تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

الأعيان الذين تعرض لهم. والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد حصل من قوله : (لا تُقَدِّمُوا) إلخ معنى اتبعوا الله ورسوله.

وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في «صحيحه» في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال «قدم ركب من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : أمّر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة. وقال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر : ما أردت إلّا خلافي أو إلى خلافي قال عمر : ما أردت خلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ١ ، ٢].

فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجهر له بالقول وندائه من وراء الحجرات. وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فقتلت بنو عامر رجال السرية إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بين سليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّا منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزّ من بني سليم ، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه فقال : «بئسما صنعتم كانا من بني سليم ، والسلب ما كسوتهما» أي عرف ذلك لما رأى السلب فعرفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) الآية ، أي لا تعملوا شيئا من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأيّا ما كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد.

وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيدا لقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي الآية ، لأن من خصه الله بهذه الحظوة ، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر

١٨١

الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.

وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب.

وقرأه الجمهور (تُقَدِّمُوا) بضم الفوقية وكسر الدال مشددة. وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله : لا تتقدموا. وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦] في هذه السورة : إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي : إما مع الله أو مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة ، وإمّا أن يكونوا خارجين عنها بالفسق ؛ والداخل في طريقتهم : إما حاضر عندهم ، أو غائب عنهم ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة.

فقال أولا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله. وقال ثانيا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي [الحجرات : ٢] لبيان الأدب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩]. وقال رابعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات : ١١] إلى قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن. وقال خامسا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) إلى قوله : (تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ١٢] ا ه.

ويريد : أن الله ذكر مثالا من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالا على بقية نوعه ومرشدا إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة. وقد سلك القرآن لإقامة أهم حسن المعاملة طريق النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة.

١٨٢

وعطف (وَاتَّقُوا اللهَ) تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تقوى الله وحده ، أي ضده ليس من التقوى

وجملة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله.

والسميع : العليم بالمسموعات ، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢))

إعادة النداء ثانيا للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى.

وهذا أيضا توطئة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤] وإلقاء لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم.

والرفع : مستعار لجهر الصوت جهرا متجاوزا لمعتاد الكلام ، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغا إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار ، على طريقة الاستعارة المكنية ، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية.

و (فَوْقَ صَوْتِ) النبي ترشيح لاستعارة (لا تَرْفَعُوا) وهو فوق مجازي أيضا.

وموقع قوله : (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) موقع الحال من (أَصْواتَكُمْ) ، أي متجاوزة صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم بجهر معتاد. ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب ، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه.

والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضكم بعضا كما وقع في سورة سبب النزول. ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده.

١٨٣

وفي «صحيح البخاري» : قال ابن الزبير فما كان عمر يسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حميد عن أبي هريرة : أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية (والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلّا كأخي السّرار حتى ألقى الله).

وفي «صحيح البخاري» قال ابن أبي مليكة «كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد ، وبغير ما أذن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذنا خاصا كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين «ناد يا أصحاب السّمرة» وكان العباس جهير الصوت.

وقوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجوب التغاير بين مقتضى قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي ومقتضى (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ). واللام في (لَهُ) لتعدية (تَجْهَرُوا) لأن (تَجْهَرُوا) في معنى : تقولوا ، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته ، وزاده وضوحا التشبيه في قوله : (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ).

وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصا من المقدمة إلى الغرض المقصود ، ويظهر حسن موقع قوله بعده (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤].

و (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي ، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم ، فحبط الأعمال بذلك ما يحذر منه فجعله مدخولا للام التعليل مصروف عن ظاهر. فالتقدير : خشية أن تحبط أعمالكم ، كذا يقدّر نحاة البصرة في هذا وأمثاله. والكوفيون يجعلونه بتقدير (لا) النافية فيكون التقدير : أن لا تحبط أعمالكم فيكون تعليلا للنهي على حسب الظاهر.

والحبط : تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتلّ وربما هلكت. وفي الحديث

١٨٤

«وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلمّ». وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥].

وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية : أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر. قال ابن عطية : أي يكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال. وأقول : لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النفس وتتولى من سيّئ إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) لأن المنتقل من سيّئ إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلا قليلا حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضرى النفس بالإقدام على ذلك. ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول ، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى.

ففي قوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال ، وليس عدم الشعور كائنا في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : ٢] كان أبو بكر لا يكلم رسول الله إلا كأخي السّرار ، أي مصاحب السرّ من الكلام ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية. فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الحجرات : ٢] إلخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته.

وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم ،

١٨٥

وتفيد الجملة تعليل النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجل ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة.

وإذ قد علمت آنفا أن محصل معنى قوله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) وقوله : (وَلا تَجْهَرُوا) [الحجرات : ٢] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتضح لك وجه العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده.

والغض حقيقته : خفض العين ، أي أن لا يحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لخفض الصوت والميل به إلى الإسرار.

والامتحان : الاختبار والتجربة ، وهو افتعال من محنه ، إذا اختبره ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم : اضطره إلى كذا.

واللام في قوله : للتقوى لام العلة ، والتقدير : امتحن قلوبهم لأجل التقوى ، أي لتكون فيها التقوى ، أي ليكونوا أتقياء ، يقال : امتحن فلان للشيء الفلاني كما يقال : جرب للشيء ودرب للنهوض بالأمر ، أي فهو مضطلع به ليس بوان عنه فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكّن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال ما غير متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم ، ويجوز أن يجعل فعل (امْتَحَنَ) مجازا مرسلا عن العلم ، أي علم الله أنهم متقون ، وعليه فتكون اللام من قوله : (لِلتَّقْوى) متعلّقة بمحذوف هو حال من قلوب ، أي كائنة للتقوى ، فاللام للاختصاص.

وجملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) خبر (إِنَ) وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه. وجعل في «الكشاف» خبر (إِنَ) هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة (لَهُمْ) مستأنفة ولكل وجه فانظره.

وقال : «وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسما ل (إِنَ) المؤكّدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا. والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهما أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقّروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي

١٨٦

الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته» ا ه. وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداء أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأخي السّرار.

[٤ ، ٥] (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

هذه الجملة بيان لجملة (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات : ٢] بيانا بالمثال وهو سبب النزول. فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيب حصوله في الخارج ، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضا إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصا لذكر ندائه من وراء الحجرات.

والمراد بالذين ينادون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاءوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلا أو أكثر. وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة ، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة ، وكان بنو كعب قد أسلموا من قبل ولم أقف على وقت إسلامهم ، والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر بن سفيان ساعيا لقبض صدقات بني كعب ، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاءوا المدينة. وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زرارة ، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، والأقرع بن حابس ، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوة الفتح ، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم في حجرته ، نادوا جميعا وراء الحجرات : يا محمد اخرج إلينا ثلاثا ، فإن مدحنا زين ، وإن ذمنا شين ، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة ، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به ينادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغساني.

١٨٧

وقولهم : إن مدحنا زين ، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة : مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله. فلما خرج إليهم رسول الله قالوا : جئناك نفاخرك فاذن لشاعرنا وخطيبنا إلى آخر القصة. وقولهم : نفاخرك ، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم ، ويذكر الموفود عليهم مفاخرهم ، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم : نفاخرك ، وكان جمهورهم لم يزالوا كفارا حينئذ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار.

فالمراد ب (الَّذِينَ يُنادُونَكَ) رجال هذا الوفد. وإسناد فعل النداء إلى ضمير (الَّذِينَ) لأن جميعهم نادوه ، كما قال ابن عطية. ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس ، وعليه فإسناد فعل (يُنادُونَكَ) إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدّم الوفد ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا. وإنما قتله واحد منهم ، قال تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢].

ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية ، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب. وإنما قال الله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لأن منهم من لم يناد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ندائهم ، ولعل المقصود استثناء اللذين كانا أسلما من قبل. فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية.

والوراء : الخلف ، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه.

والمعنى : أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء.

و (مِنْ) للابتداء ، أي ينادونك نداء صادرا من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول : ناداني فلان وراء الدار ، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أيّ جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية ، ولو قال : ناداني فلان وراء الدار ، دون حرف (مِنْ) ، لكان محتملا لأن يكون المنادي والمنادى كلاهما في جهة وراء الدار ، وأنّ المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب (مِنْ) ليدل بالصراحة على أن المنادى كان داخل الحجرات لأن دلالة (مِنْ) على الابتداء تستلزم اختلافا بين المبدإ والمنتهى كذا أشار في «الكشاف» ، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف (مِنْ) لدفع

١٨٨

اللبس فلا ينافي أنه لم يثبت هذا الفرق في قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) في سورة الأعراف [١٧] وقوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) في سورة الروم [٢٥]. وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب «الكشاف».

فلفظ (وَراءِ) هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية.

والحجرات ، بضمتين ويجوز فتح الجيم : جمع حجرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة ، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فعلة بمعنى مفعولة كغرفة ، وقبضة. وفي الحديث : أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه ، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد. وقرأ الجمهور (الْحُجُراتِ) بضمتين. وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم.

وكانت الحجرات تسعا وهي من جريد النخل ، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى ، وعلى أبوابها مسوح من شعر أسود وعرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع ، ومساحة البيت الداخل ، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع ، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعا. قال الحسن البصري : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي. وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتا واحدا مقسما إلى حجرات تسع.

وتعريف (الْحُجُراتِ) باللام تعريف العهد ، لأن قوله : (يُنادُونَكَ) مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة. وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في (يُنادُونَكَ) لاستحضار حالة ندائهم.

ومعنى قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه ، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة.

فقوله : (خَيْراً) يجوز أن يكون اسم تفضيل ، ويكون في المعنى : لكان صبرهم أفضل من العجلة. ويجوز أن يكون اسما ضدّ الشر ، أي لكان صبرهم خيرا لما فيه من محاسن الخلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير ، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة لعوائد الجاهلية الذميمة.

وإيثار (حَتَّى) في قوله : (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) دون (إلى) لأجل الإيجاز بحذف

١٨٩

حرف (أن) فإنه ملتزم حذفه بعد (حَتَّى) بخلافه بعد (إلى) فلا يجوز حذفه.

وفي تعقيب هذا اللوم بقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إشارة إلى أنه تعالى لم يحص عليهم ذنبا فيما فعلوا ولا عرّض لهم بتوبة. والمعنى : والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

هذا نداء ثالث ابتدئ به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت. ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه ، أو لمّا استبطئوا مجيئه ، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعليهم السلاح ، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله ، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعا إلى المدينة.

هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفا وأن الوليد جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهمّ أن يبعث إليهم خالد بن الوليد لينظر في أمرهم ، وفي رواية أنه بعث خالدا وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالدا لما بلغ ديار القوم بعث عينا له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعا. وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يظن بهم منع الصدقات فجاءوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرءين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة. وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجا إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في «الصحيح».

وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان ، وهذا أشهر. ولنشتغل الآن

١٩٠

ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما ، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلة فيهم الآية السابقة جاءوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم ، وبنو المصطلق تبرّءوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يناكده بعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وهم.

وإعادة الخطاب ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة المتقدم ذكرها.

ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسويت.

والفاسق : المتصف بالفسوق ، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر. وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله.

وأوثر في الشرط حرف (إِنْ) الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون. واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحا ولا تلويحا.

وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظنّ ذلك كما في «الإصابة» عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب. قال الفخر : «إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهّم وظن فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقا». قلت : ولو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له «التبيّن من الله والعجلة من الشيطان» ، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة. وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنّه حقا إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقّي السعاة. وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيّهم تعيّرا منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدوّ لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاءوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى.

ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد أعلم بخروج القوم إليه ،

١٩١

وسمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعز به إليه ليخاف فيرجع. وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعا جوادا وكان ذا خلق ومروءة. واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدولا وإن كل من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به فهو من أصحابه. وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري. قال في «أماليه» في أصول الفقه «ولسنا نعني بأصحاب النبي كل من رآه أو زاره لماما إنما نريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح» ا ه. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق ، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلا. وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلما ذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدّوه عن الوصول إلى ديارهم قصدا لإرجاعه.

وفي بعض الروايات أن خالدا وصل إلى ديار بني المصطلق. وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين ، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شحناء من عهد الجاهلية. وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم. وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا : خشينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء. وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جهل حال تقواه. وقد قال عمر بن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول ، وهي أيضا أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به.

والخطاب ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءا ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة. ومجيء حرف (إِنْ) في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا.

والتبين : قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان ، أي تأملوا وأبينوا. والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها. والأمر بالتبيّن أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام.

١٩٢

ومعنى (فَتَبَيَّنُوا) تبينوا الحق ، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعيا إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستندا للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول».

وإنما كان الفاسق معرّضا خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه ، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جرأته على ذلك دوما إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله.

والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك. وتنكير (فاسِقٌ) ، ونبإ ، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا ، وفي الأنباء كيف كانت ، كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه.

وقرأ الجمهور (فَتَبَيَّنُوا) بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيّن ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف فتثبتوا بفوقية فمثلثة فموحدة ففوقية من التثبت. والتبيّن : تطلب البيان وهو ظهور الأمر ، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق. ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «التثبّت من الله والعجلة من الشيطان».

وموقع (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا) إلخ نصبا على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة. ويجوز كونه منصوبا على المفعول لأجله.

والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت ، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت. فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصلح للإتيان بضده لتلازم الضد. وتقدم نظير هذا التعليل في قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الحجرات : ٢] في هذه السورة.

وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصابة الناس. وهذا بدلالة فحوى الخطاب.

والجهالة : تطلق بمعنى ضد العلم ، وتطلق بمعنى ضد الحلم مثل قولهم : جهل كجهل السيف ، فإن كان الأول ، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال ، أي

١٩٣

متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب ، ومتعلق (تُصِيبُوا) على هذا الوجه محذوف دل عليه السياق سابقا ولا حقا ، أي أن تصيبوهم بضرّ ، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضرّ وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية ، أي أن تصيبوا قوما بفعل من أثر الجهالة ، أي بفعل من الشدة والإضرار.

ومعنى (فَتُصْبِحُوا) فتصيروا لأن بعض أخوات (كان) تستعمل بمعنى الصيرورة. والندم : الأسف على فعل صدر. والمراد به هنا الندم الديني ، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق.

وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) موجه ابتداء للمؤمنين المخبرين ـ بفتح الباء ـ كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبرين ـ بكسر الباء ـ. ولكنّ هذا الخطاب لا يترك المخبرين ـ بكسر الباء ـ بمعزل عن المطالبة بهذا التبيّن فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخّي سوء العاقبة فيما يختلقونه من المختلقات ولكن هذا تبيّن وتثبت يخالف تبيّن الآخر وتثبته ، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من كلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر. واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله :

المسألة الأولى : وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة. وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفا.

المسألة الثانية : أنها دالة على قبول خبر الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة ، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد.

المسألة الثالثة : قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة ، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبت عدالته.

وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك. وقال بعضهم : الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال. أما المجهول باطنه وظاهره معا فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره ، وكأنهم نظروا إلى

١٩٤

معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي ، وقد قيل : إن عمر بن الخطاب كان قال :«المسلمون عدول بعضهم عن بعض» وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رجع فقال : «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول». ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين. وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق.

المسألة الرابعة : دل قوله : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعا ، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة ، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحدا بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه ، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصفة المخطئ وما ينقض من أحكامه. وتقديم المجرور على متعلّقه في قوله : (عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) للاهتمام بذلك الفعل ، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره.

[٧ ، ٨] (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ).

عطف على جملة (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [الحجرات : ٦] عطف تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) إلخ بل هي جملة مستقلة.

وابتداء الجملة ب (اعْلَمُوا) للاهتمام ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) في سورة البقرة [٢٣٥]. وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) في الأنفال [٤١].

وقوله : (أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكناية. فإن كون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه. فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم.

١٩٥

وجملة (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) إلخ يجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا. فضميرا الجمع في قوله : (يُطِيعُكُمْ) وقوله : (لَعَنِتُّمْ) عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يطلبون منه ، والعانت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسب رغبة غيرهم. ويجوز أن تكون جملة (لَوْ يُطِيعُكُمْ) إلخ في موضع الحال من ضمير (فِيكُمْ) لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين ، من جهة أن مضمون جواب (لَوْ) عنت يحصل للمخاطبين. ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم.

والطاعة : عمل أحد يؤمر به وما ينهى عنه وما يشار به عليه ، أي لو أطاعكم فيما ترغبون. و (الْأَمْرِ) هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة.

والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ (كَثِيرٍ مِنَ) أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه.

وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو غير شئون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثرون فيها بماء بدر.

والعنت : اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة.

وصيغة المضارع في قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) مستعملة في الماضي لأن حرف (لَوْ) يفيد تعليق الشرط في الماضي ، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار ، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتّم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجل النفع العائد عليه بالضر.

وتقديم خبر (أنّ) على اسمها في قوله : (أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيها على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم.

والعنت : المشقة ، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يرغبون العنت. وهو الإثم إذا استغفلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على

١٩٦

الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)).

الاستدراك المستفاد من (لكِنَ) ناشئ عن قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) لأنه اقتضى أن لبعضهم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحا بهم في أشياء كثيرة تعرض لهم. والمعنى : ولكن الله لا يأمر رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام ، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مرادا منه الاعتقاد ، فإن اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان ، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في معنى قوله تعالى : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] ، ولذا فكونه حبّب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز. والتقدير : ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم.

وفي قوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق ، قال تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) إلى قوله : (هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور : ٤٨ ـ ٥٠]. والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١] تحذيرا لهم من الحياد عن مهيع الإيمان وتجنيبا لهم ما هو من شأن أهل الكفر.

فالخبر في قوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) إلى قوله : (وَالْعِصْيانَ) مستعمل في الإلهاب وتحريك الهمم لمراعاة محبة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان ، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصيان فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه. وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية من آثار الكفر والفسوق والعصيان.

وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة. وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حبّب إليه ونبذ ما كرّه إليه.

١٩٧

وعدي فعلا (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) بحرف (إلى) لتضمينهما معنى بلّغ ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكره الكفر. ولم يعدّ فعل (وَزَيَّنَهُ) بحرف (إلى) مثل فعلي (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) ، للإيماء إلى أنه لما رغّبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبّوا الإيمان وزان في قلوبهم. والتزيين : جعل الشيء زينا ، أي حسنا قال عمر بن أبي ربيعة :

أجمعت خلتي مع الفجر بينا

جلل الله ذلك الوجه زينا

وجملة (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) معترضة للمدح. والإشارة ب (أُولئِكَ) إلى ضمير المخاطبين في قوله : (إِلَيْكُمُ) مرتين وفي قوله : (قُلُوبِكُمْ) أي الذين أحبّوا الإيمان وتزينت به قلوبهم ، وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون ، أي هم المستقيمون على طريق الحق.

وأفاد ضمير الفصل القصر وهو قصر إفراد إشارة إلى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين.

وانتصب (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال (حَبَّبَ) وزين (وَكَرَّهَ) لأن ذلك التحبيب والتزيين والتّكريه من نوع الفضل والنعمة.

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل لجملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته .. والواو اعتراضية.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩))

لما جرى قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) [الحجرات : ٦] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر ، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة. وفي «الصحيحين» عن أنس بن مالك : أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مجلس فيه عبد الله بن أبيّ بن سلول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبال الحمار ، فقال عبد الله بن أبيّ: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك فاستبّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج ، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم

١٩٨

رسول الله فأصلح بينهم ... فنزلت هذه الآية. وفي «الصحيحين» عن أسامة بن زيد : وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.

ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله : فبلغنا أن نزلت فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة. وعن قتادة والسدي : أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكما عاما نزل في سبب خاص.

و (إِنْ) حرف شرط يخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع (طائِفَتانِ) بفعل مقدر يفسره قوله : (اقْتَتَلُوا) للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضيا على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أوليت فيه (إِنْ) الشرطية الاسم نحو (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] ، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) [النساء : ١٢٨]. قال الرضي «وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي (إن) أن يكون ماضيا وقد يكون مضارعا على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله». ويعود ضمير (اقْتَتَلُوا) على (طائِفَتانِ) باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع ، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى: (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النساء [١٠٢].

والوجه أن يكون فعل (اقْتَتَلُوا) مستعملا في إرادة الوقوع مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ومثل (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] ، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) [النساء : ١٢٨].

وبذلك يظهر وجه تفريع قوله : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) على جملة

١٩٩

(اقْتَتَلُوا) ، أي فإن ابتدأت إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية.

والبغي : الظلم والاعتداء على حق الغير ، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف (الَّتِي تَبْغِي) هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعوان الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح.

وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل ، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع. وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغيا بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي‌الله‌عنه فكانوا بغاة على جماعة المؤمنين ، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سببا في إراقة دماء المسلمين اجتهادا منه فوجب على المسلمين طاعته لأن وليّ الأمر ولم ينفوا عن الثوار حكم البغي.

ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل ، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تخش من عصيانه فتنة لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين ، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة.

وقد كان تحقيق معنى البغي وصوره غير مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين ، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي‌الله‌عنه من الذين بايعوه بالخلافة ، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القود من قتلة عثمان منهم ، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالا للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة. وقال ابن العربي : كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى ، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط. وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطئ ، وكان الواجب يقضى على جماعة من المسلمين

٢٠٠