تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

لبن وخمر وعسل فذلك على طريقة التشبيه البليغ ، أي مماثلة للأنهار ، فيجوز أن تكون المماثلة تامة في أنها كالأنهار مستبحرة في أخاديد من أرض الجنة فإن أحوال الآخرة خارقة للعادة المعروفة في الدنيا ، فإن مرأى أنهار من هذه الأصناف مرأى مبهج. ويجوز أن تكون مماثلة هذه الأصناف للأنهار في بعض صفات الأنهار وهي الاستبحار. وهذه الأصناف الخمسة المذكورة في الآية كانت من أفضل ما يتنافسون فيه ومن أعزّ ما يتيسر الحصول عليه ، فكيف الكثير منها ، فكيف إذا كان منها أنهار في الجنة. وتناول هذه الأصناف من التفكّه الذي هو تنعم أهل اليسار والرفاهية.

وقد ذكر هنا أربعة أشربة هي أجناس أشربتهم ، فكانوا يستجيدون الماء الصافي لأن غالب مياههم من الغدران والأحواض بالبادية تمتلئ من ماء المطر أو من مرور السيول فإذا استقرت أياما أخذت تتغير بالطحلب وبما يدخل فيها من الأيدي والدلاء ، وشرب الوحوش وقليل البلاد التي تكون مجاورة الأنهار الجارية. وكذلك اللبن كانوا إذا حلبوا وشربوا أبقوا ما استفضلوه إلى وقت آخر لأنهم لا يحلبون إلا حلبة واحدة أو حلبتين في اليوم فيقع في طعم اللبن تغيير. فأما الخمر فكانت قليلة عزيزة عندهم لقلة الأعناب في الحجاز إلا قليلا في الطائف ، فكانت الخمر تجتلب من بلاد الشام ومن بلاد اليمن ، وكانت غالية الثمن وقد ينقطع جلبها زمانا في فصل الشتاء لعسر السير بها في الطرق وفي أوقات الحروب أيضا خوف انتهابها.

والعسل هو أيضا من أشربتهم ، قال تعالى في النحل [٦٩] (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) والعرب يقولون : سقاه عسلا ، ويقولون : أطعمه عسلا. وكان العسل مرغوبا فيه يجتلب من بلاد الجبال ذات النبات المستمر. فأما الثمرات فبعضها كثير عندهم كالتمر وبعضها قليل كالرمان.

والآسن : وصف من أسن الماء من باب ضرب ونصر وفرح ، إذا تغيّر لونه. وقرأه ابن كثير أسن بدون ألف بعد الهمزة على وزن فعل للمبالغة.

والخمر : عصير العنب الذي يترك حتى يصيبه التخمر وهو الحموضة مثل خمير العجين. و (لَذَّةٍ) وصف وليس باسم ، وهو تأنيث اللذّ ، أي اللذيذ قال بشار :

ذكرت شبابي اللذّ غير قريب

ومجلس لهو طاب بين شروب

واللّذاذة : انفعال نفساني فيه مسرة ، وهي ضد الألم وأكثر حصوله من الطعوم

٨١

والأشربة والملامس البدنية ، فوصف خمر هنا بأنها (لَذَّةٍ) معناه يجد شاربها لذاذة في طعمها ، أي بخلاف خمر الدنيا فإنها حريقة الطعم فلو لا ترقب ما تفعله في الشارب من نشوة وطرب لما شربها لحموضة طعمها.

والعسل المصفى : الذي خلّص مما يخالط العسل من بقايا الشمع وبقايا أعضاء النحل التي قد تموت فيه ، وتقدم الكلام على العسل وتربيته في سورة النحل.

ومعنى (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أصناف من جميع أجناس الثمرات ، فالتعريف في (الثَّمَراتِ) للجنس ، و (كُلِ) مستعملة في حقيقتها وهو الإحاطة ، أي جميع ما خلق الله من الثمرات مما علموه في الدنيا وما لم يعلموه مما خلقه الله للجنة. و (مِنْ) تبعيضية ، وهذا كقوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢].

و (مَغْفِرَةٌ) عطف على (أَنْهارٌ) وما بعده ، أي وفيها مغفرة لهم ، أي تجاوز عنهم ، أي إطلاق في أعمالهم لا تكليف عليهم كمغفرته لأهل بدر إذ بينت بأن يعملوا ما شاءوا في الحديث «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقد تكون المغفرة كناية عن الرضوان عليهم كما قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وتقدير المضاف في مثله ظاهر للقرينة. وقوله : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) جيء به لمقابلة ما وصف من حال أهل الجنة الذي في قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) إلى قوله : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، أي أن أهل النار محرومون من جميع ما ذكر من المشروبات. وليسوا بذائقين إلا الماء الحميم الذي يقطع أمعاءهم بفور سقيه. ولذلك لم يعرج هنا على طعام أهل النار الذي ذكر في قوله تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٤] وقوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات : ٦٢] إلى قوله : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات : ٦٦ ـ ٦٧].

وضمير (سُقُوا) راجع إلى (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) باعتبار معنى (من) وهو الفريق من الكافرين بعد أن أعيد عليه ضمير المفرد في قوله : (هُوَ خالِدٌ).

والأمعاء : جمع معى مقصورا وبفتح الميم وكسرها ، وهو ما ينتقل الطعام إليه بعد نزوله من المعدة. ويسمى عفج بوزن كتف.

٨٢

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦))

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً).

ضمير (وَمِنْهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) [محمد : ١٢] الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة ، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك ، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله : (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ) وقوله : (خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ).

وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) [يونس : ٤٢] وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الأنعام : ٢٥] للفرق الواضح بين الأسلوبين ، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسرّوا الكفر وتظاهروا بالإيمان ، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار. وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار.

ومعنى (يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) : يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن. وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة. روي عن الكلبي ومقاتل : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن التابوت والحارث بن عمرو وزيد بن الصلت ومالك بن الدخشم (١).

والاستماع : أشد السمع وأقواه ، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وعي ما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم يلقون إليه بالهم ، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله. وحق فعل استمع أن يعدّى إلى المفعول بنفسه كما في قوله : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] فإذا أريد تعلقه بالشخص المسموع منه يقال : استمع إلى فلان كما قال هنا (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ، وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن.

و (حَتَّى) في قوله : (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) ابتدائية و (إِذا) اسم زمان متعلق ب (قالُوا).

والمعنى : فإذا خرجوا من عندك قالوا إلخ.

__________________

(١) أي في أول المدة من الهجرة ثم حسن إسلام مالك بن الدخشم وشهد بدرا وشهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخلاص إسلامه كما في حديث عتاب بن مالك في «صحيح البخاري».

٨٣

والخروج : مغادرة مكان معيّن محصورا وغير محصور ، فمنه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَالسِّجْنِ) [يوسف : ١٠٠] ، ومنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) [الأعراف : ١١٠]. والخروج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ (عِنْدِكَ).

و (مَنْ) لتعدية فعل (خَرَجُوا) وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله تعالى: (مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٨٩].

والذين أوتوا العلم : هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الملازمون لمجلسه وسمّي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عبّاس. وروي عنه أنه قال : أنا منهم وسئلت فيمن سئل. المعنى: أنهم يستمعون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول (يَسْتَمِعُ) ليشمل ذلك.

ومعنى (آنِفاً) : وقتا قريبا من زمن التكلم ، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية. قال الزجاج : هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه ا ه يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد ، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنف ، أي جارحة الشمّ وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يبدو لراكبه فيأخذ بخطامه ، فلوحظ في اسم الأنف معنى الوصف بالظهور ، وكني بذلك عن القرب ، وقال غيره : هو مشتق من أنف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يشرب منها من قبل ، وتوصف به الروضة التي لم ترع قبل ، كأنهم لاحظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد ، أي زمن قريب ، ف (آنِفاً) زمانا لم يبعد العهد به. قال ابن عطية : «والمفسّرون يقولون : (آنِفاً) معناه : الساعة القريبة منا وهذا تفسير المعنى» ا ه. وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا. وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل ، فهذا اسم غريب التصريف ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ.

واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ (آنِفاً) بوزن كتف. وقد أنكر بعض علماء القراءات نسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة. فإذا صحت هذه الرواية عن البزّي عنه كان (آنِفاً) حالا من ضمير (مَنْ يَسْتَمِعُ) أجري على الإفراد رعيا للفظ (مَنْ). ومعناه : أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة ، أي التكبر إظهارا لترفعه عن وعي ما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينتهي الكلام عند ما ذا. وزعم أبو علي في الحجة : أن البزي توهمه مثل : حاذر وحذر. ولا يظن مثل هذا بالبزي لو صحت الرواية عنه عن ابن كثير.

٨٤

وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فهو سؤال ينبئ عن مذمة سائليه ، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم ، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه. ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم : إنما نحن مستهزءون ، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاما لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس من يحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعريضا لقلة جدوى حضورها. ويجوز أن تكون الآية أشارت إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنافقين وأحوالهم وعلم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيّون بذلك ، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيّون ، فيكون مفعول يستمعون محذوفا للعلم به عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

استئناف بياني لأن قولهم : (ما ذا قالَ آنِفاً) سؤال غريب من شأنه إثارة سؤال من يسأل عن سبب حصوله على جميع التقادير السابقة في مرادهم منه.

وجيء باسم الإشارة بعد ذكر صفاتهم تشهيرا بهم ، وجيء بالموصول وصلتيه خبرا عن اسم الإشارة لإفادة أن هؤلاء المتميزين بهذه الصفات هم أشخاص الفريق المتقرر بين الناس أنهم فريق مطبوع على قلوبهم لأنه قد تقرر عند المسلمين أن الذين صمّموا على الكفر هم قد طبع الله على قلوبهم وأنهم متّبعون لأهوائهم ، فأفادت أن هؤلاء المستمعين زمرة من ذلك الفريق ، فهذا التركيب على أسلوب قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة البقرة[٥].

والطبع على القلب : تمثيل لعدم مخالطة الهدى والرشد لعقولهم بحال الكتاب المطبوع عليه ، أو الإناء المختوم بحيث لا يصل إليه من يحاول الوصول إلى داخله ، فمعناه أن الله خلق قلوبهم ، أي عقولهم غير مدركة ومصدقة للحقائق والهدى. وهذا الطبع متفاوت يزول بعضه عن بعض أهله في مدد متفاوتة ويدوم مع بعض إلى الموت كما وقع ، وزواله بانتهاء ما في العقل من غشاوة الضلالة وبتوجه لطف الله بمن شاء بحكمته اللطف به المسمى بالتوفيق الذي فسره الأشعرية بخلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وبأنه ما يقع عنده صلاح العبد آخره. وفسر المعتزلة اللطف بإيصال المنافع إلى العبد من وجه يدق

٨٥

إدراكه وتمكينه بالقدرة والآلات.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧))

جملة معترضة بين جملة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] وما فيهم عنها من قوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) [الزخرف : ٦٦] والواو اعتراضية. والمقصود من هذا الاعتراض : مقابلة فريق الضلالة بفريق الهداية على الأسلوب الذي أقيمت عليه هذه السورة كما تقدم في أولها. فهذا أسلوب مستمر وإن اختلفت مواقع جمله.

والمعنى : والذين شرح الله صدرهم للإيمان فاهتدوا لطف الله بهم فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى ، فاتقوا وغالبوا أهواءهم. وإيتاء التقوى مستعار لتيسير أسبابها إذ التقوى معنى نفساني ، والإيتاء يتعدى حقيقة للذوات. وإضافة التقوى إلى ضمير (الَّذِينَ اهْتَدَوْا) إيماء إلى أنهم عرفوا بها واختصت بهم.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها)

تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) [محمد : ١٠ ـ ١٦] الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد ، ولأن المؤمنين ينتظرون أمورا أخر مثل النصر والشهادة ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] الآية. والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام : ١٥٨] الآية.

والاستفهام إنكار مشوب بتهكم ، وهو إنكار وتهكم على غائبين ، موجه إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتا من العقاب ، فإنه مرجون إلى الساعة.

وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد : ١٢].

والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي ، نزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات

٨٦

في الدنيا منزلة العدم لضالة أمره بعد أن نزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها.

و (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل اشتمال من الساعة. و (بَغْتَةً) حال من الساعة قال تعالى: (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧]. والبغتة : الفجأة ، وهو مصدر بمعنى : المرة ، والمراد به هنا الوصف ، أي مباغتة لهم.

ومعنى الكلام : أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم ، فحالهم كحال من ينتظر شيئا فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء ، هذه الاستعارة تهكمية.

والفاء من قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم.

والأشراط : جمع شرط بفتحتين ، وهو : العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه. وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة. وهذا القرب يتصور بصورتين :

إحداهما أن وقت الساعة قريب قربا نسبيا بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق.

والثانية : أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار» رواه الترمذي. وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعا «إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ونهاية حياة المرء قريبة وإن طال العمر.

والأشراط بالنسبة للصورة الأولى : الحوادث التي أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها تقع بين يدي الساعة ، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك ، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ).

٨٧

تفريع على (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها). وأنى اسم يدل على الحالة ، ويضمّن معنى الاستفهام كثيرا وهو هنا استفهام إنكاري ، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة ، والمقصود : إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذ.

و (فَأَنَّى) مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة. و (ذِكْراهُمْ) مبتدأ أول و (لَهُمْ) خبر عن (فَأَنَّى) ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) في سورة الدخان [١٣] ، وضمير (جاءَتْهُمْ) عائد إلى (السَّاعَةَ).

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

فرع على جميع ما ذكر من حال المؤمنين وحال الكافرين ومن عواقب ذلك ووعده أو وعيده أن أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله وعلى ما هو دأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولأمته والتفريع هذا مزيد مناسبة لقوله آنفا (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] الآية.

فالأمر في قوله : (فَاعْلَمْ) كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم ، وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم ذلك وعلمه المؤمنون ، وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس لأن العلم لا يحتمل النقيض فليس الأمر به بعد حصوله لطلب تحصيله بل لطلب الثبات فهو على نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. وأما الأمر في قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل وعمله أو هو لطلب تحصيله إن لم يكن فعله من قبل.

وذكر (الْمُؤْمِناتِ) بعد (لِلْمُؤْمِنِينَ) اهتمام بهن في هذا المقام وإلا فإن الغالب اكتفاء القرآن بذكر المؤمنين وشموله للمؤمنات على طريقة التغليب للعلم بعموم تكاليف الشريعة للرجال والنساء إلا ما استثني من التكاليف.

ومن اللطائف القرآنية أن أمر هنا بالعلم قبل الأمر بالعمل في قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ). قال ابن عيينة لما سئل عن فضل العلم : ألم تسمع قوله حين بدأ به (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ). وترجم البخاري في كتاب العلم من «صحيحه» باب العلم

٨٨

قبل القول والعمل لقول الله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فبدأ بالعلم.

وما يستغفر منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من السيئات لعصمته منها ، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها ، وتسميته بالذنب في الآية إما محاكاة لما كان يكثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله : (اللهم اغفر لي خطيئتي) وإنما كان يقوله في مقام التواضع ، وإما إطلاق لاسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل ، وإطلاقه على ما عناه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «إنه ليغان (١) على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة» (٢).

واللام في قوله : (لِذَنْبِكَ) لام التعيين بينت مفعولا ثانيا لفعل (اسْتَغْفِرْ) واللام في قوله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) لام العلة ، أو بمعنى (عن) والمفعول محذوف ، أي استغفر الذنوب لأجل المؤمنين ، وفي الكلام حذف ، تقديره : وللمؤمنين لذنوبهم.

وجملة (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) تذييل جامع لأحوال ما تقدم. فالمتقلّب : مصدر بمعنى التقلب ، أوثر جلبه هنا لمزاوجة قوله : (وَمَثْواكُمْ). والتقلب : العمل المختلف ظاهرا كان كالصلاة ، أو باطنا كالإيمان والنصح.

والمثوى : المرجع والمثال ، أي يعلم الله أحوالكم جميعا من مؤمنين وكافرين ، وقدر لها جزاءها على حسب علمه بمراتبها ويعلم مصائركم وإنما أمركم ونهاكم وأمركم بالاستغفار خاصة لإجراء أحكام الأسباب على مسبباتها فلا تيأسوا ولا تهملوا.

[٢٠ ، ٢١] (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١))

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)

قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين ، فلما جرى

__________________

(١) يغان ، أي يغام ويغشى. وفسروا ذلك بالغفلات عن الذكر.

(٢) رواه مسلم وأبو داود.

٨٩

في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم ، وذلك حين يدعى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين ، وذلك أمر ليس بالهيّن لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يرجو منه نفعا في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيصبحوا في حيرة. وكان حالهم هذا مخالفا لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن ينزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم ، فبهذه المناسبة حكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين ، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة.

فالمقصود من هذه الآية هو قوله : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآية ، وما قبله توطئة له بذكر سببه ، وأفاد تقديمه أيضا تنويها بشأن الذين آمنوا ، وأفاد ذكره مقابلة بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة. ومقال الذين آمنوا هذا كان سببا في نزول قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] ، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها.

ومعلوم أن قول المؤمنين هذا وقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع : إمّا لقصد استحضار الحالة مثل (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] ، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول. وتبعا لذلك تكون إذا في قوله : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ظرفا مستعملا في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع ، ونظر المنافقين إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة.

و (لَوْ لا) حرف مستعمل هنا في التمني ، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرص والحرص يدعو إلى التحضيض.

وحذف وصف (سُورَةٌ) في حكاية قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) لدلالة ما بعده عليه من قوله : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) لأن قوله (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، أي كما تمنّوا اقتضى أن المسئول سورة يشرع فيها قتال المشركين. فالمعنى : لو لا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه ، فحذف الوصف إيجازا. ووصف السورة ب (مُحْكَمَةٌ) باعتبار وصف آياتها بالإحكام ، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات

٩٠

في قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) في سورة آل عمران [٧] ، أي لا تحتمل آيات تلك السورة المتعلّقة بالقتال إلا وجوب القتال وعدم الهوادة فيه مثل قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] الآيات ، فلا جرم أن هذه السورة هي التي نزلت إجابة عن تمنّي الذين آمنوا. وإنما قال : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتّى.

والخطاب في (رَأَيْتَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا حقّ لقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥].

و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفيّ كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد ، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة. وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين ، وأن النفاق مرض نفساني معضل لأنه تتفرع منه فروع بيناها في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في سورة البقرة [١٠].

وانتصب (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) فهو على معنى التشبيه البليغ.

ووجه الشبه ثبات الحدقة وعدم التحريك ، أي ينظرون إليك نظر المتحيّر بحيث يتجه إلى صوب واحد ولا يشتغل بالمرئيات لأنه في شاغل عن النظر ، وإنما يوجهون أنظارهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كانوا بمجلسه حين نزول السورة ، وكانوا يتظاهرون بالإقبال على تلقي ما ينطق به من الوحي فلما سمعوا ذكر القتال بهتوا ، فالمقصود المشابهة في هذه الصورة. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) في سورة الأحزاب [١٩].

و (مِنَ) هنا تعليلية ، أي المغشي عليه لأجل الموت ، أي حضور الموت.

وفرّع على هذا قوله : (فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). وهذا التفريع اعتراض بين جملة (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وبين جملة (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ).

ولفظ أولى هنا يجوز أن يكون مستعملا في ظاهره استعمال التفضيل على شيء غير مذكور يدل عليه ما قبله ، أي أولى لهم من ذلك الخوف الذي دل عليه نظرهم كالمغشي عليه من الموت ، أن يطيعوا أمر الله ويقولوا قولا معروفا وهو قول (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة : ٢٨٥] فذلك القول المعروف بين المؤمنين إذا دعوا أو أمروا كما قال

٩١

تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) في سورة النور [٥١].

وعلى هذا الوجه فتعدية (فَأَوْلى) باللام دون الباء للدلالة على أن ذلك أولى وأنفع ، فكان اجتلاب اللام للدلالة على معنى النفع. فهو مثل قوله تعالى : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) [النور : ٣٠] وقوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود : ٧٨]. وهو يرتبط بقوله بعده (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

ويجوز أن يكون (فَأَوْلى لَهُمْ) مستعملا في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) في سورة القيامة [٣٤ ، ٣٥] ، وهو الذي اقتصر الزمخشري عليه. ومعناه : أن الله أخبر عن توعده إياهم. ثم قيل على هذا الوجه إن أولى مرتبة حروفه على حالها من الولي وهو القرب ، وأن وزنه أفعل. وقال الجرجاني : هو في هذا الاستعمال مشتق من الويل. فأصل أولى : أويل ، أي أشد ويلا ، فوقع فيه قلب ، ووزنه أفلع. وفي «الصحاح» عن الأصمعي ما يقتضي : أنه يجعل (أولى له) مبتدأ محذوف الخبر. والتّقدير : أقرب ما يهلكه ، قال ثعلب : ولم يقل أحد في (أولى له) أحسن مما قال الأصمعي.

واللام على هذا الوجه إما مزيدة ، أي أولاهم الله ما يكرهون فيكون مثل اللام في قول النابغة :

سقيا ورعيا لذاك العاتب الزّاري

وإمّا متعلقة بأولى على أنه فعل مضى ، وعلى هذا الاستعمال يكون قوله (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلاما مستأنفا وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي طاعة وقول معروف خير لهم ، أو خبر لمبتدإ محذوف ، تقديره : الأمر طاعة ، وقول معروف ، أي أمر الله أن يطيعوا.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

تفريع على وصف حال المنافقين من الهلع عند سماع ذكر القتال فإنه إذا جدّ أمر القتال ، أي حان أن يندب المسلمون إلى القتال سيضطرب أمر المنافقين ويتسللون لواذا من حضور الجهاد ، وأن الأولى لهم حينئذ أن يخلصوا الإيمان ويجاهدوا كما يجاهد المسلمون الخلص وإلّا فإنهم لا محيص لهم من أحد أمرين : إمّا حضور القتال بدون نية

٩٢

فتكون عليهم الهزيمة ويخسروا أنفسهم باطلا ، وإمّا أن ينخزلوا عن القتال كما فعل ابن أبيّ وأتباعه يوم أحد.

وإذا ظرف للزمان المستقبل وهو الغالب فيها فيكون ما بعدها مقدرا وجوده ، أي فإذا جدّ أمر القتال وحدث.

وجملة (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) دليل جواب (فَإِذا) لأن إذا ضمنت هنا معنى الشرط ، أي كذبوا الله وأخلفوا فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ، واقتران جملة الجواب بالفاء للدلالة على تضمين إذا معنى الشرط ، وذلك أحسن من تجريده عن الفاء إذا كانت جملة الجواب شرطية أيضا.

والتعريف في (الْأَمْرُ) تعريف العهد ، أو اللام عن المضاف إليه ، أي أمر القتال المتقدم آنفا في قوله : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ).

والعزم : القطع وتحقق الأمر ، أي كونه لا محيص منه. واستعير العزم للتعيين واللزوم على طريقة المكنية بتشبيه ما عبر عنه بالأمر ، أي القتال برجل عزم على عمل ما وإثبات العزم له تخييلة كإثبات الأظفار للمنية ، وهذه طريقة السكاكي في جميع أمثلة المجاز العقلي ، وهي طريقة دقيقة لكن بدون اطراد ولكن عند ما يسمح به المقام. وجعل في «الكشاف» إسناد العزم إلى الأمر مجازا عقليا ، وحقيقته أن يسند لأصحاب العزم على طريق الجمهور في مثله وهو هنا بعيد إذ ليس المعنى على حصول الجد من أصحاب الأمر ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] فالكلام فيها سواء.

ومعنى (صَدَقُوا اللهَ) قالوا له الصدق ، وهو مطابقة الكلام لما في نفس الأمر ، أي لو صدقوا في قولهم : نحن مؤمنون ، وهم إنما كذبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أظهروا له خلاف ما في نفوسهم ، فجعل الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا على الله تفظيعا له وتهويلا لمغبته ، أي لو أخلصوا الإيمان وقاتلوا بنية الجهاد لكان خيرا لهم في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا خير العزة والحرمة وفي الآخرة خير الجنة.

فهذه الآية إنباء مما سيكون منهم حين يجد الجد ويجيء أوان القتال وهي من معجزات القرآن في الإخبار بالغيب فقد عزم أمر القتال يوم أحد وخرج المنافقون مع جيش المسلمين في صورة المجاهدين فلما بلغ الجيش إلى الشوط بين المدينة وأحد قال عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين : ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟

٩٣

ورجع هو وأتباعه وكانوا ثلث الجيش وذلك سنة ثلاث من الهجرة ، أي بعد نزول هذه الآية بنحو ثلاث سنين.

وقوله : (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) جواب كما تقدم ، وفي الكلام إيجاز لأن قوله : (لَكانَ خَيْراً) يؤذن بأنه إذا عزم الأمر حصل لهم ما لا خير فيه. ولفظ (خَيْراً) ضد الشّر بوزن فعل ، وليس هو هنا بوزن أفعل.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢))

مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد : ٢١] لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماما لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أحد. وقد قال عبد الله بن أبي : علام نقتل أنفسنا هاهنا؟ وربما قال في كلامه : وكيف نقاتل قريشا وهم من قومنا ، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرى الاقتصار على أنهم آووه. والخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات.

والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه بهل الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة (قد) في الخبر ، فالمعنى : أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى : (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) [البقرة : ٢٤٦] وهذا توبيخ كقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٨٥]. والمعنى : أنكم تقعون فيما زعمتم التّفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار. فالتولّي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة : ٢٤٦] وقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) [النجم : ٣٣] وقوله : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه : ٦٠]. وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوت بين التفاسير. ومن المفسرين من حمل التولّي على أنه مطاوع ولّاه إذا أعطاه ولاية ، أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار. وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة ، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني

٩٤

هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها.

وقرأ نافع وحده (عَسَيْتُمْ) بكسر السين. وقرأه بقية العشرة بفتح السين وهما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير. قال أبو علي الفارسي : وجه الكسر أن فعله : عسي مثل رضي ، ولم ينطقوا به إلّا إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير ، وإسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز ، أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة ، يقولون : عسى أن تفعلوا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفا : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [محمد : ١٦] ولا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله : (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد : ٢٢] لأن ذلك لا يستوجب اللعنة ولا أن مرتكبيه بمنزلة الصمّ ، على أن في صيغة المضيّ في أفعال : لعنهم ، وأصمّهم ، وأعمى ، ما لا يلاقي قوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) [محمد : ٢٢] ولا ما في حرف (إن) من زمان الاستقبال.

واستعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن ومواعظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما استعير العمى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطربا فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضارّه إلا بمعونة من يرشده ، وكثر أن يقال : أعمى الله بصره ، مرادا به أنه لم يهده ، وهذه هي النكتة في مجيء تركيب (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) مخالفا لتركيب (فَأَصَمَّهُمْ) إذ لم يقل : وأعمالهم.

وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر ، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤))

تفريع على قوله : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) [محمد : ٢٣] ، أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين ، أو تفريع على قوله : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ). والمعنى : أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب.

والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. وحرف

٩٥

(أَمْ) للإضراب الانتقالي. والمعنى : بل على قلوبهم أقفال وهذا الذي سلكه جمهور المفسرين وهو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) في سورة الزخرف [٥١ ، ٥٢] ، خلافا لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في «مغني اللبيب».

والتدبر : التفهم في دبر الأمر ، أي ما يخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء ، أي خلفه.

والأقفال : جمع قفل ، وهو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب ، أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة ، والأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتنكير (قُلُوبٍ) للتنويع أو التبعيض ، أي على نوع من القلوب أقفال. والمعنى : بل بعض القلوب عليها أقفال. وهذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن يدل بدلالة الالتزام أن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذوات الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم. ويدنو من هذا قول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يتعلق بعض النفوس حمامها

يريد نفسه لأنه وقع بعد قوله : ترّاك أمكنة البيت ، أي أنا تراك أمكنة.

وإضافة (أقفال) إلى ضمير (قُلُوبٍ) نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب ، أي ملازمتها لها فدلّ على أنها قاسية.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥))

لم يزل الكلام على المنافقين فالذين ارتدوا على أدبارهم منافقون ، فيجوز أن يكون مرادا به قوم من أهل النفاق كانوا قد آمنوا حقا ثم رجعوا إلى الكفر لأنهم كانوا ضعفاء الإيمان قليلي الاطمئنان وهم الذين مثلهم الله في سورة البقرة [١٧] بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) الآية.

٩٦

والارتداد على الأدبار على هذا الوجه : تمثيل للراجع إلى الكفر بعد لإيمان بحال من سار ليصل إلى مكان ثم ارتد في طريقه. ولما كان الارتداد سيرا إلى الجهة التي كانت وراء السائر جعل الارتداد إلى الأدبار ، أي إلى جهة الأدبار. وجيء بحرف (عَلى) للدلالة على أن الارتداد متمكن من جهة الأدبار كما يقال : على صراط مستقيم.

والهدى : الإيمان ، وتبيّن الهدى لهم على هذا الوجه تبيّن حقيقي لأنهم ما آمنوا إلا بعد أن تبين لهم هدى الإيمان.

وعلى هذا الوجه فالإتيان بالموصول والصلة ليس إظهارا في مقام الإضمار لأن أصحاب هذه الصلة بعض الذين كان الحديث عنهم فيما تقدم. ويجوز أن يكون مرادا به جميع المنافقين ، عبر عن تصميمهم على الكفر بعد مشاركتهم المسلمين في أحوالهم في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصلاة معه وسماع القرآن والمواعظ بالارتداد لأنه مفارقة لتلك الأحوال الطيبة ، أي رجعوا إلى أقوال الكفر وأعماله وذلك إذا خلوا إلى شياطينهم ، وتبين الهدى على هذا الوجه كونه بيّنا في نفسه ، وهو بيّن لهم لوضوح أدلته ولا غبار عليه ، فهذا التبين من قبيل قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] ، أي ليس معه ما يوجب ريب المرتابين. ويجوز أن يكون المراد به قوما من المنافقين لم يقاتلوا مع المسلمين بعد أن علموا أن القتال حق. وهذا قول ابن عباس والضحاك والسدّي ، وعليه فلعل المراد : الجماعة الذين انخزلوا يوم أحد مع عبد الله بن أبيّ بن سلول ، والارتداد على الأدبار على هذا الوجه حقيقة لأنهم رجعوا عن موقع القتال بعد أن نزلوا به فرجعوا إلى المدينة وكانت المدينة خلفهم. وهذا عندي أظهر الوجهين وأليق بقوله بعد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) إلى قوله : (وَأَدْبارَهُمْ) [محمد : ٢٦ ، ٢٧]. والهدى على هذا الوجه هو الحقّ ، أي من بعد ما علموا أن الحق قتال المشركين.

وأوثر أن يكون خبر (إنّ) جملة ليتاتّى بالجملة اشتمالها على خصائص الابتداء باسم الشيطان للاهتمام به في غرض ذمهم ، وأن يسند إلى اسمه مسند فعلي ليفيد تقوّي الحكم نحو : هو يعطي الجزيل.

والتسويل : تسهيل الأمر الذي يستشعر منه صعوبة أو ضر وتزيين ما ليس بحسن.

والإملاء : المدّ والتمديد في الزمان ، ويطلق على الإبقاء على الشيء كثيرا ، أي أراهم الارتداد حسنا دائما كما حكى عنه في قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] ، أي أن ارتدادهم من عمل الشيطان.

٩٧

وقرأ الجمهور (وَأَمْلى لَهُمْ) بفتح الهمزة على صيغة المبني للفاعل. وقرأه أبو عمرو بضم الهمزة وكسر اللام وفتح التحتية على صيغة المبني إلى المجهول. وقرأه يعقوب بضم الهمزة وكسر اللام وسكون التحتية على أنه مسند إلى المتكلم فالضمير عائد إلى الله تعالى ، أي الشيطان سوّل لهم وأنا أملي لهم فيكون الكلام وعيدا ، أي أنا أؤخرهم قليلا ثم أعاقبهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦))

استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى ، فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عند ما تبين لهم الهدى فسوّل لهم أن يوافقوا أهل الشرك والكفر في بعض الأمور مسولا أن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم. وهذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد.

فمعنى (قالُوا) : قالوا قولا عن اعتقاد ورأي ، وإنما قالوا : (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض.

و (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) هم الذين كرهوا القرآن وكفروا ، وهم : إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٩] وقد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين ، ولعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين ويتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد. وإما اليهود من قريظة والنضير فقد حكى الله عنهم في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١].

فالمراد ب (بَعْضِ الْأَمْرِ) على الوجه الأول في محمل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) [محمد : ٢٥] إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم وإشعارهم بوفرة عدد المنافقين وإن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال. والمراد ب (بَعْضِ الْأَمْرِ) على الوجه الثاني بعض أمر القتال ، يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين.

٩٨

والأمر هو : شأن الشرك وما يلائم أهله ، أي نطيعكم في بعض الكفر ولا نطيعكم في جميع الشئون لأن ذلك يفضح نفاقهم ، أو المراد في بعض ما تأمروننا به من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول كالخلق على المخلوق.

وأيّا ما كان فهم قالوا ذلك للمشركين سرّا فاطلع الله عليه نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك قال تعالى: (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ). وقرأ الجمهور (إِسْرارَهُمْ) بفتح الهمزة جمع سرّ. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر الهمزة مصدر أسرّ.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧))

الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) [محمد : ٢٥] الآية وما بينهما متصل بقوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) [محمد : ٢٥] بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدإ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد. ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد : إذا كانوا فروا من القتال هلعا وخوفا فكيف إذا توفتهم الملائكة ، أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال. وهذا يقتضي شيئين : أولهما أنهم ميّتون لا محالة ، وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب.

فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران: ١٦٨] وقوله : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة : ٨١].

والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت.

والمقصود : وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت. ولما جعل هذا العذاب محققا وقوعه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاما مستعملا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة ، وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلّا من أمر غير معهود ، والسياق يدل على الفظاعة.

و (إِذا) متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام ، تقديره : كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة.

٩٩

وكثر حذف متعلّق كيف في أمثال هذا مقدّرا مؤخرا عن كيف وعن (إِذا) كقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١]. والتقدير : كيف يصنعون ويحتالون.

وجعل سيبويه كيف في مثله ظرفا وتبعه ابن الحاجب في الكافية. ولعله أراد الفرار من الحذف.

وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) حال من (الْمَلائِكَةُ). والمقصود من هذه الحال : وعيدهم بهذه الميتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم ، أي يضربون وجوههم التي وقوها من ضرب السيف حين فرّوا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي ، أو العباس بن مدراس:

نعرّض للسيوف إذا التقينا

وجوها لا تعرض للنظام

ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا ، وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفرّوا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) [محمد : ٢٧] كما تقدم آنفا. واتباعهم ما أسخط الله : هو اتباعهم الشرك. والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل. وكراهتهم رضوان الله : كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام.

وفي ذكر اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه محسّن الطباق مرتين للمضادة بين السخط والرضوان ، والاتباع والكراهية. والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله ، وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار ، ففي الكلام أيضا محسن اللف والنشر المرتب. فكان ذلك التعذيب مناسبا لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي.

١٠٠