تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

على جميع الاحتمالات في معنى قولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته.

والحصر هنا حقيقي كقوله : (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم ردا على قولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا).

و (عِنْدَ) هنا مجاز في الانفراد بالعلم ، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره.

ومعنى (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) أنه بعث مبلغا أمر الله وإنذاره ولم يبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها* فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها* إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها* إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٢ ـ ٤٥] ، فقوله: (أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) جملة معترضة بين جملة (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) وجملة (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ).

وموقع الاستدراك بقوله : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أنه عن قوله : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) ، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحكمة إرساله الرسل ، فتحسبون أن الرسل وسائط لأنها اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب ، فمناط الاستدراك هو معمول خبر (لكنّ) وهو (قَوْماً تَجْهَلُونَ) ، والتقدير : ولكنكم قوم يجهلون ، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالا لطائرهم ، فجعل جهلهم مظنونا له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها. وإنما زيد (قَوْماً) ولم يقتصر على (تَجْهَلُونَ) للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقوّمات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) [هود : ٧٨].

وقرأ الجمهور (وَأُبَلِّغُكُمْ) بتشديد اللام. وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام. يقال : بلّغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز ، إذا جعله بالغا.

[٢٤ ، ٢٥] (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

٤١

الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها ، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوه عارض قالوا : (هذا عارِضٌ) إلى آخره ، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق ، ويسمى التفريع فيه فصيحة ، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هودا وبين نزول العذاب بهم ، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين ، وأن هودا فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها ، وقد قيل إنه دفن في الحجر حول الكعبة ، وتقدم في سورة الحجر.

وقولهم : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر. وورد في سورة هود [٥٢] قول هود لهم : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود.

وضمير (رَأَوْهُ) عائد إلى ما (تَعِدُنا) [الأحقاف : ٢٢] ، وهو العذاب. وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المرئي سبب العذاب وهو ما حملته الريح. و (عارِضاً) حال منه ، والعارض : السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض. وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) بقوله : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ). و (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) نعت ل (عارِضاً).

والاستقبال : التوجه قبالة الشيء ، أي سائرا نحو أوديتهم.

وأودية : جمع واد جمعا نادرا مثل ناد وأندية. ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقا أغلبيا لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه. وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية : لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيّد أهل الوادي. وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها.

والعارض في قولهم : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) : السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل ، و (مُمْطِرُنا) نعت ل (عارِضٌ).

وقوله : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) مقول لقول محذوف ، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك إلى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشرّ في ذلك السحاب. قيل : القائل هو بكر بن معاوية من قوم عاد. قال لما رآه : «إني لأرى سحابا مرمدا لا تدع من عاد أحدا» لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضا غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حلّ العذاب بهم ، أو كان قد آمن

٤٢

من قبل فنجّاه الله من العذاب بخارق عادة. وإنّما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية ، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعا لهم. وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب :

دعاني الهوى من أهل ودّي وجيرتي

بذي الشّيّطين فالتفتّ ورائيا

فتخيل داعيا يدعوه فالتفت ، وهذا من التخيّل في الكلام البليغ.

وجعل العذاب مظروفا في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفيّة أشدّ ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب. والتدمير : الإهلاك ، وقد تقدم.

و (كُلَّ شَيْءٍ) مستعمل في كثرة الأشياء فإن (كلّا) تأتي كثيرا في كلامهم بمعنى الكثرة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) في سورة يونس [٩٧].

والمعنى : تدمر ما من شأنه أن تدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار.

وقوله : (بِأَمْرِ رَبِّها) حال من ضمير (تُدَمِّرُ). وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلّ شيء ، أي تدميرا عجيبا بسبب أمر ربها ، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية. وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين.

(فَأَصْبَحُوا) أي صاروا ، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد : أن تدميرهم كان ليلا فإنهم دمّروا أياما وليالي ، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلا.

والخطاب في قوله : (لا تَرى) لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذ إتماما لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة.

والمراد بالمساكن : آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى : أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.

وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين ، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦].

وقرأ الجمهور (لا تَرى) بالمثناة الفوقية مبنيا للفاعل وبنصب (مَساكِنُهُمْ) وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنيا للمجهول وبرفع (مَساكِنُهُمْ) وأجرى على الجمع

٤٣

صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب (إِلَّا) وهي فاصلة بينه وبين الفعل.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦))

هذا استخلاص لموعظة المشركين بمثل عاد ، ليعلموا أن الذي قدر على إهلاك عاد قادر على إهلاك من هم دونهم في القوة والعدد ، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزءوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزءون به ، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّئوا لما سيحلّ بهم. ولإفادة هذا الاستخلاص غيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة ، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في (قالُوا أَجِئْتَنا) [الأحقاف : ٢٢] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب.

والتمكين : إعطاء المكنة (بفتح الميم وكسر الكاف) وهي القدرة والقوة. يقال : مكن من كذا وتمكن منه ، إذا قدر عليه. ويقال : مكّنه في كذا ، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ) نمكن (لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦].

فالمعنى : جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه ، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في أول الأنعام [٦] فضمّ إليه ما هنا.

و (ما) من قوله (فِيما) موصولة. و (إِنْ) نافية ، أي في الذي ما مكّناكم فيه.

ومعنى مكناكم فيه : مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات ، فلذلك حسن تعدية فعل (مَكَّنَّاكُمْ) بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مكنت منها عاد. ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف (إِنْ) النافية مع أنّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب (ما) النافية قصدا هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما (ما) الموصولة و (ما) النافية وإن كان معناهما مختلفا ، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء

٤٤

عن الألف في (مهما) ، فإن أصلها : (ما ما) مركبة من (ما) الظرفية و (ما) الزائدة لإفادة الشرط مثل (أينما). قال في «الكشاف» : ولقد أغثّ أبو الطيب في قوله :

لعمرك ما ما بان منك لضارب (١)

وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي :

وصاليات ككما يؤثفين

ولا يغتفر مثله للمولدين.

فأما إذا كانت (ما) نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيدا لفظيا ، فالإتيان بحرف (إن) بعد (ما) أحرى كما في قول النابغة :

رماد ككحل العين ما إن أبينه

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

وفائدة قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أي يخلّ بإدراكهم الحق لو لا العناد ، وهذا تعريض بمشركي قريش ، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حرموه ، والحالة متحدة والسبب متّحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك. وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) في سورة الأنعام [٤٦] وقوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) في سورة يونس [٣١].

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون (شَيْءٍ) المجرور ب (مِنْ) الزائدة نائبا عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء ، وحق (شَيْءٍ) النصب وإنما جرّ بدخول حرف الجر الزائد.

و (إِذْ) ظرف ، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف

__________________

(١) تمامه : باقتل مما بان منك لعائب.

ووقع المصراع الأول في «الكشاف» لعمرك ، وراوية الديوان يرى : أن ما وجعل ابن جنّي والمعري في شرحيهما على الديون اسم أنّ ضمير شأن محذوفا ليستقيم اقتران الباء بقوله باقتل الذي هو بحسب الظاهر خبر عن (أنّ) ولعل التفادي من تكلف جعل اسم (أن) ضمير شأن هو الذي دعا الزمخشري لتغيير الكلمة الأولى من المصراع الأول.

٤٥

ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقا نفيه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة (إِذْ) إلى الجملة بعدها ، علم أن لذلك الزمان تأثيرا في نفي الإغناء.

وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه. وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جمعت حقيقة الآيات بالمعنيين.

وحاق بهم : أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) العذاب ، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧))

أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيدا في بابه فقد أهلك الله أقواما آخرين من مجاوريهم تماثل أحوالهم أحوال المشركين ، وذكّرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها ، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبأ وقوم تبع ، والجملة معطوفة على جملة (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) [الأحقاف : ٢١] إلخ. وكنّي عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنّى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله :

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ومنه قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤].

وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدلّ عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل ، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد. وكنّي به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحا. ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية ، وتارة بالتهديد على الفعل ، وأخرى بالوعيد ، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها. وجملة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) مستأنفة لإنشاء الترجّي وموقعها موقع المفعول لأجله ، أي رجاء رجوعهم.

والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عمّا هم فيه من الشرك والعناد ، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازا في الطلب ، أي توسعة لهم وإمهالا ليتدبروا ويتّعظوا. وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم

٤٦

من آيات إعجاز القرآن والكلام على (لعل) في كلام الله تقدم في أوائل البقرة.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصّل ، وبعذاب أهل القرى المجمل ، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم ، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهيّ أسباب المنهيّ عنه كقولهم لا أعرفنك تفعل كذا ، ولا أرينّك هنا. والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنصر والدفع وذلك مستعمل تعريضا بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماما للموعظة والتوبيخ بطريق التنظير وقياس التمثيل ، ولذلك عقب بقوله : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) لأن التوبيخ آل إلى معنى نفي النصر.

وحرف لو لا إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحضيض ، أي تحضيض فاعل الفعل الذي بعد لو لا على تحصيل ذلك الفعل ، فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت لو لا دالة على التوبيخ ونحو إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره.

والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطإ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئا ، كقول عبدة بن الطّبيب :

إنّ الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جمع العقلاء عليهم جريا على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة.

و (قُرْباناً) مصدر بوزن غفران ، منصوب على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]. وهذا المصدر معترض بين (اتَّخَذُوا) ومفعوله ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) يتعلق ب (اتَّخَذُوا). و (دُونِ) بمعنى المباعدة ، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشبيعها.

٤٧

و (بَلْ) بمعنى لكن إضرابا واستدراكا بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي ، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب ، بل ضلّوا عنهم ، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم.

والضلال أصله : عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية ، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم ، وهذا نظير التهكم في قوله تعالى : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) في سورة القصص [٦٤].

وأما قوله : (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) فهو فذلكة لجملة (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله : (ضَلُّوا عَنْهُمْ). والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما تضمنه قوله : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله ، والإفك بكسر الهمزة.

والافتراء : نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فري الجلد ، فالافتراء الكذب الذي يقوله ، فعطف (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على (إِفْكُهُمْ) عطف الأخص على الأعم ، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل فهو إفك. وأما زعمهم أنها تقرّبهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه.

وإقحام فعل (كانُوا) للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم. ومجيء (يَفْتَرُونَ) بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر.

[٢٩ ـ ٣٢] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

هذا تأييد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدّقا عند الثقلين ومعظّما في العالمين وذلك ما لم يحصل لرسول قبله.

والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر علموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس

٤٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم. ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) [الأحقاف : ١٨].

فالجملة معطوفة على جملة (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) [الأحقاف : ٢١] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا (إِذْ صَرَفْنا) بفعل يدل عليه قوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفرا من الجن. وأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون.

وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بدون علمه. ففي «جامع الترمذي» عن ابن عباس قال : «ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخلة ، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا». وفي «الصحيح» عن ابن مسعود «افتقدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فعل به اغتيل أو واستطير فبتنا بشرّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قبل حراء فقال «أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن».

وأيّا ما كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تقدم قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) في سورة الأنعام [١٣٠].

والصرف : البعث. والنفر : عدد من الناس دون العشرين. وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : (مِنَ الْجِنِ).

وجملة (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيدا لعاملها وهو (صَرَفْنا) كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدّى المفعول لأجله. فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن.

وضمير (حَضَرُوهُ) عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية

٤٩

مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (أَنْصِتُوا) أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماما به لئلا يفوت منه شيء. وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «استنصت الناس» ، أي قبل أن يبدأ في خطبته.

وفي الحديث : «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت»

، أي قالوا كلّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصا على الوعي فنطق بها جميعهم.

و (قُضِيَ) مبني للنائب. والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف (ولّوا) ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب (قَوْمِهِمْ) على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن.

والمنذر : المخبر بخبر مخيف.

ومعنى (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن. والتبشير لمن عمل بما جاء به القرآن. ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص.

وجملة (قالُوا يا قَوْمَنا) إلى آخرها مبينة لقوله : (مُنْذِرِينَ). وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس ، وكذلك فعل (قالُوا) مجاز عن الإفادة ، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معاني ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨]. وابتدءوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتابا تمهيدا للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرف المخاطبون لما بعد ذلك.

ووصف الكتاب بأنه (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) دون : أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن «التوراة» آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن ، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل «زبور داود» و «إنجيل عيسى» ، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد «التوراة» فلما نزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق

٥٠

للتوراة وهاد إلى أزيد مما هدت إليه «التوراة».

و (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : ما سبقه من الأديان الحق. ومعنى (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) : يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به.

والمراد بالطريق المستقيم : ما يسلك من الأعمال والمعاملة. وما يترتب على ذلك من الجزاء ، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره. ويجوز أن يراد ب (الْحَقِ) ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق.

وإعادتهم نداء قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) إلى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا ، ولأن اختلاف الأغراض وتجدّد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله : «أيها الناس» كما وقع في خطبة حجة الوداع. واستعير (أَجِيبُوا) لمعنى : اعملوا وتقلدوا تشبيها للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء ، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه.

وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). وأطلق على القرآن (داعِيَ اللهِ) مجازا لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله ، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه (داعِيَ اللهِ) على طريقة التّبعيّة وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل. ويجوز أن يكون (داعِيَ اللهِ) محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن. وعطف (وَآمِنُوا بِهِ) على (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) عطف خاص على عام.

وضمير (بِهِ) عائد إلى (اللهِ) ، أي وآمنوا بالله ، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع (يَغْفِرْ لَكُمْ) و (يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أو عائد إلى داعي الله ، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به ، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام.

٥١

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل (أَجِيبُوا) باعتبار أنه مجاب بفعل (يَغْفِرْ) ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة (مِنْ) في الإثبات كما تزاد في النفي. وأما (مِنْ) التي في قوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فهي لتعدية فعل (يُجِرْكُمْ) لأنه يقال : أجاره من ظلم فلان ، بمعنى منعه وأبعده.

وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكا للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك ، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس. وهؤلاء قد نبهوا إليها بصرفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ، وقال في خطاب الشيطان (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ. وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون. واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة : ليس للجن ثواب إلا أن يجاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك : كما يجازون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة. وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أره لغيره. وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها.

ومعنى (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه ، فمفعول (بِمُعْجِزٍ) مقدر دلّ عليه المضاف إليه في قوله : (داعِيَ اللهِ) أي فليس بمعجز الله ، وقال في سورة الجن [١٢] (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه ، أي ناجيا من قدرة الله عليه. والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب.

والمقصود من قوله : (فِي الْأَرْضِ) تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معيّن. و (لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) ، أي لا نصير

٥٢

ينصره على الله ويحميه منه ، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله ، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله. وذكر هذا تعريض للمشركين.

واسم الإشارة في (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) للتنبيه على أن من هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [لقمان : ٥]. والظرفية المستفادة من (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال. والمبين : الواضح ، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣))

عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) [الأحقاف : ١٧ ، ١٨] فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرّأهم على إحالة البعث ، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الأحقاف : ٣] الآية ويتصل بقوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) إلى قوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : ١٧].

والواو عاطفة جملة الاستفهام ، وهو استفهام إنكاري ، والرؤية علمية. واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة ، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم ، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات.

ووقعت (أَنَ) مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي (يَرَوْا). ودخلت الباء الزائدة على خبر (أَنَ) وهو مثبت وموكّد ، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي ، لأن (أَنَ) وقعت في خبر المنفي وهو (أَوَلَمْ يَرَوْا).

٥٣

ووقع (بَلى) جوابا عن الاستفهام الإنكاري. ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي ، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب (لم) فيصير نفي النفي إثباتا ، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف (نعم) دون (بَلى) ، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به ، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام. وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطى جميع أحكامه.

ومحل التعجيب هو خبر (أَنَ) وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه. ووقوع الباء في خبر (أَنَ) وهو (بِقادِرٍ) باعتبار أنه في حيّز النفي لأن العامل فيه وهو حرف (أَنَ) وقع في موضع مفعولي فعل (يَرَوْا) الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله ، فقرن بالباء لأجل ذلك ، وفي «الكشاف» «قال الزجاج لو قلت : ما ظننت أن زيدا بقائم جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر» ا ه. وقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩] يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور.

وأما موقع الجواب بحرف (بَلى) فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غير قادر على أن يحيي الموتى ، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى ، فأجيب بقوله : (بَلى) تعليما للمسلمين وتلقينا لما يجيبونهم به. وحرف (بَلى) لما كان جوابا كان قائما مقام جملة تقديرها : هو قادر على أن يحيي الموتى.

وجملة (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) عطف على جملة (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). وقوله : (لَمْ يَعْيَ) مضارع عيي من باب رضي ، ومصدره العيّ بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام ، ومنه العيّ في الكلام ، أي عسر الإبانة. وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها ، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه.

وكثير من أئمة اللغة يرون أن العيّ يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة. وعن الكسائي والأصمعي : العيّ خاص بالعجز في الحيلة والرأي. وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه ، وفعله أعيا ، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب «القاموس».

وظاهر الأساس : أن أعيا لا يكون إلا متعديا ، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث.

٥٤

وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع. قلت : وهو راجع إلى تنازع العاملين.

وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا (وَلَمْ يَعْيَ) دالا على سعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به. وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين ، لأنهم لم ينكروا ذلك ، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات. وعليه أيضا تكون تعدية فعل (يَعْيَ) بالباء متعينة.

وقرأ الجمهور (بِقادِرٍ) بالموحدة بصيغة اسم الفاعل. وقرأه يعقوب يقدر بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة ، وتكون جملة يقدر في محل خبر (أَنَ).

وجملة (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل لجملة (بَلى) لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض. وتأكيد الكلام بحرف (أنّ) لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى ، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء.

ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف (بِقادِرٍ) ، وفي القدرة على كل شيء بوصف (قَدِيرٌ) الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف قادر.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))

موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث ، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعا بين الاستدلال والإنذار ، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا مندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعا بين ما ردّ به في الدنيا من قوله : (بَلى)(١) [الأحقاف : ٣٣] وما يردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم : (بَلى وَرَبِّنا). والجملة عطف على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأحقاف : ٣٣] إلخ. وأول الجملة المعطوفة قوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره : ويقال للذين كفروا يوم

__________________

(١) في المطبوعة : فله.

٥٥

يعرضون على النار.

وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوم لزيادة تقريره في الأذهان.

وذكر (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر ، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا. والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعده (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ). والحق : الثابت.

والاستفهام تقريري وتنديم على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكذب ، وقالوا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات : ٥٩] ، وإنما أقسموا على كلامهم بقسم (وَرَبِّنا) قسما مستعملا في الندامة والتغليظ لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تحنّنا وتخضّعا. وفرع على إقرارهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ). والذوق مجاز في الإحساس. والأمر مستعمل في الإهانة.

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ)

تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأحقاف : ٧] ، وما اتصل به من ضرب المثل لهم بعاد. فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى ، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم. ويجوز أن تكون الفاء فصيحة. والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا.

وأولو العزم : أصحاب العزم ، أي المتصفون به. والعزم : نية محققة على عمل أو قول دون تردد. قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] وقال : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) [البقرة : ٢٣٥]. وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا

٥٦

والعزم المحمود في الدين : العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة ، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى ، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦] وقال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥]. وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف ، وعلى هذا تكون (مِنَ) في قوله : (مِنَ الرُّسُلِ) تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال : كل الرسل أولو عزم ، وعليه تكون (مِنَ) بيانية.

وهذه الآية اقتضت أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه ، فصبره مثيل لصبرهم ، ومن صبر صبرهم كان منهم لا محالة.

وأعقب أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين ، أي الاستعجال لهم بالعذاب ، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلا لمدة صبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكسب عزمه قوة.

ومفعول (تَسْتَعْجِلْ) محذوف دل عليه المقام ، تقديره : العذاب أو الهلاك. واللام في (لَهُمْ) لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله ، أي لا تستعجل لأجلهم ، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير : لا تستعجل لهلاكهم. وجملة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله ، قال مرة بن عداء الفقعسي ، ولعله أخذ قوله من هذه الآية :

كأنك لم تسبق من الدّهر ليلة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة.

و (مِنْ نَهارٍ) وصف الساعة ، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئا يشغله. فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء» ، وأشار بيده يقللها ، والساعة جزء من الزمن.

(بَلاغٌ).

فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمنهم وكافرهم ليعلم كلّ حظّه من ذلك ، فقوله :

٥٧

(بَلاغٌ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، على طريقة العنوان والطالع نحو ما يكتب في أعلى الظهير : «ظهير من أمير المؤمنين» ، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو : «إيداع وصية» ، أو ما يكتب في التآليف نحو ما في «الموطأ» «وقوت الصلاة». ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة : «إعلان».

وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم : ٥٢] ، وقول سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربية» ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [الأنبياء : ١٠٦].

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) [البقرة : ١٣٤].

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).

فرع على جملة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) إلى (مِنْ نَهارٍ) ، أي فلا يصيب العذاب إلا المشركين أمثالهم. والاستفهام مستعمل في النفي ، ولذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].

ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون ، وذلك من قوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] ، وقوله : لتنذر (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) إلى قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٢ ، ١٣] ، وقوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) [الأحقاف : ٢٧] الآية.

والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي ، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد ، وما في قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) ، وبعضه مجازي وهو سوء الحال ، أي عذاب الآخرة : وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين.

وتعريف (الْقَوْمُ) تعريف الجنس ، وهو مفيد العموم ، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل.

والتعبير بالمضارع في قوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ) على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقع على إهلاك الأمم الذين قبلهم. ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد ، أي القوم المتحدث عنهم في قوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) الآية ، فيكون إظهارا في

٥٨

مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك.

والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك. وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك ، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

٥٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٧ ـ سورة محمد

سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في «صحيح البخاري» من رواية أبي ذر عن البخاري ، وكذلك في التفاسير قالوا : وتسمى سورة القتال.

ووقع في أكثر روايات «صحيح البخاري» سورة الذين كفروا. والأشهر الأول ، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران [١٤٤] التي فيها (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ).

وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال ، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) ، مع ما سيأتي أن قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) إلى قوله : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) [محمد : ٢٠] أنّ المعنيّ بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية.

وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب «الإتقان». وعن النسفي : أنها مكية. وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير : أنها مكية. ولعله وهم ناشئ عمّا روي عن ابن عباس أن قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) [محمد : ١٣] الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء ، أي في الهجرة. قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد. وعدّت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد.

وآيها عدّت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين ، وعدّها أهل البصرة أربعين ، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين.

٦٠