تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

أغراضها

معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين ، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد. افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله ، أي دينه.

وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم. وانتقل من ذلك إلى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم. وفيها وعد المجاهدين بالجنة ، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السّلم ، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم. ووصف الجنة ونعيمها ، ووصف جهنم وعذابها. ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال ، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين. وتهديد المنافقين بأن الله ينبئ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين. وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١))

صدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيرا في نفوس المسلمين حنقا عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين ، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة ، حين يعلمون الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين ، فهذا تمهيد لقوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [محمد : ٤].

وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة ، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم ، وبراعة استهلال للغرض المقصود.

والكفر : الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجردا عن قرينة إرادة غير المشركين. وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين. وهي : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، وضلال الأعمال الناشئ عن إضلال الله إياهم.

٦١

والصدّ عن سبيل : هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام ، وصرفهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأولى. وأضيف (السبيل) إلى (اللهِ) لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩]. واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائر فيه إلى بغيته.

ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الحج : ٢٥]. ومن الصد عن المسجد الحرام : إخراجهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من مكة ، وصدهم عن العمرة عام الحديبية. ومن الصد عن سبيل الله : إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم ، فلذلك قيل : إن الآية نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من سادة المشركين من قريش. وهم : أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف ونبيه بن الحجاج ومنبّه بن الحجاج وأبو البختري بن هشام والحارث بن هشام وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل وحكيم بن حزام وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة. وعدّ منهم صفوان بن أمية وسهل بن عمرو ومقيس الجمحي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب وهذان أسلما وحسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخرين خلاف. ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

والإضلال : الإبطال والإضاعة ، وهو يرجع إلى الضلال. وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يراد وهو يستلزم المعاني الأخر. وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة ، فلم يثبهم عليها من صلة رحم ، وإطعام جائع ، ونحوهما ، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثا وسيئا ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خيّب سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامهم الجيش باطلا ، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يشفوا غليلهم يوم أحد ، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال : ٣٦].

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢))

٦٢

هذا مقابل فريق الذين كفروا وهو فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإيراد الموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلته ، أي لأجل إيمانهم إلخ كفّر عنهم سيئاتهم.

وقد جاء في مقابلة الأوصاف الثلاثة التي أثبتت للذين كفروا بثلاثة أوصاف ضدها للمسلمين وهي : الإيمان مقابل الكفر ، والإيمان بما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقابل الصد عن سبيل الله ، وعمل الصالحات مقابل بعض ما تضمنه (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] ، و (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) مقابل بعض آخر مما تضمنه (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ، (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) مقابل بقية ما تضمنه (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ). وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو نظير لوصفه بسبيل الله في قوله : (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [محمد : ١].

وعبر عن الجلالة هنا بوصف الربّ زيادة في التنويه بشأن المسلمين على نحو قوله : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] فلذلك لم يقل : وصدّوا عن سبيل ربهم.

وتكفير السيئات غفرانها لهم فإنهم لما عملوا الصالحات كفّر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان ، وكفر لهم الصغائر ، وكفر عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات كما قال تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٢].

والبال : يطلق على القلب ، أي العقل وما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه ، قال امرؤ القيس :

فعادي عداء بين ثور ونعجة

وكان عداء الوحش منّي على بال

وقال :

عليه القتام سيئ الظن والبال

ومنه قولهم : ما بالك؟ أي ما ذا ظننت حين فعلت كذا ، وقولهم : لا يبالي ، كأنه مشتق منه ، أي لا يخطر بباله ، ومنه بيت العقيلي في الحماسة :

ونبكي حين نقتلكم عليكم

ونقتلكم كأنّا لا نبالي

أي لا نفكر.

٦٣

وحكى الأزهري عن جماعة من العلماء ، أي معنى لا أبالي : لا أكره ا ه. وأحسبهم أرادوا تفسير حاصل المعنى ولم يضبطوا تفسير معنى الكلمة.

ويطلق البال على الحال والقدر. وفي الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر». قال الوزير البطليوسي في شرح ديوان امرئ القيس : قال أبو سعيد : كنت أقول للمعري : كيف أصبحت؟ فيقول : بخير أصلح الله بالك. ولم يوفه صاحب الأساس حقه من البيان وأدمجه في مادة (بلو). وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه ، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن ، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك ، وحكاها عنهم القرآن في مواضع كثيرة والمعنى : أقام أنظارهم وعقولهم فلا يفكرون إلا صالحا ولا يتدبرون إلا ناجحا.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)

هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين. والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكمل تمييز تنويها به. وقد ذكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه.

والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين ، وهما (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] و (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) [محمد : ٢] ، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما.

واسم الإشارة مبتدأ ، وقوله : (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) إلخ خبره ، والباء للسببيّة ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة ، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، ولما كان ذلك جامعا للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقا بالخبرين وسببا لهما. وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسير لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدم أو تأخّر. وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية :

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

٦٤

سجية تلك فيهم غير محدثة

إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع

قال في «الكشاف» : وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير ، يريد أنه من المحسنات البديعية. ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لمّا فسر لطلبته هذه الآية فقيد عنه في الحواشي قوله :

به فجع الفرسان فوق خيولهم

كما فجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البيض حيرة

وزعزع عن أجيادهن المخانق

وفي هذه الآية محسّن الطباق مرتين بين (الَّذِينَ كَفَرُوا) و (الَّذِينَ آمَنُوا) وبين (الْحَقُ) و (الْباطِلَ). وفي بيتي الزمخشري محسّن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت. واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليتان لهيئتي العمل بما يأمر به أئمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن ، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق.

ووصف (الْحَقَ) بأنه (مِنْ رَبِّهِمْ) تنويه به وتشريف لهم.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ).

تذييل لما قبله ، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بيانا واضحا.

والمعنى : قد بيّنا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلا وإجمالا ، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين ، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس أحوالهم كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات.

ومعنى (يَضْرِبُ) : يلقي وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦].

والأمثال : جمع مثل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها ، أي تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره. واللام للأجل ، والمراد بالناس جميع الناس. وضمير (أَمْثالَهُمْ) للناس.

والمعنى : كهذا التبيين يبيّن الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شئون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحجاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب ، ولكي يكونوا على بصيرة في شئونهم ، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقا ، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين.

٦٥

[٤ ـ ٦] (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ). وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقررا يومئذ ، وتقدم في سورة الأنفال.

والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم.

والمقصود : تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله ، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين. وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

و (إذ) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ).

واللقاء في قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : المقابلة ، وهو إطلاق شهير للقاء ، يقال : يوم اللقاء ، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب ، ويقال : إن لقيت فلانا لقيت منه أسدا ، وقال النابغة :

تجنب بني حنّ فإن لقاءهم

كريه وإن لم تلق إلا بصائر

فليس المعنى : إذا لقيتم الكافرين في الطريق ، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل (لَقِيتُمُ). والمعنى : فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم ، فآسروا منهم أسرى.

وضرب الرقاب : كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في

٦٦

القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام ، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض.

والضرب هنا بمعنى : القطع بالسيف ، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجه عدوه وجها لوجه. والمعنى : فاقتلوهم سواء كان القتل بضرب السيف ، أو طعن الرّماح ، أو رشق النبال ، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان.

والذين كفروا : هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر ، نحو : الكافرين ، والكفار ، والذين كفروا ، هو الشرك. و (حَتَّى) ابتدائية. ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع.

والإثخان : الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة ، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها.

وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل ، وكلا المعنيين في هذه الآية ، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداء غير مقيّد. وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذ ، أي أبقوا الأسرى ، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر. وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله : (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).

وانتصب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله ثم أضيف إلى مفعوله ، والتقدير : فاضربوا الرقاب ضربا ، فلما حذف الفعل اختصارا قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية. والشدّ : قوة الربط ، وقوة الإمساك.

والوثاق بفتح الواو : الشيء الذي يوثق به ، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به. وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير. والمعنى : فاقتلوهم ، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم.

وتعريف (الرِّقابِ) و (الْوَثاقَ) يجوز أن يكون للعهد الذهني ، ويجوز أن يكون

٦٧

عوضا عن المضاف إليه ، أي فضرب رقابهم وشدّوا وثاقهم.

والمنّ : الإنعام : والمراد به : إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منّ عليه إذ لم يقتل ، والفداء : بكسر الفاء ممدودا تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدو. وقدم المن على الفداء ترجيحا له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه.

وانتصب (مَنًّا) و (فِداءً) على المفعولية المطلقة بدلا من عامليهما ، والتقدير : إما تمنون وإما تفدون.

وقوله (بَعْدُ) أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء. وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد غزوة هوازن. وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر. فقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) عام في كل كافر ، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حربهم ويشمل من حارب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار. وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده ، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون ، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة. ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) في سورة الأنفال [٦٧]. واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحد قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي ، ومن السلف عبد الله بن عمر ، وعطاء ، وسعيد بن جبير : أن هذه الآية غير منسوخة ، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء ، وأمير الجيش مخيّر في ذلك. ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذن في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو منهية لحكم قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في سورة الأنفال [٦٧ ، ٦٨].

وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) لما علم من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة ، وأوقات المحاربة ، فلذلك لم يقل هؤلاء بحظر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء ، ولم يذكر معهما

٦٨

القتل. وقد ثبت في «الصحيح» ثبوتا مستفيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل من أسرى بدر النضر بن الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية ، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة ، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر. وأيضا لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق ، وهو الأصل في الأسرى ، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملا لترك القتل ، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع. وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك : أنّ المنّ من العتق.

وقال الحسن وعطاء : التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير ، فقتل الأسير يكون محظورا. وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء. وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج ، ورواه العوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة : لا بأس أن يفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين. وروى الجصّاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف.

والغاية المستفادة من (حَتَّى) في قوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) للتعليل لا للتقييد ، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال. والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهن العدوّ فيتركوا حربكم ، فلا مفهوم لهذه الغاية ، فالتعليل متصل بقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) وما بينهما اعتراض. والتقدير : فضرب الرقاب ، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، فيكون واردا مورد التعليم والموعظة ، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء.

والأوزار : الأثقال ، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله ، وهذا من مبتكرات القرآن. وأخذ منه عبد ربه السلمى ، أو سليم الحنفي قوله :

٦٩

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره.

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).

أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفا : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) [محمد : ٣] للنكتة التي تقدمت هنالك ، وهو خبر لمبتدإ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف. وتقدير المحذوف : الأمر ذلك ، والمشار إليه ما تقدم من قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلى هنا ، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس.

والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و (لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، أي أمرتم بضرب رقابهم ، والحال أن الله لو شاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم ، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض.

وتعدية (انتصر) بحرف (من) مع أن حقه أن يعدّى بحرف (على) لتضمينه معنى: انتقم.

والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعد الاستدراك.

والبلو حقيقته : الاختبار والتجربة ، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار ، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)) هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله: (فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلى قوله : (وَإِمَّا فِداءً) ، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم.

وجملة (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلخ عطف على جملة (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله.

٧٠

وذكر (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال : فلن يضل الله أعمالكم ، وهكذا بأسلوب الخطاب ، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر ، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته ، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر.

فجملة (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) خبر عن الموصول ، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيرا ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء ، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل (قُتِلُوا) منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط. وجملة (سَيَهْدِيهِمْ) وما عطف عليها بيان لجملة (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ). وتقدم الكلام آنفا على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال.

ومعنى (عَرَّفَها لَهُمْ) أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها ، فالجملة حال من الجنة ، أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها ، وذلك من تعجيل الفرح بها. وقيل : (عَرَّفَها) جعل فيها عرفا ، أي ريحا طيبا ، والتطييب من تمام حسن الضيافة.

وقرأ الجمهور قاتلوا بصيغة المفاعلة ، فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم. وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم (قُتِلُوا) بالبناء للنائب ، فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧))

لما ذكر أنه لو شاء الله لانتصر منهم علم منه أن ما أمر به المسلمين من قتال الكفار إنما أراد منه نصر الدين بخضد شوكة أعدائه الذين يصدون الناس عنه ، أتبعه بالترغيب في نصر الله والوعد بتكفل الله لهم بالنصر إن نصروه ، وبأنه خاذل الذين كفروا بسبب كراهيتهم ما شرعه من الدين.

فالجملة استئناف ابتدائي لهاته المناسبة. وافتتح الترغيب بندائهم بصلة الإيمان اهتماما بالكلام وإيماء إلى أن الإيماء يقتضي منهم ذلك ، والمقصود تحريضهم على الجهاد في المستقبل بعد أن اجتنوا فائدته مشاهدة يوم بدر.

ومعنى نصرهم الله : نصر دينه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الله غني عن النصر في تنفيذ إرادته

٧١

كما قال : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) [محمد : ٤]. ولا حاجة إلى تقدير مضاف بين (تَنْصُرُوا) واسم الجلالة تقديره : دين الله ، لأنه يقال : نصر فلان فلانا ، إذا نصر ذويه وهو غير حاضر. وجيء في الشرط بحرف (إِنْ) الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليجعل المطلوب به كالذي يشك في وفائه به.

وتثبيت الأقدام : تمثيل لليقين وعدم الوهن بحالة من ثبتت قدمه في الأرض فلم يزل ، فإن الزلل وهن يسقط صاحبه ، ولذلك يمثّل الانهزام والخيبة والخطأ بزلل القدم قال تعالى : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) [النحل : ٩٤].

[٨ ، ٩] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

هذا مقابل قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٤] فإن المقاتلين في سبيل الله هم المؤمنون ، فهذا عطف على جملة (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [محمد : ٤] الآية.

والتعس : الشقاء ويطلق على عدة معان : الهلاك ، والخيبة ، والانحطاط ، والسقوط ، وهي معان تحوم حول الشقاء ، وقد كثر أن يقال : تعسا له ، للعاثر البغيض ، أي سقوطا وخرورا لا نهوض منه. ويقابله قولهم للعاثر : لعا له ، أي ارتفاعا ، قال الأعشى :

بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن أقول لعا

وفي حديث الإفك : فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح لأن العثار تعس.

ومن بدائع القرآن وقوع (فَتَعْساً لَهُمْ) في جانب الكفار في مقابلة قوله للمؤمنين : (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧].

والفعل من التعس يجيء من باب منع وباب سمع ، وفي «القاموس» إذا خاطبت قلت : تعست كمنع ، وإذا حكيت قلت : تعس كسمع.

وانتصب (فَتَعْساً) على المفعول المطلق بدلا من فعله. والتقدير : فتعسوا تعسهم ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله مثل تبّا له ، وويحا له. وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم ، ثم أدخلت على الفاعل لام التبيين فصار (فَتَعْساً لَهُمْ). والمجرور متعلق

٧٢

بالمصدر ، أو بعامله المحذوف على التحقيق وهو مختار بن مالك وإن أباه ابن هشام. ويجوز أن يكون (فَتَعْساً لَهُمْ) مستعملا في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفظيع ، وذلك من استعمالات هذا المركب مثل سقيا له ورعيا له وتبّا له وويحا له وحينئذ يتعين في الآية فعل قول محذوف تقديره : فقال الله : تعسا لهم ، أو فيقال : تعسا لهم.

ودخلت الفاء على (فَتَعْساً) وهو خبر الموصول لمعاملة الموصول معاملة الشرط.

وقوله : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) إشارة إلى ما تقدم في أول السورة من قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] ، وتقدم القول على (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) هنالك.

والقول في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا) إلخ في معناه ، وفي موقعه من الجملة التي قبله وفي نكتة تكريره كما تقدم في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) [محمد : ٣].

والإشارة إلى التعس وإضلال الأعمال المتقدم ذكرهما. والكراهية : البغض والعداوة.

و (ما أَنْزَلَ اللهُ) هو القرآن وما فيه من التوحيد والرسالة والبعث ، قال تعالى : (بُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣].

والباء في (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا) للسببيّة. وإحباط الأعمال إبطالها : أي جعلها بطلا ، أي ضائعة لا نفع لهم منها ، والمراد بأعمالهم : الأعمال التي يرجون منها النفع في الدنيا لأنهم لم يكونوا يرجون نفعها في الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث وإنما كانوا يرجون من الأعمال الصالحة رضي الله ورضى الأصنام ليعيشوا في سعة رزق وسلامة وعافية وتسلم أولادهم وأنعامهم ، فالأعمال المحبطة بعض الأعمال المضللة ، وإحباطها هو عدم تحقق ما رجوه منها فهو أخص من إضلال أعمالهم كما علمته عند قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] أول السورة. والمقصود من ذكر هذا الخاص بعد العام التنبيه على أنهم لم ينتفعوا بها لئلا يظن المؤمنون أنها قد تخفف عنهم من العذاب فقد كانوا يتساءلون عن ذلك ، كما في حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلمت على ما سلف من خير» أي ولو لم يسلم لما كان له فيها خير.

٧٣

والمعنى : أنّهم لو آمنوا بما أنزل الله لانتفعوا بأعمالهم الصّالحة في الآخرة وهي المقصود الأهمّ وفي الدنيا على الجملة. وقد حصل من ذكر هذا الخاص بعد العام تأكيد الخير المذكور.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))

تفريع على جملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] الآية ، وتقدم القول في نظائر (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) في سورة الروم [٩] وفي سورة غافر [٢١].

والاستفهام تقريري ، والمعنى : أليس تعس الذين كفروا مشهودا عليه بآثاره من سوء عاقبة أمثالهم الذين كانوا قبلهم يدينون بمثل دينهم.

وجملة (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) استئناف بياني ، وهذا تعريض بالتهديد. والتدمير : الإهلاك والدمار وهو الهلك. وفعل (دَمَّرَ) متعد إلى المدمّر بنفسه ، يقال : دمرهم الله ، وإنما عدي في الآية بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير ، فحذف مفعول (دَمَّرَ) لقصد العموم ، ثم جعل التدمير واقعا عليهم فأفاد معنى (دَمَّرَ) كل ما يختصّ بهم ، وهو المفعول المحذوف ، وأن التدمير واقع عليهم فهم من مشموله.

وجملة (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) اعتراض بين جملة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وبين جملة (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [محمد : ١١]. والمراد بالكافرين : كفار مكة. والمعنى : ولكفاركم أمثال عاقبة الذين من قبلهم من الدّمار وهذا تصريح بما وقع به التعريض للتأكيد بالتعميم ثم الخصوص.

وأمثال : جمع مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، وجمع الأمثال لأن الله استأصل الكافرين مرات حتى استقر الإسلام فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف ، ويوم حنين بالسيف أيضا ، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة ، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه ، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو. وضمير (أَمْثالُها) عائد إلى (عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) باعتبار أنها حالة سوء.

٧٤

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١))

أعيد اسم الإشارة للوجه الذي تقدم في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) [محمد : ٣] وقوله : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) [محمد : ٤].

واسم الإشارة منصرف إلى مضمون قوله : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] بتأويل : ذلك المذكور ، لأنه يتضمن وعيدا للمشركين بالتدمير ، وفي تدميرهم انتصار للمؤمنين على ما لقوا منهم من الأضرار ، فأفيد أن ما توعدهم الله به مسبب على أن الله نصير الذين آمنوا وهو المقصود من التعليل وما بعده تتميم.

والمولى ، هنا : الولي والناصر. والمعنى : أن الله ينصر الذين ينصرون دينه وهم الذين آمنوا ولا ينصر الذين كفروا به ، فأشركوا معه في إلهيته وإذا كان لا ينصرهم فلا يجدون نصيرا لأنه لا يستطيع أحد أن ينصرهم على الله ، فنفي جنس المولى لهم بهذا المعنى من معاني المولى. فقوله : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أفاد شيئين : أن الله لا ينصرهم ، وأنه إذا لم ينصرهم فلا ناصر لهم ، وأما إثبات المولى للمشركين في قوله تعالى : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) إلى قوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [يونس : ٢٨ ـ ٣٠] فذلك المولى بمعنى آخر ، وهو معنى : المالك والرب ، فلا تعارض بينهما.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

استئناف بياني جواب سؤال يخطر ببال سامع قوله : (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] عن حال المؤمنين في الآخرة وعن رزق الكافرين في الدنيا ، فبيّن الله أن من ولايته المؤمنين أن يعطيهم النعيم الخالد بعد النصر في الدنيا ، وأنّ ما أعطاه الكافرين في الدنيا لا عبرة به لأنهم مسلوبون من فهم الإيمان فحظهم من الدنيا أكل وتمتع كحظ الأنعام ، وعاقبتهم في عالم الخلود العذاب ، فقوله : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) في معنى قوله في سورة آل عمران [١٩٦ ، ١٩٧] (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

وهذا الاستئناف وقع اعتراضا بين جملة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [محمد : ١٠] وجملة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) [محمد : ١٣] الآية.

٧٥

والمجرور من قوله : (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) في محل الحال من ضمير (يَأْكُلُونَ) ، أو في محل الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ل (يَأْكُلُونَ) لبيان نوعه.

والتمتع : الانتفاع القليل بالمتاع ، وتقدم في قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) في سورة آل عمران [١٩٧] ، وقوله : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤].

والمثوى : مكان الثواء ، والثواء : الاستقرار ، وتقدم في قوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) في الأنعام [١٢٨]. وعدل عن الإضافة فقيل (مَثْوىً لَهُمْ) بالتعليق باللام التي شأنها أن تنون في الإضافة ليفاد بالتنوين معنى التمكّن من القرار في النار مثوى ، أي مثوى قويا لهم لأن الإخبار عن النار في هذه الآية حصل قبل مشاهدتها ، فلذلك أضيفت في قوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) لأنه إخبار عنها وهم يشاهدونها في المحشر.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣))

عطف على جملة (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [محمد : ١٠] ، وما بينهما استطراد اتصل بعضه ببعض. وكلمة (كَأَيِّنْ) تدلّ على كثرة العدد ، وتقدم في سورة آل عمران وفي سورة الحج.

والمراد بالقرية : أهلها ، بقرينة قوله : (أَهْلَكْناهُمْ) ، وإنما أجري الإخبار على القرية وضميرها لإفادة الإحاطة بجميع أهلها وجميع أحوالهم وليكون لإسناد إخراج الرسول إلى القرية كلها وقع من التبعة على جميع أهلها سواء منهم من تولى أسباب الخروج ، ومن كان ينظر ولا ينهى قال تعالى : (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) [الممتحنة : ٩].

وهذا إطناب في الوعيد لأن مقام التهديد والتوبيخ يقتضي الإطناب ، فمفاد هذه الآية مؤكد لمفاد قوله : (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ، فحصل توكيد ذلك بما هو مقارب له من إهلاك الأمم ذوات القرى والمدن بعد أن شمل قوله : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كان من أهل القرى ، وزاد هنا التصريح بأن الذين من قبلهم كانوا أشد قوة منهم ليفهموا أن إهلاك هؤلاء هيّن على الله ، فإنه لما كان التهديد السابق تهديدا بعذاب السيف من قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] الآيات ، قد يلقي في نفوسهم غرورا فتعذّر استئصالهم بالسيف

٧٦

وهم ما هم من المنعة وأنهم تمنعهم قريتهم مكة وحرمتها بين العرب فلا يقعدون عن نصرتهم ، فربّما استخفّوا بهذا الوعيد ولم يستكينوا لهذا التهديد ، فأعلمهم الله أن قرى كثيرة كانت أشد قوة من قريتهم أهلكهم الله فلم يجدوا نصيرا.

وبهذا يظهر الموقع البديع للتفريع في قوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) وزاد أيضا إجراء الإضافة في قوله : (قَرْيَتِكَ) ، ووصفها ب (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) لما تفيده إضافة القرية إلى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعبير أهلها بمذمة القطيعة ولما تؤذن به الصلة من تعليل إهلاكهم بسبب إخراجهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريته قال تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) [البقرة : ١٩١].

وإطلاق الإخراج على ما عامل به المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجفاء والأذى ومقاومة نشر الدين إطلاق من قبيل الاستعارة لأن سوء معاملتهم إياه كان سببا في خروجه من مكة وهي قريته ، فشبه سبب الخروج بالإخراج ثم أطلق عليه فعل (أَخْرَجَتْكَ) ، وليس ذلك بإخراج وإنما هو خروج فإن المشركين لم يلجئوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإخراج بل كانوا على العكس يرصدون أن يمنعوه من الخروج خشية اعتصامه بقبائل تنصره فلذلك أخفى على الناس أمر هجرته إلا عن أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، فقوله : (أَخْرَجَتْكَ) من باب قولك : أقدمني بلدك حقّ لي على فلان ، وهو استعارة على التحقيق ، وليس مجازا عقليا إذ ليس ثمة إخراج حتى يدعى أن سببه بمنزلة فاعل الإخراج ، ولا هو من الكناية وإن كان قد مثل به الشيخ في دلائل الإعجاز للمجاز العقلي ، والمثال يكفي فيه الفرض والاحتمال. وفرع على الإخبار بإهلاك الله إياهم الإخبار بانتفاء جنس الناصر لهم ، أي المنقذ لهم من الإهلاك.

والمقصود : التذكير بأن أمثال هؤلاء المشركين لم يجدوا دافعا يدفع عنهم الإهلاك ، وذلك تعريض بتأييس المشركين من الفاء ناصر ينصرهم في حربهم للمسلمين قطعا لما قد يخالج نفوس المشركين أنهم لا يغلبون لتظاهر قبائل العرب معهم ، ولذلك حزبوا الأحزاب في وقعة الخندق.

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى (مِنْ قَرْيَةٍ) لأن المراد بالقرى أهلها. والمعنى : أهلكناهم إهلاكا لا بقاء معه لشيء منهم لأن بقاء شيء منهم نصر لذلك الباقي بنجاته من الإهلاك.

واسم الفاعل في قوله : (فَلا ناصِرَ) مراد به الجنس لوقوعه بعد (لا) النافية للجنس فلذلك لا يقصد تضمنه لزمن ما لأنه غير مراد به معنى الفعل بل مجرد الاتصاف بالمصدر

٧٧

فتمحض للاسمية ، ولا التفات فيه إلى زمن من الأزمنة الثلاثة ، ولذا فمعنى (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) : فلم ينصرهم أحد فيما مضى. ولا حاجة إلى إجراء ما حصل في الزمن الماضي مجرى زمن الحال ، وقولهم اسم الفاعل حقيقة في الحال جرى على الغالب فيما إذا أريد به معنى الفعل. وقرأ الجمهور : (وَكَأَيِّنْ) بهمزة بعد الكاف وبتشديد الياء. وقرأه ابن كثير بألف بعد الكاف وتخفيف الياء مكسورة وهي لغة.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

تفريع على جملة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣] لتحقيق أنهم لا ناصر لهم تحقيقا يرجع إلى ما في الكلام من المعنى التعريضي فهو شبيه بالاستئناف البياني جاء بأسلوب التفريع.

ويجوز مع ذلك أن يكون مفرّعا على ما سبق من قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [محمد : ١٢] الآية ، فيكون له حكم الاعتراض لأنه تفريع على اعتراض. وهذا تفنن في تلوين الكلام لتجديد نشاط السامعين هو من الأساليب التي ابتكرها القرآن في كلام العرب. والاستفهام مستعمل في إنكار المماثلة التي يقتضيها حرف التشبيه.

والمقصود من إنكار المشابهة بين هؤلاء وهؤلاء هو تفضيل الفريق الأول ، وإنكار زعم المشركين أنهم خير من المؤمنين كما ظهر ذلك عليهم في مواطن كثيرة كقولهم : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) [المطففين : ٣٢] (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون : ١١٠].

والمراد بالموصولين فريقان كما دل عليه قوله في أحدهما (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

والبينة : البرهان والحجة ، أي حجة على أنه محق. و (مِنْ) ابتدائية ، وفي التعبير بوصف الرب وإضافته إلى ضمير الفريق تنبيه على زلفى الفريق الذي تمسك بحجة الله.

ومعنى وصف البينة بأنها من الله : أن الله أرشدهم إليها وحرّك أذهانهم فامتثلوا وأدركوا الحق ، فالحجة حجة في نفسها وكونها من عند الله تزكية لها وكشف للتردّد فيها وإتمام لدلالتها ، كما يظهر الفرق بين أخذ العلم عن متضلع فيه وأخذه عن مستضعف فيه وإن كان مصيبا. و (على) للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

٧٨

وهذا الفريق هم المؤمنون وهم ثابتون على الدين واثقون بأنهم على الحق. فلا جرم يكون لهم الفوز في الدنيا لأن الله يسّر لهم أسبابه فإن قاتلوا كانوا على ثقة بأنهم على الحق وأنهم صائرون إلى إحدى الحسنيين فقويت شجاعتهم ، وإن سالموا عنوا بتدبير شأنه وما فيه نفع الأمة والدين فلم يألوا جهدا في حسن أعمالهم ، وذلك من آثار أن الله أصلح بالهم وهداهم. والفريق الذين زيّن له سوء عمله هم المشركون ، فإنهم كانوا في أحوال السوأى من عبادة الأصنام والظلم والعدوان وارتكاب الفواحش ، فلما نبههم الله لفساد أعمالهم بأن أرسل إليهم رسولا بين لهم صالح الأعمال وسيئاتها لم يدركوا ذلك ورأوا فسادهم صلاحا فتزينت أعمالهم في أنظارهم ولم يستطيعوا الإقلاع عنها وغلب إلفهم وهواهم على رأيهم فلم يعبئوا باتباع ما هو صلاح لهم في العاجل والآجل ، فذلك معنى قوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) بإيجاز.

وبني فعل (زُيِّنَ) للمجهول ليشمل المزيّنين لهم من أئمة كفرهم ، وما سولته لهم أيضا عقولهم الآفنة من أفعالهم السيئة اغترارا بالإلف أو اتباعا للذات العاجلة أو لجلب الرئاسة ، أي زيّن له مزيّن سوء عمله ، وفي هذا البناء إلى المجهول تنبيه لهم أيضا ليرجعوا إلى أنفسهم فيتأمّلوا فيمن زيّن لهم سوء أعمالهم. ولمّا كان تزيين أعمالهم لهم يبعثهم على الدأب عليها كان يتولد من ذلك إلفهم بها وولعهم بها فتصير لهم أهواء لا يستطيعون مفارقتها أعقب بقوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

والفرق بين الفريقين بيّن للعاقل المتأمل بحيث يحق أن يسأل عن مماثلة الفريقين سؤال من يعلم انتفاء المماثلة وينكر على من عسى أن يزعمها. والمراد بانتفاء المماثلة الكناية عن التفاضل ، والمقصود بالفضل ظاهر وهو الفريق الذي وقع الثناء عليه.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

استئناف بياني لأن ما جرى من ذكر الجنة في قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [محمد : ١٢] مما يستشرف السامع إلى تفصيل بعض صفاتها ، وإذ قد ذكر أنها تجري من تحتها الأنهار موهم السامع أنها أنهار المياه لأن جري الأنهار أكمل محاسن الجنات المرغوب فيها ، فلما فرغ من توصيف حال

٧٩

فريقي الإيمان والكفر ، ومما أعد لكليهما ، ومن إعلان تباين حاليهما ثني العنان إلى بيان ما في الجنة التي وعد المتقون ، وخص من ذلك بيان أنواع الأنهار ، ولما كان ذلك موقع الجملة كان قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير : ما سيوصف أو ما سيتلى عليكم ، أو مما يتلى عليكم.

وقوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) كلام مستأنف مقدر فيه استفهام إنكاري دلّ عليه ما سبق من قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) [محمد : ١٤]. والتقدير : أكمن هو خالد في النار. والإنكار متسلط على التشبيه الذي هو بمعنى التسوية. ويجوز أن تكون جملة (مَثَلُ الْجَنَّةِ) بدلا من جملة (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) فهي داخلة في حيز الاستفهام الإنكاري. والخبر قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) ، أي كحال من هو خالد في النار وذلك يستلزم اختلاف حال النار عن حال الجنة ، فحصل نحو الاحتباك إذ دل (مَثَلُ الْجَنَّةِ) على مثل أصحابها ودلّ مثل من هو خالد في النار على مثل النار.

والمقصود : بيان البون بين حالي المسلمين والمشركين بذكر التفاوت بين حالي مصيرهما المقرر في قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) [الحج : ٢٣] إلى آخره ، ولذلك لم يترك ذكر أصحاب الجنّة وأصحاب النار في خلال ذكر الجنة والنار فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وقال بعده (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). ولقصد زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين المتمسك ببينة ربه وبين التابع لهواه ، أي هو أيضا كالذي يسوي بين الجنّة ذات تلك الصفات وبين النار ذات صفات ضدها.

وفيه اطراد أساليب السورة إذ افتتحت بالمقابلة بين الذين كفروا والذين آمنوا ، وأعقب باتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، وثلّث بقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) إلخ. والمثل : الحال العجيب.

وجملة (فِيها أَنْهارٌ) وما عطف عليها تفصيل للإجمال الذي في جملة (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ، فهو استئناف ، أو بدل مفصّل من مجمل على رأي من يثبته في أنواع البدل.

والأنهار : جمع نهر ، وهو الماء المستبحر الجاري في أخدود عظيم من الأرض ، وتقدم في قوله تعالى : (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) في سورة البقرة [٢٤٩].

فأما إطلاق الأنهار على أنهار الماء فهو حقيقة ، وأما إطلاق الأنهار على ما هو من

٨٠