تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات ، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واستغني بقوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقا لا كاذبا فقيل لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) تكذيبا لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولا على المعنى.

وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى (قُولُوا أَسْلَمْنا) تعريضا بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع ، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر ، وذلك مما يتعير به ، أي الشأن أن تقولوا قولا صادقا.

وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) واقع موقع الحال من ضمير (لَمْ تُؤْمِنُوا) وهو مبيّن لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا).

واستعير الدخول في قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويستقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزا للانصراف عنه.

و (لمّا) هذه أخت (لم) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين (لم) أختها. وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالبا ، بأن المنفي بها متوقع الوقوع. قال في «الكشاف» «وما في (لمّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد».

وهي دلالة من مستتبعات التراكيب. وهذا من دقائق العربية. وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان ، ولهذا لم يكن قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) تكريرا مع قوله : لم يؤمنوا.

٢٢١

وقوله : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضا عن الاشتغال بالمنّ والتعريض بطلب الصدقات.

ومعنى (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم ، يقال : لاته مثل باعه. وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد ، ويقال : ألته ألتا مثل : أمره ، وهي لغة غطفان قال تعالى : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) في سورة الطور [٢١].

وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب. ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها.

وضمير الرفع في (يَلِتْكُمْ) عائد إلى اسم الله ولم يقل : لا يلتاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال.

وجملة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا ، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدها ، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غير معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده.

وترتيب (رَحِيمٌ) بعد (غَفُورٌ) لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥))

هذا تعليل لقوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) إلى قوله : (فِي قُلُوبِكُمْ) وهو من جملة ما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله للأعراب ، أي ليس المؤمنون إلا الذين آمنوا ولم يخالط إيمانهم ارتياب أو تشكك.

٢٢٢

و (إنما) للحصر ، و (إنّ) التي هي جزء منها مفيدة أيضا للتعليل وقائمة مقام فاء التفريع ، أي إنما لم تكونوا مؤمنين لأن الإيمان ينافيه الارتياب.

والقصر إضافي ، أي المؤمنون الذين هذه صفاتهم غير هؤلاء الأعراب.

فأفاد أن هؤلاء الأعراب انتفى عنهم الإيمان لأنهم انتفى عنهم مجموع هذه الصفات.

وإذ قد كان القصر إضافيا لم يكن الغرض منه إلّا إثبات الوصف لغير المقصور لإخراج المتحدث عنهم عن أن يكونوا مؤمنين ، وليس بمقتض أن حقيقة الإيمان لا تتقوم إلا بمجموع تلك الصفات لأن عد الجهاد في سبيل الله مع صفتي الإيمان وانتفاء الريب فيه يمنع من ذلك لأن الذي يقعد عن الجهاد لا ينتفي عنه وصف الإيمان إذ لا يكفّر المسلم بارتكاب الكبائر عند أهل الحق. وما عداه خطأ واضح ، وإلا لانتقضت جامعة الإسلام بأسرها إلا فئة قليلة في أوقات غير طويلة.

والمقصود من إدماج ذكر الجهاد التنويه بفضل المؤمنين المجاهدين وتحريض الذين دخلوا في الإيمان على الاستعداد إلى الجهاد كما في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) الآية [الفتح : ١٦].

و (ثم) من قوله : (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل. ففي (ثم) إشارة إلى أن انتفاء الارتياب في إيمانهم أهم رتبة من الإيمان إذ به قوام الإيمان ، وهذا إيماء إلى بيان قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، أي من أجل ما يخالجكم ارتياب في بعض ما آمنتم به مما اطّلع الله عليه.

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قصر ، وهو قصر إضافي أيضا ، أي هم الصادقون لا أنتم في قولكم (آمَنَّا).

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦))

أعيد فعل (قُلْ) ليدل على أن المقول لهم هذا هم الأعراب الذين أمر أن يقول لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) إلى آخره ، فأعيد لمّا طال الفصل بين القولين بالجمل المتتابعة ، فهذا متصل بقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) اتصال البيان بالمبين ، ولذلك لم تعطف جملة الاستفهام.

٢٢٣

وجملة (قُلْ) معترضة بين الجملتين المبيّنة والمبيّنة.

قيل : إنهم لمّا سمعوا قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) الآية جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحلفوا أنهم مؤمنون فنزل قوله : «قل أتعلمون الله بدينكم ولم يرو بسند معروف وإنما ذكره البغوي تفسيرا ولو كان كذلك لوبّخهم الله على الأيمان الكاذبة كما وبّخ المنافقين في سورة براءة [٤٢] بقوله (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) الآية. ولم أر ذلك بسند مقبول ، فهذه الآية مما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم.

والتعليم مبالغة في إيصال العلم إلى المعلّم لأن صيغة التفعيل تقتضي قوة في حصول الفعل كالتفريق والتفسير ، يقال : أعلمه وعلّمه كما يقال : أنبأه ونبّأه. وهذا يفيد أنهم تكلفوا وتعسفوا في الاستدلال على خلوص إيمانهم ليقنعوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أبلغهم أن الله نفى عنهم رسوخ الإيمان بمحاولة إقناعه تدل إلى محاولة إقناع الله بما يعلم خلافه.

وباء (بِدِينِكُمْ) زائدة لتأكيد لصوق الفعل بمفعوله كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وقول النابغة :

لك الخيران وارت بك الأرض واحدا

والاستفهام في (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) مستعمل في التوبيخ وقد أيد التوبيخ بجملة الحال في قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

وفي هذا تجهيل إذ حاولوا إخفاء باطنهم عن المطّلع على كل شيء.

وجملة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل لأن كل شيء أعم من (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإن الله يعلم صفاته ويعلم الموجودات التي هي أعلى من السماوات كالعرش.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧))

استئناف ابتدائي أريد به إبطال ما أظهره بنو أسد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مزيتهم إذ أسلموا من دون إكراه بغزو.

والمنّ : ذكر النعمة والإحسان ليراعيه المحسن إليه للذاكر ، وهو يكون صريحا مثل قول سبرة بن عمرو الفقعسي :

٢٢٤

أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم

وقد سال من ذل عليك قراقر

ويكون بالتعريض بأن يذكر المان من معاملته مع الممنون عليه ما هو نافعه مع قرينة تدلّ على أنه لم يرد مجرد الإخبار مثل قول الراعي مخاطبا عبد الملك بن مروان :

فآزرت آل أبي خبيب وافدا

يوما أريد لبيعتي تبديلا

أبو خبيب : كنية عبد الله بن الزبير.

وكانت مقالة بني أسد مشتملة على النوعين من المنّ لأنهم قالوا : ولم نقاتلك كما قاتلك محارب وغطفان وهوازن وقالوا : وجئناك بالأثقال والعيال.

و (أَنْ أَسْلَمُوا) منصوب بنزع الخافض وهو باء التعدية ، يقال : منّ عليه بكذا ، وكذلك قوله : (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) إلا أن الأول مطرد مع (أَنْ) و (أن) والثاني سماعي وهو كثير.

وهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنّا كما حكاه الله آنفا ، وسماه هنا إسلاما لقوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] أي أن الذي منّوا به عليك إسلام لا إيمان. وأثبت بحرف (بَلِ) أن ما منّوا به إن كان إسلاما حقا موافقا للإيمان فالمنّة لله لأن هداهم إليه فأسلموا عن طواعية. وسماه الآن إيمانا مجاراة لزعمهم لأن المقام مقام كون المنّة لله فمناسبة مسابرة زعمهم أنهم آمنوا ، أي لو فرض أنكم آمنتم كما تزعمون فإن إيمانكم نعمة أنعم الله بها عليكم. ولذلك ذيله بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فنفى أولا أن يكون ما يمنّون به حقا ، ثم أفاد ثانيا أن يكون الفضل فيما ادعوه لهم لو كانوا صادقين بل هو فضل الله.

وقد أضيف إسلام إلى ضميرهم لأنهم أتوا بما يسمى إسلاما لقوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا). وأتي بالإيمان معرّفا بلام الجنس لأنه حقيقة في حدّ ذاته وأنهم ملابسوها.

وجيء بالمضارع في (يَمُنُّونَ) مع أن منّهم بذلك حصل فيما مضى لاستحضار حالة منّهم كيف يمنون بما لم يفعلوا مثل المضارع في قوله تعالى : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في سورة البقرة [٢١٢]. وجيء بالمضارع في قوله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) لأنه منّ مفروض لأن الممنون به لمّا يقع. وفيه من الإيذان بأنه سيمنّ عليهم بالإيمان ما في قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، وهذا من التفنن البديع في الكلام ليضع السامع كل فنّ منه في قراره ، ومثلهم من يتفطن لهذه الخصائص.

٢٢٥

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة التقوية مثل : هو يعطي الجزيل ، كما مثّل به عبد القاهر.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

ذيّل تقويمهم على الحق بهذا التذييل ليعلموا أن الله لا يكتم ، وأنه لا يكذب ، لأنه يعلم كلّ غائبة في السماء والأرض فإنهم كانوا في الجاهلية لا تخطر ببال كثير منهم أصول الصفات الإلهية. وربما علمها بعضهم مثل زهير في قوله :

فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم

ليخفى فمهما يكتم الله يعلم

ولعل ذلك من آثار تنصره.

وتأكيد الخبر ب (أَنْ) لأنهم بحال من ينكر أن الله يعلم الغيب فكذبوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم أنه مرسل من الله فكان كذبهم عليه مثل الكذب على الله.

وقد أفادت هذه الجملة تأكيد مضمون جملتي (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحجرات : ١٦] ولكن هذه زادت بالتصريح بأنه يعلم الأمور الغائبة لئلا يتوهم متوهم أن العمومين في الجملتين قبلها عمومان عرفيان قياسا على علم البشر.

وجملة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) معطوف على جملة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف الأخص على الأعم لأنه لما ذكر أنه يعلم الغيب وكان شأن الغائب أن لا يرى عطف عليه علمه بالمبصرات احتراسا من أن يتوهّموا أن الله يعلم خفايا النفوس وما يجول في الخواطر ولا يعلم المشاهدات نظير قول كثير من الفلاسفة : إنّ الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات ، ولهذا أوثر هنا وصف (بَصِيرٌ). وقرأ الجمهور (بِما تَعْمَلُونَ) بتاء الخطاب ، وقرأه ابن كثير بياء الغيبة.

٢٢٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٥٠ ـ سورة ق

سميت في عصر الصحابة سورة ق (ينطق بحروف : قاف ، بقاف ، وألف ، وفاء).

فقد روى مسلم عن قطبة بن مالك «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في صلاة الصبح سورة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق : ١]. وربما قال : (ق) يعني في الركعة الأولى. وروى مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان «ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا عن لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها كلّ يوم على المنبر إذ خطب الناس». وروى مسلم عن جابر بن سمرة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الفجر ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ، هكذا رسم قاف ثلاث أحرف ، وقوله : في الفجر يعني به صلاة الصبح لأنها التي يصليها في المسجد في الجماعة فأما نافلة الفجر فكان يصليها في بيته. وفي «الموطأ» ومسلم «أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان يقرأ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال : كان يقرأ فيهما ب قاف هكذا رسم قاف ثلاثة أحرف مثل ما رسم حديث جابر بن سمرة و (الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) و (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١].

وهي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل طه وص وق ويس لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى. وفي «الإتقان» أنها تسمّى سورة الباسقات هكذا بلام التعريف ، ولم يعزه لقائل والوجه أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف ، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله : (النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠]. وهذه السورة مكية كلها قال ابن عطية : بإجماع من المتأولين.

وفي «تفسير القرطبي» و «الإتقان» عن ابن عباس وقتادة والضحاك : استثناء آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] أنها نزلت

٢٢٧

في اليهود ، يعني في الرد عليهم إذ قالوا : إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت ، يعني أن مقالة اليهود سمعت بالمدينة ، يعني : وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها. وهذا المعنى وإن كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة فإن الله علم ذلك فأوحى به إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوءة والأنبياء ، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها إلى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوّها في الناس كما في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] فإنها نزلت بمكة. وورد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال : إن الله يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والبحار على إصبع والجبال على إصبع ثم يقول «أنا الملك أين ملوك الأرض» فتلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله.

وهي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة المرسلات وقبل سورة (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١].

وقد أجمع العادّون على عد آيها خمسا وأربعين.

أغراض هاته السورة

أولها : التنويه بشأن القرآن.

ثانيها : أنهم كذبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه من البشر ،

وثالثها : الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها ، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.

الرابع : تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم ، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.

الخامس : الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد ، وذكر هول يوم

٢٢٨

الحساب.

السادس : وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.

السابع : تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.

الثامن : الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.

التاسع : إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس.

[١ ـ ٣] (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣))

(ق)

القول فيه نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور. فهو حرف من حروف التهجّي وقد رسموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يتهجى بها في المكتب ، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحرف المعروف ، أي ينطقون بقاف بعدها ألف ، بعده فاء. وقد أجمع من يعتدّ به من القراء على النطق به ساكن الآخر سكون هجاء في الوصل والوقف.

ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله : (ق) اسم جبل عظيم محيط بالأرض. وفي رواية عنه إنه اسم لكل واحد من جبال سبعة محيطة بالأرضين السبع واحدا وراء واحد كما أن الأرضين السبع أرض وراء أرض. أي فهو اسم جنس انحصرت أفراده في سبعة ، وأطالوا في وصف ذلك بما أملاه عليهم الخيال المشفوع بقلة التثبت فيما يروونه للإغراب ، وذلك من الأوهام المخلوطة ببعض أقوال قدماء المشرقيين وبسوء فهم البعض في علم جغرافية الأرض وتخيلهم إياها رقاعا مسطحة ذات تقاسيم يحيط بكل قسم منها ما يفصله عن القسم الآخر من بحار وجبال ، وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره لو لا أن كثيرا من المفسرين ذكروه.

ومن العجب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن (الم) [البقرة: ١] ، يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجّي مثل (الم) [العنكبوت : ١] و (المص)

٢٢٩

[الأعراف : ١] و (كهيعص) [مريم : ١] ولو أريد الجبل الموهوم لكتب قاف ثلاثة حروف كما تكتب دوالّ الأشياء مثل عين : اسم الجارحة ، وغينش : مصدر غان عليه ، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجّي كما لا يخفى.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)).

قسم بالقرآن ، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم. وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف (الْقُرْآنِ) ب (الْمَجِيدِ) فالمجيد المتصف بقوة المجد. والمجد ويقال المجادة : الشرف الكامل وكرم النوع.

وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده. وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدالّ على مراد الله تعالى إذ أوجد ألفاظه وتراكيبه وصورة نظمه بقدرته دون واسطة ، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبّرون بكلامهم عما يلقى إليهم من الوحي.

ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه‌السلام بدون واسطة الملائكة ، ومثل ما أوحي به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القدسيّ ، فإن القرآن يفوق ذلك كله لمّا جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزا لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه. ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها ، وأيضا بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما ينسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضه.

وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف (ق) المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك ، أو يدل عليه الإضراب في قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).

والتقدير : والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق ، كما صرح به في قوله : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يس : ١ ـ ٤]. أو يقدر

٢٣٠

الجواب : إنه لتنزيل من ربّ العالمين ، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأحزاب : ١ ـ ٣] ونحو ذلك. والإضراب الانتقالي يقتضي كلاما منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلاما تاما فتعين أن يقدّر السامع جوابا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.

وهذا من إيجاز الحذف وحسّنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه ، أي عدّ عما تريد تقديره من جواب وانتقل إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل: دع ذا ، وقول امرئ القيس :

فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجّرا

وقول الأعشى :

فدع ذا ولكن ربّ أرض متيهة

قطعت بحرجوج إذا الليل أظلما

وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) في سورة ص [٢].

وقوله : (وَعَجِبُوا) خبر مستعمل في الإنكار إنكارا لعجبهم البالغ حدّ الإحالة. و (عَجِبُوا) حصل لهم العجب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٢ ، ٧٣] فإن الاستفهام في (أَتَعْجَبِينَ) إنكار وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجّب. فالمعنى هنا : أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشرا مثلهم ، قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤].

وضمير (عَجِبُوا) عائد إلى غير مذكور ، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجّي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على لسان الملك فإن المتحدّين بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضا يعلمون أنهم المعنيون بالتحدّي بالإعجاز. على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ).

وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (عَجِبُوا) والمراد : أنه من نوعهم أي من بني الإنسان. و (أَنْ جاءَهُمْ) مجرور ب (من) المحذوفة مع (أَنْ) ، أي عجبوا من

٢٣١

مجيء منذر منهم ، أو عجبوا من ادعاء أن جاءهم منذر منهم.

وعبر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف (مُنْذِرٌ) وهو المخبر بشرّ سيكون للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت ، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه ، وإنما أنذرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦]. والثانية كونه من نوع البشر.

وفرّع على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) الآية. وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحد من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء بصفة (مُنْذِرٌ) قبل وصفه بأنه (مِنْهُمْ) ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوّى الاستبعاد والتعجّب.

ثم إن ذلك يتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) إلى قوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٤ ـ ١١]. فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة : منها إيجاز الحذف ، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث ، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير ب (مُنْذِرٌ) ، ومنها إقحام وصفه بأنه (مِنْهُمْ) لأن لذلك مدخلا في تعجبهم ، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر ، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَإِذا مِتْنا) إلخ.

وعبر عنهم بالاسم الظاهر في (فَقالَ الْكافِرُونَ) دون : فقالوا ، لتوسيمهم فإن هذه المقالة من آثار الكفر ، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين.

والإشارة بقولهم (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم للإيمان بالرّجع ، أي البعث وهو الذي بينته جملة (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) إلخ.

والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال ، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به. وجعلوا مناط التعجيب الزمان الذي أفادته (إذا) وما أضيف

٢٣٢

إليه ، أي زمن موتنا وكوننا ترابا.

والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) والتقدير : أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته ترابا ، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد. ومتعلق (إذا) هو المستفهم عنه المحذوف المقدّر ، أي نرجع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها.

وجملة (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) مؤكدة لجملة (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) بطريق الحقيقة والذكر ، بعد أن أفيد بطريق المجاز والحذف ، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة.

والرّجع : مصدر رجع ، أي الرجوع إلى الحياة. ومعنى (بَعِيدٌ) أنه بعيد عن تصور العقل ، أي هو أمر مستحيل.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤))

ردّ لقولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣] فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه منها : أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحي الأرض ومهابّ الرياح لا تبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها ، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكّلة بها ، وأنها لو عادت كيف تعود إليها ، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذرّاتها.

وفصلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم ، وهذا هو الأليق بنظم الكلام. وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيّا ما كان فهو رد لقولهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

والمعنى : أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله ، وإذا كان عالما بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به ، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساما كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا. فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال ، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرته فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم.

٢٣٣

واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة ، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة ، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أئمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها. ومعنى إعادتها. إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجسادا مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالّة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال : إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنسانا بالعقل والنطق ، وهما مظهر الروح. وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا ، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوار فتخلف أجزاؤه المتجددة أجزاءه المقتضية ، وبرهان ذلك مبيّن في علم الطّبيعيات ، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور من يشاهدها. فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تكتسى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا ، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تبلى في مثله أجسامهم ترجّع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديد خلقها ، ولذلك فتسمية هذا الإيجاز معادا أو رجعا أو بعثا إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح ، وبهذا الاعتبار أيضا تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقية هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء.

وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ، وفي معناه قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦].

وقال شذوذ : تعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة. وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين. وورد في الآثار «أن كل ابن آدم يفنى إلّا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» رواه مسلم. وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة. وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق. ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرنا وما عداه مجازفة في التعبير.

٢٣٤

وذكر الجلال الدواني في «شرح العقيدة العضدية» أن أبيّ بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيده عظم قد رمّ ففتته بيده وقال : يا محمد أترى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ويبعثك ويدخلك النار». وفيه نزل قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس: ٧٨].

وعبر ب (تَنْقُصُ الْأَرْضُ) دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه ، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه ، على أنه إذا صح أن عجب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصا لا انعداما.

وعطف على قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) قوله : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) عطف الأعم على الأخص ، وهو بمعنى تذييل لجملة (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي وعندنا علم بكل شيء علما ثابتا فتنكير (كِتابٌ) للتعظيم ، وهو تعظيم التعميم ، أي عندنا كتاب كل شيء.

و (حَفِيظٌ) فعيل : إما بمعنى فاعل ، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها. وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها. وإمّا بمعنى مفعول ، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك.

والكتاب : المكتوب ، ويطلق على مجموع الصحائف. ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتبا وأودعها إلى ملائكة يسجّلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقارّ أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعيّن الذي كانت حالّة فيه حال الحياة الدنيا صادقا بكتب عديدة لكل إنسان كتابه ، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ* ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ، ١٨] ، وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣ ، ١٤]. ويجوز أن يكون مجموع قوله : (وَعِنْدَنا كِتابٌ) تمثيلا لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس.

٢٣٥

والعندية في قوله : (وَعِنْدَنا كِتابٌ) مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغيّر ما فيه أو من يبطل ما عيّن له.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق : ٢] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف. والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق.

والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر.

و (لَمَّا) حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] ، وقوله (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] وقد مضيا في سورة البقرة. ومعنى (جاءَهُمْ) بلغهم وأعلموا به.

والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) إلى قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [ق : ٦ ـ ١١]. فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره.

وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصف حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية.

و (أَمْرٍ) اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف (فِي) المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحال المتلبسون هم به تلبّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال (فِي) استعارة تبعية.

والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا

٢٣٦

بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : (سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، وقالوا (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] وقالوا (بِقَوْلِ شاعِرٍ) [الحاقة : ٤١] ، وقالوا : (بِقَوْلِ كاهِنٍ) [الحاقة : ٤٢] وقالوا : (هذيان مجنون). وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب. ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله. وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦))

تفريع على قوله : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ) [ق : ٢] إلى قوله : (مَرِيجٍ) [ق : ٥] لأن أهمّ ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث ، وخلق السماوات والنجوم والأرض دالّ على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيّز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدلّ عليه قوله تعالى في سورة يس [٨١] (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).

والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا. والنظر نظر الفكر على نحو قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١]. ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها (كَيْفَ بَنَيْناها) ، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.

ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا ، والنظر المشاهدة ، ومحل التقرير هو فعل (يَنْظُرُوا) ، أو يكون (كَيْفَ) مراد به الحال المشاهدة.

هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة ، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرّر إن كان يروم إنكار ما قرر عليه ، ثقة من المقرّر ـ بكسر الراء ـ بأن المقرّر ـ بالفتح ـ لا يقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) [الأعراف : ١٤٨] ، وقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كلاهما في سورة الأعراف [١٧٢].

وهذا الوجه أشدّ في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين.

و (فَوْقَهُمْ) حال من السماء. والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة

٢٣٧

منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفع رءوسهم.

و (كَيْفَ) اسم جامد مبنيّ معناه : حالة ، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبرا قبل ما لا يستغني عنه مثل : كيف أنت؟ وحالا قبل ما يستغنى عنه نحو : كيف جاء؟ ومفعولا مطلقا نحو (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفجر : ٦] ، ومفعولا به نحو قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٢١]. وهي هنا بدل من (فَوْقَهُمْ) فتكون حالا في المعنى. والتقدير : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها ، وتكون جملة (بَنَيْناها) مبينة ل (كَيْفَ).

وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع. والمراد ب (السَّماءِ) هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجوّ.

والتزيين جعل الشيء زينا ، أي حسنا أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهارا والقمر والنجوم ليلا. واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزيّنة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إدراكه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] في شأن خلق الأنعام في سورة النحل.

ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم. والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات.

وجملة (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) عطف على جملتي (كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) فهي حال ثالثة في المعنى.

والفروج : جمع فرج ، وهو الخرق ، أي يشاهدونها كأنها كرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخرق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقا في قبتها.

وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعا كالمفروغ في قالب. وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجوّ المحيط بالأرض.

ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع. ونظير هذه الآية قوله في سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) إلى

٢٣٨

قوله (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣].

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧))

عطف على جملة (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) [ق : ٦] عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار. والتقدير : ومددنا الأرض.

ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاريّ تنزيلا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرا لهم. وانتصب (الْأَرْضَ) ب (مَدَدْناها) على طريقة الاشتغال.

والمدّ : البسط ، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموع نتوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مرهقا.

والمراد : بسط سطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة ، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض.

والإبقاء : تمثيل لتكوين أجسام بارزة على الأرض متباعد بعضها عن بعض لأنّ حقيقة الإلقاء : رمي شيء من اليد إلى الأرض ، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [الغاشية : ١٩] و (فِيها) ظرف مستقر وصف ل (رَواسِيَ) قدم على موصوفه فصار حالا ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلّقا ب (أَلْقَيْنا).

ورواسي : جمع راس على غير قياس مثل : فوارس وعواذل. والرسوّ : الثبات والقرار.

وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعا كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها. وقد قال في سورة الأنبياء [٣١] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي دفع أن تميد هي ، أي الجبال بكم ، أي ملصقة بكم في ميدها. وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء.

٢٣٩

والزوج : النوع من الحيوان والثمار والنبات ، وتقدم في قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في سورة طه [٥٣]. والمعنى : وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه.

وقوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) يظهر أن حرف (مِنْ) فيه مزيد للتوكيد. وزيادة (مِنْ) في غير النفي نادرة ، أي أقل من زيادتها في النفي ، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح ، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفش وأبو علي الفارسي وابن جنيّ ، ومنه قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] إن المعنى : ينزل من السماء جبالا فيها برد ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها) في سورة الأنعام [٩٩].

فالمقصود من التوكيد بحرف (مِنْ) تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحالة إخراج الناس من الأرض ، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه. وليست (مِنْ) هنا للتبعيض إذ ليس المعنى عليه.

فكلمة (كُلِ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) في سورة الأنعام [٢٥] ، وقوله فيها (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) [الأنعام : ٧٠] ، وهذا كقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) في سورة طه [٥٣].

وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عموا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم.

والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبّهة ، يقال : بهج بضم الهاء ، إذا حسن في أعين الناظرين ، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) [النمل : ٦٠].

ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، أي منبهج به على الحذف والإيصال ، أي يسرّ به الناظر ، يقال : بهجه من باب منع ، إذا سرّه ، ومنه الابتهاج المسرة.

وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى. وإدماج الامتنان

٢٤٠