تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

تلبس به فريق ممن أظهروا الإسلام في أول سنّي الهجرة ، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يراد ب «الذين نسوا الله» المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدي الإسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لأنه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال. وعبّر عنهم بالفاسقين قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) في سورة براءة [٦٧] ، فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.

ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه‌السلام وكفروا بحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمعنى : نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به ، قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [البقرة : ٤٠ ، ٤١].

وقد أطلق نسيانهم على الترك والإعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائل صفاته ودلائل صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين.

ومعنى «أنساهم أنفسهم» أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإسلامي فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صلاحهم في الدنيا ، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم ، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.

وأشعر فاء التسبب بأن إنساء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله ، أي لمّا أعرضوا عن الهدى بكسبهم وإرادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.

وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى : (كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) دون أن يقال : نسوه لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذي خلقهم وأرشدهم.

والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأنّ فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.

واسم الإشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.

والفسق : الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالبا لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء ، ومنه قيل : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، فالفاسقون هم الآتون

١٠١

بفواحش السيئات ومساوئ الأعمال وأعظمها الإشراك.

وجملة (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيّا لبيان الإبهام الذي أفاده قوله: (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) كأن السامع سأل : ما ذا كان أثر إنساء الله إياهم أنفسهم؟ فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حقّ عليهم أن يقال : إنه لا فسق بعد فسقهم.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

تذييل لجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: ١٨] إلخ. لأنّه جامع لخلاصة عاقبة الحالين : حال التقوى والاستعداد للآخرة ، وحال نسيان ذلك وإهماله ، ولكلا الفريقين عاقبة عمله. ويشمل الفريقين وأمثالهم.

والجملة أيضا فذلكة لما قبلها من حال المتقين والذين نسوا الله ونسّوا أنفسهم لأن ذكر مثل هذا الكلام بعد ذكر أحوال المتحدّث عنه يكون في الغالب للتعريض بذلك المتحدّث عنه كقولك عند ما ترى أحدا يؤذي الناس : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، فمعنى الآية كناية عن كون المؤمنين هم أصحاب الجنة ، وكون الذين نسوا الله هم أهل النار فتضمنت الآية وعدا للمتقين ووعيدا للفاسقين.

والمراد من نفي الاستواء في مثل هذا الكناية عن البون بين الشيئين.

وتعيين المفضل من الشيئين موكول إلى فهم السامع من قرينة المقام كما في قول السموأل :

فليس سواء عالم وجهول

وقول أبي حزام غالب بن الحارث العكلي :

وأعلم أن تسليما وتركا

لا متشابهان ولا سواء

ومنه قوله تعالى : (لَيْسُوا سَواءً) بعد قوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١١٠] الآية. وقبل قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣]. وقد يردف بما يدل على جهة التفضيل كما في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠]. وقوله هنا

١٠٢

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) ، وتقدم في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية [٩٥] في سورة النساء.

وأما من ذهب من علماء الأصول إلى تعميم نحو (لا يَسْتَوُونَ) من قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] فاستدلّوا به على أن الفاسق لا يلي ولاية النكاح ، وهو استدلال الشافعية فليس ذلك بمرضي ، وقد أباه الحنفية ووافقهم تاج الدين السبكي في غير «جمع الجوامع».

والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) قصر ادعائي لأن فوزهم أبديّ فاعتبر فوز غيرهم ببعض أمور الدنيا كالعدم.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

لما حذّر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون ، وتوعد الدين نسوا الله بالنار ، وبيّن حالهم بأن الشيطان سوّل لهم الكفر. وكان القرآن دالا على مسالك الخير ومحذّرا من مسالك الشر ، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدبر فيه ، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البيّن الذي لا يصرف الناس عنه إلا أهواؤهم ومكابرتهم ، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم ، ضرب لهم هذا المثل تعجيبا من تصلبهم في الضلال.

وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرض فتح قرى اليهود وما ينال المنافقين من جرّائه من خسران في الدنيا والآخرة.

و (هذَا الْقُرْآنَ) إشارة إلى المقدار الذي نزل منه ، وهو ما عرفوه وتلوه وسمعوا تلاوته.

وفائدة الإتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم. وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإعراض عنه.

وهذا مثل ساقه الله تعالى كما دلّ عليه قوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) إلخ. وقد ضرب هذا مثلا

لقسوة الذين نسوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن.

والمراد بالجبل : حقيقته ، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى (لَوْ) أن تجيء

١٠٣

في الشروط المفروضة.

فالجبل : مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه. وإنزال القرآن مستعار للخطاب به. عبر عنه بالإنزال على طريقة التبعية تشبيها لشرف الشيء بعلوّ المكان ، ولإبلاغه للغير بإنزال الشيء من علوّ.

والمعنى : لو كان المخاطب بالقرآن جبلا ، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثرا ناشئا من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن.

والمعنى : لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتّعظوا بمواعظه لاتّعظ الجبل وتصدّع صخره وتربه من شدة تأثره بخشية الله.

وضرب التصدع مثلا لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشقّ وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.

والخشوع : التطأطؤ والركوع ، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.

والتصدع : التشقق ، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى.

والخطاب في (لَرَأَيْتَهُ) لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية ، وهي منفية لوقوعها جوابا لحرف (لَوْ) الامتناعية.

والمعنى : لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع.

وجملة (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذيّل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثل المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سجّل عليهم عنادهم ومكابرتهم ، فالإشارة بتلك إلى مجموع ما مرّ على أسماعهم من الأمثال الكثيرة ، وتقدير الكلام : ضربنا هذا مثلا ، (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ).

وضرب المثل سوقه ، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال : ضرب بيتا ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢))

١٠٤

لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهر ، أو صفاته العلية. وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته.

وكان مما حوته السورة الاعتبار بعظيم قدرة الله إذ أيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ونصرهم على بني النضير ذلك النصر الخارق للعادة ، وذكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقّوا الله ورسوله وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين نصروا الدّين ، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء ، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم ، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير ، والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته ، عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته. وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته ، وزيادة في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته ، ولذلك ذكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ ما يليق به منها.

وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم به أصنامهم. وسنذكر مراجع هذه الأسماء إلى ما اشتملت عليه السورة فيما يأتي.

فضمير الغيبة الواقع في أول الجملة عائد إلى اسم الجلالة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) [الحشر : ١٨] ، و (هُوَ) مبتدأ واسم الجلالة خبر عنه و (الَّذِي) صفة لاسم الجلالة.

وكان مقتضى الظاهر الاقتصار على الضمير دون ذكر اسم الجلالة لأن المقصود الإخبار عن الضمير ب (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وبما بعد ذلك من الصفات العلية ، فالجمع بين الضمير وما يساوي معادة اعتبار بأن اسم الجلالة يجمع صفات الكمال لأن أصله الإله ومدلول الإله يقتضي جميع صفات الكمال.

ويجوز أن يجعل الضمير ضمير الشأن ويكون الكلام استئنافا قصد منه تعليم المسلمين هذه الصفات ليتبصّروا فيها وللردّ على المشركين إشراكهم بصاحب هذه الصفات معه أصنافا ليس لواحد منها شيء من مثل هذه الصفات ، ولذلك ختمت طائفة منها بجملة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر : ٢٣] ، لتكون ختاما لهذه السورة الجليلة التي تضمنت منة عظيمة ، وهي منة الفتح الواقع والفتح الميسّر في المستقبل ، لا جرم أنه حقيق بأن

١٠٥

يعرفوا جلائل صفاته التي لتعلقاتها آثار في الأحوال الحاصلة والتي ستحصل من هذه الفتوح وليعلم المشركون والكافرون من اليهود أنهم ما تعاقبت هزائمهم إلّا من جرّاء كفرهم. ولما كان شأن هذه الصفات عظيما ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن ، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر. والجملة خبر عن ضمير الشأن فيكون اسم الجلالة مبتدأ و (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبرا والجملة خبرا عن ضمير الشأن.

وابتدئ في هذه الصفات العلية بصفة الوحدانية وهي مدلول (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات. ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي ، وفاتحة آل عمران.

وثني بصفة (عالِمُ الْغَيْبِ) لأنها الصفة التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جميع الصفات إذ لا تتقوّم حقيقة العلم الواجب إلا بالصفات السّلبية ، وإذ هو يقتضي الصفات المعنوية ، وإنما ذكر من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه الذي فارق به علم الله تعالى علم غيره ، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس توهّم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) للاستغراق. أي كل غيب وشهادة ، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره. وهو علم الغيب والشهادة ، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم. فالمقصود فيهما بمعنى اسم الفاعل ، أي عالم ما ظهر للناس وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه.

والتعريف في (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) للاستغراق الحقيقي.

وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل ، أمّا ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه. قال تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) إلى قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ) [فصلت : ٢٢ ، ٢٣].

وضمير (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه». وقد تقدم الكلام على (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) في سورة الفاتحة [٣].

١٠٦

ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه ، فهو يرحم المحتاجين إلى رحمته ويهمل المعاندين إلى عقاب الآخرة ، فهو رحمان بهم في الدنيا ، وقد كثر اتباع اسم الجلالة بصفتي (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) في القرآن كما في الفاتحة.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣))

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ).

القول في ضمير (هُوَ) كالقول في نظيره في الجملة الأولى. وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام تعظيم وهو من مقامات التكرير ، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية.

و (الْمَلِكُ) : الحاكم في الناس ، ولا ملك على الإطلاق إلّا الله تعالى وأما وصف غيره بالملك فهو بالإضافة إلى طائفة معيّنة من الناس. وعقب وصفا الرحمة بوصف (الْمَلِكُ) للإشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة.

و (الْقُدُّوسُ) بضم القاف في الأفصح ، وقد تفتح القاف قال ابن جنّي : فعول في الصفة قليل ، وإنما هو في الأسماء مثل تنّور وسفّود وعبّود. وذكر سيبويه السّبّوح والقدوس بالفتح ، وقال ثعلب : لم يرد فعول بضم أوله إلا القدوس والسّبوح. وزاد غيره الذّرّوح ، وهو ذباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزنبور. ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند. وما عداهما مفتوح مثل سفّود وكلّوب. وتنّور وسمّور وشبّوط (صنف من الحوت) وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين.

وعقب ب (الْقُدُّوسُ) وصف (الْمَلِكُ) للاحتراس إشارة إلى أنه منزه عن نقائص الملوك المعروفة من الغرور ، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائص النفوس.

و (السَّلامُ) مصدر بمعنى المسالمة وصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف ، أي ذو السلام ، أي السلامة ، وهي أنه تعالى سالم الخلق من الظلم والجور. وفي الحديث «إن الله هو السلام ومنه السّلام». وبهذا ظهر تعقيب وصف (الْمَلِكُ) بوصف (السَّلامُ) فإنه بعد أن عقب ب (الْقُدُّوسُ) للدلالة على نزاهة ذاته ،

١٠٧

عقب ب (السَّلامُ) للدلالة على العدل في معاملته الخلق ، وهذا احتراس أيضا.

و (الْمُؤْمِنُ) اسم فاعل من آمن الذي همزته للتعدية ، أي جعل غيره آمنا.

فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات ، إذ خلق نظام المخلوقات بعيدا عن الأخطار والمصائب ، وإنما تعرض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن أو تضاد أو تعارض مصالح ، فيرجع أقواها ويدحض أدناها ، وقد تأتي من جرّاء أفعال الناس.

وذكر وصف (الْمُؤْمِنُ) عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهّم وصفه تعالى ب (الْمَلِكُ) أنه كالملوك المعروفين بالنقائص. فأفيد أولا نزاهة ذاته بوصف (الْقُدُّوسُ) ، ونزاهة تصرفاته المغيّبة عن الغدر والكيد بوصف (الْمُؤْمِنُ) ، ونزاهة تصرفاته الظاهرة عن الجور والظلم بوصف (السَّلامُ).

و (الْمُهَيْمِنُ) : الرقيب بلغة قريش ، والحافظ في لغة بقية العرب.

واختلف في اشتقاقه فقيل : مشتق من أمن الداخل عليه همزة التعدية فصار آمن وأن وزن الوصف مؤيمن قلبت همزته هاء ، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن ، بحيث صار كالاسم الجامد. وصار معناه : رقب : (ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذين في المؤمن لمّا صار اسما للرقيب والشاهد) ، وهو قلب نادر مثل قلب همزة : أراق إلى الهاء فقالوا : هراق ، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفعلل اسم فاعل من آمن مثل مدحرج ، فتصريفه مؤأمن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة ، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة أراق فقالوا : هراق.

وقيل : أصله هيمن بمعنى : رقب ، كذا في «لسان العرب» وعليه فالهاء أصلية ووزنه مفيعل. وذكره صاحب «القاموس» في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه. وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحا بأن هاءه أصلها همزة. وعدل الراغب وصاحب «الأساس» عن ذكر. وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن.

وفي «المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى» للغزالي (الْمُهَيْمِنُ) في حق الله : القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه

١٠٨

وحفظه. والإشراف ، (أي الذي هو الاطلاع) يرجع إلى العلم ، والاستيلاء يرجع إلى كمال القدرة ، والحفظ يرجع إلى الفعل. والجامع بين هذه المعاني اسمه (الْمُهَيْمِنُ) ولن يجتمع على ذلك الكمال والإطلاق إلا الله تعالى ، ولذلك قيل : إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة ا ه. وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها.

وتعقيب (الْمُؤْمِنُ) ب (الْمُهَيْمِنُ) لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره ، فأعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم.

و (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب ولا يذلّه أحد ، ولذلك فسر بالغالب.

و (الْجَبَّارُ) : القاهر المكره غيره على الانفعال بفعله ، فالله جبار كل مخلوق على الانفعال لما كوّنه عليه لا يستطيع مخلوق اجتياز ما حدّه له في خلقته فلا يستطيع الإنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط ، وكذلك هو جبّار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها.

وإذا وصف الإنسان بالجبار كان وصف ذمّ لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص : ١٩]. فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره ، وأمثلة المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم ، قال الفراء : لم أسمع فعّالا في أفعل إلا جبّارا ودرّاكا. وكان القياس أن يقال : المجبر والمدرك ، وقيل : الجبار معناه المصلح من جبر الكسر ، إذا أصلحه ، فاشتقاقه لا نذرة فيه.

و (الْمُتَكَبِّرُ) : الشديد الكبرياء ، أي العظمة والجلالة. وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن.

ويقال : فلان يتظلم على الناس ، أي يكثر ظلمهم.

ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة (الْمُهَيْمِنُ) أن جميع ما ذكره آنفا من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة (الْمُهَيْمِنُ) تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة (الْعَزِيزُ) ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه

١٠٩

شيء. وأتبعت بصفة (الْجَبَّارُ) الدالة على أنّه مسخر المخلوقات لإرادته ثم صفة (الْمُتَكَبِّرُ) الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت الصفات قبلها في جانب الإطماع.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون. فضمير (يُشْرِكُونَ) عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ).

القول في ضمير (هُوَ) المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقتها. فإن كان ضمير الغيبة ضمير شأن فالجملة بعده خبر عنه.

وجملة (اللهُ الْخالِقُ) تفيد قصرا بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] ، وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] ، وإن كان عائدا على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و (الْخالِقُ) صفة.

و (الْخالِقُ) : اسم فاعل من الخلق ، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصه. وقد تقدم عند قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الآية [٤٩] في سورة آل عمران. ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو إيجاد ما لم يكن موجودا. كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [ق : ٣٨]. وهذا هو المعنى الغالب من إطلاق اسم الله تعالى (الْخالِقُ).

قال في «الكشاف» : «المقدر لما يوجده». ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال : «لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق» ا ه. يشير إلى أن

١١٠

الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم ، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير. ويكون ذكر (الْبارِئُ) و (الْمُصَوِّرُ) بعد (الْخالِقُ) تنبيها على أحوال خاصة في الخلق. قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] على أحد التأويلين.

وقال الراغب : الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إيداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ا ه.

وقال أبو بكر ابن العربي في «عارضة الأحوذي» على «سنن الترمذي» : (الْخالِقُ) : المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها (فخلط بين المعنيين) ثم قال : فالخالق عام ، والبارئ أخص منه ، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب «الكشاف». وقال الغزالي في «المقصد الأسنى» : الخالق البارئ المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولا ، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا ، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا ، والله خالق من حيث أنه مقدّر وبارئ من حيث إنه مخترع موجود ، ومصور من حيث إنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب اه. فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار ، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.

و (الْبارِئُ) اسم فاعل من برأ مهموزا. قال في «الكشاف» المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة اه. وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص. وفي الحديث «من شر ما خلق وذرأ وبرأ». ومن كلام علي رضي‌الله‌عنه : لا والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة ، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة : ٦ ، ٧]. وقال الراغب : البريئة : الخلق.

وقال ابن العربي في «العارضة» : (الْبارِئُ) : خالق الناس من البرى (مقصورا) وهو التراب خاصا بخلق جنس الإنسان ، وعليه يكون اسم البريئة خاصا بالبشر في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

وفسره ابن عطية بمعنى الخالق. وكذلك صاحب «القاموس». وفسره الغزالي بأنه الموجود المخترع ، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في «الكشاف».

و (الْمُصَوِّرُ) : مكوّن الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية.

وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإبداع الإلهي

١١١

للإنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإنسان ثم بالتصور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة ، كما أشار إليه قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ) [الانفطار : ٧ ، ٨] ، (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦].

ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة ، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإشارة إلى تصرفه في البشر بالإيجاد على كيفيته البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقب بجملة (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفا.

القسم الأول : يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافهم اليهود المتألبين على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى ، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين.

وإلى هذا القسم تنضوي صفة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الحشر : ٢٣] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات ، فإن الإشراك أصل الضلالات ، والمشركون هم الذين يغرون اليهود ، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإسلام ، فالشرك هو الذي صدّ الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى ، قال تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١].

وصفة (عالِمُ الْغَيْبِ) [الحشر : ٢٢] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء ، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣] الآية.

وكذلك ذكر صفات «الملك ، والعزيز ، والجبار ، والمتكبر» ، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.

القسم الثاني : متعلق بما اجتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير ، وتلك صفات : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ) [الحشر : ٢٣] لقوله : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) [الحشر : ٦] ، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالا.

١١٢

وكذلك صفتا (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [الحشر : ٢٢] لمناسبتهما لإعطاء حظ في الفيء للضعفاء.

القسم الثالث : متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها ، وهي صفات : «القدوس ، المهيمن ، الخالق ، البارئ ، المصور».

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

تذييل لما عدّد من صفات الله تعالى ، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفا.

والمراد بالأسماء الصفات ، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالأعلام على ذاته تعالى.

والمقصود : أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) بعد قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] ، أي عرض المسميات على الملائكة.

وقد تقدم قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) في سورة الأعراف [١٨٠].

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

جملة (يُسَبِّحُ لَهُ) إلخ في موضع الحال من ضمير (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد. فالدهري أو الطبائعي إذا نوّه بنظام الكائنات وأعجب بانتساقها فإنما يسبح في الواقع للفاعل المختار وإن كان هو يدعوه دهرا أو طبيعة ، هذا إذا حمل التسبيح على معناه الحقيقي وهو التنزيه بالقول ، فأما إن حمل على ما يشمل المعنيين الحقيقي والمجازي من دلالة على التنزيه ولو بلسان الحال. فالمعنى : أن ما ثبت له من صفات الخلق والإمداد والقهر تدل عليه شواهد المخلوقات وانتظام وجودها.

وجملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق.

وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.

١١٣

روى الترمذي بسند حسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرّات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ) [الحشر : ٢٢] إلى آخر السورة ، وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة». فهذه فضيلة لهذه الآيات أخروية.

وروى الخطيب البغدادي في «تاريخه» بسنده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف (راوي حمزة) فلما بلغت هذه الآية (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) [الحشر : ٢١] إلى آخر السورة قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش. فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب ، فلما بلغت هذه الآية قال : ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا : ضع يدك على رأسك فإنّا قرأنا على عبد الله فلما بلغنا هذه الآية قال : ضعا أيديكما على رءوسكما ، فإني قرأت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي : ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إليّ قال : ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام. والسام الموت. قلت : هذا حديث أغر مسلسل إلى جبريلعليه‌السلام.

وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) [الحشر : ٢١] إلى آخر السورة : هي رقية الصداع ، فهذه مزية لهذه الآيات.

١١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٠ ـ سورة الممتحنة

عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب «سورة الممتحنة». قال القرطبي : والمشهور على الألسنة النطق في كلمة «الممتحنة» بكسر الحاء وهو الذي جزم به السّهيلي.

ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) إلى قوله : (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠]. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان. وأضيفت السورة إلى تلك الآية.

وقال السهيلي : أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة. يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.

وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر : وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمن بن عوف. (كما سميت سورة قد سمع الله «سورة المجادلة» بكسر الدال).

ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس ، أي النساء الممتحنة.

قال في «الإتقان» : وتسمّى «سورة الامتحان» ، «وسورة المودّة» ، وعزا ذلك إلى كتاب «جمال القراء» لعلي السخاوي ولم يذكر سنده. وهذه السورة مدنية بالاتفاق.

واتفق أهل العدد على عدّ آيها ثلاث عشرة آية. وآياتها طوال.

واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى

١١٥

المشركين من أهل مكة.

روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال : قال عمرو بن دينار : نزلت فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] قال سفيان : هذا في حديث الناس لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو. حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اه.

وفي «صحيح مسلم» وليس في حديث أبي بكر وزهير (من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة) ذكر الآية. وجعلها إسحاق (أي ابن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث) في روايته من تلاوة سفيان اه. ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك.

واختلفوا في أن كتابه إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري ، قال : لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسرّ إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة. فكتب حاطب إلى أهل مكة ... إلى آخره ، فإنّ قوله : أفشى ، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمرة الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة. ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين : وقال ابن عطية : نزلت هذه السورة سنة ست.

وقال جماعة : كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفتح مكة ، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السّير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من «صحيحه» في ترتيبه للغزوات ، ودرج عليه معظم المفسرين.

ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تجهّزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية ، ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.

وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى

١١٦

قال بعضهم : إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح ، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.

وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء.

أغراض هذه السورة

اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخرجوهم من بلادهم.

وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساءوا إليهم بالفعل والقول ، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين ، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه.

وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.

وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة.

وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوّض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع الترادّ كذلك مع المشركين.

ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة.

وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.

والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ

١١٧

سَواءَ السَّبِيلِ (١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي).

اتفق المفسرون وثبت في «صحيح الأحاديث» أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزّى من قريش. وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أهل بدر.

وحاصل القصة مأخوذة مما في «صحيح الآثار» ومشهور السيرة : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد تجهّز قاصدا مكة. قيل لأجل العمرة عام الحديبية ، وهو الأصح ، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم ، فقدمت أيامئذ من مكة إلى المدينة امرأة تسمّى سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقالت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي (تعني من قتل من مواليها يوم بدر). وقد اشتدت بي الحاجة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها ، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتابا لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخروج إليهم ، وآجرها على إبلاغه فخرجت ، وأوحى الله إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فبعث عليّا والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي ، وكانوا فرسانا. وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها. فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة. فقالوا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقالوا : لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثّياب (يعنون أنهم يجردونها) فأخرجته من عقاصها ، وفي رواية من حجزتها.

فأتوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : يا حاطب ما هذا؟ قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله. فإني كنت امرأ ملصقا في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي (يريد أمه وإخوته) ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق. فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم: «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». وقال : لا تقولوا لحاطب إلّا خيرا فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

١١٨

آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) الآيات.

والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمّن يوم الفتح أربعة منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا منها الكتاب وخلّوا سبيلها».

وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيرا من إتيان مثل فعل حاطب.

والعدوّ : ذو العداوة ، وهو فعول بمعنى فاعل من : عدا يعدو ، مثل عفوّ. وأصله مصدر على وزن فعول مثل قبول ونحوه من مصادر قليلة. ولكونه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع. قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء : ٧٧] ، وتقدم عنه قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) في سورة النساء [٩٢].

والمعنى : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء. والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدءوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصارا لشركهم فعدّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم. وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناواة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير : عدوّ ديني ، أو رسولي.

والاتخاذ : افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة. وقد تقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) في سورة النساء [٧١]. ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر. فعومل هذا الفعل معاملة صيّر. واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) في سورة الأنعام [٧٤].

وجملة (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) في موضع الحال من ضمير (لا تَتَّخِذُوا) ، أو في موضع الصفة ل (أَوْلِياءَ) أو بيان لمعنى اتخاذهم أولياء.

ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير (لا تَتَّخِذُوا) لأن جعلها حالا يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة.

والإلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض. واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في

١١٩

موقعه ، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل. قال تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في سورة النحل [٨٦].

والباء في (بِالْمَوَدَّةِ) لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله. وأصل الكلام : تلقون إليهم المودة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وقوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم.

وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) وهي حال من ضمير (إِلَيْهِمْ) أو من (عَدُوِّي).

«وما جاءكم من الحق» هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الإيجاز مع ما في الصلة من الإيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب.

وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلّا فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون.

وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشئ عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم.

وفي ذلك أيضا إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين.

وجملة (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) حال من ضمير (كَفَرُوا) ، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخراجكم من بلدكم لأن تؤمنوا بالله ربكم ، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم. وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم. ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربّكم على حدّ قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ١ ـ ٣] ثم قال : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالا من ضمير (وَقَدْ كَفَرُوا) كان إخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملا فظيعا ، فأريد استحضار صورة ذلك الإخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له.

والإخراج أريد به : الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على

١٢٠