تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٥ ، ٦].

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))

مفعول لأجله للأفعال السابقة من قوله : (بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) [ق : ٦] وقوله : (مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها) [ق : ٧] إلخ ، على أنه علة لها على نحو من طريقة التنازع ، أي ليكون ما ذكر من الأفعال ومعمولاتها تبصرة وذكرى ، أي جعلناه لغرض أن نبصّر به ونذكّر كل عبد منيب.

وحذف متعلق (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) ليعم كلّ ما يصلح أن يتبصر في شأنه بدلائل خلق الأرض وما عليها ، وأهم ذلك فيهم هو التوحيد والبعث كما هو السياق تصريحا وتلويحا.

وإنما كانت التبصرة والذكرى علة للأفعال المذكورة لأن التبصرة والذكرى من جملة الحكم التي أوجد الله تلك المخلوقات لأجلها. وليس ذلك بمقتض انحصار حكمة خلقها في التبصرة والذكرى ، لأن أفعال الله تعالى لها حكم كثيرة علمنا. بعضها وخفي علينا بعض.

والتبصرة : مصدر بصّره. وأصل مصدره التبصير ، فحذفوا الياء التحتية من أثناء الكلمة وعوضوا عنها التاء الفوقية في أول الكلمة كما قالوا : جرّب تجربة وفسّر تفسرة ، وذلك يقلّ في المضاعف ويكثر في المهموز نحو جزّأ تجزئة ، ووطّأ توطئة. ويتعين في المعتل نحو : زكّى تزكية ، وغطاه تغطية.

والتّبصير : جعل المرء مبصرا وهو هنا مجاز في إدراك النفس إدراكا ظاهرا للأمر الذي كان خفيا عنها فكأنها لم تبصره ثم أبصرته.

والذكرى اسم مصدر ذكّر ، إذا جعله يذكر ما نسيه. وأطلقت هنا على مراجعة النفس ما علمته ثم غفلت عنه.

و (عَبْدٍ) بمعنى عبد الله ، أي مخلوق ، ولا يطلق إلّا على الإنسان. وجمعه : عباد دون عبيد.

والمنيب : الراجع ، والمراد هنا الراجع إلى الحق بطاعة الله فإذا انحرف أو شغله

٢٤١

شاغل ابتدر الرجوع إلى ما كان فيه من الاستقامة والامتثال فلا يفارقه حال الطاعة وإذا فارقه قليلا آب إليه وأناب. وإطلاق المنيب على التائب والإنابة على التوبة من تفاريع هذا المعنى ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) في سورة ص [٢٤].

وخص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الأفعال. وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر. ويحمل (كل) على حقيقة معناه من الإحاطة والشمول. فالمعنى : أن تلك الأفعال قصد منها التبصرة والذكرى لجميع العباد المتبعين للحق إذ لا يخلون من تبصّر وتذكر بتلك الأفعال على تفاوت بينهم في ذلك.

[٩ ، ١٠] (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠))

بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دأبا ، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ) [ق : ٦] إلى أسلوب الإخبار بقوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) إيذانا بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١]. فجملة (وَنَزَّلْنا) عطف على جملة (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) [الحجر : ١٩].

وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف.

والمبارك : اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة ، أي جعل فيه خير كثير. وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق. والبركة : الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل. وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في سورة آل عمران [٩٦]. وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧] لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك

٢٤٢

التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة ، إذ تكون حينئذ أسباب تكوينها خفيّة فإذا كان خلق السماوات وما فيها ، ومد الأرض وإلقاء الجبال فيها دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال المال وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى.

والجنات : جمع جنة ، وهي ما شجر بالكرم وأشجار الفواكه والنخيل.

والحب : هو ما ينبت في الزرع الذي يخرج سنابل تحوي حبوبا مثل البرّ والشعير والذّرة والسّلت والقطاني مما تحصد أصوله ليدقّ فيخرج ما فيه من الحب.

و (حَبَّ الْحَصِيدِ) مفعول أنبتنا لأن الحب مما نبت تبعا لنبات سنبله المدلول على إنباته بقوله : (الْحَصِيدِ) إذ لا يحصد إلا بعد أن ينبت.

والحصيد : الزرع المحصود ، أي المقطوع من جذوره لأكل حبه ، فإضافة (حَبَ) إلى (الْحَصِيدِ) على أصلها ، وليست من إضافة الموصوف إلى الصفة. وفائدة ذكر هذا الوصف : الإشارة إلى اختلاف أحوال استحصال ما ينفع الناس من أنواع النبات فإن الجنات تستثمر وأصولها باقية والحبوب تستثمر بعد حصد أصولها ، على أن في ذلك الحصيد منافع للأنعام تأكله بعد أخذ حبه كما قال تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٣٣].

وخص النخل بالذكر مع تناول جنات له لأنه أهم الأشجار عندهم وثمره أكثر أقواتهم ، ولاتباعه بالأوصاف له ولطلعه مما يثير تذكر بديع قوامه ، وأنيق جماله.

والباسقات : الطويلات في ارتفاع ، أي عاليات فلا يقال : باسق للطويل الممتد على الأرض. وعن ابن شداد : الباسقات الطويلات مع الاستقامة. ولم أره لأحد من أئمة اللغة. ولعلّ مراده من الاستقامة الامتداد في الارتفاع. وهو بالسين المهملة في لغة جميع العرب عدا بني العنبر من تميم يبدلون السين صادا في هذه الكلمة. قال ابن جنيّ : الأصل السين وإنما الصاد بدل منها لاستعلاء القاف. وروى الثعلبي عن قطبة بن مالك أنه سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الصبح قرأها بالصاد. ومثله في ابن عطية وهو حديث غير معروف. والذي في «صحيح مسلم» وغيره عن قطبة بن مالك مروية بالسين. ومن العجيب أن الزمخشري قال : وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باصقات. وانتصب (باسِقاتٍ) على الحال. والمقصود من ذلك الإيماء إلى بديع خلقته وجمال طلعته استدلالا وامتنانا.

٢٤٣

والطلع : أول ما يظهر من ثمر التمر ، وهو في الكفرى ، أي غلاف العنقود.

والنضيد : المنضود ، أي المصفّف بعضه فوق بعض ما دام في الكفرى فإذا انشق عنه الكفرى فليس بنضيد. فهو معناه بمعنى مفعول قال تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩].

وزيادة هذه الحال للازدياد من الصفات الناشئة عن بديع الصنعة ومن المنة بمحاسن منظر ما أوتوه.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

(رِزْقاً لِلْعِبادِ)

مفعول لأجله لقوله : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) [ق : ٩] إلى آخره ، فهو مصدر ، أي لنرزق العباد ، أي نقوتهم. والقول في التعليل به كالقول في التعليل بقوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) [ق : ٨].

والعباد : الناس وهو جمع عبد بمعنى عبد الله ، فأمّا العبد المملوك فجمعه العبيد. وهذا استدلال وامتنان.

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً).

عطف على (رِزْقاً لِلْعِبادِ) عطف الفعل على الاسم المشتق من الفعل وهو رزقه المشتق لأنه في معنى : رزقنا العباد وأحيينا به بلدة ميتا ، أي لرعي الأنعام والوحش فهو استدلال وفيه امتنان. والبلدة : القطعة من الأرض.

والميت بالتخفيف : مرادف الميّت بالتشديد قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس : ٣٣].

وتذكير الميت وهو وصف للبلدة ، وهي مؤنث على تأويله بالبلد لأنه مرادفه ، وبالمكان لأنه جنسه ، شبه الجدب بالموت في انعدام ظهور الآثار ، ولذلك سمي ضده وهو إنبات الأرض حياة. ويقال لخدمة الأرض اليابسة وسقيها : إحياء موات.

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

بعد ظهور الدلائل بصنع الله على إمكان البعث لأن خلق تلك المخلوقات من عدم يدل على أن إعادة بعض الموجودات الضعيفة أمكن وأهون ، جيء بما يفيد تقريب البعث

٢٤٤

بقوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

فهذه الجملة فذلكة للاستدلال على إمكان البعث الذي تضمنته الجمل السابقة فوجب انفصال هذه الجملة فتكون استئنافا أو اعتراضا في آخر الكلام على رأي من يجيزه وهو الأصح.

والإشارة بذلك إلى ما ذكر آنفا من إحياء الأرض بعد موتها ، أي كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الناس بعد موتهم وبلاهم ، مع إفادتها تعظيم شأن المشار إليه ، أي مثل البعث العظيم الإبداع.

والتعريف في (الْخُرُوجُ) للعهد ، أي خروج الناس من الأرض كما قال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) [المعارج : ٤٣]. ف (الْخُرُوجُ) صار كالعلم بالغلبة على البعث ، وسيأتي قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق : ٤٢]. وتقديم المجرور على المبتدإ للاهتمام بالخبر لما في الخبر من دفع الاستحالة وإظهار التقريب ، وفيه تشويق لتلقي المسند إليه.

[١٢ ـ ١٤] (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤))

استئناف ابتدائي ناشئ عن قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥] فعقّب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم. وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب ، فقوم نوح أول قوم كذبوا رسولهم وفرعون كذب موسى وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب ، وأما أصحاب الرسّ وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع فهم من العرب.

وذكروا هنا عقب قوم نوح للجامع الخيالي بين القومين وهو جامع التضادّ لأن عذابهم كان ضد عذاب قوم نوح إذ كان عذابهم بالخسف وعذاب قوم نوح بالغرق ، ثم ذكر ثمود لشبه عذابهم بعذاب أصحاب الرسّ إذ كان عذابهم برجفة الأرض وصواعق السماء ، ولأن أصحاب الرسّ من بقايا ثمود ، ثم ذكرت عاد لأن عذابها كان بحادث في الجوّ وهو الريح ، ثم ذكر فرعون وقومه لأنهم كذبوا أشهر الرسل قبل الإسلام ، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب وهم من خلطاء بني إسرائيل.

٢٤٥

وعبّر عن قوم لوط ب (إِخْوانُ لُوطٍ) ولم يكونوا من قبيله ، فالمراد ب (إِخْوانُ) أنهم ملازمون وهم أهل سدوم وعمورة وقراهما وكان لوط ساكنا في سدوم ولم يكن من أهل نسبهم لأن أهل سدوم كنعانيون ولوطا عبراني. وقد تقدم قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ) في سورة الشعراء [١٦١]. وذكر قوم تبع وهم أهل اليمن ولم يكن العرب يعدونهم عربا.

وهذه الأمم أصابها عذاب شديد في الدنيا عقابا على تكذيبهم الرسل. والمقصود تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعريض بالتهديد لقومه المكذّبين أن يحل بهم ما حلّ بأولئك.

والرس : يطلق اسما للبئر غير المطوية ويطلق مصدرا للدفن والدسّ. واختلف المفسرون في المراد به هنا. و (أَصْحابُ الرَّسِ) قوم عرفوا بالإضافة إلى الرس ، فيحتمل أن إضافتهم إلى الرسّ من إضافة الشيء إلى موطنه مثل (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ، و (أَصْحابُ الْحِجْرِ) [الحجر : ٨٠] و (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [يس : ١٣]. ويجوز أن تكون إضافة إلى حدث حلّ بهم مثل (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ٤]. وفي تعيين (أَصْحابُ الرَّسِ) أقوال ثمانية أو تسعة وبعضها متداخل.

وتقدم الكلام عليهم في سورة الفرقان. والأظهر أن إضافة (أَصْحابُ) إلى (الرَّسِ) من إضافة اسم إلى حدث حدث فيه فقد قيل : إن أصحاب الرسّ عوقبوا بخسف في الأرض فوقعوا في مثل البئر. وقيل : هو بئر ألقى أصحابه فيه حنظلة بن صفوان رسول الله إليهم حيّا فهو إذن علم بالغلبة وقيل هو فلج من أرض اليمامة. وتقدم الكلام على أصحاب الرس في سورة الفرقان [٣٨] عند قوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ).

وأصحاب الأيكة هم من قوم شعيب وتقدم في سورة الشعراء. وقوم تبع هم حمير من عرب اليمن وتقدم ذكرهم في سورة الدخان.

وجملة (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) مؤكدة لجملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إلى آخرها ، فلذلك فصلت ولم تعطف ، وليبني عليه قوله : (فَحَقَّ وَعِيدِ) فيكون تهديد بأن يحق عليهم الوعيد كما حق على أولئك مرتبا بالفاء على تكذيبهم الرسل فيكون في ذلك تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللرسل السابقين. وتنوين (كُلٌ) تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ أولئك. و (فَحَقَ) صدق وتحقّق.

والوعيد : الإنذار بالعقوبة واقتضى الإخبار عنه بحق أن الله توعدهم به فلم يعبئوا

٢٤٦

وكذبوا وقوعه فحق وصدق. وحذفت ياء المتكلم التي أضيف إليها (وَعِيدِ) للرعي على الفاصلة وهو كثير.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

تشير فاء التفريع إلى أن هذا الكلام مفرع على ما قبله وهو جملة (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) [ق : ٦] وقوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) [ق : ٨] المعرض بأنهم لم يتبصروا به ولم يتذكروا. وقوله : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) [ق : ٩] وقوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١].

ويجوز أن يجعل تفريعا على قوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

والاستفهام المفرّع بالفاء استفهام إنكار وتغليط لأنهم لا يسعهم إلّا الاعتراف بأن الله لم يعي بالخلق الأول إذ لا ينكر عاقل كمال قدرة الخالق وعدم عجزه.

و (فَعَيِينا) معناه عجزنا ، وفعل (عيّ) إذا لم يتصل به ضمير يقال مدغما وهو الأكثر ويقال : عيي بالفك فإذا اتصل به ضمير تعين الفك. ومعناه : عجز عن إتقان فعل ولم يهتد لحيلته. ويعدّى بالباء يقال : عيي بالأمر والباء فيه للمجاوزة. وأما أعيا بالهمزة في أوله قاصرا فهو للتعب بمشي أو حمل ثقل وهو فعل قاصر لا يعدّى بالباء. فالمعنى : ما عجزنا عن الخلق الأول للإنسان فكيف تعجز عن إعادة خلقه.

و (بَلْ) في قوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) للإضراب الإبطالي عن المستفهم عنه ، أي بل ما عيينا بالخلق الأول ، أي وهم يعلمون ذلك ويعلمون أن الخلق الأول للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات ولكنهم تمكن منهم اللبس الشديد فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه ، فالإضراب على أصله من الإبطال.

واللبس : الخلط للأشياء المختلفة الحقائق بحيث يعسر أو يتعذر معه تمييز مختلفاتها بعضها عن بعض. والمراد منه اشتباه المألوف المعتاد الذي لا يعرفون غير بالواجب العقلي الذي لا يجوز انتفاؤه ، فإنهم اشتبه عليهم إحياء الموتى وهو ممكن عقلا بالأمر المستحيل في العقل فجزموا بنفي إمكانه فنفوه ، وتركوا القياس بأن من قدر على إنشاء ما لم يكن موجودا هو على إعادة ما كان موجودا أقدر.

وجيء بالجملة الاسمية من قوله : (هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) للدلالة على ثبات

٢٤٧

هذا الحكم لهم وأنه متمكن من نفوسهم لا يفارقهم البتة ، وليتأتّى اجتلاب حرف الظرفية في الخبر فيدل على انغماسهم في هذا اللبس وإحاطته بهم إحاطة الظرف بالمظروف.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ابتدائية وهي صفة ل (لَبْسٍ) ، أي لبس واصل إليهم ومنجرّ عن خلق جديد ، أي من لبس من التصديق به.

وتنكير (لَبْسٍ) للنوعية وتنكير (خَلْقٍ جَدِيدٍ) كذلك ، أي ما هو إلا خلق من جملة ما يقع من خلق الله الأشياء مما وجه إحالته ولتنكيره أجريت عليه الصفة ب (جَدِيدٍ).

والجديد : الشيء الذي في أول أزمان وجوده.

وفي هذا الوصف تورّك عليهم وتحميق لهم من إحالتهم البعث ، أي اجعلوه خلقا جديدا كالخلق الأول ، وأيّ فارق بينهما.

وفي تسمية إعادة الناس للبعث باسم الخلق إيماء إلى أنها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرقها ، وقد مضى القول فيه في أول السورة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦))

هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنى عليه (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) [ق : ٤] ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استرسل في وصفه من قوله : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) [ق : ١٧] إلخ.

ووصف البعث وصف الجزاء من قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) إلى قوله : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٢٠ ـ ٣٥].

وتأكيد هذا الخبر باللام و (قد) مراعى فيه المتعاطفات وهي (نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم.

و (الْإِنْسانَ) يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولا المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر ، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)

٢٤٨

[ق : ١٩] وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [ق : ٢٢] وقوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) [ق : ٢٠].

والباء في قوله (بِهِ) زائدة لتأكيد اللصوق ، والضمير عائد الصلة كأنه قيل : ما تتكلمه نفسه على طريقة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه على سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.

والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى ، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.

وجملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) في موضع الحال من ضمير (وَنَعْلَمُ).

والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى (تُوَسْوِسُ) تتكلم كلاما خفيا همسا. ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض.

والحبل : هنا واحد حبال الجسم. وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين ، واحدها : شريان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجويف الأيسر من تجويفي القلب. وللشرائين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء. وللشرائين أسماء باعتبار مصابّها من الأعضاء الرئيسية.

والوريد : واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب. واسمه في علم الطلب أورطي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر. وهذا الأصغر يخرج منه شريانان يسميان السباتي ويصعدان يمينا

٢٤٩

ويسارا مع الودجين ، وكل هذه الأقسام تسمى الوريد. وفي الجسد وريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.

وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد ، وفي القلب يسمى الوتين ، وفي الظهر يسمى الأبهر ، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنّسا ، وفي الخنصر يدعى الأسلم.

وإضافة (حَبْلِ) إلى (الْوَرِيدِ) بيانية ، أي الحبل الذي هو الوريد ، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم : شجر الأراك.

والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الاطلاع ، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس ، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز.

ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه ، وكذلك قرب الله من الإنسان بعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد. وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء. مثل قولهم : هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار ، وقول زهير :

فهن ووادي الرس كاليد للفم

وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :

كل امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

[١٧ ، ١٨] (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))

يتعلق (إِذْ) بقوله (أَقْرَبُ) [ق : ١٦] لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها ، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن. وهذا التخلص بكلمة (إِذْ) الدالة على الزمان من ألطف التخلص.

وتعريف (الْمُتَلَقِّيانِ) تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذكر فيها الحفظة ،

٢٥٠

أو تعريف الجنس ، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين.

والتلقّي : أخذ الشيء من يد معطيه. استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس. وحذف مفعول (يَتَلَقَّى) لدلالة قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). والتقدير : إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم. فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملكين يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله. وورد في السنة بأسانيد مقبولة : أن الذي يكون عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت.

وقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) يجوز أن يكون (قَعِيدٌ) بدلا من (الْمُتَلَقِّيانِ) بدل بعض ، و (عَنِ الْيَمِينِ) متعلق ب (قَعِيدٌ) ، وقدم على متعلّقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة. ويجوز أن يكون (عَنِ الْيَمِينِ) خبرا مقدما ، و (قَعِيدٌ) مبتدأ وتكون الجملة بيانا لجملة (يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ).

وعطف قوله : (وَعَنِ الشِّمالِ) على جملة (يَتَلَقَّى) وليس عطفا على قوله : (عَنِ الْيَمِينِ) لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين ، بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها. والتقدير : عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد آخر. والتعريف في (الْيَمِينِ) و (الشِّمالِ) تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي عن يمين الإنسان وعن شماله.

والقعيد : المقاعد مثل الجليس للمجالس ، والأكيل للمؤاكل ، والشّريب للمشارب ، والخليط للمخالط. والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول ، فلمّا كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معا ، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلا على القرينة ، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته. والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كما أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه.

وجملة (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) إلخ مبينة لجملة (يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) فلذلك فصلت. و (ما) نافية وضمير (يَلْفِظُ) عائد للإنسان.

واللفظ : النطق بكلمة دالة على معنى ولو جزء معنى ، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى.

و (مِنْ) زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق. والاستثناء في

٢٥١

قوله : (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) استثناء من أحوال عامة ، أي ما يقول قولا في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه.

والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله : (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يكتب الحفظة إلّا ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة. وقال الحسن : يكتبان كل ما صدر من العبد ، قال مجاهد وأبو الجوزاء : حتى أنينه في مرضه. وروي مثله عن مالك بن أنس. وإنما خص القول بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم.

وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم ، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته ، ونحو ذلك ، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها.

ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام ، ونهي الناس عن اتباع الحق ، وترويج الباطل بإلقاء الشبه ، وتغرير الأغرار ، ونحو ذلك ، وقد

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين.

وجملة (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) في موضع الحال ، وضمير (لَدَيْهِ) عائد إلى (الْإِنْسانَ) [ق : ١٦] ، والمعنى : لدى لفظه بقوله.

و (عَتِيدٌ) فعيل من عتد بمعنى هيّأ ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد ، أي معدّ كما في قوله تعالى : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف : ٣١]. وعندي أن (عَتِيدٌ) هنا صفة مشبهة من قولهم (عتد) بضم التاء إذا جسم وضخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] ويحصل محسّن الجناس التام بين الكلمتين.

٢٥٢

وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقّي في قوله : (الْمُتَلَقِّيانِ) بأنه تلقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيرا حائما حول جعل المفعول المحذوف لفعل (يَتَلَقَّى) ما دل عليه قوله بعده (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء. فالتقدير عندهم : إذ يتلقى المتلقيان عمل الإنسان وقوله ، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) [ق : ١٩] كما سنبينه.

ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال : «ويحتمل أن يقال التلقّي الاستقبال ، يقال : فلان تلقى الركب ، وعلى هذا الوجه يكون معناه : وقت ما يتلقاه المتلقّيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور ، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان ، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله ، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١]. فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة ، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم» ا ه.

وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [الواقعة : ٨٣ ـ ٨٥]. ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها. والمظنون بفخر الدين أنه اطلع على ذلك ، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في «التذكرة» عن «مسند الطيالسي» عن البراء. وعن كتاب «النسائي» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا حضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون : اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان وربّ راض غير غضبان ، فإذا قبضه الملك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء». وساق الحديث إلا أن في الحديث ملائكة جمعا وفي الآية (الْمُتَلَقِّيانِ) تثنية.

وعلى هذا الوجه يكون مفعول (يَتَلَقَّى) ما دل عليه قوله بعده (وَجاءَتْ سَكْرَةُ

٢٥٣

الْمَوْتِ). والتقدير : إذ يتلقى المتلقّيان روح الإنسان. ويكون التعريف في قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) عوضا عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد ، وهو على التوزيع ، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر. ويكون (قَعِيدٌ) مستعملا في معنى : قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول ، كقول الأرزق بن طرفة :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّويّ رماني

والاقتصار على (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) حينئذ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجّر أو أنين أو شهادة بالتوحيد ، أو ضدها ، ومن ذلك الوصايا والإقرارات.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩))

عطف على جملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال. فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان.

وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس المشركين كما استفيد من قوله : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) نظير قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨].

ويأتي على ما اختاره الفخر في تفسير (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) [ق : ١٧] الآية أن تكون جملة (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) إلخ في موضع الحال. والتقدير : وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذ.

والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألفها وتعلق بها قلبه.

والسّكرة : اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة. وهي مشتق من السّكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران.

والباء في قوله : (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي إما حال من (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي متصفة

٢٥٤

بأنها حق ، والحق : الذي حقّ وثبت فلا يتخلّف ، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها ، وإما حال من (الْمَوْتِ) ، أي ملتبسا بأنه الحق ، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به ، أو الذي هو الجدّ ضد العبث كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) [التغابن : ٣] مع قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧].

وقول (ذلِكَ) إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد.

و (تَحِيدُ) تفرّ وتهرب ، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت. والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشدّ كراهية للموت لأن حياتهم مادية محضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة : ٩٦] إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها ، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه. وفي الحديث «من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، وتأويله بالمؤمنين يحب لقاء الله للطمع في الثواب ، وبالكافر يكره لقاء الله. وقد بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله» أي والكافر بعكسه ، وقد قال الله تعالى خطابا لليهود (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨].

وتقديم (مِنْهُ) على (تَحِيدُ) للاهتمام بما منه الحياد ، وللرعاية على الفاصلة.

[٢٠ ، ٢١] (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

عطف على (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) [ق : ١٩] على تفسير الجمهور. فأما على تفسير الفخر فالجملة مستأنفة وصيغة المضيّ في قوله : (وَنُفِخَ) مستعملة في معنى المضارع ، أي ينفخ في الصور فصيغ له المضي لتحقق وقوعه مثل قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] ، والمشار إليه بذلك في قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) إذ أن ذلك الزمان الذي نفخ في الصور عنده هو يوم الوعيد.

والنفخ في الصور تقدم القول فيه عند قوله تعالى : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في سورة الأنعام [٧٣].

٢٥٥

وجملة (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) معترضة. والإشارة في قوله : (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) راجعة إلى النفع المأخوذ من فعل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). والإخبار عن النفخ بأنه (يَوْمُ الْوَعِيدِ) بتقدير مضاف ، أي ذلك حلول يوم الوعيد. وإضافة (يَوْمُ) إلى (الْوَعِيدِ) من إضافة الشيء إلى ما يقع فيه ، أي يوم حصول الوعيد الذي كانوا توعدوا به ، والاقتصار على ذكر الوعيد لما علمت من أن المقصود الأول من هذه الآية هم المشركون. وفي الكلام اكتفاء ، تقديره : ويوم الوعد.

وعطفت جملة (جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ) على جملة (نُفِخَ فِي الصُّورِ). والمراد ب (كُلُّ نَفْسٍ) كل نفس من المتحدث عنهم وهم المشركون ، ويدل عليه أمور :

أحدهما : السياق.

والثاني : قوله (مَعَها سائِقٌ) لأن السائق يناسب إزجاء أهل الجرائم ، وأما المهديون إلى الكرامة فإنما يهديهم قائد يسير أمامهم قال تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الأنفال : ٦].

والثالث : قوله بعده (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [ق : ٢٢].

والرابع : قوله بعده (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] الآية.

وجملة (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) بدل اشتمال من جملة (جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ). و (سائِقٌ) مرفوع بالظرف الذي هو (مَعَها) على رأي من أجازه ، أو مبتدأ خبره (مَعَها). ويجوز أن يكون جملة (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) حالا من (كُلُّ نَفْسٍ). وعطف (وَشَهِيدٌ) على (سائِقٌ) يجوز أن يكون من عطف ذات على ذات فيكون المراد ملكان أحدهما يسوق النفس إلى المحشر والآخر يشهد عليها بما حوته صحائف أعمالها. ويجوز أن يكون من عطف الصفات مثل :

إلى الملك القرم وابن الهمام

فهو ملك واحد.

والسائق الذي يجعل غيره أمامه يزجيه في السير ليكون بمرأى منه كيلا ينفلت وذلك من شأن المشي به إلى ما يسوء قال تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الأنفال : ٦] وقال : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١] ، وأما قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى

٢٥٦

الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر : ٧٣] فمشاكلة. وضد السوق : القود.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

مقول قول محذوف دل عليه تعينه من الخطاب ، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء.

وجملة القول ومقوله في موضع الحال من (كُلُّ نَفْسٍ) [ق : ٢١] أو موقع الصفة ، وعلامات الخطاب في كلمات (كُنْتَ) و (عَنْكَ) و (غِطاءَكَ) و (فَبَصَرُكَ) مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غلب فيه التذكير على التأنيث. وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب.

والغفلة : الذهول عما شأنه أن يعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم ، ورشّح ذلك قوله (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) بمعنى : بيّنا لك الدليل بالحس فهو أيضا تهكّم. وأوثر قوله : (فِي غَفْلَةٍ) على أن يقال غافلا للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلها بالغطاء.

وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه ، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه ، وأسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عين اليقين. وأضيف (غطاء) إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به.

وحدة البصر : قوة نفاذه في المرئي ، وحدّة كل شيء قوة مفعوله ، ومنه حدة الذهن ، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي ، وتقييده بقوله : (الْيَوْمَ) تعريض بالتوبيخ ، أي ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكرا للبعث.

والمعنى : فقد شاهدت البعث والحشر والجزاء ، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله ، قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات : ٥٣] وقالوا : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الصافات : ٥٩] فقد رأى العذاب ببصره.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣))

الواو واو الحال والجملة حال من تاء الخطاب في قوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ

٢٥٧

هذا) [ق : ٢٢] أي يوبخ عند مشاهدة العذاب بكلمة (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) ، في حال قول قرينه (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ).

وهاء الغائب في قوله : (قَرِينُهُ) عائدة إلى (كُلُّ نَفْسٍ) [ق : ٢١] أو إلى الإنسان.

وقرين فعيل بمعنى مفعول ، أي مقرون إلى غيره. وكأنّ فعل قرن مشتق من القرن بالتحريك وهو الحبل وكانوا يقرنون البعير بمثله لوضع الهودج ، فاستعير القرين للملازم. وهذا ليس بالتفات إذ ليس هو تغيير ضمير ولكنه تعيين أسلوب الكلام وأعيد عليه ضمير الغائب المفرد باعتبار معنى (نَفْسٍ) أي شخص ، أو غلب التذكير على التأنيث.

واسم الإشارة في قوله : (هذا ما لَدَيَ) إلخ ، يفسره قوله : (ما لَدَيَّ عَتِيدٌ).

و (ما) في قوله : (ما لَدَيَ) موصولة بدل من اسم الإشارة. و (لَدَيَ) صلة ، و (عَتِيدٌ) خبر عن اسم الإشارة.

واختلف المفسرون في المراد بالقرين في هذه الآية على ثلاثة أقوال : فقال قتادة والحسن والضحاك وابن زيد ومجاهد في أحد قوليه هو الملك الموكل بالإنسان الذي يسوقه إلى المحشر أي هو السائق الشهيد. وهذا يقتضي أن يكون القرين في قوله الآتي (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) [ق : ٢٧] بمعنى غير معنى القرين في قوله : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ).

وعن مجاهد أيضا : أن القرين شيطان الكافر الذي كان يزين له الكفر في الدنيا أي الذي ورد في قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت : ٢٥]. وعن ابن زيد أيضا : أن قرينه صاحبه من الإنس ، أي الذي كان قرينه في الدنيا.

وعلى الاختلاف في المراد بالقرين يختلف تفسير قوله : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) فإن كان القرين الملك كانت الإشارة بقوله (هذا) إلى العذاب الموكّل به ذلك الملك ؛ وإن كان القرين شيطانا أو إنسانا كانت الإشارة محتملة لأن تعود إلى العذاب كما في الوجه الأول ، أو أن تعود إلى معاد ضمير الغيبة في قوله : (قَرِينُهُ) وهو نفس الكافر ، أي هذا الذي معي ، فيكون (لَدَيَ) بمعنى : معي ، إذ لا يخلو أحد من صاحب يأنس بمحادثته والمراد به قرين الشرك المماثل.

وقد ذكر الله من كان قرينا للمؤمن من المشركين واختلاف حاليهما يوم الجزاء بقوله

٢٥٨

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ* يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) الآية في سورة الصافات [٥١ ، ٥٢]. وقول القرين (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) مستعمل في التهلف والتحسر والإشفاق ، لأنه لما رأى ما به العذاب علم أنه قد هيّئ له ، أو لمّا رأى ما قدم إليه قرينه علم أنه لا حق على أثره كقصة الثورين الأبيض والأحمر اللذين استعان الأسد بالأحمر منهما على أكل الثور الأبيض ثم جاء الأسد بعد يوم ليأكل الثور الأحمر فعلا الأحمر ربوة وصاح ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

وتقدم معنى (عَتِيدٌ) عند قوله تعالى : (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، وهو هنا متعيّن للمعنى الذي فسر عليه المفسرون ، أي معدّ ومهيّأ.

[٢٤ ، ٢٥] (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥))

انتقال من خطاب النفس إلى خطاب الملكين الموكلين السائق والشهيد. والكلام مقول قول محذوف. والجملة استئناف ابتدائي انتقال من خطاب فريق إلى خطاب فريق آخر ، وصيغة المثنى في قوله : (أَلْقِيا) تجوز أن تكون مستعملة في أصلها فيكون الخطاب للسائق والشهيد. ويجوز أن تكون مستعملة في خطاب الواحد وهو الملك الموكّل بجهنّم وخوطب بصيغة المثنّى جريا على طريقة مستعملة في الخطاب جرت على ألسنتهم لأنهم يكثر فيهم أن يرافق السائر رفيقان ، وهي طريقة مشهورة ، كما قال امرؤ القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وقولهم : يا خليليّ ، ويا صاحبيّ. والمبرد يرى أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما كأنه قيل : ألق ألق للتأكيد. وهذا أمر بأن يعم الإلقاء في جهنم كلّ كفار عنيد ، فيعلم منه كلّ حاضر في الحشر من هؤلاء أنه مدفوع به إلى جهنم.

والكفّار : القوي الكفر ، أي الشرك.

والعنيد : القوي العناد ، أي المكابرة والمدافعة للحق وهو يعلم أنه مبطل.

والمنّاع : الكثير المنع ، أي صد الناس عن الخير ، والخير هو الإيمان ، كانوا يمنعون أبناءهم وذويهم من اتباع الإيمان ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه «من دخل منكم في الإسلام لا أنفعه بشيء ما عشت». ويحتمل أن يراد به أيضا منع الفقراء من المال لأن الخير يطلق على المال وكان أهل الجاهلية يمنعون الفقراء ويعطون المال

٢٥٩

لأكابرهم تقربا وتلطفا.

والمعتدي : الظالم الذي يعتدي على المسلمين بالأذى وعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب والقول الباطل.

والمريب الذي أراب غيره ، أي جعله مرتابا ، أي شاكّا ، أي بما يلقونه إلى الناس من صنوف المغالطة ليشككوهم في صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة الإيمان والتوحيد. وبين لفظي (عَتِيدٌ) [ق : ١٨] و (عَنِيدٍ) الجناس المصحف.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦))

يجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من (كَفَّارٍ عَنِيدٍ) فإن المعرفة تبدل من النكرة كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ) [الشورى : ٥٢ ، ٥٣] ، على أن الموصول هنا تعريفه لفظي مجرد لأن معنى الصلة غير مخصوص بمعيّن ، وأن قوله : (فَأَلْقِياهُ) تفريع على (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق : ٢٤] ومصبّ التفريع المتعلّق وهو (فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) ، أي في أشد عذاب جهنم تفريعا على الأمر بإلقائه في جهنم تفريع بيان ، وإعادة فعل (أَلْقِيا) للتأكيد مع تفريع متعلق الفعل المؤكد. وهذا من بديع النظم ، ونظيره قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٩] ففرع على قوله : (كَذَّبَتْ) إلخ قوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ). ومنه قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] ، فالمقصود بالتفريع هو قوله : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) وإعادة (تَحْسَبَنَّهُمْ) تفيد التأكيد ، وعليه ف (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : الكفّار المضاف إليه (كُلَ) [ق : ٢٤] فهو صادق على جماعة الكفّارين فضمير النصب في (فَأَلْقِياهُ) بمنزلة ضمير جمع ، أي فألقياهم.

ويجوز أن يكون اسم الموصول مبتدأ على استئناف الكلام ويضمّن الموصول معنى الشرط فيكون في وجود الفاء في خبره لأجل ما فيه من معنى الشرط وهذا كثير. والمقصود منه هنا تأكيد العموم الذي في قوله : (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ).

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧))

حكاية قول القرين بالأسلوب المتبع في حكاية المقاولات في القرآن وهو أسلوب

٢٦٠