تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

الفصل دون عطف فعل القول على شيء ، وهو الأسلوب الذي ذكرناه في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية في سورة البقرة [٣٠] ، تشعر بأن في المقام كلاما مطويا هو كلام صاحب القرين طوي للإيجاز ، ودليله ما تضمنه قول القرين من نفي أن يكون هو أطغى صاحبه إذ قال (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). وقد حكي ذلك في سورة ص صريحا بقوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ* قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ* قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٥٩ ـ ٦١]. وتقدير المطوي هنا : أن الكفّار العنيد لما قدم إلى النار أراد التنصل من كفره وعناده وألقى تبعته على قرينه الذي كان يزيّن له الكفر فقال : هذا القرين أطغاني ، فقال قرينه (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). فالقرين هذا هو القرين الذي تقدم ذكره في قوله : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣].

والطغيان : تجاوز الحدّ في التعاظم والظلم والكفر ، وفعله يائي وواوي ، يقال : طغي يطغى كرضي ، وطغا يطغو كدعا. فمعنى (ما أَطْغَيْتُهُ) ما جعلته طاغيا ، أي ما أمرته بالطغيان ولا زينته له. والاستدراك ناشئ عن شدة المقارنة بينه وبين قرينه لا سيما إذا كان المراد بالقرين شيطانه المقيّض له فإنه قرن به من وقت إدراكه ، فالاستدراك لدفع توهم أن المقارنة بينهما تقتضي أن يكون ما به من الطغيان بتلقين القرين فهو ينفي ذلك عن نفسه ، ولذلك أتبع الاستدراك بجملة (كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) فأخبر القرين بأن صاحبه ضالّ من قبل فلم يكن اقترانه معه في التقييض أو في الصحبة بزائد إياه إضلالا ، وهذا نظير ما حكاه الله عن الفريقين في قوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦]. وفعل (كانَ) لإفادة أن الضلال ثابت له بالأصالة ملازم لتكوينه.

والبعيد : مستعار للبالغ في قوة النوع حدّا لا يبلغ إليه إدراك العاقل بسهولة كما لا يبلغ سير السائر إلى المكان البعيد إلا بمشقة أو بعيد الزمان ، أي قديم أصيل فيكون تأكيدا لمفاد فعل (كانَ) ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) في سورة النساء [١١٦].

والمعنى : أنّ تمكّن الضلال منه يدل على أنه ليس فيه بتابع لما يمليه غيره عليه لأن شأن التابع في شيء أن لا يكون مكينا فيه مثل علم المقلد وعلم النظّار.

٢٦١

[٢٨ ، ٢٩] (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

هذا حكاية كلام يصدر يومئذ من جانب الله تعالى للفريقين الذي اتّبعوا والذين اتّبعوا ، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام يدل عليه قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢].

وعدم عطف فعل (قالَ) على ما قبله لوقوعه في معرض المقاولة ، والتعبير بصيغة الماضي لتحقق وقوعه فقد صارت المقاولة بين ثلاثة جوانب.

والاختصام : المخاصمة وهو مصدر بصيغة الافتعال التي الأصل فيها أنها لمطاوعة بعض الأفعال فاستعملت للتفاعل مثل : اجتوروا واعتوروا واختصموا.

والنهي عن المخاصمة بينهم يقتضي أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطغوها ، وأن القرناء تنصلوا من ذلك وأن النفوس أعادت رمي قرنائها بذلك فصار خصاما فلذلك قال الله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) وطوي ذكره لدلالة (لا تَخْتَصِمُوا) عليه إيثارا لحق الإيجاز في الكلام. والنهي عن الاختصام بعد وقوعه بتأويل النهي عن الدوام عليه ، أي كفوا عن الخصام.

ومعنى النهي أن الخصام في ذلك لا جدوى له لأن استواء الفريقين في الكفر كاف في مؤاخذة كليهما على السواء كما قال تعالى : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] ، وذلك كناية عن أن حكم الله عليهم قد تقرر فلا يفيدهم التخاصم لإلقاء التبعة على أحد الفريقين.

ووجه استوائهما في العذاب أن الداعي إلى إضلاله قائم بما اشتهته نفسه من ترويج الباطل دون نظر في الدلائل الوزاعة عنه وأن متلقّي الباطل ممن دعاه إليه قائم بما اشتهته نفسه من الطاعة لأئمة الضلال فاستويا في الداعي وترتّب أثره.

والواو في (وَقَدْ قَدَّمْتُ) واو الحال. والجملة حال من ضمير (تَخْتَصِمُوا) وهي حال معللة للنهي عن الاختصام.

والمعنى : لا تطمعوا في أنّ تدافعكم في إلقاء التبعة ينجيكم من العقاب بعد حال إنذاركم بالوعيد من وقت حياتكم فما اكترثتم بالوعيد فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن من أنذر

٢٦٢

فقد أعذر.

فقوله : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) كناية عن عدم الانتفاع بالخصام كون العقاب عدلا من الله. والباء في (بِالْوَعِيدِ) مزيدة للتأكيد كقوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. والمعنى : وقد قدمت إليكم الوعيد قبل اليوم.

والتقديم : جعل الشيء قدام غيره.

والمراد به هنا : كونه سابقا على المؤاخذة بالشرك لأن الله توعدهم بواسطة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالمعنى الأول المكنّى عنه بيّن بجملة (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ، أي لست مبطلا ذلك الوعيد ، وهو القول ، إذ الوعيد من نوع القول ، والتعريف للعهد ، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك. والمعنى الثاني المكنّى عنه بين بجملة (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد.

والمبالغة التي في وصف (بِظَلَّامٍ) راجعة إلى تأكيد النفي. والمراد : لا أظلم شيئا من الظلم ، وليس المعنى : ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجّه النفي إلى المقيّد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي. والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي ، قال طرفة :

ولست بحلّال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي.

وذكر الشيخ في «دلائل الإعجاز» توجه نفي الشيء المقيد إلى خصوص القيد كتوجّه الإثبات سواء ، ولكن كلام التفتازانيّ في كتاب «المقاصد في أصول الدين» في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك ، فالأكثر أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد ، وقد يعتبر القيد قيدا للنفي وهذا هو التحقيق. على أني أرى أن عدّ مثل صيغة المبالغة في عداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظا زائدا على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال : لست ظلّاما ، ولكن أظلم ، ويحسن أن يقال لا آتيك محاربا ولكن مسالما.

وقد أشار في «الكشاف» إلى أن إيثار وصف (بِظَلَّامٍ) هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلما شديدا فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبل أن يعرّف أن عمله جناية

٢٦٣

لكانت مؤاخذته بها ظلما شديدا. ولعل صاحب «الكشاف» يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات ، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة ، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلما فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضا بالتبعات دون تقدّم إليهم بالنهي من قبل ، ولذلك يقال : لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

ظرف متعلق ب (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) [ق : ٢٨]. والتقدير : قال لهم في ذلك القول يوم يقول قولا آخر لجهنم (هَلِ امْتَلَأْتِ). ومناسبته تعليقه به أن هذا القول لجهنم مقصود به ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها ، فحكاه الله في القرآن عبرة لمن يسمعه من المشركين وتعليما لأهل القرآن المؤمنين ولذلك استوت قراءة يقول بالياء ، وهي لنافع وأبي بكر عن عاصم جريا على مقتضى ظاهر ما سبقه من قوله : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ). وقراءة الباقين بالنون على الالتفات بل هو التفات تابع لتبديل طريق الإخبار من الحديث عن غائب إلى خطاب حاضر.

والقول الأول حقيقي وهو كلام يصدر من جانب الله بمحض خلقه دون واسطة. فلذلك أسند إلى الله كما يقال القرآن كلام الله.

والاستفهام في (هَلِ امْتَلَأْتِ) مستعمل في تنبيه أهل العذاب إلى هذا السؤال على وجه التعريض.

وأما القول لجهنم فيجوز أن يكون حقيقة بأن يخلق الله في أصوات لهيبها أصواتا ذات حروف يلتئم منها كلام ، ويجوز أن يكون مجازا عن دلالة حالها على أنها تسع ما يلقى فيها من أهل العذاب بأن يكشف باطنها للمعروضين عليها حتى يروا سعتها كقول الراجز :

امتلأ الحوض وقال : قطني

والاستفهام في (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) مستعمل للتشويق والتمنّي.

٢٦٤

وفيه دلالة على أن الموجودات مشوقة إلى الإيفاء بما خلقت له كما قال الشيطان (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦]. وفيه دلالة على إظهار الامتثال لما خلقها الله لأجله ، ولأنها لا تتلكّأ ولا تتعلل في أدائه على أكمل حال في بابه.

والمزيد : مصدر ميمي ، وهو الزيادة مثل المجيد والحميد. ويجوز أن يكون اسم مفعول من زاد ، أي هل من جماعة آخرين يلقون فيّ.

[٣١ ـ ٣٥] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

عطف (وَأُزْلِفَتِ) على يقول لجهنم. فالتقدير : يوم أزلفت الجنة للمتقين وهو رجوع إلى مقابل حالة الضالّين يوم ينفخ في الصور ، فهذه الجملة متصلة في المعنى بجملة (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] ولو اعتبرت معطوفة عليها لصح ذلك إلا أن عطفها على جملة يوم يقول (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) [ق : ٣٠] غنية عن ذلك ولا سيما مع طول الكلام.

والإزلاف : التقريب مشتق من الزلف بالتحريك وهو القربة ، وقياس فعله أنه كفرح كما دل عليه المصدر ولم يرو في كلامهم ، أي جعلت الجنة قريبا من المتقين ، أي ادنوا منها.

والجنة موجودة من قبل ورود المتّقين إليها فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها ، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا.

وقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) يرجح الاحتمال الأول ، أي غير بعيد منهم وإلّا صار تأكيدا لفظيا ل (أُزْلِفَتِ) كما يقال : عاجل غير آجل ، وقوله : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] والتأسيس أرجح من احتمال التأكيد.

وانتصب (غَيْرَ بَعِيدٍ) على الظرفية باعتبار أنه وصف لظرف مكان محذوف. والتقدير : مكانا غير بعيد ، أي عن المتقين. وهذا الظرف حال من (الْجَنَّةُ). وتجريد

٢٦٥

(بَعِيدٍ) من علامة التأنيث : إما على اعتبار (غَيْرَ بَعِيدٍ) وصفا لمكان ، وإمّا جري على الاستعمال الغالب في وصف بعيد وقريب إذا أريد البعد والقرب بالجهة دون النسب أن يجرّدا من علامة التأنيث كما قاله الفرّاء أو لأن تأنيث اسم الجنة غير حقيقي كما قال الزجاج ، وإما لأنه جاء على زنة المصدر مثل الزئير والصّليل ، كما قال الزمخشري ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].

وجملة (هذا ما تُوعَدُونَ) معترضة ، فلك أن تجعلها وحدها معترضة وما بعدها متصلا بما قبلها فتكون معترضة بين البدل والمبدل منه وهما (لِلْمُتَّقِينَ) و (لِكُلِّ أَوَّابٍ) ، وتجعل (لِكُلِّ أَوَّابٍ) بدلا من (لِلْمُتَّقِينَ) ، وتكرير الحرف الذي جرّ به المبدل منه لقصد التأكيد كقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) [سبأ : ٣٢] لمن آمن منهم الآية وقوله : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [النساء : ١١]. واسم الإشارة المذكر مراعى فيه مجموع ما هو مشاهد عندهم من الخيرات.

والأوّاب : الكثير الأوب ، أي الرجوع إلى الله ، أي إلى امتثال أمره ونهيه.

والحفيظ : الكثير الحفظ لوصايا الله وحدوده. والمعنى : أنه محافظ على الطاعة فإذا صدرت منه فلتة أعقبها بالتوبة.

و (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) بدل من (لِكُلِّ أَوَّابٍ). والخشية : الخوف. وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة.

والباء في (بِالْغَيْبِ) بمعنى (في) الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان ، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطّلاع أحد عليه ، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل (خَشِيَ). ولك أن تبقي الباء على بعض معانيها الغالبة وهي الملابسة ونحوها ويكون الغيب مصدرا والمجرور حالا من ضمير (خَشِيَ).

ومعنى (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أنه حضر يوم الحشر مصاحبا قلبه المنيب إلى الله ، أي مات موصوفا بالإنابة ولم يبطل عمله الصالح في آخر عمره ، وهذا كقوله حكاية عن إبراهيم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ، ٨٩].

وإيثار اسمه (الرَّحْمنَ) في قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ) دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان ، ولقصد التعريض بالمشركين الذين

٢٦٦

أنكروا اسمه الرحمن (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠].

والمعنى على الذين خشوا : خشي صاحب هذا الاسم ، فأنتم لا حظّ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بله أن تخشوه.

ووصف قلب ب (مُنِيبٍ) على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها.

وجملة (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) من تمام مقول القول المحذوف. وهذا الإذن من كمال إكرام الضيف أنه إن دعي إلى الوليمة أو جيء به فإنه إذا بلغ المنزل قيل له : ادخل بسلام.

والباء في (بِسَلامٍ) للملابسة. والسلام : السلامة من كل أذى من تعب أو نصب ، وهو دعاء. ويجوز أن يراد به أيضا تسليم الملائكة عليهم حين دخولهم الجنة مثل قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

ومحل هذه الجملة من التي قبلها الاستئناف البياني لأن ما قبلها يثير ترقب المخاطبين للإذن بإنجاز ما وعدوا به.

وجملة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) يجوز أن تكون مما يقال للمتقين على حد قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] ، والإشارة إلى اليوم الذي هم فيه. وكان اسم الإشارة للبعيد للتعظيم. ويجوز أن تكون الإشارة إلى اليوم المذكور في قوله : يوم يقول (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) [ق : ٣٠] فإنه بعد أن ذكر ما يلاقيه أهل جهنم وأهل الجنة أعقبه بقوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) ترهيبا وترغيبا ، وعلى هذا الوجه الثاني تكون هذه الجملة معترضة اعتراضا موجها إلى المتقين يوم القيامة أو إلى السامعين في الدنيا. وعلى كلا الوجهين فإضافة (يَوْمُ) إلى (الْخُلُودِ) باعتبار أن أول أيام الخلود هي أيام ذات مقادير غير معتادة ، أو باعتبار استعمال (يَوْمُ) بمعنى مطلق الزمان.

وبين كلمة (ادْخُلُوها) وكلمة (الْخُلُودِ) الجناس المقلوب الناقص ، ثم إن جملة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) يجوز أن تكون من بقية ما يقال للمتقين ابتداء من قوله: (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) فيكون ضمير الغيبة التفاتا وأصله : لكم ما تشاءون. ويجوز أن تكون مما خوطب به الفريقان في الدنيا وعلى الاحتمالين فهي مستأنفة استئنافا بيانيا.

و (لَدَيْنا مَزِيدٌ) ، أي زيادة على ما يشاءون مما لم يخطر ببالهم ، وذلك زيادة في

٢٦٧

كرامتهم عند الله ووردت آثار متفاوتة القوة أن من المزيد مفاجأتهم بخيرات ، وفيها دلالة على أن المفاجأة بالإنعام ضرب من التلطف والإكرام ، وأيضا فإن الأنعام يجيئهم في صور معجبة. والقول في (مَزِيدٌ) هنا كالقول في نظيره السابق آنفا.

وجاء ترتيب الآيات في منتهى الدقة فبدأت بذكر إكرامهم بقوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، ثم بذكر أن الجنة جزاؤهم الذي وعدوا به فهي حق لهم ، ثم أومأت إلى أن ذلك لأجل أعمالهم بقوله : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ) إلخ ، ثم ذكرت المبالغة في إكرامهم بعد ذلك كله بقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) ، ثم طمأنهم بأن ذلك نعيم خالد ، وزيد في إكرامهم بأن لهم ما يشاءون ما لم يروه حين الدخول ، وبأن الله عدهم بالمزيد من لدنه.

[٣٦ ، ٣٧] (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧))

انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [ق : ٤] وما فرّع عليه من قوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥]. وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِ) إلى قوله : (فَحَقَّ وَعِيدِ) [ق : ١٢ ، ١٤]. فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً).

والخبر الذي أفاده قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) تعريض بالتهديد وتسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وضميرا (قَبْلَهُمْ) و (مِنْهُمْ) عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ويفسره قوله بعده (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) [ق : ٢]. وجرى على ذلك السّنن قوله : (ذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وقوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] ، ونظائره في القرآن كثيرة.

و (كَمْ) خبرية وجرّ تمييزها ب (مِنْ) على الأصل.

والبطش : القوة على الغير. والتنقيب : مشتق من النقب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خرقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر

٢٦٨

الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها) في سورة الروم [٩].

وتعريف (الْبِلادِ) للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ [الفجر : ١١].

والفاء في (فَنَقَّبُوا) لتفريع عن (أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد.

والجملة معترضة بين جملة (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) إلى آخره.

وجملة (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الأنفال : ١٤].

وجملة (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) بدل اشتمال من جملة (أَهْلَكْنا) ، أي إهلاكا لا منجى منه. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة. فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت (مِنْ) على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما من محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص [٣] (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ).

والمحيص : مصدر ميمي من حاص إذا عدل وجاد ، أي لم يجدوا محيصا من الإهلاك وهو كقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) في سورة مريم [٩٨].

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشدّ بطشا ، ويجوز أن يكون إلى جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء.

والذكرى : التذكرة العقلية ، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سينالهم ما نال أولئك ، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه.

والقلب : العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه. وإلقاء السمع : مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّ أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه.

٢٦٩

والشهيد : المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر ، أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سحنة فإن النظر يعين على الفهم. وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهدا. وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر. وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة.

وموقع (أَوْ) للتقسيم لأن المتذكر إمّا أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود ، قال تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] فقوله : (أَلْقَى السَّمْعَ) استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب ، وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية. وقيل المراد بمن ألقى السمع وهو شهيد خصوص أهل الكتاب الذين ألقوا سمعهم لهذه الذكرى وشهدوا بصحتها لعلمهم بها من التوراة وسائر كتبهم فيكون (شَهِيدٌ) من الشهادة لا من المشاهدة. وقال الفخر : تنكير (قَلْبٌ) للتعظيم والكمال. والمعنى : لمن كان له قلب ذكيّ واع يستخرج بذكائه ، أو لمن ألقى السمع إلى المنذر فيتذكر ، وإنما قال (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) ولم يقل : استمع ، لأن إلقاء السمع ، أي يرسل سمعه ولا يمسكه وإن لم يقصد السماع ، أي تحصل الذكرى لمن له سمع. وهو تعريض بتمثيل المشركين بمن ليس له قلب وبمن لا يلقي سمعه.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨))

مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما نزل قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) [ق : ٦] إلى قوله : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] ، وكان ذلك قريبا مما وصف في التوراة من ترتيب المخلوقات إجمالا ثم نزل قوله بعد ذلك (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥] كان بعض اليهود بمكة يقولون إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع ، وهذا مكتوب في سفر التكوين من «التوراة».

والاستراحة تؤذن بالنصب والإعياء فلما فرغت الآية من تكذيب المشركين في

٢٧٠

أقوالهم عطفت إلى تكذيب الذين كانوا يحدثونهم بحديث الاستراحة ، فهذا تأويل موقع هذه الآية في هذا المحل مع ما حكى ابن عطية من الإجماع على أن هذه السورة كلها مكية وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على طليعة السورة فقول من قال نزلت في يهود المدينة تكلّف إذ لم يكن اليهود مقصورين على المدينة من بلاد العرب وكانوا يترددون إلى مكة.

فقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) تكملة لما وصف من خلق السماوات في قوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) إلى قوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٦ ، ٧] ليتوصل به إلى قوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) إبطالا لمقالة اليهود ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها عطف القصة على القصة وقعت معترضة بين الكلام السابق وبين ما فرع عنه من قوله : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : ١٣٠].

والواو في (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) واو الحال لأن لمعنى الحال هنا موقعا عظيما من تقييد ذلك الخلق العظيم في تلك المدة القصيرة بأنه لا ينصب خالقه لأن الغرض من معظم هذه السورة بيان إمكان البعث إذ أحاله المشركون بما يرجع إلى ضيق القدرة الإلهية عن إيقاعه ، فكانت هذه الآيات كلها مشتملة على إبراز معنى سعة القدرة الإلهية. ومعنى (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) : ما أصابنا تعب. وحقيقة المسّ : اللّمس ، أي وضع اليد على شيء وضعا غير شديد بخلاف الدفع واللطم. فعبر عن نفي أقل الإصابة بنفي المسّ لنفي أضعف أحوال الإصابة كما في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة : ٣] فنفي قوة الإصابة وتمكنها أحرى.

واللغوب : الإعياء من الجري والعمل الشديد.

[٣٩ ، ٤٠] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).

تفريع على ما تقدم كله من قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) [ق : ٢] الآيات ، ومناسبة وقعه هذا الموقع ما تضمنه قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) [مريم: ٧٤] الآية من التعريض بتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فاصبر على ما يقول المشركون من التكذيب بما أخبرتهم من البعث وبالرسالة وقد جمع ذلك كله الموصول وهو (ما يَقُولُونَ).

٢٧١

وضمير (يَقُولُونَ) عائد إلى المشركين الذين هم المقصود من هذه المواعظ والنذر ابتداء من قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)).

عطف على (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) فهو من تمام التفريع ، أي اصبر على أقوال أذاهم وسخريتهم. ولعلّ وجه هذا العطف أن المشركين كانوا يستهزءون بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة مثل قصة إلقاء عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سجد في المسجد الحرام في حجر الكعبة فأقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر : ٢٨] الآية. وقال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ٩ ـ ١٩].

فالمراد بالتسبيح : الصلاة وهو من أسماء الصلاة. قال ابن عطية : أجمع المتأولون على أن التسبيح هنا الصلاة. قلت : ولذلك صار فعل التسبيح منزلا منزلة اللازم لأنه في معنى : صلّ. والباء في (بِحَمْدِ رَبِّكَ) يرجح كون المراد بالتسبيح الصلاة لأن الصلاة تقرأ في كل ركعة منها الفاتحة وهي حمد لله تعالى ، فالباء للملابسة.

واختلف المفسرون في المراد بالصلاة من قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) ففي «صحيح مسلم» عن جرير بن عبد الله : «كنّا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نظر إلى القمر فقال : إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني بذلك العصر والفجر. ثم قرأ جرير (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) كذا. والقراءة (الْغُرُوبِ). وعن ابن عباس : قبل الغروب: الظهر والعصر. وعن قتادة : العصر.

وقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) الجمهور على أن التسبيح فيه هو الصلاة ، وعن أبي الأحوص أنه قول سبحان الله ، فعلى أن التسبيح الصلاة قال ابن زيد : صلاة المغرب وصلاة العشاء.

و (قَبْلَ الْغُرُوبِ) ظرف واسع يبتدئ من زوال الشمس عن كبد السماء لأنها حين

٢٧٢

تزول عن كبد السماء قد مالت إلى الغروب وينتهي بغروبها ، وشمل ذلك وقت صلاة الظهر والعصر ، وذلك معلوم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسبيح الليل بصلاتي المغرب والعشاء لأن غروب الشمس مبدأ الليل ، فإنهم كانوا يؤرخون بالليالي ويبتدئون الشهر بالليلة الأولى التي بعد طلوع الهلال الجديد عقب غروب الشمس.

وقيل هذه المذكورات كلها نوافل ، فالذي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر ، والذي قبل الغروب ركعتان قبل غروب الشمس قاله أبو برزة وأنس بن مالك ، والذي من الليل قيام الليل قاله مجاهد. ويأتي على هذا الوجه الاختلاف في محمل الأمر على الندب إن كانا عاما أو على الوجوب إن كانا خاصا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي في سورة المزمل.

وقريب من هذه الآية قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً* وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) في سورة الإنسان [٢٤ ـ ٢٦].

وقريب منها أيضا قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ* وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) في سورة الطور [٤٨ ، ٤٩].

وأما قوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) فيجوز أن يكون معطوفا على قوله : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ).

والإدبار : بكسر الهمزة حقيقته : الانصراف لأن المنصرف يستدبر من كان معه ، واستعير هنا للانقضاء ، أي انقضاء السجود ، والسجود : الصلاة ، قال تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). وانتصابه على النيابة عن الظرف لأن المراد : وقت إدبار السجود. وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر وحمزة وخلف بكسر همزة إدبار. وقرأه الباقون بفتح الهمزة على أنه جمع : دبر ، بمعنى العقب والآخر ، وعلى كلتا القراءتين هو وقت انتهاء السجود.

ففسر السجود بالحمل على الجنس ، أي بعد الصلوات قاله ابن زيد ، فهو أمر بالرواتب التي بعد الصلوات ، وهو عام خصصته السنة بأوقات النوافل ، ومجمل بينت السنة مقاديره ، وبينت أن الأمر فيه أمر ندب وترغيب لا أمر إيجاب. وعن المهدوي أنه كان فرضا فنسخ بالفرائض. وحمل على العهد فقال جمع من الصحابة والتابعين هو صلاة المغرب ، أي الركعتان بعدها. وعن ابن عباس أنه الوتر.

والفاء في قوله : (فَسَبِّحْهُ) للتفريع على قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على أن يكون

٢٧٣

الوقت على قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ) تأكيدا للأمر لإفادة الوجوب فيجعل التفريع اعتراضا بين الظروف المتعاطفة وهو كالتفريع الذي في قوله آنفا (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) [ق : ٣٦] وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الأنفال : ١٤].

[٤١ ـ ٤٣] (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣))

لا محالة أن جملة (اسْتَمِعْ) عطف على جملة (سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [ق : ٣٩] ، فالأمر بالاستماع مفرع بالفاء التي فرع بها الأمر بالصبر على ما يقولون. فهو لا حق بتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يكون المسموع إلا من نوع ما فيه عناية به وعقوبة لمكذبيه.

وابتداء الكلام ب (اسْتَمِعْ) يفيد توثيقا إلى ما يرد بعده على كل احتمال. والأمر بالاستماع حقيقته : الأمر بالإنصات والإصغاء.

وللمفسرين ثلاث طرق في محمل (اسْتَمِعْ) ، فالذي نحاه الجمهور حمل الاستماع على حقيقته وإذ كان المذكور عقب فعل السمع لا يصلح لأن يكون مسموعا لأن اليوم ليس مما يسمع تعين تقدير مفعول ل (اسْتَمِعْ) يدل عليه الكلام الذي بعده فيقدر : استمع نداء المنادي ، أو استمع خبرهم ، أو استمع الصيحة يوم ينادي المنادي. ولك أن تجعل فعل (اسْتَمِعْ) منزلا منزلة اللازم ، أي كن سامعا ويتوجه على تفسيره هذا أن يكون معنى الأمر بالاستماع تخييلا لصيحة ذلك اليوم في صورة الحاصل بحيث يؤمر المخاطب بالإصغاء إليها في الحال كقول مالك بن الرّيب :

دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي

بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا

ونحا ابن عطية حمل (اسْتَمِعْ) على المجاز ، أي انتظر. قال : «لأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبيّن صحة ما قلته» ا ه. ولم أر من سبقه إلى هذا المعنى ومثله في «تفسير الفخر» وفي «تفسير النسفي». ولعلهما اطلعا عليه لأنهما متأخران عن ابن عطية وهما وإن كانا مشرقيّين فإن الكتب تنقل بين الأقطار. وللزمخشري طريقة أخرى فقال «يعني : واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك». ولم أر من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق.

٢٧٤

واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناء على الفتح ، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابن مالك ولا ريبة في أنه الأصوب. ومنه قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] في قراءة نافع بفتح يوم.

وقوله : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) بدل مطابق من (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) وقوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) خبر المبتدأ.

ولك أن تجعل (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) مفعولا فيه ل (اسْتَمِعْ) وإعراب ما بعده ظاهر.

ولك أن تجعل (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) ظرفا في موقع الخبر المقدم وتجعل المبتدأ قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ويكون تقدير النظم : واستمع ذلك يوم الخروج يوم ينادي المنادي إلخ ، ويكون اسم الإشارة لمجرد التنبيه ، أو راجعا إلى يوم ينادي المنادي ، فإنه متقدم عليه في اللفظ وإن كان خبرا عنه في المعنى واسم الإشارة يكتفي بالتقدم اللفظي بل يكتفي بمجرد الخطور في الذهن. وفي «تفسير النسفي» أن يعقوب أي الحضرمي أحد أصحاب القراءات العشر المتواترة وقف على قوله (وَاسْتَمِعْ).

وتعريف (الْمُنادِ) تعريف الجنس ، أي يوم ينادي مناد ، أي من الملائكة وهو الملك الذي ينفخ النفخة الثانية فتتكوّن الأجساد وتحل فيها أرواح الناس للحشر قال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].

وتنوين (مَكانٍ قَرِيبٍ) للنوعية إذ لا يتعلق الغرض بتعيينه ، ووصفه ب (قَرِيبٍ) للإشارة إلى سرعة حضور المنادين ، وهو الذي فسرته جملة (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) لأن المعروف أن النداء من مكان قريب لا يخفى على السامعين بخلاف النداء من كان بعيد.

و (بِالْحَقِ) بمعنى : بالصدق وهو هنا الحشر ، وصف (بِالْحَقِ) إبطالا لزعم المشركين أنه اختلاق.

والخروج : مغادرة الدار أو البلد ، وأطلق الخروج على التجمع في المحشر لأن الحيّ إذا نزحوا عن أرضهم قيل : خرجوا ، يقال : خرجوا بقضّهم وقضيضهم.

واسم الإشارة جيء به لتهويل المشار إليه وهو (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) فأريد

٢٧٥

كمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الخبر العظيم. ومقتضى الظاهر أن يقال : هو يوم الخروج.

و (يَوْمُ الْخُرُوجِ) علم بالغلبة على يوم البعث ، أي الخروج من الأرض.

وجملة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) تذييل ، أي هذا الإحياء بعد أن أمتناهم هو من شئوننا بأنا نحييهم ونحيي غيرهم ونميتهم ونميت غيرهم.

والمقصود هو قوله : (وَنُمِيتُ) ، وأما قوله : (نُحْيِي) فإنه لاستيفاء معنى تصرف الله في الخلق.

وتقديم (إِلَيْنَا) في (إِلَيْنَا الْمَصِيرُ) للاهتمام. والتعريف في (الْمَصِيرُ) إما تعريف الجنس ، أي كل شيء صائر إلى ما قدرناه له وأكبر ذلك هو ناموس الفناء المكتوب على جميع الأحياء وإما تعريف العهد ، أي المصير المتحدث عنه ، وهو الموت لأن المصير بعد الموت إلى حكم الله.

وعندي أن هذه الآيات من قوله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) إلى قوله (الْمَصِيرُ) مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحلّ بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقون إثره حتفهم ، وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترقب يوم يناديهم فيه مناد إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأنّ عير قريش وفيها أبو سفيان قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه. فتجهز الناس سراعا وخرجوا إلى بدر. فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة.

والخروج : خروجهم لبدر ، وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصال سادتهم عقبه. وتكون جملة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قدّر إسلامه فيما بعد فهو يحييه إلى يوم أجله.

وكتب في المصحف (الْمُنادِ) بدون ياء. وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بدون ياء في الوصل وبالياء في الوقف ، وذلك جار على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرّف باللام معاملة المنكّر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في

٢٧٦

آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرّف معاملة المنكر. وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتبارا بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالف قياس اللفظ لأجله.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤))

إنّ جريت على أقوال المفسرين في تفسير الآية السابقة أفادت هذه الآية بيانا لجملة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق : ٤٢] أو بدل اشتمال منها مع ما في المعاد منها من تأكيد لمرادفه. وإن جريت على ما ارتأيته في محمل الآية السابقة أفادت هذه الجملة استئنافا استدلالا على إمكان الحشر ووصف حال من أحواله وهو تشقّق الأرض عنهم ، أي عن أجساد مثيلة لأجسادهم وعن الأجساد التي لم يلحقها الفناء.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب (تَشَقَّقُ) بفتح التاء وتشديد الشين. وأصله تتشقق بتاءين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينا لتقارب مخرجيها. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي تشقق بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل لاستثقال الجمع بين تاءين.

و (سِراعاً) حال من ضمير (عَنْهُمْ) وهو جمع سريع ، أي سراعا في الخروج أو في المشي الذي يعقبه إلى محل الحساب.

والقول في إعراب (تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ) كالقول في إعراب قوله : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [ق : ٤١] إلى (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) وكذلك القول في اختلاف اسم الإشارة مثله.

وتقدم المجرور في (عَلَيْنا) للاختصاص ، أي هو يسير في جانب قدرتنا لا كما زعمه نفاة الحشر.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

استئناف بياني ناشئ عن قوله (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [ق : ٣٩] فهو إيغال في تسلية

٢٧٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعريض بوعيدهم ، فالخبر مستعمل مجازا في وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه.

وقوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تطمين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه غير مسئول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بعث داعيا وهاديا ، وليس مبعوثا لإرغامهم على الإيمان ، والجبّار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه. وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشئ عن نفي كونه جبّارا عليهم وهذا كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ، ٢٢] ، ولكن خصّ التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكّر. فالمعنى: فذكر بالقرآن فيتذكّر من يخاف وعيد. وهذا كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].

وكتب في المصحف (وَعِيدِ) بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف. وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف.

٢٧٨

محتوى الجزء السادس والعشرون من كتاب تفسير التحرير والتنوير

المقدمة.......................................................................... ٥

أغراض السورة................................................................... ٦

٤٦ ـ سورة الأحقاف

(حم)........................................................................ ٦

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)........................................... ٦

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) إلى (مُعْرِضُونَ)........................ ٦

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)........................ ٨

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) إلى (كافِرِينَ)............................. ١٠

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) إلى (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).......................... ١١

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) إلى (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)...................... ١٢

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) إلى (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)....................... ١٤

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلى (الظَّالِمِينَ)................................ ١٦

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)....................... ١٨

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ)................................... ١٩

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) إلى (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ).................. ٢١

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) إلى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)............... ٢٣

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) إلى (ثَلاثُونَ شَهْراً)........................... ٢٤

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) إلى (مِنَ الْمُسْلِمِينَ)..................... ٢٧

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) إلى (كانُوا يُوعَدُونَ)................ ٣٠

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي) إلى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)................... ٣١

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) إلى (كانُوا خاسِرِينَ)................... ٣٤

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).................... ٣٥

٢٧٩

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) إلى (تَفْسُقُونَ)........................... ٣٦

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) إلى (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)................ ٣٧

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) إلى (مِنَ الصَّادِقِينَ)............................ ٣٩

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إلى (قَوْماً تَجْهَلُونَ)............. ٤٠

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) إلى (الْمُجْرِمِينَ)........................... ٤١

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) إلى (يَسْتَهْزِؤُنَ)............................ ٤٤

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)................ ٤٦

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) إلى (كانُوا يَفْتَرُونَ)................. ٤٧

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) إلى (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).......... ٤٨

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)...... ٥٣

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) إلى (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).................... ٥٥

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) إلى (مِنْ نَهارٍ)......................... ٥٦

(بَلاغٌ)..................................................................... ٥٧

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ).............................................. ٥٨

٤٧ ـ سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

المقدمة........................................................................ ٦٠

أعراض السورة.................................................................. ٦١

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)............................... ٦١

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلى (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ)......................... ٦٢

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)........ ٦٤

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)............................................. ٦٥

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) إلى (أَوْزارَها).......................... ٦٦

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)................... ٧٠

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) إلى (عَرَّفَها لَهُمْ)................. ٧٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)...................... ٧١

٢٨٠