تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

ووطئتنا وطأ على حنق

وطء المقيّد نابت الهرم

والإصابة : لحاق ما يصيب.

و (من) في قوله : (مِنْهُمْ) للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب ، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم معرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم.

والمعرة : مصدر ميمي من عرّه ، إذا دهاه ، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة ، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضرارا بالمسلمين من ديات قتلى ، وغرم أضرار ، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبّتوا فيمن يقتلونه ، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم ليكرّهوا العرب في الإسلام وأهله.

والباء في (بِغَيْرِ عِلْمٍ) للملابسة ، أي ملابسين لانتفاء العلم. والمجرور بها متعلق ب (فَتُصِيبَكُمْ) ، أي فتلحقكم من جرّائهم مكاره لا تعلمونها حتى تقعوا فيها. وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لأن العلم المنفي في قوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة. والعلم المنفي ثانيا في قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سببا في الإقدام على إهلاكهم.

واللام في قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) للتعليل والمعلل واقع لا مفروض ، فهو وجود شرط (لَوْ لا) الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط ، أي لو لا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم ، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك ، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة ، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة ، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة.

و (مَنْ يَشاءُ) يعمّ كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معا. وعبر ب (مَنْ يَشاءُ) لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من

١٦١

الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك.

وجواب (لَوْ لا) يجوز اعتباره محذوفا دل عليه جواب (لَوْ) المعطوفة على (لَوْ لا) في قوله : (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، ويجوز اعتبار جواب (لَوْ) مرتبطا على وجه تشبيه التنازع بين شرطي (لَوْ لا) و (لَوْ) لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود أي تدلّ على امتناع جوابها لوجود شرطها. و (لَوْ) حرف امتناع لامتناع ، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها فحكم جوابيهما واحد ، وهو الامتناع ، وإنما يختلف شرطاهما فشرط (لَوْ) منتف وشرط (لَوْ لا) مثبت.

وضمير (تَزَيَّلُوا) عائد إلى ما دل عليه قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) إلخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ).

والتزيّل : مطاوع زيّله إذا أبعده عن مكان ، وزيلهم ، أي أبعد بعضهم عن بعض ، أي فرقهم قال تعالى : (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيرا ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة.

والمعنى : لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلّطنا المسلمين على المشركين فعذّبوا الذين كفروا عذاب السيف. فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) في سورة براءة [١٤].

و (من) في قوله : (مِنْهُمْ) للتبعيض ، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم ، أي حين يصير الجمع مشركين خلّصا وحدهم.

وجملة (لَوْ تَزَيَّلُوا) إلى آخرها بيان لجملة (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) إلى آخرها ، أي لو لا وجود رجال مؤمنين إلخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم.

وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) على طريقة الالتفات.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ

١٦٢

اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

ظرف متعلق بفعل (صَدُّوكُمْ) [الفتح : ٢٥] أي صدوكم صدّا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حمية الجاهلية ، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطّت على عقولهم فصمّموا على منع المسلمين ، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين.

فكان تعليق هذا الظرف بفعل (وَصَدُّوكُمْ) مشعرا بتعليل الصّد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية متمكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام.

والحمية : الأنفة ، أي الاستنكاف من أمر لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم. ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) [الأنفال : ٣٤]. و (جَعَلَ) بمعنى وضع ، كقول الحريري في المقامة الأخيرة «اجعل الموت نصب عينك» ، وقول الشاعر :

وإثمد يجعل في العين (١)

وضمير (جَعَلَ) يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الجلالة في قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) [الفتح : ٢٥] من قوله : (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) [الفتح : ٢٥] والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول أول ل (جَعَلَ). و (الْحَمِيَّةَ) بدل اشتمال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، و (فِي قُلُوبِهِمُ) في محل المفعول الثاني ل (جَعَلَ) ، أي تخلّقوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدّوكم عن المسجد الحرام.

__________________

(١) أوله :

الناس كالأرض ومنها هم

من خشن الطبع ومن لين

فحجر تدمى به أرجل

 .................. إلخ

١٦٣

و (فِي قُلُوبِهِمُ) متعلق ب (جَعَلَ) ، أي وضع الحمية في قلوبهم.

وقوله : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) عطف بيان للحمية قصد من إجماله ثم تفصيله تقرير مدلوله وتأكيده ما يحصل لو قال : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ).

وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقوله : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) [آل عمران : ١٥٤] وقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠].

ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهية.

وتفريع (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، على (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، يؤذن بأن المؤمنين ودّوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخلوا مكة للعمرة عنوة غضبا من صدّهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة.

والمراد بالسكينة : الثبات والأناة ، أي جعل في قلوبهم التأنّي وصرف عنهم العجلة ، فعصمهم من مقابلة الحمية بالغضب والانتقام فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير.

وفي هذه الآية من النكت المعنوية مقابلة (جَعَلَ) ب (فَأَنْزَلَ) في قوله : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) فدلّ على شرف السكينة على الحمية لأن الإنزال تخييل للرفعة وإضافة الحمية إلى الجاهلية ، وإضافة السكينة إلى اسم ذاته. وعطف على إنزال الله سكينته (أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] ، أي جعل كلمة التقوى لازمة لهم لا يفارقونها ، أي قرن بينهم وبين كلمة التقوى ليكون ذلك مقابل قوله : (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] فإنه لما ربط صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بالظرف في قوله : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ربطا يفيد التعليل كما قدمناه آنفا ربط ملازمة المسلمين كلمة التقوى بإنزال السكينة في قلوبهم ، ليكون إنزال السكينة في قلوبهم ، وهو أمر باطني ، مؤثرا فيهم عملا ظاهريا وهو ملازمتهم كلمة التقوى كما كانت حمية الجاهلية هي التي دفعت الذين كفروا إلى صد المسلمين عن المسجد الحرام.

وضمير النصب في (وَأَلْزَمَهُمْ) عائد إلى (الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم هم الذين عوّض الله

١٦٤

غضبهم بالسكينة ولم يكن رسول الله مفارقا السكينة من قبل.

و (كَلِمَةَ التَّقْوى) إن حملت على ظاهر معنى (كَلِمَةَ) كانت من قبيل الألفاظ وإطلاق الكلمة على الكلام شائع ، قال تعالى : (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ففسرت الكلمة هنا بأنها قول : لا إله إلا الله. وروي هذا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الترمذي ، وقال : هو حديث غريب. قلت : في سنده : ثوير ، ويقال : ثور بن أبي فاختة قال فيه الدار قطني : هو متروك ، وقال أبو حاتم : هو ضعيف. وروى ابن مردويه عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع مثله مرفوعا وكلها ضعيفة الأسانيد. وروي تفسيرها بذلك عند عدد كثير من الصحابة ومعنى إلزامه إياهم كلمة التقوى : أنه قدّر لهم الثبات عليها قولا بلفظها وعملا بمدلولها إذ فائدة الكلام حصول معناه ، فإطلاق (الكلمة) هنا كإطلاقه في قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف : ٢٨] يعني بها قول إبراهيم لأبيه وقومه (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف : ٢٦ ، ٢٧].

وإضافة (كَلِمَةَ) إلى (التَّقْوى) على هذا التفسير إضافة حقيقية. ومعنى إضافتها : أن كلمة الشهادة أصل التقوى فإن أساس التقوى اجتناب عبادة الأصنام ، ثم تتفرع على ذلك شعب التقوى كلها. ورويت أقوال أخرى في تفسير (كَلِمَةَ التَّقْوى) بمعنى كلام آخر من الكلم الطيب وهي تفاسير لا تلائم سياق الكلام ولا نظمه. ويجوز أن تحتمل (كَلِمَةَ) على غير ظاهر معناها فتكون مقحمة وتكون إضافتها إلى التقوى إضافة بيانية ، أي كلمة هي التقوى ، ويكون المعنى : وألزمهم التقوى على حد إقحام لفظ اسم في قول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومنه قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٧٨] على أحد التفسيرين فيه. ويدخل في التقوى ابتداء توحيد الله تعالى.

ويجوز أن يكون لفظ (كَلِمَةَ) مطلقا على حقيقة الشيء. وجماع معناه كإطلاق الاسم في قول النابغة :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدي إلى غرائب الأشعار

ويؤيد هذا الوجه ما نقل عن مجاهد أنه قال : كلمة التقوى : الإخلاص. فجعل (الكلمة) معنى من التقوى. فالمعنى على هذين التوجهين الأخيرين : أنهم تخلقوا بالتقوى لا يفارقونها فاستعير الإلزام لدوام المقارنة. وهذان الوجهان لا يعارضان تفسير كلمة

١٦٥

(التقوى) بكلمة (الشهادة) المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يكون ذلك تفسيرا بجزئي من التقوى هو أهمّ جزئياتها ، أي تفسير مثال.

وعن الحسن : أن كلمة (التَّقْوى) الوفاء بالعهد ، فيكون الإلزام على هذا بمعنى الإيجاب ، أي أمرهم بأن يفوا بما عاهدوا عليه للمشركين ولا ينقضوا عهدهم ، فلذلك لم ينقض المسلمون العهد حتى كان المشركون هم الذين ابتدءوا بنقضه.

والواو في (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) واو الحال ، والجملة حال من الضمير المنصوب ، أي ألزمهم تلك الكلمة في حال كانوا فيه أحق بها وأهلها ممن لم يلزموها وهم الذين لم يقبلوا التوحيد على نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) [البقرة : ١٤٣]. وجيء بفعل كانوا لدلالتها على أن هذه الأحقية راسخة فيهم حاصلة في الزمن الماضي ، أي في قدر الله تعالى.

والمعنى : أن نفوس المؤمنين كانت متهيئة لقبول كلمة التقوى والتزامها بما أرشدها الله إليه. والمفضل عليه مقدر دلّ عليه ما تقدم ، أي أحق بها من الذين كفروا والذين جعل الله في قلوبهم الحمية لأن الله قدّر لهم الاستعداد للإيمان دون الذين أصروا على الكفر.

وأهل الشيء مستحقه ، والمعنى أنهم كانوا أهل كلمة التقوى لأنها تناسب ضمائرهم وما انطوت عليه قلوبهم. وهذه الأهلية مثل الأحقية متفاوتة في الناس وكلما اهتدى أحد من المشركين إلى الإسلام دلّ اهتداؤه على أنه حصلت له هذه الأهلية للإسلام.

وجملة (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) تذييل ، أي وسبق في علم الله ذلك في عموم ما أحاط به علم الله من الأشياء مجرى تكوينه على نحو علمه.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٢٦] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية ، أو وهو

١٦٦

في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحلقوا وقصّروا. هكذا كانت الرؤيا مجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما.

وقصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فو الله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا؟ فقال لهم أبو بكر رضي‌الله‌عنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك الرؤيا أيامئذ وفي إخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زمانا كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زمانا حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة.

وتوكيد الخبر بحرف (قد) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا؟

ومعنى (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك. وهذا تطمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمّا يحصل بقرينة قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ).

وتعدية (صَدَقَ) إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب.

وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣].

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابسا وقع حالا من الرؤيا.

والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مجعولة محكمة وهي ما قدمناه آنفا.

وجملة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) إلى آخرها يجوز أن يكون بيانا لجملة (صَدَقَ

١٦٧

اللهُ) لأن معنى (لَتَدْخُلُنَ) تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل. وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل. وقد جاء في سورة يوسف [١٠٠] (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ). وليست هذه الجملة بيانا للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك.

والأحسن أن تكون جملة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) استئنافا بيانيا عن جملة (صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله : (بِالْحَقِ) ليظهر معنى الاستئناف.

وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخيا ، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا ، فيقول : أفعل إن شاء الله ، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله.

ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف [٩٩] (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أنّ (إِنْ شاءَ اللهُ) للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر.

أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل. وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد ، وهذا من استعمالات كلمة (إِنْ شاءَ اللهُ). فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذ للثّنيا لأنها في موضع قولهم : إلا أن يشاء الله ، لأن معنى : إلا أن يشاء الله : عدم الفعل ، وأما إن شاء الله ، التي تقع موقع : إلا أن يشاء الله ، فمعناه إن شاء الله الفعل.

والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية ، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحلق بعضهم وقصّر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد ، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد ، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع ، وعدم الخوف فيه أظهر. وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين. قال مالك في «الموطأ» بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يوم الفتح (ولم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ محرما والله أعلم).

١٦٨

و (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) حال من ضمير (آمِنِينَ) وعطف عليه (وَمُقَصِّرِينَ) والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤياه ، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير ، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير.

وجملة (لا تَخافُونَ) في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل (آمِنِينَ) تأكيدا بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق ، ويجوز أن تكون حالا مؤسسة على أن (آمِنِينَ) معمول لفعل تدخلن وأن (لا تَخافُونَ) معمول ل (آمِنِينَ) ، أي آمنين أمن من لا يخاف ، أي لا تخافون غدرا. وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوّهم الذي أمنهم ، وهذا يومئ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعدادا وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع.

والفاء في قوله : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١٨].

وفي إيثار فعل جعل في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحا قريبا أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لو لا أن الله كونه. وصيغة الماضي في جعل لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي ، أو لأن جعل بمعنى قدر. ودون هنا بمعنى غير ، ومن (م) ابتدائية أو بيانية. والمعنى : فجعل فتحا قريبا لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين. وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة. فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف (قد) ولام القسم في قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧]. وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصول في قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) لأن الموصول يفيد العلم بمضمون الصلة غالبا.

١٦٩

والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) ، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة. وفي هذا تذكير ولوم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين.

والباء في (بِالْهُدى) للمصاحبة وهو متعلق ب (أَرْسَلَ) والهدى أطلق على ما به الهدى ، أي كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] ، وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥]. وعطف (دِينِ الْحَقِ) على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز أن يكون المراد (بِالْهُدى) أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس ، و (دِينِ الْحَقِ) : شرائع الإسلام وفروعه.

واللام في (لِيُظْهِرَهُ) لتعليل فعل (أَرْسَلَ) ومتعلقاته ، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب (كُلِّهِ) لأنه في معنى الجمع. ومعنى يظهره يعليه. والإظهار : أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا ، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازا عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه ، أي ليشرفه على الأديان كلها ، وهذا كقوله في حق القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨].

ولما كان المقصود من قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) إلخ الشهادة بأن الرؤيا صدق ذيّل الجملة بقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا ما صدقها في الإبان. وتقدم الكلام على نظير (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في آخر سورة النساء [٧٩].

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ

١٧٠

بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)

لما بيّن صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه.

و (مُحَمَّدٌ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله : (رَسُولَهُ) [الفتح : ٢٨] في الآية قبلها. وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره. قال التفتازاني في «المطول» «ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلا : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا». ومن أمثلة «المفتاح» لذاك قوله : (فراجعهما) أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل قوله :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت (١)

إذ لم يقل : هو فتى.

وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمدا رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧] إلى قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الفتح : ٢٨] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : من هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله. وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتعتبر الجملة المحذوف مبتدؤها مستأنفة استئنافا بيانيا. وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا.

وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت».

__________________

(١) البيتان لعبر الله بن الزبير (بفتح الزاي وكسر الموحدة) الأسدي.

١٧١

وقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يجوز أن يكون مبتدأ و (أَشِدَّاءُ) خبرا عنه وما بعده إخبار. والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى (مَعَهُ) : المصاحبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ). والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية.

وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس بن عبد المطلب ناد يا أصل السّمرة. ويجوز أن يكون (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطفا على (رَسُولَهُ) من قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [التوبة : ٣٣]. والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) [يس : ١٤] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد. فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) وعلى هذا يكون أرسلنا في هذه الآية مستعملا في حقيقته ومجازه.

و (أَشِدَّاءُ) : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) [التحريم : ٦].

والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبرام الصلح أبا بكر. وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه. والله ورسوله أعلم.

ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من

١٧٢

ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة. والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في إقامة الدين قال تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨].

وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم. وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) في سورة العقود [٥٤].

وفي تعليق (رُحَماءُ) مع ظرف (بين) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تجد المسلمين في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى».

والخطاب في (تَراهُمْ) لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي.

وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعا سجدا. وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه. وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه.

والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) في البقرة [٢٧٣] وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود.

واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة. فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أثر الطين والماء لما وكف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان. وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل.

وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد

١٧٣

بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء.

وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب.

وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك. فقال الأعمش : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان. وقال ابن عباس : هو حسن السمت. وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع. وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر. وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضا والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضا وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩] النور يوم القيامة ، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر أعلاها.

وضمائر الغيبة في قوله : (تَراهُمْ) و (يَبْتَغُونَ) و (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) عائدة إلى (الَّذِينَ مَعَهُ) على الوجه الأول ، وإلى كل من (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) على الوجه الثاني.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ).

الإشارة ب (ذلِكَ) إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و (مَثَلُهُمْ) خبره.

والمثل يطلق على الحالة العجيبة ، ويطلق على النظير ، أي المشابه فإن كان هنا محمولا على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في «التوراة». وقوله : (فِي التَّوْراةِ) متعلق ب (مَثَلُهُمْ) أو حال منه. فيحتمل أن في «التوراة» وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات ، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في «التوراة» ، أي أن «التوراة» قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والذي وقفنا عليه في «التوراة» مما يصلح

١٧٤

لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من «سفر التثنية» من قول موسى عليه‌السلام : «جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك» فإن جبل فاران هو حيال الحجاز. وقوله : «فأحب الشعب جميع قديسيه» يشير إليه قوله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله : قديسيه يفيد معنى (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) [الفتح : ٢٩] ومعنى (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩]. وقوله في «التوراة» «جالسون عند قدمك» يفيد معنى قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) [الحشر : ٨]. ويكون قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الوصف.

(وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ).

ابتداء كلام مبتدأ. ويكون الوقف على قوله : (فِي التَّوْراةِ) والتشبيه في قوله : (كَزَرْعٍ) خبره ، وهو المثل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيرا إلى نحو قوله في «إنجيل متى» الإصحاح ١٣ فقرة ٣ «هو ذا الزارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه‌السلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته» إلى أن قال «وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين». قال فقرة ، ثم قال: «وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم ، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وبعض ستين وآخر ثلاثين». وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة.

وفي قوله : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئا من مكان.

والشطء بهمزة في آخره وسكون الطاء : فراخ الزرع وفروع الحبّة. ويقال : أشطأ الزرع ، إذا أخرج فروعا. وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمزة وقرأه ابن كثير (شَطْأَهُ) بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا.

و (فَآزَرَهُ) قوّاه ، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شده على العمل والحمل كذا قيل. والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقا اسمه من : آزر ، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر

١٧٥

لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين. وصيغة المفاعلة في (فَآزَرَهُ) مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم : عافاك الله ، وقوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها) [فصلت : ١٠].

والضمير المرفوع في (فَآزَرَهُ) للشطء ، والضمير المنصوب للزرع ، أي قوى الشطء أصله.

وقرأ الجمهور (فَآزَرَهُ). وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر فأزره بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد.

ومعنى (فَاسْتَغْلَظَ) غلظ غلظا شديدا في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب. والضميران المرفوعان في (فَاسْتَغْلَظَ) واستوى عائدان إلى الزرع.

والسوق : جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زنة فعل بفتحتين. وقراءة الجميع (عَلى سُوقِهِ) بالواو بعد الضمة. وقال ابن عطية : قرأ ابن كثير (سُوقِهِ) بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر (١) :

لحب المؤقدان إلى مؤسى

وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في «حرز الأماني» وذكرها النوري في كتاب «غيث النفع» وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل.

وساق الزرع والشجرة : الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان. ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بده المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفا وتقويه يوما فيوما حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه. وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل ، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل : أبي بكر

__________________

(١) هو جرير ، وتمام البيت :

وجعدة إذا أضاءهما الوقود

وتقدّم عند قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) في سورة البقرة [٤]. والبيت من قصيدة في مدح هشام بن عبد الملك.

١٧٦

وخديجة وعلي وبلال وعمّار ، والشطء : من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع. وقوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار.

قال القرطبي : قال أبو عروة الزبيري (١) : كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلا ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) إلى أن بلغ قوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقلت : رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين.

وقوله : (مِنْهُمْ) يجوز أن تكون (من) للبيان كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وهو استعمال كثير ، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر (من) تحذيرا وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم هم خيرة المؤمنين.

__________________

(١) قال القرطبي : من ولد الزبير ، قلت لعله سعيد بن عمر الزبيري المدني من أصحاب مالك ، ترجمه في المدارك ولم يذكر كنيته.

١٧٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٩ ـ سورة الحجرات

سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير سورة الحجرات وليس لها اسم غيره ، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجراته ، فعرفت بهذه الإضافة. وهي مدنية باتفاق أهل التأويل ، أي مما نزل بعد الهجرة ، وحكى السيوطي في «الإتقان» قولا شاذا أنها مكية ولا يعرف قائل هذا القول.

وفي أسباب النزول للواحدي أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] الآية نزلت بمكة في يوم فتح مكة كما سيأتي ، ولم يثبت أن تلك الآية نزلت بمكة كما سيأتي. ولم يعدها في «الإتقان» في عداد السور المستثنى بعض آياتها. وهي السورة الثامنة بعد المائة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة المجادلة وقبل سورة التحريم وكان نزول هذه السورة سنة تسع ، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤]. وعدّ جميع العادين آيها ثمان عشرة آية.

أغراض هاته السورة

تتعلّق أغراضها بحوادث جدّت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب. وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معاملته وخطابه وندائه ، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لمّا نادوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات : ٤]. ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به. والتثبت في

١٧٨

نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين ، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين ، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين ، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة ، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية ، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.

وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦] : هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مع غيرهما من أنباء الجنس ، وهم على صنفين : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق ، والداخل في طائفتهم : إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام ، قال : فذكر الله في هذه السورة خمس مرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة ، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.

وهذه السورة هي أول سور المفصّل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب ، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء وفي مبدأ المفصّل عندنا أقوال عشرة أشهرها قولان قيل : إن مبدأه سورة ق وقيل سورة الحجرات ، وفي مبدأ وسط المفصل قولان أصحهما أنه سورة عبس ، وفي قصاره قولان أصحهما أنها من سورة والضحى.

واختلف الحنفية في مبدأ المفصل على أقوال اثني عشر ، والمصحح أن أوله من الحجرات ، وأول وسط المفصل سورة الطارق ، وأول القصار سورة (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الزلزلة : ١].

وعند الشافعية قيل : أول المفصل سورة الحجرات ، وقيل سورة ق ، ورجحه ابن كثير في التفسير كما سيأتي. وعند الحنابلة أول المفصل سورة ق.

والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

١٧٩

الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووصفهم ب (الَّذِينَ آمَنُوا) جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال.

وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب ، فهذه خمسة أقسام ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعرض الغفلة عنها.

والتقدم حقيقته : المشي قبل الغير ، وفعله المجرد : قدم من باب نصر قال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [هود : ٩٨]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعديا إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على.

ويقال : قدّم بمعنى تقدم كأنه قدّم نفسه ، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى (لا تُقَدِّمُوا) لا تتقدموا.

ففعل (لا تُقَدِّمُوا) مضارع قدّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول ، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمة الكتاب الطائفة منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فعّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبيّن بمعنى تبيّن ، ومن أمثالهم بيّن الصبح لذي عينين.

والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلا دون إذن من الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع.

ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حرج فيه.

وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء : إن المكلف لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعدّ الغزالي العلم بحكم ما يقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على

١٨٠