تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي (حِلٌ) المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهم حلّ لهم.

وعبّر عن الثانية بجملة (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فعكس الإخبار بالحل إذ جعل خبرا عن ضمير الرجال ، وعدي الفعل إلى المحلّل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهم لا يحلّ لهن أزواجهن الكافرون ولو بقي الزوج في بلاد الإسلام.

ولهذا ذكرت الجملة الثانية (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) كالتتمة لحكم الجملة الأولى ، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لإفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإسلام خلافا لأبي حنيفة إذ قال : إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.

ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) وهو الأصل كما علمت آنفا أكد بجملة (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي أن انتفاء الحلّ حاصل من كل جهة كما يقال : لست منك ولست مني.

ونظيره قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) في سورة البقرة [١٨٧] تأكيدا لشدة التلبس والاتصال من كل جهة.

وفي الكلام محسّن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين (حِلٌ) و (يَحِلُّونَ) اقتضاه المقام ، وإنّما يوفر حظّ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة.

(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا).

المراد ب (ما أَنْفَقُوا) ما أعطوه من المهور ، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء أسلمن من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات. فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.

وقد سمّى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجورا بقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

١٤١

والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

وإنما قال تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) للتنبيه على خصوص قوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة ، فطلق عمر امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين ، وهما : قريبة بنت أبي أمية ، وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية.

والمراد بالكوافر : المشركات. وهنّ موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يؤخذ حكم ذلك بالقياس.

قال ابن عطية : رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أنه في الرجال والنسوان ، فقلت له : النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة ، فقال : وأيش يمنع من هذا ، أليس الناس يقولون : طائفة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبهتّ وقلت : هذا تأييد اه. وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله : (وَلا تُمْسِكُوا) فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم. ومن العجيب قول أبي علي : فبهت وقلت ... إلخ. وقرأ الجمهور (وَلا تُمْسِكُوا) بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة. وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مضارع مسك بمعنى أمسك.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا).

عطف على قوله : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) وهو تتميم لحكمه ، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررن منهم مسلمات ، فكذلك إذا فرت إليهم امرأة مسلم كافرة ولا قدرة

١٤٢

لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاع مهرها إلى زوجها المسلم الذي فرّت منه وهذا إنصاف بين الفريقين ، والأمر للإباحة.

وقوله : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) تكملة لقوله : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) لإفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) لو أريد حكمه بمفرده لكان مغنيا عنه قوله : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) ، فلما كرر عقب قوله : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين ، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا. فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة. وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية. قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو : «اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية. وقد زل الفريقان» اه. وقد أشار إليه في «مغني اللبيب» ولم يرده. وقال المازري في «شرح البرهان» : «وأما قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن» ، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإعراب مختلفا فإذا قال : وتشرب اللبن بفتح الباء كان نهيا عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف (أن) اه. وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة.

فأفاد قوله : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرّون إليهم كان ذلك مخوّلا للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فرّوا من أزواجهم إلى المسلمين ، كما يقال في الفقه : خيرته تنفي ضرره.

(ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أي هذا حكم الله ، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر. قال الزهري : لو لا العهد لأمسك النساء ولم يردّ إلى أزواجهم صداق. وجملة (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يجوز كونها حالا من اسم الجلالة أو حالا من (حُكْمُ اللهِ) مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره : يحكمه بينكم ، وأن تكون استئنافا.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقّه.

وقد كانت هذه الأحكام التي في هذه الآيات من الترادّ في المهور شرعا في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإسلام خاصّا بذلك الزمان بإجماع أهل العلم ، قاله

١٤٣

ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

عطف على جملة (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) [الممتحنة : ١٠] فإنها لما ترتب على نزولها إباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاء بقين على الكفر بمكة واللاء فررن من المدينة والتحقن بأهل الكفر بمكة مهورهن التي كانوا أعطوها نساءهم ، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم.

روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادّ بين الفريقين في قوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) [الممتحنة : ١٠].

فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) الآية.

وأصل الفوت : المفارقة والمباعدة ، والتفاوت : المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رويشد بن كثير الطائي أو عمرو بن معد يكرب :

إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم

فما عليّ بذنب منكم فوت

أي فلا ضياع عليّ بما أذنبتم ، أي فإنا كمن لم يضع له حق.

والمعنى : إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقّبتم على أزواج الكفار وعقّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم ، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته ، أي ما هو حقه ، واحجزوا ذلك عن الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور من فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار. هذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية.

وعن ابن عباس والجمهور : الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين. وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة براءة [٧](كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ).

والوجه أن لا يصار إلى الإعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء

١٤٤

من مهور نساء المشركين اللاء أتين إلى بلاد الإسلام وصرن أزواجا للمسلمين.

والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى: (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ).

ولفظ (شَيْءٌ) هنا مراد به : بعض (مِنْ أَزْواجِكُمْ) بيان ل (شَيْءٌ) ، وأريد ب (شَيْءٌ) تحقير الزوجات اللاء أبين الإسلام ، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها.

وضمّن فعل (فاتَكُمْ) معنى الفرار فعدّي بحرف (إِلَى) أي فررن إلى الكفار.

و «عاقبتم» صيغة تفاعل من العقبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة ، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيره. وأصلها في ركوب الرواحل والدوابّ أن يركب أحد عقبة وآخر عقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه.

ففعل (ذَهَبَتْ) مجاز مثل فعل (فاتَكُمْ) في معنى عدم القدرة عليهن.

والخطاب في قوله : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) وفي قوله : (فَآتُوا) خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضا من المؤمنين.

والمعنى : فليعط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم.

والذي يتولى الإعطاء هنا هو كما قررنا في قوله : (آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) [الممتحنة : ١٠] أي يدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة : أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب ، وعياض بن أبي شداد الفهري ، وشماس بن عثمان ، وهشام بن العاص ، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم.

وأفاد لفظ (مِثْلَ) أن يكون المهر المعطى مساويا لما كان أعطاه زوج المرأة من قبل لا نقص فيه.

وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمن وهن ثمان نساء : أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد ، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال : قريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب ، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ،

١٤٥

وبروع (بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها) بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشهبة بنت غيلان وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص ، وقيل تحت عمرو بن عبد وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله ، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله.

وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قريبة وأمّ جرول ، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين ، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠].

والتذييل بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة ، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) لأن الإيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإنصاف ، أي فلا تكونوا مثلهم.

والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) الآية [الممتحنة : ١٠]. وبيان لتفصيل آثاره. فكأنه يقول : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار وبينوا لهن شرائع الإسلام. وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن: أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وسبيعة الأسلمية ، وأميمة بنت بشر ، وزينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا صحة للأخبار التي تقول : إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالآنف.

روى البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجر من

١٤٦

المؤمنات بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله : قد بايعتك.

والمقتضى لهذه البيعة بعد الامتحان أنهن دخلن في الإسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا ، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) ، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) [الممتحنة : ١٠]. قال ابن عطية : كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا.

وأجرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضا. روى البخاري عن أم عطية قالت : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) الحديث.

وفيه عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الخطبة فنزل نبيء الله فكأني انظر إليه حين يجلّس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ) حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ : أنتنّ على ذلك فقالت امرأة منهنّ واحدة لم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله. قال : «فتصدقن».

وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا. ففي «صحيح البخاري» عن عبادة بن الصامت قال : «كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ، وقرأ آية النساء (أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة) فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له».

واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالا ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية ، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك ، وممن بايعته من النساء يومئذ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع.

وجملة (يُبايِعْنَكَ) يجوز أن تكون حالا من (الْمُؤْمِناتُ) على معنى : يردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية. وجواب (إِذا فَبايِعْهُنَ).

ويجوز أن تكون جملة (يُبايِعْنَكَ) جواب (إِذا).

١٤٧

ومعنى (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) ، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإجمال ، لا يعلمن أصول الإسلام وبيّنه بقوله : (يُبايِعْنَكَ) فهو خبر مراد به الأمر ، أي فليبايعنك وتكون جملة (فَبايِعْهُنَ) تفريعا لجملة (يُبايِعْنَكَ) وليبنى عليها قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ).

وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال. قال الأعرابي لما ولدت زوجه بنتا : والله ما هي بنعم الولد بزّها بكاء ونصرها سرقة.

والمراد بقتل الأولاد أمران : أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم ، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإجهاض.

وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كنّ يرضين به أو يسكتن عليه.

والبهتان : الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه.

والافتراء : اختلاق الكذب ، أي لا يختلقن أخبارا بأشياء لم تقع.

وقوله : (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) يتعلق ب (يَأْتِينَ) ، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية ، فالبهتان حقيقته : الإخبار بالكذب وهو مصدر. ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

وحقيقة بين الأيدي والأرجل : أن يكون الكذب حاصلا في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كذب مواجهة في وجه المكذوب عليه كقولها : يا فلانة زنيت مع فلان ، أو سرقت حلي فلانة. لتبهتها في ملأ من الناس ، أو أنت بنت زنا ، أو نحو ذلك.

وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها ، أو لئلا يرثه عصبته ، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها ، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثت وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه. فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيدا لمعنى البهتان.

١٤٨

وإن كان البهتان مستعارا للباطل الشبيه بالخبر البهتان ، كان (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) محتملا للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يحبسها ، فذلك بين يديها أو يزني بها ، وذلك بين أرجلها.

وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها ، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها.

ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع الرجال بمثلها. وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها.

وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) والمعروف هو ما لا تنكره النفوس. والمراد هنا المعروف في الدين ، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلت بريرة إذ لم تقبل شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إرجاعها زوجها مغيثا إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق.

وقد روي في «الصحيح» عن أمّ عطية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاهنّ في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأة يدها وقالت : أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فانطلقت ورجعت فبايعها. وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تركه فاش فيهن.

وورد في أخبار أنه نهاهن عن تبرج الجاهلية وعن أن يحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمن بن عوف : يا نبيء الله إن لنا أضيافا وإنا نغيب ، قال رسول الله : ليس أولئك عنيت. وعن ابن عباس : نهاهنّ عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور ، أي من شئون النياحة في الجاهلية.

وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لمّا أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيعة على النساء كانت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفا من رسول الله أن يقتصّ منها على شقها بطن حمزة وإخراجها كبده يوم أحد. فلما قال : (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) ، قالت هند : وكيف نطمع أن يقبل منا شيئا لم يقبله من الرجال. فلما قال : (وَلا يَسْرِقْنَ). قالت هند : والله إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال : أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال. فضحك

١٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها فدعاها فأتته فعاذت به ، وقالت : فاعف عما سلف يا نبيء الله عفا الله عنك. فقال : (وَلا يَزْنِينَ). فقالت : أو تزني الحرّة. قال : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ). فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم. تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ). فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

فقوله : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). جامع لكل ما يخبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإسلام. وفي الحديث عن أم عطية قالت : كان من ذلك : أن لا ننوح. قالت : فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بدّ أن أسعدهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلّا آل فلان ، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سمّتهم. وفي يوم معيّن.

وقوله : (فَبايِعْهُنَ) جواب (إِذا) تفريع على (يُبايِعْنَكَ) ، أي فأقبل منهنّ ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) ، أي فيما فرط منهنّ في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك. ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل (اسْتَغْفِرْ).

اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين ، جاء في خاتمتها الإرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود ، فالمراد بهم غير المشركين إذ شبه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار ، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه.

وقد نعتهم الله بأنهم قوم غضب الله عليهم ، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم. فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) في سورة العقود [٥٧].

١٥٠

ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذ بجوار المسلمين من أهل المدينة. وذكر الواحدي في «أسباب النزول» : أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم ، وربما أخبروا اليهود بأحوال المسلمين عن غفلة وقلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم.

واليأس : عدم توقع الشيء فإذا علق بذات كان دالا على عدم توقع وجودها. وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتملا أن يراد به الإعراض عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسون منها ، وهذا في معنى قوله تعالى في شأنهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) في سورة البقرة [٨٦].

وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإعراض وعدم التفكر في الأمر ، شبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعث وفيه تشنيع المشبه ، و (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) على هذا الوجه متعلق ب (يَئِسُوا). و (الْكُفَّارُ) : المشركون.

ويجوز أن يكون (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) بيانا للكفار ، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظّ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة ، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة. والمعنى كيأس الكفار الأموات ، أي يأسا من الآخرة.

والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسوس بالمعقول.

وفي استعارة اليأس للإعراض ضرب من المشاكلة أيضا.

ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة. فالمعنى : قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) في سورة العنكبوت [٢٣].

ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] فالقوم الذين غضب الله عليهم هم المشركون فإنهم وصفوا بالعدوّ لله والعدوّ مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس. وجعل بأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث.

١٥١

وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار ، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون (مِنَ) بيانية صفة للكفار ، وليست متعلقة بفعل (يَئِسَ) فليس في لفظ (الْكُفَّارُ) إظهار في مقام الإضمار وإلّا لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم.

١٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦١ ـ سورة الصف

اشتهرت هذه السورة باسم «سورة الصّف» وكذلك سميت في عصر الصحابة.

روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا : «لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال» إلى أن قال : «فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم «سورة سبح لله الصّف» الحديث ، رواه ابن كثير ، وبذلك عنونت في «صحيح البخاري» وفي «جامع الترمذي» ، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.

ووجه التسمية وقوع لفظ (صَفًّا) [الصف : ٤] فيها وهو صف القتال ، فالتعريف باللام تعريف العهد.

وذكر السيوطي في «الإتقان» : أنها تسمّى «سورة الحواريين» ولم يسنده. وقال الألوسي تسمّى «سورة عيسى» ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعلّه أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبيّ بن كعب بلفظ «سورة عيسى». وهو حديث موسوم بأنه موضوع. والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة. فتسميتها «سورة الحواريين» لذكر الحواريين فيها. ولعلّها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.

وإذا ثبت تسميتها «سورة عيسى» فلما فيها من ذكر (عِيسَى) [الصف : ٦ و ١٤] مرتين وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام. وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في «الكشاف» والفخر. وقال ابن عطية : الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكّي.

واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.

١٥٣

وفي «جامع الترمذي» «عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لعملناه» فأنزل الله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ١ ، ٢] قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله. وأخرجه الحاكم وأحمد في «مسنده» وابن أبي حاتم والدارمي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقرأها كلها.

فهذا يقتضي أنهم قيل لهم : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به.

وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عزوجل دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله أن أحب الأعمال : إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

ومثله عن أبي صالح يقتضي أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة. وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه. وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية ، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣].

وعن مقاتل بن حيان : قال المؤمنون : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف : ٤] ، فابتلوا يوم أحد بذلك فولّوا مدبرين فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ). ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها.

وعن الكلبي : أنهم قالوا : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] الآية. فابتلوا يوم أحد فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) تعيّرهم بترك الوفاء. وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها.

١٥٤

وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السّور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح. وكان نزولها بعد وقعة أحد.

وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد.

أغراضها

أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.

والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه ، وصدق الإيمان.

والثبات في نصرة الدين.

والائتساء بالصادقين مثل الحواريين.

والتحذير من أذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف.

وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما‌السلام.

والتعريض بالمنافقين.

والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بأن تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية. وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدّوا حق تسبيح الله ، لأن الله مستحق لأن يوفّى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوّهم.

وتقدم الكلام على نظير قوله : (سَبَّحَ لِلَّهِ) إلى (الْحَكِيمُ) في أول سورة الحشر وسورة الحديد.

وفي إجراء وصف (الْعَزِيزُ) عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوّه فما كان لكم أن ترهبوا أعداءه فتفرّوا منهم عند اللقاء.

وإجراء صفة (الْحَكِيمُ) إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدوّ عبثا ولا يخليهم يغلبونكم. وإن حملت على معنى

١٥٥

المحكم للأمور فكذلك.

[٢ ، ٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣))

ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير.

واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبهم الذي هو مدلول ما الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه.

والتقدير : تقولون ما لا تفعلون لأي سبب أو لأية علّة.

وتتعلق اللام بفعل (تَقُولُونَ) المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام.

والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضيا لله تعالى ، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) في سورة البقرة [٩١]. فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعدا وعدوه ولم يفوا به. ويجوز أن يكون خبرا أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع. وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة.

وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز ، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح.

وتعقيب الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف : ٤] إلخ. يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله. وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في «الكشاف».

وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإيمان بالقلب ولا بالجسد. قال ابن زيد : هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.

وجملة (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) بيان لجملة (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) تصريحا بالمعنى المكنّى عنه بها.

١٥٦

وهو خبر عن كون قولهم : (ما لا تَفْعَلُونَ) أمرا كبيرا في جنس المقت.

والكبر : مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه.

و (أَنْ تَقُولُوا) فاعل (كَبُرَ).

والمقت : البغض الشديد. وهو هنا بمعنى اسم المفعول.

وانتصب (مَقْتاً) على التمييز لجهة الكبر. وهو تمييز نسبة.

والتقدير : كبر ممقوتا قولكم ما لا تفعلونه.

ونظم هذا الكلام بطريقة الإجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أحد. ففيه وعيد على تجدد مثله ، وزيد المقصود اهتماما بأن وصف المقت بأنه عند الله ، أي مقت لا تسامح فيه.

وعدل عن جعل فاعل (كَبُرَ) ضمير القول بأن يقتصر على (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) أو يقال : كبر ذلك مقتا ، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه ، ولإفادة التأكيد.

و (ما) في قوله : (ما لا تَفْعَلُونَ) في الموضعين موصولة ، وهي بمعنى لام العهد ، أي الفعل الذي وعدتم أن تفعلوه وهو أحبّ الأعمال إلى الله أو الجهاد. فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصود منه القربة فيجب الوفاء به.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))

هذا جواب على تمنيهم معرفة أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها.

والصف : عدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن ، فيطلق على صف المصلين ، وصفّ الملائكة ، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفّا من رجّالة أو فرسان ثم يقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات.

فالصفّ هنا : كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبّر.

١٥٧

وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكرّ وفرّ. وانتصب (صَفًّا) على الحال بتأويل : صافّين ، أو مصفوفين.

والمرصوص : المتلاصق بعضه ببعض. والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢].

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة. فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافا ابتدائيا انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك ، فيكون الكلام موجها إلى المنافقين ، فقد وسموا بأذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] الآية. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [التوبة : ٦١] وقوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة : ٦١].

وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض ، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول.

والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض. وهو المسمّى بعطف قصة على قصة.

ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلا للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسوؤه من الخروج عن جادة الكمال الديني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإتيان بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى. وأشفقهم من أن يكون ذلك سببا للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لمّا آذوه.

وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه : عدم توخي طاعته ورضاه ، فيكون ذلك مشيرا إلى ما حكاه الله عنه من قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٢١] ، إلى قوله : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤].

١٥٨

فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عقبه (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٥].

وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ناظرا إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٥] وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [المائدة : ٢٦].

فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيرا من مخالفة أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أحد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم.

وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أحد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا ، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يبرحوا مكانهم «ولو تخطّفنا الطير» وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أحد.

والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) على النهي الذي في قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] الآية.

ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس.

و (إِذْ) متعلقة بفعل محذوف تقديره : اذكر ، وله نظائر كثيرة في القرآن ، أي اذكر لهم أيضا وقت قوله موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت موسى لقومه.

وابتداء كلام موسى عليه‌السلام ب (يا قَوْمِ) تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بله أن لا يؤذوه. ففي النداء بوصف (قَوْمِ) تمهيد للإنكار في قوله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي).

والاستفهام للإنكار ، أي إنكار أن يكون للإذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى : (لِم تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

وقد جاءت جملة الحال من قوله : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ) مصادفة المحلّ من الترقّي في الإنكار.

١٥٩

و (قَدْ) لتحقيق معنى الحالية ، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته ، وكما أكد علمهم ب (قَدْ) أكد حصول المعلوم ب (أنّ) المفتوحة ، فحصل تأكيدان للرسالة. والمعنى : فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم.

والإتيان بعد (قَدْ) بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي ، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى. ولعله قد طرأ عليه ما يبطله ، وهذا كالمضارع في قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) في سورة الأحزاب [١٨].

والزيغ : الميل عن الحق ، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغا ، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال.

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل ، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوه من أهل ذلك العموم.

وذكر وصف (الْفاسِقِينَ) جاريا على لفظ (الْقَوْمَ) للإيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم. كما تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في البقرة [١٦٤].

فالمعنى : الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى ، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

عطف على جملة (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) [الصف : ٥] فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساو له.

وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادوا عن طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين ، وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده.

ونادى عيسى قومه بعنوان (بَنِي إِسْرائِيلَ) دون (يا قَوْمِ) [الصف : ٥] لأن بني إسرائيل

١٦٠