تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

المسلمين وأذى لهم.

وأسند الإخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين. وربما أغروا به سفهاءهم ، ولذلك فالإخراج مجاز في أسبابه ، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي.

وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم.

وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى : (أَنْ تُؤْمِنُوا) ، لإفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم ، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبّب لهم الخروج من بلادهم.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) شرط ذيّل به النهي من قوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ). وهذا مقام يستعمل في مثله الشرط بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط ، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما علق عليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لما قبله ، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يتوقع من السامع أن يحصل منه غير مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مرادا بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركّب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالبا. ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقا بحصول مضمونه متحققا صحة ما يقوله قبل الشرط. كما ذكر في «الكشاف» في قوله تعالى : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) في سورة الشعراء [٥١] ، في قراءة من قرأ (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) بكسر همزة (إن) وهي قراءة شاذة فتكون (إن) شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين ، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل (إذ) أو لام التعليل.

وقد يأتي بمثل هذا الشرط من يظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالف مقتضاه كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) [الأنفال : ٤١] ، أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعيّنة من عند

١٢١

الله. ومنه كثير في القرآن إذا تتبعت مواقعه.

ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذانا بأن الشرط محقق الحصول.

وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب ، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف.

ولذلك يجاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل ، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ.

قال في «الكشاف» في قوله تعالى : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) في سورة الفرقان [٤٢] و (لو لا) في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مجرى التقييد للحكم المطلق. وقال هنا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق ب (لا تَتَّخِذُوا) وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. اه. يعني أن فرقا بين كلام النحويين وبين ما اختاره هو من جعله متعلقا ب (لا تَتَّخِذُوا) فإنه جعل جواب الشرط غير منوي. قلت : فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب «دلائل الإعجاز». وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو : اقبل شفاعة فلان إن شفع عندك ، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم.

وأداة الشرط في مثله تشبه (أَنْ) الوصلية و (لو) الوصلية ، ولذلك قال في «الكشاف» هنا : إن جملة (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلقة ب (لا تَتَّخِذُوا) يعني تعلق الحال بعاملها ، أي والحال حال خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مرضاته بناء على أن شرط (أَنْ). و (لو) الوصليّتين يعتبر حالا. ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جنّي والزمخشري سوّغا خلوّ الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما.

والمعنى : لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق ، وأخرجوكم لأجل إيمانكم. إن كنتم خرجتم من بلادكم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فكيف توالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم.

١٢٢

والمراد بالخروج في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) الخروج من مكة مهاجرة إلى المدينة. فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة.

و (جِهاداً) ، و (ابْتِغاءَ مَرْضاتِي) مصدران منصوبان على المفعول لأجله.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ).

يجوز أن تكون الجملة بيانا لجملة (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، أو بدل اشتمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإلقاء إليهم بالمودة. والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب ، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم ، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا.

والإسرار : التحدث والإخبار سرا.

ومفعول (تُسِرُّونَ) يجوز أن يكون محذوفا يدل عليه السياق ، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سرا.

وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإسرار إليه تفظيعا لها.

والباء في (بِالْمَوَدَّةِ) للسببية ، أي تخبرونهم سرا بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب.

ويجوز أن يكون (بِالْمَوَدَّةِ) في محل المفعول لفعل (تُسِرُّونَ) والباء زائدة لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

وجملة (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) في موضع الحال من ضمير (تُسِرُّونَ) أو معترضة ، والواو اعتراضية.

وهذا مناط التعجيب من فعل المعرّض به وهو حاطب بن أبي بلتعة. وتقديم الإخفاء لأنه المناسب لقوله : (وَأَنَا أَعْلَمُ). ولموافقته للقصة.

و (أَعْلَمُ) اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ) فالتقدير: أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم.

١٢٣

والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة.

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

عطف على جملة النهي في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، عطف على النهي التوعد على عدم الانتهاء بأن من لم ينته عما نهي عنه هو ضالّ عن الهدى.

وضمير الغيبة في (يَفْعَلْهُ) عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضلّ عن سواء السبيل.

و (سَواءَ السَّبِيلِ) مستعار لأعمال الصلاح والهدى لشبهها بالطريق المستوي الذي يبلغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة. والمراد به هنا ضلّ عن الإسلام وضلّ عن الرشد.

و (مِنَ) شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢))

تفيد هذه الجملة معنى التعليل لمفاد قوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة : ١] باعتبار بعض ما أفادته الجملة ، وهو الضلال عن الرشد ، فإنه قد يخفى ويظنّ أن في تطلب مودّة العدوّ فائدة ، كما هو حال المنافقين المحكي في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] ، فقد يظن أن موالاتهم من الدهاء والحزم رجاء نفعهم إن دالت لهم الدولة ، فبيّن الله لهم خطأ هذا الظنّ ، وأنهم إن استفادوا من مودتهم إياهم اطلاعا على قوتهم فتأهبوا لهم وظفروا بهم لم يكونوا ليرقبوا فيهم إلّا ولا ذمّة ، وأنهم لو أخذوهم وتمكنوا منهم لكانوا أعداء لهم لأن الذي أضمر العداوة زمنا يعسر أن ينقلب ودودا ، وذلك لشدة الحنق على ما لقوا من المسلمين من إبطال دين الشرك وتحقير أهله وأصنامهم.

وفعل (يَكُونُوا) مشعر بأن عداوتهم قديمة وأنها تستمر.

والبسط : مستعار للإكثار لما شاع من تشبيه الكثير بالواسع والطويل ، وتشبيه ضده

١٢٤

وهو القبض بضد ذلك ، فبسط اليد الإكثار من عملها.

والمراد به هنا : عمل اليد الذي يضرّ مثل الضرب والتقييد والطعن ، وعمل اللسان الذي يؤذي مثل الشتم والتهكم. ودلّ على ذلك قوله : (بِالسُّوءِ) ، فهو متعلق ب (يَبْسُطُوا) الذي مفعوله (أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ).

وجملة (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) حال من ضمير (يَكُونُوا) ، والواو واو الحال ، أي وهم قد ودّوا من الآن أن تكفروا فكيف لو يأسرونكم أليس أهم شيء عندهم حينئذ أن يردّوكم كفارا ، فجملة الحال دليل على معطوف مقدّر على جواب الشرط كأنه قيل : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء إلى آخره ، ويردوكم كفارا ، وليست جملة (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) معطوفة على جملة الجواب ، لأن محبتهم أن يكفر المسلمون محبة غير مقيدة بالشرط ، ولذلك وقع فعل (وَدُّوا) ماضيا ولم يقع مضارعا مثل الأفعال الثلاثة قبله (يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا) ليعلم أنه ليس معطوفا على جواب الشرط.

وهذا الوجه أحسن مما في كتاب «الإيضاح» للقزويني في بحث تقييد المسند بالشرط ، إذ استظهر أن يكون (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطفا على جملة (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ).

ونظره بجملة (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) من قوله تعالى : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) في آل عمران [١١١]. فإن المعطوف ب (ثم) فيها عطف على مجموع الشرط وفعله وجوابه لا على جملة فعل الشرط.

و (لَوْ) هنا مصدرية ففعل (تَكْفُرُونَ) مؤول بمصدر ، أي ودّوا كفركم.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

تخلص من تبيين سوء عاقبة موالاة أعداء الدّين في الحياة الدنيا ، إلى بيان سوء عاقبة تلك الموالاة في الآخرة ، ومناسبة حسن التخلص قوله : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: ٢] الدالّ على معنى : أن ودادتهم كفركم من قبل أن يثقفوكم تنقلب إلى أن يكرهوكم على الكفر حين يثقفونكم ، فلا تنفعكم ذوا أرحامكم مثل الأمهات والإخوة الأشقاء ، وللأمّ ، ولا أولادكم ، ولا تدفع عنكم عذاب الآخرة إن كانوا قد نفعوكم في الدنيا بصلة ذوي الأرحام ونصرة الأولاد.

١٢٥

فجملة (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن سؤال مفروض ممن يسمع جملة (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : ٢] ، أي من حق ذلك أن يسأل عن آثاره لخطر أمرها.

وإذا كان ناشئا عن كلام جرى مجرى التعليل لجملة (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة : ١] ، فهو أيضا مفيد تعليلا ثانيا بحسب المعنى ، ولو لا إرادة الاستئناف البياني لجاءت هذه الجملة معطوفة بالواو على التي قبلها ، وزاد ذلك حسنا أن ما صدر من حاطب ابن أبي بلتعة مما عدّ عليه هو موالاة للعدوّ ، وأنه اعتذر بأنه أراد أن يتخذ عند المشركين يدا يحمون بها قرابته (أي أمه وأخواته). ولذلك ابتدئ في نفي النفع بذكر الأرحام لموافقة قصة حاطب لأن الأم ذات رحم والإخوة أبناؤها هم إخوته من رحمه.

وأما عطف (وَلا أَوْلادُكُمْ) فتتميم لشمول النهي قوما لهم أبناء في مكة.

والمراد بالأرحام : ذوو الأرحام على حذف مضاف لظهور القرينة.

و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف يتنازعه كل من فعل (لَنْ تَنْفَعَكُمْ) ، وفعل (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ). إذ لا يلزم تقدم العاملين على المعمول المتنازع فيه إذا كان ظرفا لأن الظروف تتقدم على عواملها وأن أبيت هذا التنازع فقل هو ظرف (تَنْفَعَكُمْ) واجعل ل (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) ظرفا محذوفا دلّ عليه المذكور.

والفصل هنا : التفريق ، وليس المراد به القضاء. والمعنى : يوم القيامة يفرق بينكم وبين ذوي أرحامكم وأولادكم فريق في الجنة وفريق في السعير ، قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧].

والمعنى : أنهم لا ينفعونكم يوم القيامة فما لكم ترفضون حقّ الله مراعاة لهم وهم يفرّون منكم يوم اشتداد الهول ، خطّأ رأيهم في موالاة الكفار أولا بما يرجع إلى حال من والوه. ثم خطّاه ثانيا بما يرجع إلى حال من استعملوا الموالاة لأجلهم ، وهو تقسيم حاصر إشارة إلى أن ما أقدم عليه حاطب من أي جهة نظر إليه يكون خطأ وباطلا.

وقرأ الجمهور (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) ببناء (يَفْصِلُ) للمجهول مخففا. وقرأه عاصم ويعقوب (يَفْصِلُ) بالبناء الفاعل ، وفاعله ضمير عائد إلى الله لعلمه من المقام ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف (يَفْصِلُ) مشدد الصاد مكسورة مبنيا للفاعل مبالغة في الفصل ، والفاعل ضمير يعود إلى الله المعلوم من المقام.

١٢٦

وقرأه ابن عامر (يَفْصِلُ) بضم التحتية وتشديد الصاد مفتوحة مبنيا للنائب من فصّل المشدّد.

وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعيد ووعد.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤))

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).

صدر هذه الآية يفيد تأكيدا لمضمون جملة (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) [الممتحنة : ٢] وجملة (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) [الممتحنة : ٣] ، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوة الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ.

ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدوّ الله بما يجرّ إلى أصحابه من مضارّ في الدنيا وفي الآخرة تحذيرا لهم من ذلك ، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة.

وافتتاح الكلام بكلمتي (قَدْ كانَتْ) لتأكيد الخبر ، فإن (قَدْ) مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإنكار على المخاطب ولومه في الإعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عمر لابن عباس يوم طعنه غلام المغيرة : «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاج بالمدينة» ، ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢] توبيخا على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث ، وقوله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣] وقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١].

ويتعلق (لَكُمْ) بفعل «كان» ، أو هو ظرف مستقرّ وقع موقع الحال من (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

وإبراهيم عليه‌السلام مثل في اليقين بالله والغضب به ، عرف ذلك العرب واليهود

١٢٧

والنصارى من الأمم ، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والآراميين ، ولعله بلغ إلى الهند. وقد قيل : إن اسم (برهما) معبود البراهة من الهنود محرف عن (اسم إبراهيم) وهو احتمال.

وعطف (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال إبراهيمعليه‌السلام والذين معه ، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه‌السلام.

والمراد ب (الَّذِينَ مَعَهُ) الذين آمنوا به واتبعوا هداه وهم زوجه سارة وابن أخيه لوط ولم يكن لإبراهيم أبناء ، فضمير (إِذْ قالُوا) عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة.

و (إِذْ) ظرف زمان بمعنى حين ، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن.

والمراد بالزمن : الأحوال الكائنة فيه ، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة (قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) إلخ.

والإسوة بكسر الهمزة وضمها : القدوة التي يقتدى بها في فعل ما. فوصفت في الآية ب (حَسَنَةٌ) وصفا للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده.

وقرأ الجمهور إسوة بكسر الهمزة ، وقرأه عاصم بضمها. وتقدمت في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) في سورة الأحزاب [٢١].

وحرف (فِي) مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة ، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف. ولذلك كان المعنى : قد كان لكم إبراهيم والذين معه أسوة في حين قولهم لقومهم. فليس قوله : (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي.

وفي الرّحمن للضعفاء كاف (١)

لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم.

__________________

(١) من شواهد «الكشاف» وصدر البيت :

ولو لا هنّ قد سوّمت مهري.

وقبله :

لقد زاد الحياة إليّ حبّا

بناتي إنهن من الضعاف

١٢٨

و (بُرَآؤُا) بهمزتين بوزن فعلاء جمع بريء مثل كريم وكرماء.

وبريء فعيل بمعنى فاعل من برىء من شيء إذا خلا منه سواء بعد ملابسته أو بدون ملابسة.

والمراد هنا التبرؤ من مخالطتهم وملابستهم .. وعطف عليه (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد برآء من عبادتها.

وجملة (كَفَرْنا بِكُمْ) وما عطف عليها بيان لمعنى جملة (إِنَّا بُرَآؤُا).

وضمير (بِكُمْ) عائد إلى مجموع المخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله ، ويفسّر الكفر بما يناسب المعطوف عليه والمعطوف ، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير كفرهم بما يعبده قومهم.

وعطف عليه (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) وبدا معناه : ظهر ونشأ ، أي أحدثنا معكم العداوة ظاهرة لا مواربة فيها ، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب. وهو أقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليد لقلتهم وضعفهم بين قومهم.

و (الْعَداوَةُ) المعاملة بالسوء والاعتداء.

و (الْبَغْضاءُ) : نفرة النفس ، والكراهية وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقتا ، فذكرهما معا هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم : حالة المعاملة بالعدوان ، وحالة النفرة والكراهية ، أي نسيء معاملتكم ونضمر لكم الكراهية حتى تؤمنوا بالله وحده دون إشراك.

والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله ، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس ، فالمؤتسى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة ، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضّوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية.

(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

١٢٩

الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة : ٦] ، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) إلخ ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفق بأبيه وهو يغاير التبرّؤ منه ، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله : (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين.

قال في «الكشاف» في قوله تعالى : (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ) في سورة الحجر (١) [٥٨ ، ٥٩]. أنه استثناء منقطع من (قَوْمٍ) لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان ا ه. فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجبا اعتبار الاستثناء منقطعا. وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطإ حاطب ابن أبي بلتعة ، أي إن كنتم معتذرين فليكن عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تودّوا لهم مغفرة كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحلّ المودة والعناية فيزدادوا تعنتا في كفرهم.

وحكاية قول إبراهيم لأبيه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله.

والواو في (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) يجوز أن تكون للحال أو للعطف. والمعنى متقارب ، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل.

ومعنى الملك في قوله : (وَما أَمْلِكُ) القدرة ، وتقدم في قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في سورة العقود [١٧].

و (مِنْ شَيْءٍ) عامّ للمغفرة المسئولة وغيرها مما يريده الله به.

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به ، وبه يكون الكلام شديد

__________________

(١) في المطبوعة (الشعراء) وهو خطأ.

١٣٠

الاتصال مع قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة : ٦].

ويحتمل أن يكون تعليما للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته. وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه.

فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢].

فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاح في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضرّ. وقد جمعها قول إبراهيم هناك (فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). وهذا جمعه قوله هنا (عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا)(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) جمعه قوله : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فإن المصير مصيران مصير بعد الحياة ومصير بعد البعث.

وقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) فإن وسيلة الطمع هي التوبة وقد تضمنها قوله : (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا).

وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه.

والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩].

والإنابة : التوبة ، وتقدمت عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) في سورة هود [٧٥] ، وعند قوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) في سورة الروم [٣١].

وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإفادة القصر ، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة.

وإعادة النداء بقولهم : (رَبَّنا) إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث.

١٣١

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

الفتنة : اضطراب الحال وفساده ، وهي اسم مصدر فتجيء بمعنى المصدر كقوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، [البقرة : ١٩١] وتجيء وصفا للمفتون والفاتن.

ومعنى جعلهم فتنة للذين كفروا : جعلهم مفتونين يفتنهم الذين كفروا ، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) [البروج : ١٠] إلخ. ويصدق أيضا بأن تختل أمور دينهم بسبب الذين كفروا ، أي بمحبتهم والتقرب منهم كقوله تعالى حكاية عن دعاء موسى (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥].

وعلى الوجهين فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول. وتقدم في قوله تعالى : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) في سورة يونس [٨٥].

واللام في (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) على الوجهين للملك ، أي مفتونين مسخرين لهم.

ويجوز عندي أن تكون (فِتْنَةً) مصدرا بمعنى اسم الفاعل ، أي لا تجعلنا فاتنين ، أي سبب فتنة للذين كفروا ، فيكون كناية عن معنى لا تغلّب الذين كفروا علينا واصرف عنا ما يكون به اختلال أمرنا وسوء الأحوال كيلا يكون شيء من ذلك فاتنا الذين كفروا ، أي مقويا فتنتهم فيفتتنوا في دينهم ، أي يزدادوا كفرا وهو فتنة في الدين ، أي فيظنوا أنا على الباطل وأنهم على الحق ، وقد تطلق الفتنة على ما يفضي إلى غرور في الدين كما في قوله تعالى : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) في سورة الزمر [٤٩] وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأنبياء [١١١].

واللام على هذا الوجه لام التبليغ وهذه معان جمّة أفادتها الآية.

(وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا).

أعقبوا دعواتهم التي تعود إلى إصلاح دينهم في الحياة الدنيا بطلب ما يصلح أمورهم في الحياة الآخرة وما يوجب رضي‌الله‌عنهم في الدنيا فإن رضاه يفضي إلى عنايته بهم بتسيير أمورهم في الحياتين. وللإشعار بالمغايرة بين الدعوتين عطفت هذه الواو ولم تعطف التي قبلها.

١٣٢

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

تعليل للدعوات كلها فإن التوكل والإنابة والمصير تناسب صفة (الْعَزِيزُ) إذ مثله يعامل بمثل ذلك ، وطلب أن لا يجعلهم فتنة باختلاف معانيه يناسب صفة (الْحَكِيمُ) ، وكذلك طلب المغفرة لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يجعلهم فتنة الكافرين وأن يغفر لهم رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم لما فيه من صلاحهم وقد جاءوا سائلينه.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦))

تكرير قوله آنفا (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] إلخ ، أعيد لتأكيد التحريض والحث على عدم إضاعة الائتساء بهم ، وليبنى عليه قوله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر إلخ.

وقرن هذا التأكيد بلام القسم مبالغة في التأكيد. وإنما لم تتصل بفعل (كانَ) تاء تأنيث مع أن اسمها مؤنث اللفظ لأن تأنيث أسوة غير حقيقي ، ولوقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه بالجار والمجرور.

والإسوة هي التي تقدم ذكرها واختلاف القرّاء في همزتها في قوله : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

وقوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل من ضمير الخطاب في قوله : (لَكُمْ) وهو شامل لجميع المخاطبين ، لأن المخاطبين بضمير (لَكُمْ) المؤمنون في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] فليس ذكر (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) تخصيصا لبعض المؤمنين ولكنه ذكر للتذكير بأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي تأسيهم بالمؤمنين السابقين وهم إبراهيم والذين معه.

وأعيد حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد أن الإيمان يستلزم ذلك.

والقصد هو زيادة الحث على الائتساء بإبراهيم ومن معه ، وليرتب عليه قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، وهذا تحذير من العود لما نهوا عنه.

ففعل (يَتَوَلَ) مضارع تولّى ، فيجوز أن يكون ماضيه بمعنى الإعراض ، أي من لا يرجو الله واليوم الآخر ويعرض عن نهي الله فإن الله غنيّ عن امتثاله. ويجوز عندي أن

١٣٣

يكون ماضيه من التولي بمعنى اتخاذ الولي ، أي من يتخذ عدو الله أولياء فإن الله غنيّ عن ولايته كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) في سورة العقود [٥١].

وضمير الفصل في قوله : (هُوَ الْغَنِيُ) توكيد للحصر الذي أفاده تعريف الجزأين ، وهو حصر ادعائي لعدم الاعتداد بغنى غيره ولا بحمده ، أي هو الغني عن المتولين لأن النهي عما نهوا عنه إنما هو لفائدتهم لا يفيد الله شيئا فهو الغني عن كل شيء.

واتباع (الْغَنِيُ) بوصف (الْحَمِيدُ) تتميم ، أي الحميد لمن يمتثل أمره ولا يعرض عنه أو (الْحَمِيدُ) لمن لا يتخذ عدوه وليا على نحو قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧].

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

اعتراض وهو استئناف متصل بما قبله من أول السورة خوطب به المؤمنون تسلية لهم على ما نهوا عنه من مواصلة أقربائهم ، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم آئلة إلى مودة بأن يسلم المشركون من قرابة المؤمنين وقد حقق الله ذلك يوم فتح مكة بإسلام أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام.

قال ابن عباس : كان من هذه المودة تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، تزوجها بعد وفاة زوجها عبد الله بن جحش بأرض الحبشة بعد أن تنصّر زوجها فلما تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانت عريكة أبي سفيان وصرح بفضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» (روي بدال بعد القاف يقال : قدع أنفه. إذا ضرب أنفه بالرّمح) وهذا تمثيل ، كانوا إذا نزا فحل غير كريم على ناقة كريمة دفعوه عنها بضرب أنفه بالرمح لئلا يكون نتاجها هجينا. وإذا تقدم أن هذه السورة نزلت عام فتح مكة وكان تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة في مدة مهاجرتها بالحبشة وتلك قبل فتح مكة كما صرح به ابن عطية وغيره. يعني فتكون آية (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ) إلخ نزلت قبل نزول أول السورة ثم ألحقت بالسورة.

وإما أن يكون كلام ابن عباس على وجه المثال لحصول المودة مع بعض المشركين ، وحصول مثل تلك المودة يهيّئ صاحبه إلى الإسلام واستبعد ابن عطية صحة ما روي عن ابن عباس.

١٣٤

و (عَسَى) فعل مقاربة وهو مستعمل هنا في رجاء المسلمين ذلك من الله أو مستعملة في الوعد مجردة عن الرجاء. قال في «الكشاف» : كما يقول الملك في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك.

وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى العدوّ من قوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١].

وجملة (وَاللهُ قَدِيرٌ) تذييل. والمعنى : أنه شديد القدرة على أن يغير الأحوال فيصير المشركون مؤمنين صادقين وتصيرون أودّاء لهم.

وعطف على التذييل جملة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي يغفر لمن أنابوا إليه ويرحمهم فلا عجب أن يصيروا أودّاء لكم كما تصيرون أوداء لهم.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨))

استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وصف بها العدوّ في قوله تعالى : (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] وقوله : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] ، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء ، استثنى الله أقواما من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإسلام.

فإن نظرنا إلى وصف العدوّ من قوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) ، كان مضمون قوله : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخره ، بيانا لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لا كل صفة على حيالها.

وإن نظرنا إلى أن وصف العدوّ هو عدوّ الدين ، أي مخالفة في نفسه مع ضميمة وصف (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) ، كان مضمون (لا يَنْهاكُمُ اللهُ) إلى آخره تخصيصا للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم.

وأيّا ما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القوم الذين لم يقاتلوا في

١٣٥

الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم ، واتصال هذه الآية بالآيات الّتي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم هذه الآية أصناف وهم حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل خزاعة ، وبني الحارث بن كعب بن عبد مناة بن كنانة ، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحبون ظهوره على قريش ، ومثل النساء والصبيان من المشركين ، وقد جاءت قتيلة (بالتصغير ويقال لها : قتلة ، مكبرا) بنت عبد العزى من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرة ابنتها وقتيلة يومئذ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية (وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة) فسألت أسماء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتصل أمها؟ قال : «نعم صلي أمّك» ، وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في شأنها.

وقوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) بدل اشتمال من (الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلخ ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم. فدخل في الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين نفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب ، والذين شملتهم أحكام هذه الآية كلّهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول.

والبرّ : حسن المعاملة والإكرام. وهو يتعدى بحرف الجر ، يقال : برّ به ، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض.

والقسط : العدل. وضمن (تُقْسِطُوا) معنى تفضوا فعدّي ب (إلى) وكان حقه أن يعدّى باللام. على أن اللام و (إلى) يتعاقبان كثيرا في الكلام ، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب ، فإن معاملة أحد بمثل ما عامل به من العدل.

وجملة و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) تذييل ، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم.

وعن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ) الآية قال: نسخها القتال ، قال الطبري : لا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإسلام. اه.

ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم.

١٣٦

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

فلذلك لما تقدم وحصر لحكم الآية المتقدمة. وهي تؤذن بانتهاء الغرض المسوق له الكلام من أوله.

والقصر المستفاد من جملة (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شكّ في جواز صلة المشركين على الإطلاق. والذين تحققت فيهم هذه الصفات يوم نزول الآية هم مشركو أهل مكة ، و (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من (الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ).

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) شرط ، وجيء في جواب الشرط باسم الإشارة لتمييز المشار إليهم زيادة في إيضاح الحكم.

والمظاهرة : المعاونة. وذلك أن أهل مكة فريقان ، منهم من يأتي بالأسباب التي لا يحتمل المسلمون معها البقاء بمكة ، ومنهم من يعين على ذلك ويغري عليه.

والقصر المستفاد من قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قصر ادعائي ، أي أن ظلمهم لشدّته ووقوعه بعد النهي الشديد والتنبيه على الأخطاء والعصيان ظلم لا يغفر لأنه اعتداء على حقوق الله وحقوق المسلمين وعلى حق الظالم نفسه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

لا خلاف في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمت أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحديبية.

ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها ، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجا لمشركة

١٣٧

وتكون المسلمة زوجا لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها.

وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ستّ مجيء أبي جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد وكان مسلما وكان موثقا في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح «أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه» فرده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاربة من زوجها عمرو بن العاص ، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي ، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشّمراخ وقيل : حسان بن الدحداحة. وطلبهن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال : إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد ، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أمّ كلثوم بنت عقبة زيد بن حارثة. وتزوج سبيعة عمر رضي‌الله‌عنه (١) وتزوج أميمة سهل بن حنيف (٢).

وجاءت زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بعد سنين مشركا ثم أسلم في المدينة فردها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه.

وقد اختلف : هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخا لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح فيه بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملا وكان النهي الذي في هذه الآية بيانا لذلك المجمل. وقد قيل : إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير إذن وليّه من رجل أو امرأة يرد إلى وليه. فإذا صحّ ذلك كان صريحا وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملا لإرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير.

__________________

(١) في المطبوعة : «سهل بن حنيف» والمثبت من «تفسير البغوي» (٤ / ٣٣٣) و «الإصابة» (٤ / ٣٢٥).

(٢) انظر «الإصابة» (٤ / ٢٣٩).

١٣٨

وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصّلح : إنما الشرط في الرجال لا في النساء فكانت هذه الآية تشريعا للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذانا للمشركين بأن شرطهم غير نص ، وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها ، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجا وتأييدا لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطّلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاونا على إظهار الحق ، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم.

والامتحان : الاختبار. والمراد اختبار إيمانهن.

وجملة (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) معترضة ، أي أن الله يعلم سرائرهنّ ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل.

ولذلك فرع على ما قبل الاعتراض قوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) إلخ ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن. وهذا الالتحاق هو الذي سمي المبايعة في قوله في الآية الآتية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) الآية [الممتحنة : ١٢].

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة : ١٢] وزاد ابن عباس فقال : كانت الممتحنة أن تستحلف أنها ما خرجت بغضا لزوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقا لرجل منّا ، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلّا هو على ذلك أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولّي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية. (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

وموقع قوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) تحقيقا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر.

وإذ قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) إلى آخره ، تعين أن يقوم بتنفيذه من إليه تنفيذ أمور

١٣٩

المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به من مثل هذه الأمور العامة إلّا على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور.

وإذ قد كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه في كلام الشارع منصرفا إلى معنى الإباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم.

ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خطابات التكليف بأمور الإسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلّق به مقصد الشريعة ، ولذلك تعدّ المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة : خطاب الكفار بالفروع ، مسألة لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بله التفريع عليها.

وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ). ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين ، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما. وذلك أن نقول : إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الزوج الكافر يقع على صورتين:

إحداهما : أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر ، وذلك هو ما ألح الكفار في طلبه لمّا جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.

والثانية : أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإسلام بأن يخلى بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإسلام إذا جاء يطلبها ومنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور ، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) إذ جعل فيها وصف حل خبرا عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال ، وهي لام تعدية الحلّ وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال ، أي لم يحللهن الإسلام لهم.

وقدم (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.

١٤٠