تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل : إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتفاض الحرورية على أمر التحكيم فقالوا : لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال.

وقيل : كيدت مكيدة بين الحكمين ، والأخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء. والله أعلم بالضمائر.

وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال : شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا. وقال المحاسبي : تعلّم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منّا.

والأمر في قوله : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) للوجوب ، لأن هذا حكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق ، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد ، ولأن ذلك يجرئ غيرها على أن تأتي مثل صنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشا يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأئمة والخلفاء. فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولّ قتال البغاة السواد الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يؤبه بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما ، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها ، وذلك بعد أن تبيّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وتزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يأب منهما فهو أعق وأظلم.

وجعل الفيء إلى أمر الله غاية للمقاتلة ، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله ، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم ، أي حتى تقلع عن بغيها ، وأتبع مفهوم الغاية ببيان ما تعامل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) ، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير (فَأَصْلِحُوا).

والعدل : هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديدا فتجب مراعاة التعديل.

٢٠١

وقيد الإصلاح المأمور به ثانيا بقيد أن تفيء الباغية بقيد (بِالْعَدْلِ) ولم يقيد الإصلاح المأمور به ، وهذا القيد يقيد به أيضا الإصلاح المأمور به أولا لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد ، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف.

ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله : (وَأَقْسِطُوا) أمرا عاما تذييلا للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين ، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي ، ثم قال : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه : أن الفئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخوّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما.

قال أبو بكر بن العربي : ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة ا ه. ثم قال : لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية. وقال أبو حنيفة يضمنون. وللشافعي فيه قولان. فأما ما كان قائما ردّ بعينه وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر.

فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتّبع مدبرهم ولا يذفّف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم. وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جريا على قوله تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

تعليل لإقامة الإصلاح بين المؤمنين إذا استشرى الحال بينهم ، فالجملة موقعها موقع العلة ، وقد بني هذا التعليل على اعتبار حال المسلمين بعضهم مع بعض كحال الإخوة.

٢٠٢

وجيء بصيغة القصر المفيدة لحصر حالهم في حال الإخوة مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين فهو قصر ادعائي أو هو قصر إضافي للرد على أصحاب الحالة المفروضة الذين يبغون على غيرهم من المؤمنين ، وأخبر عنهم بأنهم إخوة مجازا على وجه التشبيه البليغ زيادة لتقرير معنى الأخوة بينهم حتى لا يحق أن يقرن بحرف التشبيه المشعر بضعف صفتهم عن حقيقة الأخوّة. وهذه الآية فيها دلالة قوية على تقرر وجوب الأخوة بين المسلمين لأن شأن (إِنَّمَا) أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته أو لما ينزّل منزلة ذلك كما قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» في الفصل الثاني عشر وساق عليه شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب فلذلك كان قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) مفيد أن معنى الأخوة بينهم معلوم مقرر. وقد تقرر ذلك في تضاعيف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك قوله تعالى : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) في سورة الحشر [١٠] ، وهي سابقة في النزول على هذه السورة فإنها معدودة الثانية والمائة ، وسورة الحجرات معدودة الثامنة والمائة من السور. وآخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار حين وروده المدينة وذلك مبدأ الإخاء بين المسلمين. وفي الحديث «لو كنت متّخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام أفضل».

وفي باب تزويج الصغار من الكبار من «صحيح البخاري» «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب عائشة من أبي بكر. فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال». وفي حديث «صحيح مسلم» «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم». وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه» أي يحب للمسلم ما يحب لنفسه.

فأشارت جملة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) إلى وجه وجوب الإصلاح بين الطائفتين المتباغيتين منهم ببيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من النسب الموحى ما لا ينقص عن نسب الأخوة الجسدية على نحو قول عمر بن الخطاب للمرأة التي شكت إليه حاجة أولادها وقالت : أنا بنت خفاف بن إيماء ، وقد شهد أبي مع رسول الله الحديبية فقال عمر «مرحبا بنسب قريب». ولما كان المتعارف بين الناس أنه إذا نشبت مشاقّة بين الأخوين لزم بقية الإخوة أن يتناهضوا في إزاحتها مشيا بالصلح بينهما فكذلك شأن المسلمين إذا حدث شقاق بين طائفتين منهم أن ينهض سائرهم بالسعي بالصلح بينهما وبثّ السفراء إلى أن يرقعوا ما وهى ، ويرفعوا ما أصاب ودهى.

٢٠٣

وتفريع الأمر بالإصلاح بين الأخوين ، على تحقيق كون المؤمنين إخوة تأكيد لما دلت عليه (إِنَّمَا) من التعليل فصار الأمر بالإصلاح الواقع ابتداء دون تعليل في قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) ، وقوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) [الحجرات : ٩] قد أردف بالتعليل فحصل تقريره ، ثم عقب بالتفريع فزاده تقريرا.

وقد حصل من هذا النظم ما يشبه الدعوى وهي كمطلوب القياس ، ثم ما يشبه الاستدلال بالقياس ، ثم ما يشبه النتيجة.

ولمّا تقرر معنى الأخوة بين المؤمنين كمال التقرّر عدل عن أن يقول : فأصلحوا بين الطائفتين ، إلى قوله : (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فهو وصف جديد نشأ عن قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، فتعين إطلاقه على الطائفتين فليس هذا من وضع الظاهر موضع الضمير فتأمل.

وأوثرت صيغة التثنية في قوله : (أَخَوَيْكُمْ) مراعاة لكون الكلام جار على طائفتين من المؤمنين فجعلت كل طائفة كالأخ للأخرى. وقرأ الجمهور (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بلفظ تثنية الأخ ، أي بين الطائفة والأخرى مراعاة لجريان الحديث على اقتتال طائفتين. وقرأ الجمهور (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بلفظ تثنية الأخ على تشبيه كل طائفة بأخ. وقرأ يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم بتاء فوقية بعد الواو على أنه جمع أخ باعتبار كل فرد من الطائفتين كالأخ.

والمخاطب بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) جميع المؤمنين فيشمل الطائفتين الباغية والمبغي عليها ، ويشمل غيرهما ممن أمروا بالإصلاح بينما ومقاتلة الباغية ، فتقوى كلّ بالوقوف عند ما أمر الله به كلّا مما يخصه ، وهذا يشبه التذييل. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) : ترجى لكم الرحمة من الله فتجري أحوالكم على استقامة وصلاح. وإنما اختيرت الرحمة لأن الأمر بالتقوى واقع إثر تقرير حقيقة الأخوة بين المؤمنين وشأن تعامل الإخوة الرحمة فيكون الجزاء عليها من جنسها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ)

٢٠٤

لما اقتضت الأخوة أن تحسن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم ، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة ، وهذا نداء رابع أريد بما بعده أمر المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم.

وعن الضحاك : أن المقصود بنو تميم إذ سخروا من بلال وعمار وصهيب ، فيكون لنزول الآية سبب متعلق بالسبب الذي نزلت السورة لأجله وهذا من السخرية المنهي عنها.

وروى الواحدي عن ابن عباس أن سبب نزولها : «أن ثابت بن قيس بن شمّاس كان في سمعه وقر وكان إذا أتى مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أوسعوا له ليجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فجاء يوما يتخطى رقاب الناس فقال رجل : قد أصبت مجلسا فاجلس. فقال ثابت : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان. فقال ثابت : ابن فلانة وذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية ، فاستحيا الرجل. فأنزل الله هذه الآية» ، فهذا من اللمز. وروي عن عكرمة : «أنها نزلت لما عيّرت بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ سلمة بالقصر» ، وهذا من السخرية. وقيل : عير بعضهن صفية بأنها يهودية ، وهذا من اللمز في عرفهم.

وافتتحت هذه الآيات بإعادة النداء للاهتمام بالغرض فيكون مستقلا غير تابع حسبما تقدم من كلام الفخر. وقد تعرضت الآيات الواقعة عقب هذا النداء لصنف مهمّ من معاملة المسلمين بعضهم لبعض مما فشا في الناس من عهد الجاهلية التساهل فيها. وهي من إساءة الأقوال ويقتضي النهي عنها الأمر بأضدادها. وتلك المنهيات هي السخرية واللمز والنبز.

والسّخر ، ويقال السخرية : الاستهزاء ، وتقدم في قوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) في سورة براءة [٧٩] ، وتقدم وجه تعديته ب (من).

والقوم : اسم جمع : جماعة الرجال خاصة دون النساء ، قال زهير :

وما أدري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

وتنكير (قَوْمٌ) في الموضعين لإفادة الشياع ، لئلا يتوهم نهي قوم معينين سخروا من قوم معينين. وإنما أسند (يَسْخَرْ) إلى (قَوْمٌ) دون أن يقول : لا يسخر بعضكم من بعض كما قال : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [الحجرات : ١٢] للنهي عما كان شائعا بين العرب من

٢٠٥

سخرية القبائل بعضها من بعض فوجّه النهي إلى الأقوام. ولهذا أيضا لم يقل : لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه النهي عن أن يسخر أحد من أحد بطريق لحن الخطاب. وهذا النهي صريح في التحريم.

وخص النساء بالذكر مع أن القوم يشملهم بطريق التغليب العرفي في الكلام ، كما يشمل لفظ المؤمنين والمؤمنات في اصطلاح القرآن بقرينة مقام التشريع ، فإن أصله التساوي في الأحكام إلا ما اقتضى الدليل تخصيص أحد الصنفين به دفعا لتوهم تخصيص النهي بسخرية الرجال إذ كان الاستسخار متأصلا في النساء ، فلأجل دفع التوهم الناشئ من هذين السيئين على نحو ما تقدم في قوله من آية القصاص (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) في سورة العقود [١٧٨].

وجملة (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) مستأنفة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين تفيد المبالغة في النهي عن السخرية بذكر حالة يكثر وجودها في المسخورية ، فتكون سخرية الساخر أفظع من الساخر ، ولأنه يثير انفعال الحياء في نفس الساخرة بينه وبين نفسه. وليست جملة (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) صفة لقوم من قومه : (مِنْ قَوْمٍ) وإلا لصار النهي عن السخرية خاصا بما إذا كان المسخور به مظنة أنه خير من الساخر ، وكذلك القول في جملة (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) وليست صفة ل (نِساءٌ) من قوله : (مِنْ نِساءٍ).

وتشابه الضميرين في قوله : (أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) وفي قوله : (أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) لا لبس فيه لظهور مرجع كل ضمير ، فهو كالضمائر في قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) في سورة الروم [٩] ، وقول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ).

اللمز : ذكر ما يعده الذاكر عيبا لأحد مواجهة فهو المباشرة بالمكروه. فإن كان بحق فهو وقاحة واعتداء ، وإن كان باطلا فهو وقاحة وكذب ، وكان شائعا بين العرب في جاهليتهم قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] يعني نفرا من المشركين كان دأبهم لمز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون بحالة بين الإشارة والكلام بتحريك الشفتين بكلام خفيّ يعرف منه المواجه به أنه يذمّ أو يتوعد ، أو يتنقص باحتمالات كثيرة ، وهو غير النبز وغير الغيبة.

٢٠٦

وللمفسرين وكتب اللغة اضطراب في شرح معنى اللمز وهذا الذي ذكرته هو المنخول من ذلك.

ومعنى (لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا يلمز بعضكم بعضا فنزّل البعض الملموز نفسا للامزه لتقرر معنى الأخوة ، وقد تقدم نظيره عند قوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) في سورة البقرة [٨٤].

والتنابز : نبز بعضهم بعضا ، والنبز بسكون الباء : ذكر النبز بتحريك الباء وهو اللقب السوء ، كقولهم : أنف الناقة ، وقرقور ، وبطة. وكان غالب الألقاب في الجاهلية نبزا. قال بعض الفزاريين :

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقبه والسّوءة اللقب

روي برفع السوأة اللقب فيكون جريا على الأغلب عندهم في اللقب وأنه سوأة. ورواه «ديوان الحماسة» بنصب السوأة على أن الواو واو المعية. وروي بالسوأة اللقبا أي لا ألقبه لقبا ملابسا للسوءة فيكون أراد تجنب بعض اللقب وهو ما يدل على سوء ورواية الرفع أرجح وهي التي يقتضيها استشهاد سيبويه ببيت بعده في باب ظن. ولعل ما وقع في «ديوان الحماسة» من تغييرات أبي تمام التي نسب إليه بعضها في بعض أبيات الحماسة لأنه رأى النصب أصح معنى.

فالمراد (بِالْأَلْقابِ) في الآية الألقاب المكروهة بقرينة (وَلا تَنابَزُوا). واللقب ما أشعر بخسّة أو شرف سواء كان ملقبا به صاحبه أم اخترعه له النابز له.

وقد خصص النهي في الآية (بِالْأَلْقابِ) التي لم يتقادم عهدها حتى صارت كالأسماء لأصحابها وتنوسي منها قصد الذم والسب خصّ بما وقع في كثير من الأحاديث كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق ذو اليدين» ، وقوله لأبي هريرة «يا أبا هرّ» ، ولقب شاول ملك إسرائيل في القرآن طالوت ، وقول المحدثين الأعرج لعبد الرحمن بن هرمز ، والأعمش لسليمان من مهران.

وإنما قال (وَلا تَلْمِزُوا) بصيغة الفعل الواقع من جانب واحد وقال : (وَلا تَنابَزُوا) بصيغة الفعل الواقع من جانبين ، لأن اللمز قليل الحصول فهو كثير في الجاهلية في قبائل كثيرة منهم بنو سلمة بالمدينة قاله ابن عطية.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

٢٠٧

تذييل للمنهيات المتقدمة وهو تعريض قويّ بأن ما نهوا عنه فسوق وظلم ، إذ لا مناسبة بين مدلول هذه الجملة وبين الجمل التي قبلها لو لا معنى التعريض بأن ذلك فسوق وذلك مذموم ومعاقب عليه فدلّ قوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) ، على أن ما نهوا عنه مذموم لأنه فسوق يعاقب عليه ولا تزيله إلا التوبة فوقع إيجاز بحذف جملتين في الكلام اكتفاء بما دل عليه التذييل ، وهذا دال على اللمز والتنابز معصيتان لأنهما فسوق. وفي الحديث «سباب المسلم فسوق».

ولفظ (الِاسْمُ) هنا مطلق على الذكر ، أي التسمية ، كما يقال : طار اسمه في الناس بالجود أو باللؤم. والمعنى : بئس الذكر أن يذكر أحد بالفسوق بعد أن وصف بالإيمان.

وإيثار لفظ الاسم هنا من الرشاقة بمكان لأن السياق تحذير من ذكر الناس بالأسماء الذميمة إذ الألقاب أسماء فكان اختيار لفظ الاسم للفسوق مشاكلة معنوية.

ومعنى البعديّة في قوله : (بَعْدَ الْإِيمانِ) : بعد الاتصاف بالإيمان ، أي أن الإيمان لا يناسبه الفسوق لأن المعاصي من شأن أهل الشرك الذين لا يزعهم عن الفسوق وازع ، وهذا كقول جميلة بنت أبيّ حين شكت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها تكره زوجها ثابت بن قيس وجاءت تطلب فراقه : «لا أعيب على ثابت في دين ولا في خلق ولكنّي أكره الكفر بعد الإسلام ـ تريد التعريض بخشية الزنا ـ وإني لا أطيقه بغضا».

وإذ كان كل من السخرية واللمز والتنابز معاصي فقد وجبت التوبة منها فمن لم يتب فهو ظالم : لأنه ظلم الناس بالاعتداء عليهم ، وظلم نفسه بأن رضي لها عقاب الآخرة مع التمكن من الإقلاع عن ذلك فكان ظلمه شديدا جدا. فلذلك جيء له بصيغة قصر الظالمين عليهم كأنه لا ظالم غيرهم لعدم الاعتداد بالظالمين الآخرين في مقابلة هؤلاء على سبيل المبالغة ليزدجروا. والتوبة واجبة من كل ذنب وهذه الذنوب المذكورة مراتب وإدمان الصغائر كبيرة.

وتوسيط اسم الإشارة لزيادة تمييزهم تفظيعا لحالهم وللتنبيه ، بل إنهم استحقوا قصر الظلم عليهم لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

٢٠٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)

أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها.

ففي قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات ، والطعن في الأنساب ، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا ، كما قالوا : خذ اللص قبل أن يأخذك.

وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى :(يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) [آل عمران : ١٥٤] وقال : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] وقال : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٤٨] ثم قال : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة ، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.

والمراد ب (الظَّنِ) هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلّق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم. وجملة (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) استئناف بياني لأن قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم ، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة ، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم. وليس هذا البيان توضيحا لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه ، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وترك التفصيل لأن في إبهامه بعثا على مزيد الاحتياط.

ومعنى كونه إثما أنه : إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد ، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدّر الظانّ أن ظنه

٢٠٩

كاذب ثم لينظر بعد في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم ، وقد قال العلماء : إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز. وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدّر أن ظنه كان مخطئا يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به ، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقادا في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضارا ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالا ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلا ونحو ذلك.

ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علما راسخا في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) [الحجرات : ٦].

والاجتناب : افتعال من جنّبه وأجنبه ، إذا أبعده ، أي جعله جانبا آخر ، وفعله يعدّى إلى مفعولين ، يقال : جنبه الشرّ ، قال تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥]. ومطاوعه اجتنب ، أي ابتعد ، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال.

ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار ، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك. وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة. وفي الحديث «إذا ظننتم فلا تحققوا». على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يحد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلا للتأسي. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال : «رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريك أن الله أكرمه. فقالت : يا رسول الله ومن يكرمه الله؟ فقال : أمّا هو فقد جاءه اليقين وإنّي أرجو له الخير وإنّي والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي. فقالت أم عطية : والله لا أزكّي بعده أحدا».

وقد علم من قوله : (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) وتبيينه بأن بعض الظن إثم أن بعضا من الظن ليس إثما وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن (كَثِيراً) وصف ، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيرا من الظّن لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي أن بعض الظن ليس إثما ، فعلى المسلم أن يكون معياره في تمييز أحد الظنين من

٢١٠

الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة ، فمنه ظن يجب اتباعه كالحذر من مكائد العدوّ في الحرب ، وكالظنّ المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية ، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة. وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلّا على الذين يرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه.

وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدرى فمعتاده منه من إصابة أو ضدها قال أوس بن حجر :

الألمعي الذي يظن بك الظ

ن كأن قد رأى وقد سمعا

(وَلا تَجَسَّسُوا).

التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظانّ نفسه إلى تحقيق ما ظنه سرا فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة.

والتجسّس : البحث بوسيلة خفيّة وهو مشتق من الجس ، ومنه سمي الجاسوس.

والتجسّس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه. ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات. وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد. ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش.

وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسّس ، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه.

وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم ، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة. ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضرّ بهم.

فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجرّ منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا

٢١١

يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشرط على الجناة واللصوص.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ).

الاغتياب : افتعال من غابه المتعدي ، إذا ذكره في غيبه بما يسوءه.

فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يحب أن يذكر به ، والاسم منه الغيبة بكسر الغين مثل الغيلة. وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العرض وإلا صار قذعا.

وإنما قال : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة. لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملا على جانب فاعل الاغتياب ومفعوله مهّد له بما يدلّ على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحا.

والاستفهام في (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ).

وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم ، كما هو غالب الاستفهام التقريري ، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرّر عليه بحيث يترك للمقرّر مجالا لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار. مثلّث الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت ، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثّل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية.

فشبهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه ، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ، ويشبه الذي اغتيب بأخ ، وتشبه غيبته بالموت.

والفاء في قوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) فاء الفصيحة ، وضمير الغائب عائد إلى (أَحَدُكُمْ) ، أو يعود إلى (لَحْمَ).

والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر. والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه.

٢١٢

وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) في سورة الفرقان ، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف.

والمعنى : فتعيّن إقراركم بما سئلتم عنه من الممثّل به (إذ لا يستطاع جحده) تحققت كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثّل وهو الغيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به.

وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلّم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيّز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدّعي أنه لا ينكره المخاطب.

ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولا لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ، بل قال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ).

ومنها إسناد الفعل إلى أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.

ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتّى جعل الإنسان أخا.

ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخ ميتا.

وفيه من المحسنات الطباق بين (أَيُحِبُ) وبين (فَكَرِهْتُمُوهُ).

والغيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه.

وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضعف في أخوة الإسلام. وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه.

وهي عند المالكية من الكبائر وقلّ من صرح بذلك ، لكن الشيخ عليّا الصعيدي في «حاشية الكفاية» صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقا. ووجهه أن الله نهى عنها وشنّعها.

ومقتضى كلام السجلماسي في كتاب «العمل الفاسي» أنها كبيرة.

وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدّها إمام الحرمين.

٢١٣

فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغيبة ، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسئول عنها.

وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به. وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استؤذن عنده لعيينة بن حصن بئس أخو العشيرة ليحذّره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفا عن الإسلام.

وعن الطبري صاحب «العدة» في فروع الشافعية أنها صغيرة ، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه. قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال :

ولا تجرح شاهدا بالغيبة

لأنها عمت بها المصيبة

وذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي.

وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمّت به إلّا عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد.

وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرة بحيث يصير غير دالّ على استخفاف بالوازع الديني فحينئذ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءا من ماهية الغيبة.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

عطف على جمل الطلب السابقة ابتداء من قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) هذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جماع الاجتناب والامتثال فمن كان سالما من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل ، ومن كان متلبسا بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها.

وجملة (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل : (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي ، فالرحيم شامل للجميع.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ

٢١٤

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه ، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض ، إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير ، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة ، وضبيعة ، وبني عكل.

سئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى. فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة ، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.

فعن أبي داود أنه روى في كتابه «المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولى بني بياضة قيل اسمه يسار) امرأة منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينا ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.

ونودوا بعنوان (النَّاسُ) دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد ، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى).

فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالب الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إنما كان في المكي.

والمراد بالذكر والأنثى : آدم وحواء أبوا البشر ، بقرينة قوله (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا).

ويؤيد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم بنو آدم وآدم من تراب» كما سيأتي قريبا. فيكون تنوين (ذكر وأنثى) لأنهما وصفان لموصوف فقرر ، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.

ويجوز أن يراد ب (ذَكَرٍ وَأُنْثى) صنف الذكر والأنثى ، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى.

٢١٥

وحرف (من) على كلا الاحتمالين للابتداء.

والشعوب : جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذما ، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمضر شعب ، وربيعة شعب ، وأنمار شعب ، وإياد شعب ، وتجمعها الأمة العربية المستعربة ، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وحمير وسبأ ، والأزد شعوب من أمة قحطان. وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر. ومذحج ، وكندة قبيلتان من شعب سبأ. والأوس والخزرج قبيلتان من شعب الأزد.

وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كنانة ، وتحت العمارة البطن مثل قصيّ من قريش ، وتحت البطن الفخذ مثل هاشم وأمية من قصي ، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان.

واقتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.

وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جريا على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.

وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل. وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس ، أي يعرف بعضهم بعضا.

والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى ، فالعائلة الواحدة متعارفون ، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة ، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر ، والعمائر مع القبائل ، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.

فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.

والمقصود : أنكم حرّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان.

٢١٦

ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا

وقول العقيلي وحاربه بنو عمه فقتل منهم :

ونبكي حين نقتلكم عليكم

ونقتلكم كأنّا لا نبالي

وقول الشّميذر الحارثي :

وقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا

بني عمّنا لو كان أمرا مدانيا

وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره.

وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.

ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة ، ذكّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم ، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله : (لِتَعارَفُوا) ثم وأتبعه بقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى: (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦].

والخبر في قوله : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فتلك الجملة تتنزل من جملة (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.

٢١٧

وأما جملة (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.

والمقصود من اعتراضها : إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.

ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع إذ قال : «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى».

ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب». وفي رواية «أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة (عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية : الكبر والفخر. ووزنهما على لغة ضم الفاء فعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية ، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نضّ الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي).

وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر «طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إلى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وجملة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب (عِنْدَ اللهِ) إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.

والمراد بالأكرم : الأنفس والأشرف ، كما تقدم بيانه في قوله : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

والأتقى : الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتّقى على غير قياس.

٢١٨

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) تعليل لمضمون (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى ، وهذا كقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم : ٣٢] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى ، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤].

علم أن قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل ، وفي العائلات ، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارا لأفرادها وخلالا في سلائلها قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».

فإن في خلق الأنباء آثارا من طباع الآباء الأدنين أو الأعلين تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارا جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) تذييل ، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنة تسع المسماة سنة الوفود ، وفد بني أسد بن خزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة ، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذكر في أول السورة ، ووفد بنو أسد في عدد كثير وفيهم ضرار بن الأزور ، وطليحة بن عبد الله (الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام الردة) ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك

٢١٩

محارب خصفة وهوازن وغطفان. يفدون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنّون عليه ويريدون أن يصرف إليهم الصدقات ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة ، والأغراض المسكوّة بالجفاء متناسبة. وقال السدّي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح [١١] في قوله تعالى : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) الآية.

قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية.

والأعراب : سكان البادية من العرب. وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب ، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي.

وتعريف (الْأَعْرابُ) تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقا على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد.

وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الآية.

والاستدراك بحرف (لكن) لرفع ما يتوهم من قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) أنهم جاءوا مضمرين الغدر بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما قال : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) تعليما لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مقرّه اللسان والأعمال البدنية ، وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سؤال جبريل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا» فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم (آمَنَّا) ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله ، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان ، فلا يغني أحدهما بدون الآخر ، فالإيمان بدون إسلام عناد ، والإسلام بدون إيمان نفاق ، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، أو أن يقال:

٢٢٠