تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في «الأمالي» دون ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» ، فإنه تكلف له تكلفا غير شاف.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

أتبع إبطال ترّهاتهم الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو «التوراة» مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها ، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) [الأحقاف : ١٠] كما تقدم.

ففي قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) إبطال لإحالتهم أن يوحي الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الوحي سنّة إلهية سابقة معلومة أشهره «كتاب موسى» ، أي «التوراة» وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود. وضمير (مِنْ قَبْلِهِ) عائد إلى القرآن. وتقديم (مِنْ قَبْلِهِ) للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة.

وعبر عن «التّوراة» ب (كِتابُ مُوسى) بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو «التوراة» لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلميحا إلى مثار نتيجة قياس القرآن على «كتاب موسى» بالمشابهة في جميع الأحوال.

و (إِماماً وَرَحْمَةً) حالان من (كِتابُ مُوسى) ، ويجوز كونهما حالين من (مُوسى) والمعنيان متلازمان.

والإمام : حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياسا لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقا شائعا على القدوة قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤]. وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة ، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ ، وموسى إمام أيضا بمعنى القدوة.

والرحمة : اسم مصدر لصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي ، رقة في النفس تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه. ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سببا في نفع

٢١

المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة.

ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة ، وموسى أيضا رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

وقوله : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) إلخ هو المقيس على (كِتابُ مُوسى). والإشارة إلى القرآن لأنه حاضر بالذكر فهو كالحاضر بالذات.

والمصدّق : المخبر بصدق غيره. وحذف مفعول المصدّق ليشمل جميع الكتب السماوية ، قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة. وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنيا عنها ومبينا لما فيها. والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختلف فيه منها. وما حرّف فهمه بها قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

وزاده ثناء بكونه (لِساناً عَرَبِيًّا) ، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس ، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى ، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعه أصحاب الأناجيل. وأدمج لفظ (لِساناً) للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفى عنها المساوي ، ولذلكقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] ، وقال : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [مريم : ٩٧].

وقوله : لتنذر (الَّذِينَ ظَلَمُوا) يجوز أن يتعلق ب (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في (كِتابُ) من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة. وهذا أحسن ليكون لتنذر علة للكتاب باعتبار صفته وحاله.

والذين ظلموا هم المشركون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان. والنّذارة مراتب والبشارة مثلها.

٢٢

و (بُشْرى) عطف على (مُصَدِّقٌ) ، والتقدير : وهو بشرى للمحسنين ، أي الكتاب ، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم.

وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوب لتنذر بالمثناة الفوقية خطابا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحصل وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه منذر ووصف كتابه بأنه (بُشْرى) وفيه احتباك. وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي.

[١٣ ، ١٤] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

استئناف بياني أوثر بصريحه جانب المؤمنين من المستمعين للقرآن لأنهم لما سمعوا البشرى تطلعوا إلى صفة البشرى وتعيين المحسنين ليضعوا أنفسهم في حق مواضعها ، فأجيبوا بأن البشرى هي نفي الخوف والحزن عنهم ، وأنهم أصحاب الجنة وأن المحسنين هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في أعمالهم. وأشير بمفهومه إلى التعريض بالذين ظلموا فإن فيه مفهوم القصر من قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ). وتعريفهم بطريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من تعليل كرامتهم عند الله لأنهم جمعوا حسن معاملتهم لربهم بتوحيده وخوفه وعبادته ، وهو ما دل عليه (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) إلى حسن معاملتهم أنفسهم وهو معنى (ثُمَّ اسْتَقامُوا).

وجيء في صلة الموصول بفعل (قالُوا) لإيجاز المقول وغنيته عن أن يقال : اعترفوا بالله وحده وأطاعوه. والمراد : أنهم قالوا ذلك واعتقدوا معناه إذ الشأن في الكلام الصدق وعملوا به لأن الشأن مطابقة العمل للاعتقاد.

(ثُمَ) للتراخي الرتبي : وهو الارتقاء والتدرج ، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس ، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة. فهذا وجه التراخي الرتبي من جهة ، وإن كان الإيمان أرقى درجة من العمل من حيث إنه شرط في الاعتداد بالعمل ولذلك عطف ب (ثُمَ) التي للتراخي في قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ) إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٢ ـ ١٧] ، فالاعتباران مختلفان باختلاف المقام المسوق فيه الكلام كما يظهر بالتأمل هنا وهناك ، وتقدم نظيره في سورة فصّلت.

٢٣

ودخول الفاء على خبر الموصول وهو (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لمعاملة الموصول معاملة الشرط كأنه قيل : إن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ، ومثله كثير في القرآن ، فأفاد تسبب ذلك في أمنهم من الخوف والحزن. و (عَلَيْهِمْ) خبر عن خوف ، أي لا خوف يتمكن منهم ويصيبهم ويلحقهم.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لتخصيص المسند إليه بالخبر نحو : ما أنا قلت هذا ، أي أن الحزن منتف عنهم لا عن غيرهم ، والمراد بالغير : من لم يتصف بالإيمان والاستقامة في مراتب الكفر والعصيان ، فجنس الخوف ثابت لمن عداهم على مراتب توقع العقاب حتى في حالة الوجل من عدم قبول الشفاعة فيهم ومن توقع حرمانهم من نفحات الله تعالى.

واستحضارهم بطريق اسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) للتنبيه على أنهم أحرياء بما يرد من الإخبار عنهم بما بعد الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة ، كما تقدم في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في أول سورة البقرة [٥].

و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أدل على الاختصاص بالجنة من أن يقال : أولئك في الجنة وأولئك لهم الجنة لما في (أَصْحابُ) من معنى الاختصاص وما في الإضافة أيضا.

وقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) تصريح بما استفيد من تعليل الصلة في الخبر ومن اقتضاء اسم الإشارة جدارتهم بما بعده وما أفاده وصف أصحاب وما أفادته الإضافة ، وهذا من تمام العناية بالتنويه بهم.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥))

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها ، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين. وقال ابن

٢٤

عساكر : لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن. وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال. ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) إلى قوله : (خاسِرِينَ) [الأحقاف : ١٧ ، ١٨].

وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين وولد كافر ، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين والديه كما سيأتي. ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيدا لذكر هذا الجدال.

وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) إلى قوله : (يُوعَدُونَ) [الأحقاف : ١٥ ، ١٦] نزل في أبي بكر الصديق. وقال ابن عطية وغير واحد : نزلت في أبي بكر وأبيه (أبي قحافة) وأمه (أم الخير) أسلم أبواه جميعا. وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهرا في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغا في أمة مبلغه في المسلمين. وتقدم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) في سورة العنكبوت [٨].

والمراد بالإنسان الجنس ، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها (أُولئِكَ الَّذِينَ) يتقبل (عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [الأحقاف : ١٦] الآية.

وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة.

والحسن : مصدر حسن ، أي وصيناه بحسن المعاملة. وقرأه الجمهور كذلك. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف (إِحْساناً). والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين (وَصَّيْنَا) معنى : ألزمنا.

والكره : بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره ، إذا امتعض من شيء ، أي كان حمله مكروها لها ، أي حالة حمله وولادته لذلك. وقرأ الجمهور كرها في الموضعين بفتح

٢٥

الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين. وانتصب (كُرْهاً) على الحال ، أي كارهة أو ذات كره.

والمعنى : أنها حملته في بطنها متعبة من حمله تعبا يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل. ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه. وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة.

وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبر الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع.

والفصال : الفطام ، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله : (وَحَمْلُهُ) وانتهاء الرضاع بقوله : (وَفِصالُهُ). والمعنى : وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهرا. وقرأ يعقوب وفصله بسكون الصاد ، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام.

ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهرا لتطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب ، قيل : كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعت المولود أحد وعشرين شهرا ، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهرا ، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا ، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا ، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهرا زائدا في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالا.

ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولو لا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدر بالمقام. وقد جعل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة [٢٣٣] (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) دليلا على أن الوضع قد يكون لستة أشهر ، ونسب مثله إلى ابن عباس. ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت

٢٦

لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان ، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عليّا فأتاه فقال : أما تقرأ القرآن قال : بلى. قال : أما سمعت قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) ، وقال : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فلم نجده بقي إلا ستة أشهر. فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علّام الغيوب الذي أنزله تبيانا لكل شيء من مثل هذا. وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

(حَتَّى) ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم ، وإذ كانت (حَتَّى) لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده ، أي هو موصى بوالديه حسنا في الأطوار الموالية لفصاله ، أي يوصيه وليّه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه.

ووقوع (إِذا) بعد (حَتَّى) ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر ، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ ، وقد تقدمت نظائر ذلك قريبا وبعيدا منها قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) في سورة آل عمران [١٥٢].

ولما كان (إِذا) ظرفا لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلبا إلى الاستقبال ، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيها للمؤكد تحصيله بالواقع ، فهو استعارة.

و (إِذا) تجريد للاستعارة ، والمعنى : حتى يبلغ أشده ، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) ، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه. ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لوالديه. ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما ، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما.

وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) من جملة ما وصي به الإنسان ، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد. فالمعنى : ووصينا الإنسان حسنا بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد ، أي أن لا يفتر عن الإحسان

٢٧

إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفترا عن الإحسان إلى الوالدين.

ومعنى (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أنه دعا ربه بذلك ، ومعناه : أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه ، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣].

وحاصل المعنى : أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما ، وهو معنى قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير». وما شكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر ، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه.

وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حجة الوداع «إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحجّ عنه ، قال : نعم حجّي عنه» ، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه.

والأشدّ : حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد. وقيل مفرده : شدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنعم ، وليس الأشد اسما لعدد من سني العمر وإنما سنو العمر مظنة للأشدّ. ووقته ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على (بَلَغَ أَشُدَّهُ) قوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ، وتقدم في سورة يوسف ، وليس قوله : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) تأكيدا لقوله (بَلَغَ أَشُدَّهُ) لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضا يبعد ذلك الاحتمال.

و (أَوْزِعْنِي) : ألهمني. وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوزع ، أي الانكفاف عن عمل ما ، فالهمزة فيه للإزالة ، وتقدم في سورة النمل.

٢٨

و (نِعْمَتَكَ) اسم مصدر مضاف يعمّ ، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجدة.

وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد.

وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما ، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة الوالد على ولده ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم» ، وفي رواية «لولده» وهو حديث حسن متعددة طرقه.

واللام في (وَأَصْلِحْ لِي) لام العلة ، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١]. ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرّض بأن إصلاحهم لفائدته ، وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول : كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما ، كمّل إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي. وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب.

ومعنى ظرفية (فِي ذُرِّيَّتِي) أن ذريته نزلت منزلة الظرف يستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه ، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم. ونظيره في الظرفية قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف : ٢٨].

وجملة (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية. وحرف (إنّ) للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر ، وبذلك يستعمل حرف (إنّ) في مقام التعليل ويغني غناء الفاء.

والمراد بالتوبة : الإيمان لأنه توبة من الشرك ، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال. وقال : (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) دون أن يقول : وأسلمت كما قال : (تُبْتُ

٢٩

إِلَيْكَ) لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة ، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد ، وفيه الرعي على الفاصلة. هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل ، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفا عند قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) [الأحقاف : ١٤]. وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) [الأحقاف : ١٥] غير معيّن بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه. والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما قبلها من الوصف والحثّ يحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) يتقبل (عَنْهُمْ) إلى آخره جوابا لترقية.

وعموم (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يكسب الجملة فائدة التذييل ، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا. وقد تقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا. والتقبل : ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء. وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجوّ الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة.

وعدّي فعل يتقبل بحرف (عن) ، وحقه أن يعدّى بحرف (من) تغليبا لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة ، لأن دعاء الولد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلا علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضا ففي الكلام اختصار كأنه قيل : أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديهم وذريتهم أحسن ما عملوا. وقرأ الجمهور يتقبل ويتجاوز بالياء التحتية مضمومة مبنيين للنائب وأحسن مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب (أَحْسَنَ).

وقوله : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) في موضع الحال من اسم الإشارة ، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل

٣٠

أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم ، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشرّفين كما يقال : أكرمه في أهل العلم.

وانتصب (وَعْدَ الصِّدْقِ) على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني يتقبل ويتجاوز ، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، أي العدل أقرب للتقوى.

والوعد : مصدر بمعنى المفعول ، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه.

وإضافة (وَعْدَ) إلى (الصِّدْقِ) إضافة على معنى (من) ، أي وعد من الصدق إذ لا يتخلف. و (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) صفة وعد الصدق ، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على برّ الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧))

هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) [الأحقاف : ١٥]. وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه ، وقد علم أن والديه كانا مؤمنين من قوله : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) الآية.

فجملة (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) الأحسن أن تكون معطوفة على جملة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) [الأحقاف : ٧] إلخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث. وأما قوله : (الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) فالوجه جعله مفعولا لفعل مقدر تقديره : واذكر الذي قال لوالديه ، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه. ويجوز جعله مبتدأ وجملة (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) [الأحقاف : ١٨] خبرا عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ).

و (الَّذِينَ) هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته. وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضمّوا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين وهو قبيح لمنافاته الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن حال الوالدين مع أبنائهما يقتضي معاملتهما بالحسنى ، ويدل لعدم اختصاص قوله في آخرها (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) إلى آخره.

٣١

والذي عليه جمهور المفسرين : أن الآية لا تعني شخصا معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذ. وعن ابن عباس ومروان بن الحكم ومجاهد والسدّي وابن جريج أنّها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذي سماه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الرحمن بعد أن أسلم عبد الرحمن قالوا : كان قبل الهجرة مشركا وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رومان إلى الإسلام ويذكّرانه بالبعث ، فيردّ عليهما بكلام مثل ما ذكره في هذه الآية. ويقول : فأين عبد الله بن جدعان ، وأين عثمان بن عمرو ، وأين عامر بن كعب ، ومشايخ قريش حتى أسألهم عمّا يقول محمد. لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه ، وبهذا يؤول قول عائشة رضي‌الله‌عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمن هو الذي يقول الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما). وذلك في قصة إشارة عبد الرحمن على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة.

ففي «صحيح البخاري» في كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال : «كان مروان ابن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه أي بولاية العهد فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر أهرقليّة أي أجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل فقال : خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي) ، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري أي براءتي. وكيف يكون المراد ب (الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) عبد الرحمن بن أبي بكر وآخر الآية يقول:(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) إلى (خاسِرِينَ) [الأحقاف : ١٨] فذكر اسم الإشارة للجمع ، وقضى على المتحدّث عنهم بالخسران ، ولم أقف على من كان مشركا وكان أبواه مؤمنين. وأيّاما كان فقد أسلم عبد الرحمن قبل الفتح فلما أسلم جبّ إسلامه ما قبله وخرج من الوعيد الذي في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الآية ، لأن ذلك وعيد وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعّد به غير مؤمن وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة. وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة ، على أنه قيل إن الإشارة بقوله : (أُولئِكَ) عائدة إلى (الْأَوَّلِينَ) من قوله : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) كما سيأتي.

وأفّ : اسم فعل بمعنى : أتضجّر ، وتقدم الكلام عليه في سورة الإسراء وفي سورة الأنبياء ، وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغل في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب على ما تقرر في قوله

٣٢

تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) في سورة الإسراء [٢٣]. وقرأ نافع وحفص عن عاصم (أُفٍ) بكسر الفاء منونا. وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب (أُفٍ) بفتح الفاء غير منون. وقرأه الباقون أفّ بكسر الفاء غير منون ، وهي لغات ثلاث فيه.

واعلم أن في قوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) محسّن الاتزان فإنه بوزن مصراع من الرمل عروضه محذوفة ، وضربه محذوف ، وفيه الخبن والقبض ، ويزاد فيه الكف على قراءة غير نافع وحفص.

والاستفهام في (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) إنكار وتعجب. والإخراج : البعث بعد الموت.

وجعلت جملة الحال وهي (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) قيدا لمنتهى الإنكار ، أي كيف يكون ذلك في حال مضيّ القرون.

والقرون : جمع قرن وهو الأمة التي تقارب زمان حياتها ، وفي الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» الحديث ، وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) [القصص : ٧٨].

والمعنى : أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت ، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد. وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم.

وقرأ الجمهور (أَتَعِدانِنِي) بنونين مفكّكين وقرأه هشام عن ابن عامر بإدغام النونين.

ومعنى (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يطلبان الغوث من الله ، أي يطلبان من الله الغوث بأن يهديه ، فالمعنى : يستغيثان الله له. وليست جملة (وَيْلَكَ آمِنْ) بيانا لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة. وكلمة (وَيْلَكَ) كلمة تهديد وتخويف.

والويل : الشر. وأصل ويلك : ويل لك كما في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة (ويل) ونصبوه على نزع الخافض.

وفعل (آمِنْ) منزل منزلة اللازم ، أي اتصف بالإيمان وهو دعوة الإسلام ، وجملة

٣٣

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) تعليل للأمر بالإيمان وتعريض له بالتهديد من أن يحق عليه وعد الله.

والأساطير : جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال : خرافة ، وتقدم في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة النحل [٢٤] وفي قوله : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) في سورة الفرقان [٥].

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨))

يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيرا إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق ، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق. ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) إشارة إلى (الْأَوَّلِينَ) من قوله : (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأحقاف : ١٧] ، وهم الذين روي أن ابن أبي بكر ذكرهم حين قال : فأين عبد الله بن جدعان ، وأين عثمان بن عمرو ، ومشايخ قريش كما تقدم آنفا. واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة.

وتعريف (الْقَوْلُ) تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٤ ، ٨٥] ، ونحو قوله : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) [الزمر :١٩] ، فإن الكلمة قول ، ونحو قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ٧] الآية. وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية.

وإقحام (كانُوا خاسِرِينَ) دون أن يقال : إنهم خاسرون ، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه.

وتأكيد الكلام بحرف (إنّ) لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزا ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسرا ، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في البقرة [١٦].

وإيراد فعل الكون بقوله : (كانُوا خاسِرِينَ) دون الاقتصار على (خاسِرِينَ) لأن

٣٤

(كان) تدل على أن الخسارة متمكنة منهم.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩))

عطف على الكلام السابق من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) يتقبل عنهم [الأحقاف : ١٦] ثم قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) [الأحقاف : ١٨] إلخ.

وتنوين (كلّ) تنوين عوض عما تضاف إليه كل وهو مقدر يعلم من السياق ، أي ولكل الفريقين المؤمن البار بوالديه والكافر الجامع بين الكفر والعقوق درجات ، أي مراتب من التفاوت في الخبر بالنسبة لأهل جزاء الخير وهم المؤمنون ، ودركات في الشر لأهل الكفر. والتعبير عن تلك المراتب بالدرجات تغليب لأن الدرجة مرتبة في العلو وهو علوّ اعتباري إنما يناسب مراتب الخير وأما المرتبة السفلى فهي الدركة قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥]. ووجه التغليظ التنويه بشأن أهل الخير.

و (من) في قوله : (مِمَّا عَمِلُوا) تبعيضية. والمراد ب (مِمَّا عَمِلُوا) جزاء ما عملوا فيقدر مضاف. والدرجات : مراتب الأعمال في الخير وضده التي يكون الجزاء على وفقها. ويجوز كون (من) ابتدائية ، وما عملوا نفس العمل فلا يقدر مضاف والدرجات هي مراتب الجزاء التي تكون على حسب الأعمال ، ومقادير ذلك لا يعلمها إلا الله وهي تتفاوت بالكثرة وبالسبق وبالخصوص ، فالذي قال لوالديه أف لكما وأنكر البعث ثم أسلم بعد ذلك قد يكون هو دون درجة الذي بادر بالإسلام وبرّ والديه وما يعقب إسلامه من العمل الصالح. وكل ذلك على حسب الدرجات.

وأشار إلى أن جزاء تلك الدرجات كلها بقدر يعلمه الله ، وقوله بعده : ولنوفيهم (أَعْمالَهُمْ) هو علة لمحذوف دل عليه الكلام وتقديره : قدرنا جزاءهم على مقادير درجاتهم لنوفيهم جزاء أعمالهم ، أي نجازيهم تاما وافيا لا غبن فيه. وقرأ الجمهور ولنوفيهم بنون العظمة. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام عن ابن عامر ويعقوب بالتحتية مرادا به العود إلى الله تعالى لأنه معلوم من المقام.

وجملة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) احتراس منظور فيه إلى توفية أحد الفريقين وهو الفريق المستحق للعقوبة لئلا يحسب أن التوفية بالنسبة إليهم أن يكون الجزاء أشد مما تقتضيه

٣٥

أعمالهم.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره ، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين. فالجملة معطوفة على جملة (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) [الأحقاف : ١٧] الآيات.

والكلام مقول قول محذوف تقديره : ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) ، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى (لا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف : ١٩] ، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا ، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين. وعن الأشعري : أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ، وتؤوّل بأنه خلاف لفظي ، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة. ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الرّبوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بعدل الإلهية والحكمة.

وانتصب (يَوْمَ يُعْرَضُ) على الظرفية لفعل القول المحذوف. والعرض تقدم في قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) في سورة هود [١٨] وقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) في سورة غافر [٤٦] وفي قوله : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) في سورة الشورى [٤٥].

وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعاد له عن مكان له. والذهاب : المبارحة. والمعنى : استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة ، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ).

فالفاء فصيحة. والتقدير : إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيّئ أعمالكم ، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب. وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاصة من أصحابه.

وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم

٣٦

بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكبادا ، وصلائق وصنابا وكراكر وأسنمة (١) ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها). وإنما أراد عمر بذلك الخشية من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه. وذكر ابن عطية : أن عمر حين دخل الشام قدّم إليه خالد بن الوليد طعاما طيبا. فقال عمر : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر. وقال : لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.

والهون : الهوان وهو الذلّ وإضافة (عَذابَ) إلى (الْهُونِ) مع إضافة الموصوف إلى الصفة. والباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) للسببية وهي متعلقة بفعل (تُجْزَوْنَ).

والمراد بالاستكبار ، الاستكبار على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى قبول التوحيد.

والفسوق : الخروج عن الدين وعن الحق ، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون ، وذلك مبين في أحكام الدين. والفسوق : هنا الشرك.

وقرأ الجمهور (أَذْهَبْتُمْ) بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ. وقرأه ابن كثير أأذهبتم بهمزتين على الاستفهام التوبيخي.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١))

سيقت قصة هود وقومه مساق الموعظة للمشركين الذين كذبوا بالقرآن كما أخبر الله عنهم من أول هذه السورة في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف : ٣] مع ما أعقبت به من الحجج المتقدمة من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأحقاف : ٤] الذي يقابله قول هود (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ثم قوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] الذي يقابله قوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ، ذلك كله

__________________

(١) الصلائق بالصاد جمع صليقة وهي الشاة المصلوقة ، أي المشوية ، والصناب بكسر الصاد ونون مخففة وموحدة صباغ من خردل وزبيب يؤدم به اللحم. والكراكر جمع كركرة بكافين مكسورين غدة في صدر البعير تلاصق الأرض إذا برك وهي لحم طيب.

٣٧

بالموعظة بحال هود مع قومه. وسيقت أيضا مساق الحجة على رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى عناد قومه بذكر مثال لحالهم مع رسولهم بحال عاد مع رسولهم. ولها أيضا موقع التسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تلقاه به قومه من العناد والبهتان لتكون موعظة وتسلية معا يأخذ كل منها ما يليق به.

ولا تجد كلمة أجمع للمعنيين مع كلمة (اذْكُرْ) لأنها تصلح لمعنى الذكر اللساني بأن يراد أن يذكر ذلك لقومه ، ولمعنى الذكر بالضم بأن يتذكر تلك الحالة في نفسه وإن كانت تقدمت له وأمثالها لأن في التذكر مسلاة وإسوة كقوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) في سورة ص [١٧]. وكلا المعنيين ناظر إلى قوله آنفا (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) فإنه إذا قال لهم ذلك تذكروا ما يعرفون من قصص الرسل مما قصّه عليهم القرآن من قبل وتذكر هو لا محالة أحوال رسل كثيرين ثم جاءت قصة هود مثالا لذلك. ومشركو مكة إذا تذكروا في حالهم وحال عاد وجدوا الحالين متماثلين فيجدر بهم أن يخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.

والاقتصار على ذكر عاد لأنهم أول الأمم العربية الذين جاءهم رسول بعد رسالة نوح العامة وقد كانت رسالة هود ورسالة صالح قبل رسالة إبراهيم عليهم‌السلام ، وتأتي بعد ذكر قصتهم إشارة إجمالية إلى أمم أخرى من العرب كذبوا الرسل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) [الأحقاف : ٢٧] الآية.

وأخو عاد هو هود وتقدمت ترجمته في سورة الأعراف. وعبّر عنه هنا بوصفه دون اسمه العلم لأن المراد بالذكر هنا ذكر التمثيل والموعظة لقريش بأنهم أمثال عاد في الإعراض عن دعوة رسول من أمتهم.

والأخ يراد به المشارك في نسب القبيلة ، يقولون : يا أخا بني فلان ، ويا أخا العرب ، وهو المراد هنا وقد يراد بها الملازم والمصاحب ، يقال : أخو الحرب وأخو عزمات. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة «أنت أخونا ومولانا» وهو المراد في قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء : ١٦٠ ، ١٦١]. ولم يكن لوط من نسب قومه أهل سدوم.

و (إِذْ أَنْذَرَ) اسم للزمن الماضي ، وهي هنا نصب على البدل من أخا عاد ، أي اذكر زمن إنذاره قومه فهي بدل اشتمال. وذكر الإنذار هنا دون الدعوة أو الإرسال لمناسبة تمثيل حال قوم هود بحال قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو ناظر إلى قوله تعالى في أول السورة

٣٨

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف : ٣].

والأحقاف : جمع حقف بكسر فسكون ، وهو الرمل العظيم المستطيل وكانت هذه البلاد المسماة بالأحقاف منازل عاد وكانت مشرفة على البحر بين عمان وعدن. وفي منتهى الأحقاف أرض حضرموت ، وتقدم ذكر عاد عند قوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) في سورة الأعراف [٦٥].

وجملة (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) معترضة بين جملة (أَنْذَرَ) وجملة (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) المفسرة بها. وقد فسرت جملة (أَنْذَرَ) بجملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) إلخ.

و (أن) تفسيرية لأن (أَنْذَرَ) فيه معنى القول دون حروفه.

ومعنى (خَلَتِ النُّذُرُ) سبقت النذر أي نذر رسل آخرين. والنذر : جمع نذارة بكسر النون. و (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) بمعنى قريبا من زمانه وبعيدا عنه ، ف (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) معناه القرب كما في قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] ، أي قبل العذاب قريبا منه قال تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] ، وقال (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤]. وأما الذي من خلفه فنوح فقد قال هود لقومه (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] ، وهذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها فهو ناظر إلى قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك.

وجملة (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعليل للنهي في قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم بسبب شرككم. وعذاب اليوم العظيم يحتمل الوعيد بعذاب يوم القيامة وبعذاب يوم الاستئصال في الدنيا ، وهو الذي عجّل لهم. ووصف اليوم بالعظم باعتبار ما يحدث فيه من الأحداث العظيمة ، فالوصف مجاز عقلي.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢))

جواب عن قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) [الأحقاف : ٢١] ، ولذلك جاء فعل (قالُوا) مفصولا على طريق المحاورة.

٣٩

والاستفهام إنكار. والمجيء مستعار للقصد بطلب أمر عظيم ، شبه طروّ الدعوة بعد أن لم يكن يدعو بها بمجيء جاء لم يكن في ذلك المكان.

والأفك بفتح الهمزة : الصرف ، وأرادوا به معنى الترك ، أي لنترك عبادة آلهتنا. وهذا الإنكار تعريض بالتكذيب فلذلك فرع عليه (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فصرحوا بتكذيبه بطريق المفهوم.

والمعنى : ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به ، أي عذاب اليوم العظيم ، وإنما صرفوا مراد هود بالعذاب إلى خصوص عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث وبهذا يؤذن قوله بعده (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) [الأحقاف : ٢٤] وقوله : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ٢٤]. وأرادوا : ائتنا به الآن لأن المقام مقام تكذيب بأن عبادة آلهتهم تجر لهم العذاب.

و (مِنَ الصَّادِقِينَ) أبلغ في الوصف بالصدق من أن يقال : إن كنت صادقا ، كما تقرر في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في سورة البقرة [٣٤] ، أي إن كنت في قولك هذا من الذين صدقوا ، أي فإن لم تأت به فما أنت بصادق فيه.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣))

لما جعلوا قولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف : ٢٢] فصلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم ، كان الأمر في قولهم (فَأْتِنا) مقتضيا الفور ، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم.

وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب أن يدعو الله أن يعجّله ، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد ، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضيا أن بينه وبين الله تعاونا وتطاوعا ، أي فلا تتأخر عن الإتيان به.

وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) [الأحقاف : ٢٤] فلذلك كان جوابه أن قال : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد ، فالتعريف في (الْعِلْمُ) للاستغراق العرفي ، أي علم المغيبات ، أو التعريف عوض عن المضاف إليه ، أي وقت العذاب. وهذا الجواب يجري

٤٠