تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٤٦ ـ سورة الأحقاف

سميت هذه السورة «سورة الأحقاف» في جميع المصاحف وكتب السنة ، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيّد عن ابن عباس قال : «أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف» ، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين. وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود «قال : أقرأني رسول الله سورة الأحقاف» الحديث. وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمّى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها فلا يعد من أسمائها ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور ذات أكثر من اسم.

ووجه تسميتها «الأحقاف» ورود لفظ (الأحقاف) فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن. وهي مكية قال القرطبي : باتفاق جميعهم ، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها إلى بعض القائلين ، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) إلى (الظَّالِمِينَ) [الأحقاف : ١٠] فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة ، وقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥]. وفي «الإتقان» ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) إلى قوله :(خاسِرِينَ) [الأحقاف : ١٥ ـ ١٨]. وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضيّ عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها ، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.

وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور ، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات. وعدّت آيها عند جمهور أهل الأمصار أربعا وثلاثين ، وعدّها أهل الكوفة

٥

خمسا وثلاثين والاختلاف في ذلك مبنيّ على أن (حم) تعتبر آية مستقلة أو لا.

أغراضها

ومن الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله. والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية ، وعلى إثبات جزاء الأعمال. والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء. وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوّهم عن صفات الإلهية. وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله. وإثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام. والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه. وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن. وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين ، وما هو من خلق أهل الضلالة. والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة ، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة. وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنّن.

(حم (١))

تقدم القول في نظيره في أول سورة غافر. وهذه جملة مستقلّة مثل نظائرها من الحروف المقطعة في أوائل من سور القرآن.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢))

تقدم القول في نظيره في أول الجاثية.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣))

لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثبات وحدانية الله تعالى ، وإثبات البعث والجزاء ، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما ، جعل قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ

٦

الْحَكِيمِ) [الأحقاف : ٢] تمهيدا للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء ، فجعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق ، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخلق إلا ملابسا للحق ، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلقا عبثا بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون. واستثناء (بِالْحَقِ) من أحوال عامة ، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله : (بِالْحَقِ) ، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفا لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم ، والتقدير : إلا خلقا كائنا بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق.

وصاحب الحال هو (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، والمعنى : ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما. وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق.

وعطف (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) على (بِالْحَقِ) ، عطف الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) في سورة البقرة [٩٨] لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق ، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه ، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال ، وقد كان ظن الدهريين قدم هذا العالم وبقاءه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]. فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان ، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية. فجملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) مرتبطة بالاستثناء في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث.

وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب (أُنْذِرُوا). والتقدير : عما أنذروه معرضون. ويجوز أن تكون ما مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير. والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه.

٧

وتقديم (عَمَّا أُنْذِرُوا) على متعلقه وهو (مُعْرِضُونَ) للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤))

انتقل إلى الاستدلال على بطلان نفي صفة الإلهية عن أصنامهم. فجملة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم.

وجاء هذا الاستدلال بأسلوب المناظرة فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواجها لهم بالاحتجاج ليكون إلجاء لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته ، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ) الآية. و (أَرَأَيْتُمْ) استفهام تقريري فهو كناية عن معنى : أخبروني ، وقد تقدم في سورة الأنعام [٤٠] قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

وقوله : (أَرُونِي) تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله : (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) وموقع جملة (أَرُونِي) في موقع المفعول الثاني لفعل (أَرَأَيْتُمْ).

والأمر في (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئا فلا تستطيعوا أن تروني شيئا خلقوه في الأرض ، وهذا من رءوس مسائل المناظرة ، وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه. و (ما ذا) بمعنى ما الذي خلقوه ، ف (ما) استفهامية ، و (ذا) بمعنى الذي. وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول. وأصل التركيب : ما ذا الذي خلقوا ، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالبا في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) [البقرة : ٢٥٥]. ولهذا قال النحاة : إن (ذا) بعد (ما) أو (من) الاستفهاميتين بمنزلة (ما) الموصولة.

والاستفهام في (ما ذا خَلَقُوا) إنكاري. وجملة (ما ذا خَلَقُوا) بدل من جملة (أَرُونِي) وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود (ما) الاستفهامية بعده ، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقا لهم بطل أن يكونوا آلهة لخروج المخلوقات عن خلقهم ، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا

٨

يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) في سورة الأعراف [١٩١ ، ١٩٢].

و (أَمْ) حرف إضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات. وإنما أوثر انتفاء الشركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها ، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفا للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه. وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر [٤٠] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية فانظر ذلك.

ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) فجملة (ائْتُونِي بِكِتابٍ) في موقع مفعول ثان لفعل (أَرَأَيْتُمْ) ، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ. ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام كما تقدم. والمعنى : نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات ، ولا بأقوال الكتب ، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر [٤٠] (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ). والمراد ب (كتاب) أيّ كتاب من الكتب المقروءة. وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذكرا غير الإبطال والتحذير من عبادتها ، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين : إمّا إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية ، وإمّا عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ).

والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) في سورة البقرة [٢٣].

والإشارة في قوله : (مِنْ قَبْلِ هذا) إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يقرأ عليهم معاودة. ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يصنع لهم ، كما قالوا : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ

٩

هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣١].

و (أَثارَةٍ) بفتح الهمزة : البقية من الشيء. والمعنى : أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب. وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم. وفي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور ، وقد قال تعالى في سورة القصص [٥٠] (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ).

[٥ ، ٦] (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج ، فلما أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحاجّهم بالدليل وجّه الخطاب إليه تعجيبا من حالهم وضلالهم لأن قوله : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) إلخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب الله.

و (مَنْ) استفهامية ، والاستفهام إنكار وتعجيب. والمعنى : لا أحد أشدّ ضلالا وأعجب حالا ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة. ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادّعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم ، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال.

و (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ) الأصنام عبّر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة ، ولأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك ، ومثل هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله : (وَهُمْ) وقوله : (غافِلُونَ) وهي عائدة إلى (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ).

وجعل يوم القيامة غاية لانتفاء الاستجابة. كناية عن استغراق مدة بقاء الدنيا. وعبر عن نهاية الحياة الدنيا ب (يَوْمِ الْقِيامَةِ) لأن المواجه بالخبر هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون كما

١٠

علمت وهم يثبتون يوم القيامة.

وضميرا (كانُوا) في الموضعين يجوز أن يعودا إلى (مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) فإن المشركين يعادون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم. ويجوز أن يعودا إلى (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذ فتنطق بالتبرّي عن عبادها ومن عبادتهم إياها ، قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤] وقال: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً* فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) [الفرقان : ١٧ ـ ١٩].

ويجوز أن يكون قوله : (كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) جاريا على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء والمنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي إلى شقائهم وكذبهم كقوله تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١].

وعطف جملة (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) إلخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة. ومن بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ وهذا يتدرج في محسّن الجمع مع التفريق وأدق.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

عطف على جملة (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) [الأحقاف : ٥] ، وقد علمت أن هذا مسوق مساق العد لوجوه فرط ضلالهم فإن آيات القرآن تتلى عليهم صباح مساء تبين لهم دلائل خلوّ الأصنام عن مقومات الإلهية فلا يتدبرونها وتحدو بهم إلى الحق فيغالطون أنفسهم بأن ما فهموه منها تأثر سحري ، وأنها سحر ، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا بهتانا فزعموا أنه مبين ، أي واضح كونه سحرا. وهذا انتقال إلى إبطال ضلال آخر من ضلالهم وهو ضلال التكذيب بالقرآن فهو مرتبط بقوله : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [الأحقاف : ١ ، ٢] إلخ.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالكفر وبأنه سبب قولهم ذلك.

١١

واللام في قوله : (لِلْحَقِ) لام العلة وليست لام تعدية فعل القول إلى المقول له أي قال بعض الكافرين لبعض في شأن الذين آمنوا ومن أجل إيمانهم. والحق : هو الآيات ، فعدل عن ضمير الآيات إلى إظهار لفظ الحق للتنبيه على أنها حق وأن رميها بالسحر بهتان عظيم. و (لَمَّا جاءَهُمْ) توقيت لمقالتهم ، أي يقولون ذلك بفور سماع الآيات وكلما جاءتهم ، أي دون تدبر ولا إجالة فكر.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨))

إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضلال أقوالهم. وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله ، وأن المعنى : دع قولهم : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف : ٧] ، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم : (افْتَراهُ) ، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر.

والاستفهام الذي يقدر بعد (أَمْ) للإنكار على مقالتهم. والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الإنكار ، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطا على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم.

والضمير المنصوب في (افْتَراهُ) عائد إلى الحق في قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) [الأحقاف : ٧] ، أو إلى القرآن لعلمه من المقام ، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله.

وقد أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها ، فكان قوله تعالى :(قُلْ) جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم. وقد تقدم ذلك في قوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في أوائل سورة البقرة [٣٠].

وجعل الافتراء مفروضا بحرف (إِنِ) الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله.

وانتصب (شَيْئاً) على المفعولية لفعل (تَمْلِكُونَ) ، أي شيئا يملك ، أي يستطاع ، والمراد : شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئا يرد علي من الله. وتقدم معنى (لا أملك شيئا) عند قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ

١٢

الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) في سورة العقود [١٧].

والتقدير : إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها. فقوله : (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام ، لأن معنى (فَلا تَمْلِكُونَ لِي) لا تقدرون على دفع ضر الله عني ، فاقتضى أن المعنى : إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه.

واعلم أن الشائع في استعمال (لا أملك لك شيئا) ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) [الأعراف : ١٨٨] وقوله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤] ، أو أن يسند إلى عامّ نحو (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) ، فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه ، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحكم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أن يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم. واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أن الله لا يقرّ أحدا على أن يبلّغ إلى الناس شيئا عن الله لم يأمره بتبليغه ، وقد دلّ القرآن على هذا في قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧]. ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق ، والله يغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالم والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة ، أو حيلة ومصانعة. وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بما ذا يتلقّونه فلذلك لا يقره الله ويزيله.

وجملة (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) بدل اشتمال من جملة (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) لأن جملة (فَلا تَمْلِكُونَ لِي) تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد ، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يخبر عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله. وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون ، فما صدق (ما) الموصولة القرآن الذي دلّ عليه الضمير الظاهر في (افْتَراهُ) أو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في (افْتَراهُ) أو مجموع أحوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي دل عليها

١٣

مختلف خوضهم. ومتعلق اسم التفضيل محذوف ، أي هو أعلم منكم. والإفاضة في الحديث: الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من : فاض الماء ؛ إذا سال. ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع ، والمعنى : هو أعلم بحال ما تفيضون فيه.

وجملة (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بدل اشتمال من جملة (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) لأن الاخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى. وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض الباطل ووعيد.

والشهيد : الشاهد ، أي المخبر بالواقع. والمراد به هنا الحاكم بما يعلمه من حالنا كما دلّ عليه قوله : (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

وإجراء وصفي (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) من التهديد والوعيد ، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل.

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفا في تفسير قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأحقاف : ٤] الآيات. وهذا جواب عما تضمنه قولهم: (افْتَراهُ) [الأحقاف : ٨] من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الافتراء على الله. وإنما لم يعطف على جملة (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) [الأحقاف : ٨] لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من ردّ إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير ، وسيأتي بعده قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ١٠]. ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين [٨١ ـ ٨٤] (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) إلى (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقوله (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ) [المؤمنون : ٨٦] وقوله : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [المؤمنون : ٨٨] إلخ.

والبدع بكسر الباء وسكون الدال ، معناه البديع مثل : الخفّ يعني الخفيف قال امرؤ القيس :

١٤

يزال الغلام الخف عن صهواته

ومنه : الخلّ بمعنى الخليل. فالبدع : صفة مشبهة بمعنى البادع ، ومن أسمائه تعالى : «البديع» خالق الأشياء ومخترعها. فالمعنى : ما كنت محدثا شيئا لم يكن بين الرسل.

و (مِنَ) ابتدائية ، أي ما كنت آتيا منهم بديعا غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلما ذا يعجبون من دعوتي. وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليل وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء ، أو أنه قاتل الذين كفروا ، أو أنه أحبّ زينب بنت جحش.

وقوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) تتميم لقوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلّت ناقته : أين ناقتي؟ ويقول أحدهم : من أبي ، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم ، أي في الدنيا ، وهذا معنى قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨].

ولذلك كان قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى) استئنافا بيانيا وإتماما لما في قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه ، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا. ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين ، ومثل قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] ، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه ، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حكم نسخ الخبر.

ووجه عطف (وَلا بِكُمْ) على (بِي) بإقحام (لا) النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة (ما) الموصولة وليس في الصلة نفي ، فلما ذا لم يقل : ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولا للمنفي في قوله : (وَما أَدْرِي) تناول النفي ما هو في حيّز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملا للجميع فحسّن إدخال حرف النفي على المعطوف ، كما حسن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجرّ بها الاسم المنفي المعطوف على اسم (إن) وهو مثبت في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

١٥

وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣] لوقوع (أَنَ) العاملة فيه في خبر النفي وهو (أَوَلَمْ يَرَوْا) وكذلك زيادة (من) في قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ١٠٥] فإن (خَيْرٍ) وقع معمولا لفعل (يُنَزَّلَ) وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيل صار التنزيل كالمنفي لديهم.

وعطف (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) على جملة (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ). والمعنى : وما أنا نذير مبين لا مفتر ، فالقصر قصر إضافي ، وهو قصر قلب لردّ قولهم (افْتَراهُ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

أعيد الأمر بأن يقول لهم حجة أخرى لعلها تردهم إلى الحق بعد ما تقدم من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأحقاف : ٤] الآية وقوله : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الأحقاف : ٨] وقوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] الآية.

وهذا استدراج لهم للوصول إلى الحق في درجات النظر فقد بادأهم بأن ما أحالوه من أن يكون رسولا من عند الله ليس بمحال إذ لم يكن أول الناس جاء برسالة من الله. ثم أعقبه بأن القرآن إذا فرضنا أنه من عند الله وقد كفرتم بذلك كيف يكون حالكم عند الله تعالى.

وأقحم في هذا أنه لو شهد شاهد من أهل الكتاب بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل ، وآمن برسالتي كيف يكون انحطاطكم عن درجته ، وقد جاءكم كتاب فأعرضتم عنه ، فهذا كقوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧] ، وهذا تحريك للهمم. ونظير هذه الآية آية سورة فصّلت [٥٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) سوى أن هذه أقحم فيها قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) فإن المشركين كانت لهم مخالطة مع بعض اليهود في مكة ولهم صلة بكثير منهم في التجارة بالمدينة وخيبر فلما ظهرت دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يسألون من لقوه من اليهود عن أمر الأديان والرسل فكان اليهود لا محالة يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه وكيف أظهره الله على فرعون. فاليهود وإن كانوا لا يقرّون

١٦

برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم يتحدثون عن رسالة موسى عليه‌السلام بما هو مماثل لحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه وفيه ما يكفي لدفع إنكارهم رسالته.

فالاستفهام في (أَرَأَيْتُمْ) تقريري للتوبيخ ومفعولا (أَرَأَيْتُمْ) محذوفان. والتقدير: أرأيتم أنفسكم ظالمين. والضمير المستتر في (إِنْ كانَ) عائد إلى القرآن المعلوم من السياق أو إلى ما يوحى إليّ في قوله آنفا (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأحقاف : ٩]. وجملة (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) في موضع الحال من ضمير (أَرَأَيْتُمْ). ويجوز أن يكون عطفا على فعل الشرط. وكذلك جملة (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) لأن مضمون كلتا الجملتين واقع فلا يدخل في حيز الشرط ، وجواب الشرط محذوف دل عليه سياق الجدل. والتقدير : أفترون أنفسكم في ضلال.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل لجملة جواب الشرط المقدرة وهي تعليل أيضا. والمعنى : أتظنون إن تبين أن القرآن وحي من الله وقد كفرتم بذلك فشهد شاهد على حقّية ذلك توقنوا أن الله لم يهدكم لأنكم ظالمون وأن الله لا يهدي الظالمين.

وضميرا (كانَ) و (مِثْلِهِ) عائدان إلى القرآن الذي سبق ذكره مرّات من قوله:(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [الأحقاف : ٢] وقوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) [الأحقاف : ٤].

وجملة (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عطف على جملة (وَشَهِدَ شاهِدٌ) إلخ وجملة (وَشَهِدَ شاهِدٌ) عطف على جملة (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

والمثل : المماثل والمشابه في صفة أو فعل ، وضمير (مِثْلِهِ) للقرآن فلفظ (مِثْلِهِ) هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف ، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذ. ويجوز أن يحمل المثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ (مثل) ، فيكون لفظ (مثل) بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب : «مثلك لا يبخل» ، وكما هو أحد محملين في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. فالمعنى : وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه.

ويجوز يكون ضمير (مِثْلِهِ) عائدا على الكلام المتقدم بتأويل المذكور ، أي على مثل ما ذكر في أنه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأنه ليس بدعا من كتب الرسل.

فالمراد ب (شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) شاهد غير معين ، أي أيّ شاهد ، لأن الكلام

١٧

إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود. وبهذا فسر الشعبي ومسروق واختاره ابن عبد البر في «الاستيعاب» في ترجمة عبد الله بن سلام فالخطاب في قوله : (أَرَأَيْتُمْ) وما بعده موجه إلى المشركين من أهل مكة ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة : المراد ب (شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) عبد الله بن سلام. وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه قال : فيّ نزلت آيات من كتاب الله (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية.

ومثل قول قتادة ومجاهد وعكرمة روي عن ابن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري ووقع في «صحيح البخاري» في باب فضل عبد الله بن سلام حديث عبد الله بن يوسف عن مالك عن سعد بن أبي وقاص قال : وفيه نزلت هذه الآية (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) الآية ، قال عبد الله بن يوسف : لا أدري قال مالك : الآية أو في الحديث. قال مسروق : ليس هو ابن سلام لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية ، وقال الشعبي مثله. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وأمر بوضعها في سورة الأحقاف ، وعلى هذا يكون الخطاب في قوله : (أَرَأَيْتُمْ) وما بعده لأهل الكتاب بالمدينة وما حولها. وعندي أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما سيقع من إيمان عبد الله بن سلام فيكون هو المراد ب (شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وإن كانت الآية مكية.

والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرّأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١] وقالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] حين علموا أن قد لزمتهم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله ما علمته آنفا ، أي ضللتم ضلالا لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين. وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم. وجيء في الشرط بحرف (إِنْ) الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالا لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاورة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ).

١٨

هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم ، فهم الذين قالوا (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) كما تقدم في الأنعام [٥٣] ، وهو نظير قول قوم نوح (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود ٢٧] ، ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله : (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : ١٠].

واللام في قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) لام التعليل متعلقة بمحذوف ، هو حال من الذين كفروا تقديره : مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٥٦] ، وقوله في الآية السابقة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف : ٧]. وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : ٧٢] المسمّاة لام التبليغ.

والضمير المستتر في (كانَ) عائد إلى ما عد إليه ضمير (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [الأحقاف : ١٠] وهو القرآن المفهوم من السياق أو (ما يُوحى إِلَيَ) [الأحقاف : ٩]. والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر ، شبّه بأسرع الوصول بين المتجارين ، والمراد : الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال. وضمير الغيبة في قوله : (سَبَقُونا) عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وسمية ، وزنّيرة (بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة) أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهنّ المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق.

وعن عروة بن الزبير قال : عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنّيرة ، أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)).

عطف على جملة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا : (سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف : ٧] وقالوا (افْتَراهُ) [الأحقاف : ٨] ،

١٩

وقالوا (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ، وبقي أن يقولوا هو (إِفْكٌ قَدِيمٌ).

وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله : (وَكَفَرْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ١٠] وقوله : (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) [الأحقاف : ١٠] وقوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) الآية.

وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعرا بأن جميعها أسباب لجميعها.

وضمير (بِهِ) عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه. ومعنى الآية : وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو (إِفْكٌ قَدِيمٌ) إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل. ولمّا كانت (إِذْ) ظرفا للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف (لَمْ) تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون (هذا إِفْكٌ) أنهم يقولونه في المستقبل ، وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضا لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نزلت قبل هذه السورة ، فمعنى (فَسَيَقُولُونَ) سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل.

فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الزخرف : ٢٧] فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي. فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم (فَسَيَقُولُونَ هذا) ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل. وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به (إِذْ).

وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام ، وكثير في (إِذْ) ، ولذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله : (فَسَيَقُولُونَ). ويجوز أن تكون (إِذْ) للتعليل ، وتتعلق (إِذْ) ب (يقولون) ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق. وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية ، فالواو للعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط. وأصل الكلام : وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به!

٢٠