تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

علفتها تبنا وماء باردا (١)

وقول عبد الله بن الزّبعري :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

أي وممسكا رمحا وهو الذي درج عليه في «الكشاف». وقيل الواو للمعية. و (الْإِيمانَ) مفعول معه.

وعندي أن هذا أحسن الوجوه ، وإن قلّ قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج آيات القرآن عليه حتى ادعى ابن هشام في «مغني اللبيب» أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأول قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس : ٧١] ، ذلك لأن جمهور البصريين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العامل في الاسم الذي صاحبه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافا للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى (مع). وقال عبد القاهر : منصوب بالواو.

والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولا للفعل ، ألا ترى صحة قول القائل : استوى الماء والخشبة. وقولهم : سرت والنيل ، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذ غيرها.

وبذلك يتضح أن متعلق (مِنْ قَبْلِهِمْ) فعل (تَبَوَّؤُا) بمفرده ، وأن المجرور المتعلق به قيد فيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو المعية في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.

وفي ذكر الدار (وهي المدينة) مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبوّؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه‌الله فيما رواه عنه ابن وهب قال : سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق. فقال :

__________________

(١) هو من شواهد النحو. والمشهور أن تمامه :

حتى شتت همّالة عيناها.

وفي خزانة الأدب عن حاشية الشيرازي واليمني «للكشاف» : أنه عجز رجزا وأن صدره : لما حططت الرّجل عنها وأراد.

قال : ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من «صحاح الجوهري» أنه لذي الرمة ولم أجده في ديوانه.

٨١

إن المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) الآية.

وجملة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) حال من الذين تبوّءوا الدار ، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإسلام إذ أحبوا المهاجرين ، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.

ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في «الصحيح» من خبر سعد بن الربيح مع عبد الرحمن بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه ، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم ، وحسبك الأخوة التي آخى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار.

وقوله : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أريد بالوجدان الإدراك العقلي ، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة عن انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر :

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

والحاجة في الأصل : اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج ، أي الافتقار إلى شيء ، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، وهي هنا مجاز في المأرب والمراد ، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) [غافر : ٨٠] ، أي لتبلغوا في السفر عليها المأرب الذي تسافرون لأجله ، وكقوله تعالى : (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) [يوسف : ٦٨] أي مأربا مهمّا وقول النابغة :

أيام تخبرني نعم وأخبرها

ما أكتم الناس من حاجي وإسراري

وعليه فتكون (من) في قوله : (مِمَّا أُوتُوا) ابتدائية ، أي مأربا أو رغبة ناشئة من فيء أعطيه المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.

و (ما أوتوا) هو فيء بني النضير.

وضمير (صُدُورِهِمْ) عائد إلى (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) ، وضمير (أُوتُوا) عائد إلى (مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى (من)

٨٢

بدون لفظها. وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل (ما) في قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) في سورة الروم [٩]. وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سليم على هوازن :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

(أي أحرز جيش هوازن ما جمّعه جيش المسلمين).

والمعنى : أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيء بني النضير.

ويجوز وجه آخر بأن يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات. ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون ، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بله أن يتطلبوه.

وتكون (من) في قوله تعالى : (مِمَّا أُوتُوا) للتعليل ، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون ، أو ابتدائية ، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئه المعتادة في الناس تبعا للمنافسة والغبطة ، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير : ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.

والإيثار : ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.

والمعنى : يؤثرون على أنفسهم في ذلك اختيارا منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) فلذلك عقب به ولم يذكر مفعول (يُؤْثِرُونَ) لدلالة قوله : (مِمَّا أُوتُوا) عليه.

ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها.

وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : «أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل في نسائه فلم يجد عندهنّ شيئا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه‌الله ، فقام رجل من الأنصار (هو

٨٣

أبو طلحة) فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : هذا ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا ، فقالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج ترى أنك تصلحينه فأطفئيه وأريه أنّا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف.

وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير ، قيل : نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.

وجملة (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) في موضع الحال.

و (لَوْ) وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يظنّ حصول الجواب عند حصولها. والتقدير : لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

والخصاصة : شدة الاحتياج.

وتذكير فعل (كانَ) لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقيا ، ولأنه فصل بين (كانَ) واسمها بالمجرور. والباء للملابسة.

وجملة (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تذييل ، والواو اعتراضية ، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح. وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) يشير إلى أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكأنه قيل لسلامتهم من شح الأنفس (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

والشح بضم الشين وكسرها : غريزة في النفس بمنع ما هو لها ، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي : الفرق بين الشح والبخل عسير جدا وقد أشار في «الكشاف» إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بذله وقد قال تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] أي جعل الشح حاضرا معها لا يفارقها ، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.

وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر

٨٤

وتأمل الغنى» ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه. قال وقد أحسن وصفه من قال ، لم أقف على قائله :

يمارس نفسا بين جنبيه كزّة

إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا

فمن وقي شح نفسه ، أي وقي من أن يكون الشح المذموم خلقا له ، لأنه إذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه.

واسم الإشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.

وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كأن جنس المفلح مقصور على ذلك الموقى.

ومن المفسرين من جعل (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظا في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الحشر : ٧] على قرى خاصة هي : قريظة. وفدك ، وخيبر. والنفع ، وعرينة ، ووادي القرى ، ورووا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أفاء الله عليه فيئها قال للأنصار : «إن شئتم قاسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذا»؟ فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت آية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) الآية [الحشر : ٧].

ومنهم من قصر هذه الآية على فيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه. وعلى هذا التفسير يكون عطف (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) عطف جملة على جملة ، واسم الموصول مبتدأ وجملة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) خبرا عن المبتدأ.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

عطف على (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [الحشر : ٩] على التفسيرين المتقدمين ؛ فأما على

٨٥

رأي من جعلوا (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [الحشر : ٩] معطوفا على (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) [الحشر : ٨] جعلوا (الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فريقا من أهل القرى ، وهو غير المهاجرين والأنصار بل هو من جاء إلى الإسلام بعد المهاجرين والأنصار ، فضمير (مِنْ بَعْدِهِمْ) عائد إلى مجموع الفريقين.

والمجيء مستعمل للطروّ والمصير إلى حالة تماثل حالهم ، وهي حالة الإسلام ، فكأنهم أتوا إلى مكان لإقامتهم ، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى بعد ذكر المهاجرين والأنصار (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) [التوبة : ١٠٠] أي اتبعوهم في الإيمان.

وإنما صيغ (جاؤُ) بصيغة الماضي تغليبا لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غفارة ، ومزينة ، وأسلم ، ومثل عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، فكأنه قيل : الذين جاءوا ويجيئون ، بدلالة لحن الخطاب. والمقصود من هذا : زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفيء بني النضير.

وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر ، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه. روى البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال عمر : لو لا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها (أي الفاتحين) كما قسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر.

وذكر القرطبي : أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ فلما غدوا عليه قال : قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [٧ ، ٨]. قال : ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) إلى قوله : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك اه.

وهذا ظاهر في الفيء ، وأما ما فتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سواد العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر ، وهو ليس من غرضنا. ومحله كتب الفقه والحديث.

والفريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] كلاما مستأنفا ، وجعل (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر : ٩] خبرا عن اسم الموصول ، جعلوا قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كذلك مستأنفا.

٨٦

ومن الذين جعلوا قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا) [الحشر : ٩] معطوفا على (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) [الحشر : ٨] من جعل قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) مستأنفا. ونسبه ابن الفرس في «أحكام القرآن» إلى الشافعي. ورأى أن الفيء إذا كان أرضا فهو إلى تخيير الإمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير.

وجملة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) على التفسير المختار في موضع الحال من (الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ).

والغلّ بكسر الغين : الحسد والبغض ، أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغلّ والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فضّل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة ، فبيّن الله للذين جاءوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار ، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم.

والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه.

وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير ، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم ، قال مالك : من كان يبغض أحدا من أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية.

فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) الآية ، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف ، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال ، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم.

وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعليّ حين تحاكما إلى عمر ، فقال العباس : اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر. ومثل إقامة عمر حدّ القذف على أبي بكرة.

وأما ما جرى بين عائشة وعليّ من النزاع والقتال وبين عليّ ومعاوية من القتال فإنما كان انتصارا للحق في كلا رأيي الجانبين وليس ذلك لغلّ أو تنقص ، فهو كضرب القاضي

٨٧

أحدا تأديبا له فوجب إمساك غيرهم من التحزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادهم لتكافئ درجاتهم أو تقاربها. والظنّ بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث ، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير ، وإنما هي مسحة من حمية الجاهلية نخرت عضد الأمة المحمدية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١))

أعقب ذكر ما حلّ ببني النضير وما اتصل به من بيان أسبابه ، ثم بيان مصارف فيئهم وفيء ما يفتح من القرى بعد ذلك ، بذكر أحوال المنافقين مع بني النضير وتغريرهم بالوعود الكاذبة ليعلم المسلمون أن النفاق سجية في أولئك لا يتخلون عنه ولو في جانب قوم هم الذين يودّون أن يظهروا على المسلمين.

والجملة استئناف ابتدائي والاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المنافقين فبني على نفي العلم بحالهم كناية عن التحريض على إيقاع هذا العلم كأنه يقول : تأمّل الذين نافقوا في حال مقالتهم لإخوانهم ولا تترك النظر في ذلك فإنه حال عجيب ، وقد تقدم تفصيل معنى : (أَلَمْ تَرَ) إلى كذا عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٤٣].

وجملة (يَقُولُونَ) في موضع المفعول الثاني. والتقدير : ألم ترهم قائلين. وجيء بالفعل المضارع لقصد تكرر ذلك منهم ، أي يقولون ذلك مؤكّدينه ومكرّرينه لا على سبيل البداء أو الخاطر المعدول عنه.

و (الَّذِينَ نافَقُوا) المخبر عنهم هنا هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمي منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، ورافعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، ووديعة بن أبي قوتل ، أو ابن قوقل ، وسويد (لم ينسب) وداعس (لم ينسب) ، بعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقولون لهم : اثبتوا في معاقلكم فإنّا معكم.

والمراد بإخوانهم بنو النضير وإنما وصفهم بالإخوة لهم لأنهم كانوا متّحدين في الكفر برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليست هذه أخوة النسب فإن بني النضير من اليهود ، والمنافقين

٨٨

الذين بعثوا إليهم من بني عوف من عرب المدينة وأصلهم من الأزد.

وفي وصف إخوانهم ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) إيماء إلى أن جانب الأخوة بينهم هو الكفر إلا أن كفر المنافقين كفر الشرك وكفر إخوانهم كفر أهل الكتاب وهو الكفر برسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولام (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) موطئة للقسم ، أي قالوا لهم كلاما مؤكدا بالقسم.

وإنما وعدوهم بالخروج معهم ليطمئنّوا لنصرتهم فهو كناية عن النصر وإلّا فإنهم لا يرضون أن يفارقوا بلادهم.

وجملة (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً) معطوفة على جملة (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) فهي من المقول لا من المقسم عليه ، وقد أعريت عن المؤكد لأن بني النضير يعلمون أن المنافقين لا يطيعون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين فكان المنافقون في غنية عن تحقيق هذا الخبر.

ومعنى (فِيكُمْ) في شأنكم ، ويعرف هذا بقرينة المقام ، أي في ضركم إذ لا يخطر بالبال أنهم لا يطيعون من يدعوهم إلى موالاة إخوانهم ، ويقدر المضاف في مثل هذا بما يناسب المقام. ونظيره قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ، [المائدة : ٥٢] أي في الموالاة لهم. ومعنى (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) لنعيننكم في القتال. والنصر يطلق على الإعانة على المعادي. وقد أعلم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم كاذبون في ذلك بعد ما أعلمه بما أقسموا عليه تطمينا لخاطره لأن الآية نزلت بعد إجلاء بني النضير وقبل غزو قريظة لئلا يتوجس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيفة من بأس المنافقين ، وسمى الله الخبر شهادة لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ).

بيان لجملة (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الحشر : ١١].

واللام موطئة للقسم وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم لن يضرّوه شيئا لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.

٨٩

وضمير (أُخْرِجُوا) و (قُوتِلُوا) عائدان إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١] ، أي الذين لم يخرجوا ولما يقاتلوا وهم قريظة وخيبر ، أما بنو النضير فقد أخرجوا قبل نزول هذه السورة فهم غير معنيين بهذا الخبر المستقبل. والمعنى : لئن أخرج بقية اليهود في المستقبل لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا في المستقبل لا ينصرونهم. وقد سلك في هذا البيان طريق الإطناب. فإن قوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الحشر : ١١] جمع ما في هاتين الجملتين فجاء بيانه بطريقة الإطناب لزيادة تقرير كذبهم.

(وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

ارتقاء في تكذيبهم على ما وعدوا به إخوانهم ، والواو واو الحال وليست واو العطف.

وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله : (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية [المائدة : ٦] وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨].

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) [البقرة : ٢٢٦] ، أي يريدون العود إلى ما امتنعوا منه بالإيلاء. والمعنى : أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغى فلو أرادوا نصرهم وتجهّزوا معهم لفرّوا عند الكريهة وهذا كقوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) [التوبة : ٤٧].

ويجوز أن يكون أطلق النصر على الإعانة بالرجال والعتاد وهو من معاني النصر.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل فإن انتفاء النصر أعظم رتبة في تأييس أهل الكتاب من الانتفاع بإعانة المنافقين فهو أقوى من انهزام المنافقين إذا جاءوا لإعانة أهل الكتاب في القتال.

والنصر هنا بمعنى : الغلب.

وضمير (لا يُنْصَرُونَ) عائد إلى الذين كفروا من أهل الكتاب إذ الكلام جار على وعد المنافقين بنصر أهل الكتاب.

والمقصود تثبيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣))

٩٠

لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنفس المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وصف شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى ، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية.

والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مرهب منهم ، وذلك مما يزيد المسلمين إقداما في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين.

والصدور مراد بها : النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور.

والرّهبة : مصدر رهب ، أي خاف.

وقوله : (فِي صُدُورِهِمْ) ل (رَهْبَةً) فهي رهبة أولئك.

وضمير (صُدُورِهِمْ) عائد إلى (الَّذِينَ نافَقُوا) [الحشر : ١١] و (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما ، ولأن المقصودين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعوانا لهم.

وإسناد (أَشَدُّ) إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل : لرهبتكم في

صدورهم أشد من رهبة فيها. فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله ، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله ، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية.

و (مِنَ اللهِ) هو المفضل عليه ، وهو على حذف مضاف ، أي من رهبة الله ، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل.

وهذا تركيب غريب النسج بديعه. والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال :

٩١

لرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله ، فحوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية ، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتماما به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] دون : واشتعل شيب رأسي. وليتأتي حذف المضاف في تركيب (مِنَ اللهِ) ، إذ التقدير : من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلا بلفظ (رَهْبَةً) ، إذ لا يحسن أن يقال : لرهبتهم أشد من الله. وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) في سورة النساء [٧٧].

فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله. أما اليهود فلأنهم أهل دين فهم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة. وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم ، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه ربّ الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاء فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية. وهذا بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر».

ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإشارة إلى أنها رهبة جدّ خفيّة ، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دخيلتهم فليس قوله : (فِي صُدُورِهِمْ) وصفا كاشفا.

وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوف للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم ، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلموا صدقه فنجوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين.

فالجملة معترضة بين البيان ومبيّنه.

والإشارة بذلك إلى المذكور من قوله : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) واجتلاب اسم الإشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته.

٩٢

والباء للسببية والمجرور خبر عن اسم الإشارة ، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.

وإقحام لفظ (قَوْمٌ) لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعا وصار من مقومات قوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

والفقه : فهم المعاني الخفية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) في سورة النساء [٧٨] ، وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) في سورة الأنعام [٦٥] ، ذلك أنهم تبعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم ، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ).

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) [الحشر: ١٣] ، لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصّن لقتالهم إياهم ، أي لا يقدرون على قتالكم إلّا في هاته الأحوال والضمير المرفوع في (يُقاتِلُونَكُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١].

وقوله : (جَمِيعاً) يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [المائدة : ٤٨] فيكون للشمول ، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصّنة إلخ.

ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين ، أي لا يقاتلونكم جيوشا كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقيمون في قراهم فيكون النفي منصّبا إلى هذا القيد ، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش ، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم.

واستثناء (إِلَّا فِي قُرىً) على الوجه الأول في (جَمِيعاً) استثناء حقيقي من عموم الأحوال ، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصّنة

٩٣

إلخ. وهو على الوجه الثاني في (جَمِيعاً) استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين.

وعلى كلا الاحتمالين فالكلام يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم ، وإلا خائفين متترّسين.

والمعنى : لا يهاجمونكم ، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جدر ، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار ، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا كما قال عليّ رضي‌الله‌عنه : وهذا اطلاع لهم على تطمين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء.

و «الجدر» بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو جدار على الإفراد ، والمراد الجنس تساوي الجمع.

و (مُحَصَّنَةٍ) ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق.

و (قُرىً) بالقصر جمع قرية ، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فعلة معتل اللام مثل قرية يجمع على فعال بكسر الفاء ممدودا مثل : ركوة وركاء ، وشكوة وشكاء. ولم يسمع القصر إلا في كوة بفتح الكاف لغة وكوى ، وقرية وقرى ولذلك قال الفراء: قرى شاذ ، يريد خارج عن القياس.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

استئناف بياني لأن الإخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين. فيجاب بأن بينهم بأسا شديدا وتدابرا ، فهم لا يتفقون.

وافتتحت الجملة ب (بَأْسُهُمْ) للاهتمام بالإخبار عنه بأنه (بَيْنَهُمْ) ، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين ، وفي تهكم.

ومعنى (بَيْنَهُمْ) أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم ، وهذا التركيب نظير قوله تعالى : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩].

وجملة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) إلى آخرها استئناف عن جملة (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ).

٩٤

لأنه قد يسأل السائل : كيف ذلك ونحن نراهم متفقين؟ فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة إلا إلفة بينهم لأن بينهم إحنا وعداوات فلا يتعاضدون.

والخطاب لغير معيّن لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحسب ذلك. وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم. وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأيا متماثلا في أصول مصالحهما المشتركة ، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها ، ولا تفرّق جامعتها ، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإحن والعداوات.

والقلوب : العقول والأفكار ، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة.

وشتّى : جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فعلى مثل قتيل وقتلى ، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد ، والمعنى : أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين.

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم.

ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد : أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.

وأوثر هنا (لا يَعْقِلُونَ). وفي الآية التي قبلها (لا يَفْقَهُونَ) [الحشر : ١٣] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوهن والفتّ في ساعد الأمة معرفة «مشهورة» بين العقلاء. قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم :

وأن الحزامة أن تصرفوا

لحي سوانا صدور الأسل

فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين.

وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلّة

٩٥

المقومة للقومية وقد ذكرته آنفا.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه هذا الخبر ، فالتقدير : مثلهم كمثل الذين من قبلهم قريبا ، أي حال أهل الكتاب الموعود بنصر المنافقين كحال الذين من قبلهم قريبا.

والمراد : أن حالهم المركبة من التظاهر بالبأس مع إضمار الخوف من المسلمين ، ومن التفرق بينهم وبين إخوانهم من أهل الكتاب ، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة ، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ، كحال الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب وهم بنو النضير فإنهم أظهروا الاستعداد للحرب وأبوا الجلاء ، فلم يحاربوا إلا في قريتهم إذ حصنوها وقبعوا فيها حتى أعياهم الحصار فاضطرّوا إلى الجلاء ولم ينفعهم المنافقون ولا إخوانهم من أهل الكتاب.

وعن مجاهد أن (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) المشركون يوم بدر.

و (مِنْ) زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.

وانتصب (قَرِيباً) على الظرفية متعلقا بالكون المضمر في قوله : (كَمَثَلِ) ، أي كحال كائن قريب ، أو انتصب على الحال من (الَّذِينَ) أي القوم القريب منهم ، كقوله: (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].

والوبال أصله : وخامة المرعى المستلذ به للماشية يقال : كلأ وبيل ، إذا كان مرعى خضرا «حلوا» تهشّ إليه الإبل فيحبطها ويمرضها أو يقتلها ، فشبهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبيل فهلكت وأثبت الذوق على طريقة المكنية وتخييلها ، فكان ذكر (ذاقُوا) مع (وَبالَ) إشارة إلى هذه الاستعارة.

و (أَمْرِهِمْ) شأنهم وما دبّروه وحسبوا له حسابه وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم في الجلاء وترك الديار وما فيها ، أي ذاقوا سوء أعمالهم في الدنيا.

وضمير (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) عائد إلى (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي زيادة على ما ذاقوه من عذاب الدنيا بالجلاء وما فيه من مشقة على الأنفس والأجساد لهم عذاب أليم في الآخرة على الكفر.

٩٦

[١٦ ، ١٧] (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

هذا مثل آخر لممثّل آخر ، وليس مثلا منضمّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفا عليه بالواو ، أو ب (أو) كقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩].

والوجه : أن هذا المثل متصل بقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الحشر : ١٥] كما يفصح عنه قوله في آخره : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) الآية ، أي مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معا في النار.

فجملة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) حال من ضمير (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الحشر : ١٥] أي في الآخرة.

والتعريف في (الشَّيْطانِ) تعريف الجنس وكذلك تعريف «الإنسان». والمراد به الإنسان الكافر.

ولم ترد في الآخرة حادثة معيّنة من وسوسة الشيطان لإنسان معيّن في الدنيا ، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول : (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله : (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أنه يقوله للإنسان ، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد. فالحق : أن قول الشيطان هذا هو ما في آية (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) في سورة إبراهيم [٢٢].

وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية. ذكرها ابن جرير والقرطبي وضعّف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالا لما يقع من الشيطان للإنسان كما مال إليه ابن كثير.

فالمعنى : إذ قال للإنسان في الدنيا : اكفر ، فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال

٩٧

الشيطان يوم القيامة : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) ، أي قال كل شيطان لقرينه من الإنس : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) طمعا في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.

ففي الآية إيجاز حذف حذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط (لمّا) هي داخلة في الشرط إذ التقدير : فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) إلخ. وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة ق [٢٧]. (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) الآية. وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.

وقول : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) من تمام المثل. أي كان عاقبة الممثل بهما خسرانهما معا. وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبّرا وكادا للمسلمين.

وجملة (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) تذييل ، والإشارة إلى ما يدل عليه (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) من معنى ، فكانت عاقبتهما سوأى والعاقبة السّوأى جزاء جميع الظّالمين المعتدين على الله والمسلمين ، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك تكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال ، وما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين ، ومن الإيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم. وكذلك موقف أنصارهم معهم ، إلى الأمر بتقوى الله شكرا له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.

ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا ، أعقبه بتذكيرهم بالإعداد للآخرة بقوله : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة.

٩٨

وجملة (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ، عطف أمر على أمر آخر. وهي معترضة بين جملة (اتَّقُوا اللهَ) وجملة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). وذكر (نَفْسٌ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر : وانظروا ما قدمتم ، فعدل عن الإظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس.

وتنكير (نَفْسٌ) يفيد العموم في سياق الأمر ، أي لتنظر كل نفس ، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] وكقول الحريري :

يا أهل ذا المغني وقيتم ضرّا

(أي كل ضر).

وإنما لم يعرّف بلام التعريف تنصيصا على العموم لئلا يتوهم نفس معهودة.

وأطلق «غد» على الزمن المستقبل مجازا لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغد ، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قرّاد بن أجدع :

فإن يك صدر هذا اليوم ولّى

فإن غدا لناظره قريب

وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ (غد) وأخواته قال زهير :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

يريد باليوم الزمن الحاضر ، وبالأمس الزمن الماضي ، وبالغد الزمن المستقبل.

وتنكير «غد» للتعظيم والتهويل ، أي لغد لا يعرف كنهه.

واللام في قوله : (لِغَدٍ) لام العلة ، أي ما قدمته لأجل يوم القيامة ، أي لأجل الانتفاع به.

والتقديم : مستعار للعمل الذي يعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يحلّ في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سفر ليهيّئ لهم ما يصلح أمرهم ، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة. قال تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ١١٠] ويقال في ضده : أخّر ، إذا ترك عمل شيء قال تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥].

٩٩

وإعادة (وَاتَّقُوا اللهَ) ليبنى عليه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ). وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفا كقوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤ ، ٣٥] وقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣ ـ ٤]. وقول عدي بن زيد : «وألفى قولها كذبا ومينا».

وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد.

فجملة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تعليل للحث على تقوى الله وموقع (إِنَ) فيها موقع التعليل.

ويجوز أن يكون (اتَّقُوا اللهَ) المذكور أولا مرادا به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ويكون (اتَّقُوا اللهَ) المذكور ثانيا مرادا به الدوام على التقوى الأولى ، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] ولذلك أردف بقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي بمقدار اجتهادكم في التقوى ، وأردف بقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ١٩] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلّدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلّدوا الإسلام وأضاعوه قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧]. وفي قوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتمّ استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيرا عن الإعراض عن الدين والتغافل عن التقوى ، وذلك يفضي إلى الفسوق. وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصورا في صورة محسوسة هي صورة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.

وهذا الإعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي

١٠٠