد أنهم (أي اليهود والنصارى) أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه ، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد.

ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجمّعت الجماعات لذلك ، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثّا على استدامتها. ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اه. كلام القفال. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والنصارى بعد غد» ، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعد الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يوم الأحد فيه قام عيسى من قبره. فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قسطنطين سلطان الروم في سنة ٣٢١ المسيحي. وصار دينا لهم بأمر أحبارهم.

وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة ، وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس فأسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قصّرت الجمعة لأجل الخطبة (١).

وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل

__________________

(١) رواه أبو بكر الرازي الجصاص في «أحكام القرآن» له جزء ٣ ص ٥٤٨.

١٩٩

خطبة بمنزلة ركعة وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفا. غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معا ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجود لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار ، روي عن عطاء ومجاهد وطاوس : أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا صلاة الظهر. وعن عطاء : أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد إن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة (١).

وجعلت القراءة في الصلاة جهرا مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سورا من القرآن كما أسمعوا الخطبة فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.

والإجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهرا فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر. ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قام إمام يصلي بجماعة ظهرا بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة.

وإنما اختلف الأئمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة : صلاة الجمعة المعروفة فرض وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بدلا عن صلاة الجمعة ، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه.

وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه (المرجوع عنه) وأبو يوسف ومحمد في رواية : الفرض بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بدل عن الظهر ، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية.

وقال محمد في رواية عنه : الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيين للمكلف فأشبه الواجب المخير (لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم).

قالوا : تظهر فائدة الخلاف في حرّ مقيم صلّى الظهر في أول الوقت ؛ فقال أبو حنيفة

__________________

(١) ذكره الجصاص في «أحكام القرآن» ص ٥٤٨ ج ٣.

٢٠٠