تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

ولا أهاليهم ، فلو كان عذرهم حقا لما حرصوا على الخروج إذا توقعوا المغانم ولأقبلوا على الاشتغال بأموالهم وأهليهم.

ولكون هذه المقالة صدرت منهم عن قريحة ورغبة لم يؤت معها بمجرور (لَكَ) كما أتي به في قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) آنفا لأن هذا قول راغب صادق غير مزوّر لأجل الترويج على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما علمت ذلك فيما تقدم.

واستغني عن وصفهم بأنهم من الأعراب لأن تعريف (الْمُخَلَّفُونَ) تعريف العهد ، أي المخلفون المذكورون.

وقوله : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) متعلق ب (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) وليس هو مقول القول. و (إِذَا) ظرف للمستقبل ، ووقوع فعل المضي بعده دون المضارع مستعار لمعنى التحقيق ، و (إِذَا) قرينة على ذلك لأنها خاصة بالزمن المستقبل.

والمراد بالمغانم في قوله : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) : الخروج إلى غزوة خيبر فأطلق عليها اسم مغانم مجازا لعلاقة الأول مثل إطلاق خمرا في قوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦]. وفي هذا المجاز إيماء إلى أنهم منصورون في غزوتهم.

وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من الحديبيّة إلى المدينة أقام شهر ذي الحجة سنة وست وأياما من محرم سنة سبع ثم خرج إلى غزوة خيبر ورام المخلفون عن الحديبيّة أن يخرجوا معه فمنعهم لأن الله جعل غزوة خيبر غنيمة لأهل بيعة الرضوان خاصة إذ وعدهم بفتح قريب.

وقوله : (لِتَأْخُذُوها) ترشيح للمجاز وهو إيماء إلى أن المغانم حاصلة لهم لا محالة.

وذلك أن الله أخبر نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه وعد أهل الحديبيّة أن يعوضهم عن عدم دخول مكّة مغانم خيبر.

و (مَغانِمَ) : جمع مغنم وهو اسم مشتق من غنم إذا أصاب ما فيه نفع له كأنهم سموه مغنما باعتبار تشبيه الشيء المغنوم بمكان فيه غنم فصيغ له وزن المفعل.

وأشعر قوله : (ذَرُونا) بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيمنعهم من الخروج معه إلى غزو خيبر لأن الله أمره أن لا يخرج معه إلى خيبر إلا من حضر الحديبيّة ، وتقدم في قوله تعالى : (وَقالَ

١٤١

فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) في سورة غافر [٢٦].

وقوله : (نَتَّبِعْكُمْ) حكاية لمقالتهم وهو يقتضي أنهم قالوا هذه الكلمة استنزالا لإجابة طلبهم بأن أظهروا أنهم يخرجون إلى غزو خيبر كالأتباع ، أي أنهم راضون بأن يكونوا في مؤخرة الجيش فيكون حظهم في مغانمه ضعيفا.

وتبديل كلام الله : مخالفة وحيه من الأمر والنهي والوعد كرامة للمجاهدين وتأديبا للمخلفين عن الخروج إلى الحديبيّة. فالمراد بكلام الله ما أوحاه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وعد أهل الحديبيّة بمغانم خيبر خاصة لهم ، وليس المراد بكلام الله هنا القرآن إذ لم ينزل في ذلك قرآن يومئذ. وقد أشرك مع أهل الحديبية من ألحق بهم من أهل هجرة الحبشة الذين أعطاهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحي.

وأما ما روي عن عبد الله بن زيد بن أسلم أن المراد بكلام الله قوله تعالى : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] فقد رده ابن عطية بأنها نزلت بعد هذه السورة وهؤلاء المخلفون لم يمنعوا منعا مؤبدا بل منعوا من المشاركة في غزوة خيبر لئلا يشاركوا في مغانمها فلا يلاقي قوله فيها (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) وينافي قوله في هذه السورة (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ) [الفتح : ١٦] الآية ، فإنها نزلت في غزوة تبوك وهي بعد الحديبيّة بثلاث سنين.

وجملة (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) في موضع الحال. والإرادة في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) على حقيقتها لأنهم سيعلمون حينئذ يقولون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أن الله أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنعهم من المشاركة في فتح خيبر كما دل عليه تنازلهم في قولهم : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) فهم يريدون حينئذ أن يغيروا ما أمر الله به رسوله حين يقولون (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) إذ اتباع الجيش والخروج في أوله سواء في المقصود من الخروج.

وقرأ الجمهور (كَلامَ اللهِ). وقرأه حمزة والكسائي وخلف كلم الله اسم جمع كلمة. وجيء ب (لَنْ) المفيدة تأكيد النفي لقطع أطماعهم في الإذن لهم باتباع الجيش الخارج إلى خيبر ولذلك حذف متعلق (تَتَّبِعُونا) للعلم به. و (مِنْ قَبْلُ) تقديره : من قبل طلبكم الذي تطلبونه وقد أخبر الله عنهم بما سيقولونه إذ قال : (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) ، وقد قالوا ذلك بعد نحو شهر ونصف فلما سمع المسلمون المتأهبون للخروج إلى خيبر مقالتهم قالوا : قد أخبرنا الله في الحديبية بأنهم سيقولون هذا.

١٤٢

و (بَلْ) هنا للإضراب عن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَنْ تَتَّبِعُونا) وهو إضراب إبطال نشأ عن فورة الغضب المخلوط بالجهالة وسوء النظر ، أي ليس بكم الحفاظ على أمر الله ، بل بكم أن لا نقاسمكم في المغانم حسدا لنا على ما نصيب من المغانم.

والحسد : كراهية أن ينال غيرك خيرا معيّنا أو مطلقا سواء كان مع تمني انتقاله إليك أو بدون ذلك ، فالحسد هنا أريد به الحرص على الانفراد بالمغانم وكراهية المشاركة فيها لئلا ينقص سهام الكارهين. وتقدم الحسد عند قوله تعالى : (بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [البقرة : ٩٠] وعند قوله : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ١٠٩] كلاهما في سورة البقرة.

وضمير الرفع مراد به أهل الحديبية ، نسبوهم إلى الحسد لأنهم ظنوا أن الجواب بمنعهم لعدم رضى أهل الحديبية بمشاركتهم في المغانم. ولا يظن بهم أن يريدوا بذلك الضمير شمول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن المخلفين كانوا مؤمنين لا يتهمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحسد ولذلك أبطل الله كلامهم بالإضراب الإبطالي فقال : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ، أي ليس قولك لهم ذلك لقصد الاستبشار بالمغانم لأهل الحديبية ولكنه أمر الله وحقه لأهل الحديبية وتأديب للمخلفين ليكونوا عبرة لغيرهم فيما يأتي وهم ظنوه تمالئوا من جيش الحديبية لأنهم لم يفهموا حكمته وسببهم. وإنّما نفى الله عنهم الفهم دون الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم كانوا جاهلين بشرائع الإسلام ونظمه.

وأفاد قوله : (لا يَفْقَهُونَ) انتفاء الفهم عنهم لأن الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياق النفي يعم ، فلذلك استثنى منه بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا فهما قليلا وإنما قلّله لكون فهمهم مقتصرا على الأمور الواضحة من العاديات لا ينفذ إلى المهمات ودقائق المعاني ، ومن ذلك ظنهم حرمانهم من الالتحاق بجيش غزوة خيبر منبعثا على الحسد. وقد جروا في ظنهم هذا على المعروف من أهل الأنظار القاصرة والنفوس الضئيلة من التوسم في أعمال أهل الكمال بمنظار ما يجدون من دواعي أعمالهم وأعمال خلطائهم.

و (قَلِيلاً) وصف للمستثنى المحذوف ، والتقدير : إلا فقها قليلا.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))

انتقال إلى طمأنة المخلفين بأنهم سينالون مغانم في غزوات آتية ليعلموا أن حرمانهم من الخروج إلى خيبر مع جيش الإسلام ليس لانسلاخ الإسلام عنهم ولكنه لحكمة نوط

١٤٣

المسبّبات بأسبابها على طريقة حكمة الشريعة فهو حرمان خاص بوقعة معينة كما تقدم آنفا ، وأنهم سيدعون بعد ذلك إلى قتال قوم كافرين كما تدعى طوائف المسلمين ، فذكر هذا في هذا المقام إدخال للمسرة بعد الحزن ليزيل عنهم انكسار خواطرهم من جراء الحرمان. وفي هذه البشارة فرصة لهم ليستدركوا ما جنوه من التخلف عن الحديبية وكل ذلك دال على أنهم لم ينسلخوا عن الإيمان ، ألا ترى أن الله لم يعامل المنافقين المبطنين للكفر بمثل هذه المعاملة في قوله : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) [التوبة : ٨٣].

وكرر وصف من (الْأَعْرابِ) هنا ليظهر أن هذه المقالة قصد بها الذين نزل فيهم قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] فلا يتوهم السامعون أن المعنى بالمخلفين كل من يقع منه التخلف.

وأسند (سَتُدْعَوْنَ) إلى المجهول لأنّ الغرض الأمر بامتثال الدّاعي وهو وليّ أمر المسلمين بقرينة قوله بعد في تذييله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الفتح : ١٧] ودعوة خلفاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعده ترجع إلى دعوة الله ورسوله لقوله : (ومن أطاع أمري فقد أطاعني).

وعدي فعل (سَتُدْعَوْنَ) بحرف (إِلى) لإفادة أنها مضمنة معنى المشي ، وهذا فرق دقيق بين تعدية فعل الدعوة بحرف (إِلى) وبين تعديته باللام نحو قولك : دعوت فلانا لما نابني ، قال طرفة :

وإن أدع للجلى أكن من حماتها

وقد يتعاقب الاستعمالان بضرب من المجاز والتسامح.

والقوم أولو البأس الشديد يتعين أنهم قوم من العرب لأن قوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) يشعر بأن القتال لا يرفع عنهم إلا إذا أسلموا ، وإنما يكون هذا حكما في قتال مشركي العرب إذ لا تقبل منهم الجزية. فيجوز أن يكون المراد هوازن وثقيف. وهذا مروي عن سعيد بن جبير ، وعكرمة وقتادة ، وذلك غزوة حنين وهي بعد غزوة خيبر ، وأما فتح مكة فلم يكن فيه قتال. وعن الزهري ومقاتل : أنهم أهل الردة لأنهم من قبائل العرب المعروفة بالبأس ، وكان ذلك صدر خلافة أبي بكر الصديق. وعن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فلا نعلم من هم حتى

١٤٤

دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم ، وعن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء الخراساني ، والحسن هم فارس والروم.

وجملة (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) إمّا حال من ضمير (سَتُدْعَوْنَ) ، وإما بدل اشتمال من مضمون تدعون.

و (أَوْ) للترديد بين الأمرين والتنويع في حالة تدعون ، أي تدعون إلى قتالهم وإسلامهم ، وذلك يستلزم الإمعان في مقاتلتهم والاستمرار فيها ما لم يسلموا ، فبذلك كان (أَوْ يُسْلِمُونَ) حالا معطوفا على جملة (تُقاتِلُونَهُمْ) وهو حال من ضمير تدعون.

وقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) تعبير بالتوالي الذي مضى ، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تولّ يوقع في الإثم لأنه تولّ عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد. فالتشبيه في قوله : (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تشبيه في مطلق التولّي لقصد التشويه وليس تشبيها فيما يترتب على ذلك التولي.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

جملة معترضة بين جملة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ١٦] وبين جملة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية قصد منها نفي الوعيد عن أصحاب الضّرارة تنصيصا على العذر للعناية بحكم التولّي والتحذير منه.

وجملة (مَنْ يُطِعِ اللهَ) إلخ تذييل لجملة (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) [الفتح : ١٦] الآية لما تضمنته من إيتاء الأجر لكل مطيع من المخاطبين وغيرهم ، والتعذيب لكل متولّ كذلك ، مع ما في جملة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) من بيان أن الأجر هو إدخال الجنات ، وهو يفيد بطريق المقابلة أن التعذيب الأليم بإدخالهم جهنم. وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأ الجمهور (يُدْخِلْهُ) بالياء التحتية جريا على أسلوب الغيبة بعود الضمير إلى اسم الجلالة.

[١٨ ، ١٩] (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

١٤٥

عود إلى تفصيل ما جازى الله به أصحاب بيعة الرضوان المتقدم إجماله في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، فإن كون بيعتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم تعتبر بيعة لله تعالى أومأ إلى أن لهم بتلك المبايعة مكانة رفيعة من خير الدنيا والآخرة ، فلما قطع الاسترسال في ذلك بما كان تحذيرا من النكث وترغيبا في الوفاء ، بمناسبة التضاد وذكر ما هو وسط بين الحالين وهو حال المخلّفين ، وإبطال اعتذارهم وكشف طويتهم ، وإقصائهم عن الخير الذي أعده الله للمبايعين وإرجائهم إلى خير يسنح من بعد إن هم صدقوا التوبة وأخلصوا النية.

فقد أنال الله المبايعين رضوانه وهو أعظم خير في الدنيا والآخرة قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] والشهادة لهم بإخلاص النية ، وإنزاله السكينة قلوبهم ووعدهم بثواب فتح قريب ومغانم كثيرة.

وفي قوله : (عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ) إيذان بأن من لم يبايع ممن خرج مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس حينئذ بمؤمن وهو تعريض بالجدّ بن قيس إذ كان يومئذ منافقا ثم حسن إسلامه.

وقد دعيت هذه البيعة بيعة الرضوان من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ). و (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ظرف متعلّق ب (رَضِيَ) ، وفي تعليق هذا الظرف بفعل الرضى ما يفهم أن الرضى مسبب عن مفاد ذلك الظرف الخاص بما أضيف هو إليه ، مع ما يعطيه توقيت الرضى بالظرف المذكور من تعجيل حصول الرضى بحدثان ذلك الوقت ، ومع ما في جعل الجملة المضاف إليها الظرف فعلية مضارعيّة من حصول الرضى قبل انقضاء الفعل بل في حال تجدده. فالمضارع في قوله (يُبايِعُونَكَ) مستعمل في الزمان الماضي لاستحضار حالة المبايعة الجليلة ، وكون الرضى حصل عند تجديد المبايعة ولم ينتظر به تمامها ، فقد علمت أن السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية.

والتعريف في (الشَّجَرَةِ) تعريف العهد وهي : الشجرة التي عهدها أهل البيعة حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظلها ، وهي شجرة من شجر السّمر ـ بفتح السين المهملة وضم الميم ـ وهو شجر الطلح. وقد تقدم أن البيعة كانت لما أرجف بقتل عثمان بن عفان بمكة فعن سلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمر ، يزيد أحدهما على الآخر «بينما نحن قائلون يوم الحديبية وقد تفرق الناس في ظلال الشجر إذ نادى عمر بن الخطاب : أيّها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي دعا الناس

١٤٦

إلى البيعة فثار الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه كلهم إلا الجدّ بن قي».

وعن جابر بن عبد الله بعد أن عمي لو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة. وتواتر بين المسلمين علم مكان الشجرة بصلاة الناس عند مكانها. وعن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل أي في عمرة القضية نسيناها فلم نقدر عليها وعن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت : ما هذا المسجد؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد : إن أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم أفأنتم أعلم».

والمراد بقول طارق : ما هذا المسجد : مكان السجود ، أي الصلاة ، وليس المراد البيت الذي يبني للصلاة لأن البناء على موضع الشجرة وقع بعد ذلك الزمن فهذه الشجرة كانت معروفة للمسلمين وكانوا إذا مروا بها يصلون عندها تيمنا بها إلى أن كانت خلافة عمر فأمر بقطعها خشية أن تكون كذات أنواط التي كانت في الجاهلية ، ولا معارضة بين ما فعله المسلمون وبين ما رواه سعيد بن المسيب عن أبيه أنه وبعض أصحابه نسوا مكانها لأن الناس متفاوتون في توسّم الأمكنة واقتفاء الآثار.

والمروي أن الذي بنى مسجدا على مكان الشجرة أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي ولكن في المسجد المذكور حجر مكتوب فيه «أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله ببناء هذا المسجد مسجد البيعة وأنه بني سنة أربع وأربعين ومائتين ، وهي توافق مدة المتوكّل جعفر بن المعتصم وقد تخرب فجدده المستنصر العباسي سنة ٦٢٩ ثم جدده السلطان محمود خان العثماني سنة ١٢٥٤ وهو قائم إلى اليوم.

وذكر (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) لاستحضار تلك الصورة تنويها بالمكان فإن لذكر مواضع الحوادث وأزمانها معاني تزيد السامع تصورا ولما في تلك الحوادث من ذكرى مثل مواقع الحروب والحوادث كقول عبد الله بن عباس «ويوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه» الحديث. ومواقع المصائب وأيامها.

و (إِذْ) ظرف يتعلق بفعل (رَضِيَ) ، أي رضي‌الله‌عنهم في ذلك الحين. وهذا رضى خاص ، أي تعلّق رضى الله تعالى عنهم بتلك الحالة.

١٤٧

والفاء في قوله : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ليست للتعقيب لأن علم الله بما في قلوبهم ليس عقب رضاه عنهم ولا عقب وقوع بيعتهم فتعين أن تكون فاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر بعدها. والتقدير : فلما بايعوك علم ما في قلوبهم من الكآبة ، ويجوز أن تكون الفاء لتفريع الأخبار بأن الله علم ما في قلوبهم بعد الإخبار برضى الله عنهم لما في الإخبار بعلمه ما في قلوبهم من إظهار عنايته بهم. ويجوز أن يكون المقصود من التفريع قوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) ويكون قوله : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) توطئة له على وجه الاعتراض.

والمعنى : لقد رضي الله عن المؤمنين من أجل مبايعتهم على نصرك فلما بايعوا وتحفزوا لقتال المشركين ووقع الصلح حصلت لهم كآبة في نفوسهم فأعلمهم الله أنه اطلع على ما في قلوبهم من تلك الكآبة ، وهذا من علمه الأشياء بعد وقوعها وهو من تعلق علم الله بالحوادث بعد حدوثها ، أي علمه بأنها وقعت وهو تعلق حادث مثل التعلقات التنجيزية. والمقصود بإخبارهم بأن الله علم ما حصل في قلوبهم الكآبة عن أنه قدر ذلك لهم وشكرهم على حبهم نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفعل ولذلك رتب عليه قوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).

والسكينة هنا هي : الطمأنينة والثقة بتحقيق ما وعدهم الله من الفتح والارتياض على ترقبه دون حسرة فترتب على علمه ما في قلوبهم إنزاله السكينة عليهم ، أي على قلوبهم فعبر بضميرهم عوضا عن ضمير (قُلُوبِهِمْ) لأن قلوبهم هي نفوسهم.

وعطف (أَثابَهُمْ) على فعل (رَضِيَ اللهُ). ومعنى أثابهم : أعطاهم ثوابا ، أي عوضا ، كما يقال في هبة الثواب ، أي عوضهم عن المبايعة بفتح قريب. والمراد : أنه وعدهم بثواب هو فتح قريب ومغانم كثيرة ، ففعل (أَثابَهُمْ) مستعمل في المستقبل. وهذا الفتح هو فتح خيبر فإنه كان خاصا بأهل الحديبية وكان قريبا من يوم البيعة بنحو شهر ونصف.

والمغانم الكثيرة المذكورة هنا هي : مغانم أرض خيبر والأنعام والمتاع والحوائط فوصفت ب (كَثِيرَةً) لتعدّد أنواعها وهي أول المغانم التي كانت فيها الحوائط.

وفائدة وصف المغانم بجملة (يَأْخُذُونَها) تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة قبل أن يقع بالفعل ففيه زيادة تحقيق لكون الفتح قريبا وبشارة لهم بأنهم لا يهلك منهم أحد قبل رؤية هذا الفتح.

١٤٨

وجملة (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) معترضة ، وهي مفيدة تذييل لجملة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) لأن تيسير الفتح لهم وما حصل لهم فيه من المغانم الكثيرة من أثر عزة الله التي لا يتعاصى عليها شيء صعب ، ومن أثر حكمته في ترتيب المسببات على أسبابها في حالة ليظن الرائي أنها لا تيسّر فيها أمثالها.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠))

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)

هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن قوله : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) [الفتح : ١٨ ، ١٩] إذ علم أنه فتح خيبر ، فحق لهم ولغيرهم أن يخطر ببالهم أن يترقبوا مغانم أخرى فكان هذا الكلام جوابا لهم ، أي لكم مغانم أخرى لا يحرم منها من تخلفوا عن الحديبية وهي المغانم التي حصلت في الفتوح المستقبلة.

فالخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين تبعا للخطاب الذي في قوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] وليس خاصا بالذين بايعوا. والوعد بالمغانم الكثيرة واقع في ما سبق نزوله من القرآن وعلى لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما بلغه إلى المسلمين في مقامات دعوته للجهاد. ووصف (مَغانِمَ) بجملة (تَأْخُذُونَها) لتحقيق الوعد.

وبناء على ما اخترناه من أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة يكون فعل (فَعَجَّلَ) مستعملا في الزمن المستقبل مجازا تنبيها على تحقيق وقوعه ، أي سيعجل لكم هذه. وإنما جعل نوالهم غنائم خيبر تعجيلا ، لقرب حصوله من وقت والوعد به. ويحتمل أن يكون تأخّر نزول هذه الآية إلى ما بعد فتح خيبر على أنها تكملة لآية الوعد التي قبلها ، وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بوضعها عقبها وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على أول هذه السورة ولكن هذا غير مروي.

والإشارة في قوله : (هذِهِ) إلى المغانم في قوله : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) [الفتح: ١٩] وأشير إليها على اختلاف الاعتبارين في استعمال فعل (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ).

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ).

امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية وهي نعمة السلم ،

١٤٩

أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين. ولما تهيأ لهم فتح خيبر ، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكّة لدحض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) [الفتح : ٢٥] الآية.

فالمراد ب (النَّاسِ) : أهل مكة جريا على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالبا.

وقيل : المراد كف أيدي الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان وكانوا أحلافا ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا.

وقيل : إن المشركين بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين في الحديبية فأسرهم المسلمون ، وهو ما سيجيء في قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) [الفتح : ٢٤]. وقيل : كفّ أيدي اليهود عنكم ، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية ، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ (النَّاسِ) في غالب مصطلح القرآن.

والكف : منع الفاعل من فعل أراده أو شرع فيه ، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعا باليد ، ويقال : كف يده عن كذا ، إذا منعه من تناوله بيده.

وأطلق الكف هنا مجازا على الصرف ، أي قدّر الله كف أيدي الناس عنكم بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر سواء نووه أو لم ينووه ، وإطلاق الفعل على تقديره كثير في القرآن حين لا يكون للتعبير عن المعاني الإلهية فعل مناسب له في كلام العرب ، فإن اللغة بينت على متعارف الناس مخاطباتهم وطرأت معظم المعاني الإلهية بمجيء القرآن فتغير عن الشأن الإلهي بأقرب الأفعال إلى معناه.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

الظاهر أن الواو عاطفة وأن ما بعد الواو علة كما تقتضي لام كي فتعين أنه تعليل لشيء مما ذكر قبله في اللفظ أو عطف على تعليل سبقه. فيجوز أن يكون معطوفا على بعض التعليلات المتقدمة من قوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] أو من قوله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥] وما بينهما اعتراضا وهو وإن طال فقد

١٥٠

اقتضته التنقلات المتناسبات. والمعنى أن الله أنزل السكينة في قلوب المؤمنين لمصالح لهم منها ازدياد إيمانهم واستحقاقهم الجنة وتكفير سيئاتهم واستحقاق المنافقين والمشركين العذاب ، ولتكون السكينة آية للمؤمنين ، أي عبرة لهم واستدلالا على لطف الله بهم وعلى أن وعده لا تأويل فيه.

ومعنى كون السكينة آية أنها سبب آية لأنهم لما نزلت السكينة في قلوبهم اطمأنت نفوسهم فخلصت إلى التدبر والاستدلال فبانت لها آيات الله فتأنيث ضمير الفعل لأن معاده السكينة. ويجوز أن يكون معطوفا على تعليل محذوف يثار من الكلام السابق ، حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن في تقديره توفيرا للمعنى. والتقدير : فعجّل لكم هذه لغايات وحكم ولتكون آية. فهو من ذكر الخاص بعد العام المقدر.

فالتقدير مثلا : ليحصل التعجيل لكم بنفع عوضا عما ترقبتموه من منافع قتال المشركين ، ولتكون هذه المغانم آية للمؤمنين منكم ومن يعرفون بها أنهم من الله بمكان عنايته وأنه موف لهم ما وعدهم وضامن لهم نصرهم الموعود كما ضمن لهم المغانم القريبة والنصر القريب. وتلك الآية تزيد المؤمنين قوة إيمان. وضمير (لِتَكُونَ) على هذه راجع إلى قوله : (هذِهِ) على أنها المعللة. ويجوز أن يكون الضمير للخصال التي دل عليها مجموع قوله : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) فيكون معنى قوله : (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لغايات جمة منها ما ذكر آنفا ومنها سلامة المسلمين في وقت هم أحوج فيه إلى استبقاء قوتهم منهم إلى قتال المشركين ادخارا للمستقبل.

وجعل صاحب «الكشاف» جملة (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) معترضة ، وعليه فالواو اعتراضية غير عاطفة وأن ضمير (لِتَكُونَ) عائدا إلى المرة من فعل كف : أي الكفة.

وعطف عليه (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو حكمة أخرى ، أي ليزول بذلك ما خامركم من الكآبة والحزن فتتجرد نفوسكم لإدراك الخير المحض الذي في أمر الصلح وإحالتكم على الوعد فتوقنوا أن ذلك هو الحق فتزدادوا يقينا. ويجوز أن يكون فعل (وَيَهْدِيَكُمْ) مستعملا في معنى الإدامة على الهدى وهو : الإيمان الحاصل لهم من قبل على حد قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦] على أحد تأويلين.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))

١٥١

هذا من عطف الجملة على الجملة فقوله : (أُخْرى) مبتدأ موصوف بجملة (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) والخبر قوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها).

ومجموع الجملة عطف على جملة (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) [الفتح : ٢٠] فلفظ (أُخْرى) صفة لموصوف محذوف دل عليه (مَغانِمَ) الذي في الجملة قبلها ، أي هي نوع آخر من المغانم صعبة المنال ، ومعنى المغانم يقتضي غانمين فعلم أنها لهم ، أي غير التي وعدهم الله بها ، أي هذه لم يعدهم الله بها ، ولم نجعل (وَأُخْرى) عطفا على قوله (هذِهِ) [الفتح : ٢٠] عطف المفرد على المفرد إذ ليس المراد غنيمة واحدة بل غنائم كثيرة.

ومعنى (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) : أنها موصوفة بعدم قدرتكم عليها ، فلما كانت جملة (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفة ل (أُخْرى) لم يقتض مدلول الجملة أنهم حاولوا الحصول عليها فلم يقدروا ، وإنّما المعنى : أن صفتها عدم قدرتكم عليها فلم تتعلّق أطماعكم بأخذها.

والإحاطة بالهمز : جعل الشيء حائطا أي حافظا ، فأصل همزته للجعل وصار بالاستعمال قاصرا ، ومعناه : احتوى عليه ولم يترك له منصرفا فول على شدة القدرة عليه قال تعالى : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦] أي إلا أن تغلبوا غلبا لا تستطيعون معه الإتيان به.

فالمعنى : أن الله قدر عليها ، أي قدر عليها فجعلها لكم بقرينة قوله قبله (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها). والمعنى : ومغانم أخرى لم تقدروا على نيلها قد قدر الله عليها ، أي فأنا لكم إيّاها.

وإلا لم يكن لإعلامهم بأن الله قدر على ما لم يقدروا عليه جدوى لأنهم لا يجهلون ذلك ، أي أحاط الله بها لأجلكم ، وفي معنى الإحاطة إيماء إلى أنها كالشيء المحاط به من جوانبه فلا يفوتهم مكانه ، جعلت كالمخبوء لهم. ولذلك ذيل بقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) إذ هو أمر مقرر في علمهم.

فعلم أن الآية أشارت إلى ثلاثة أنواع من المغانم : نوع من مغانم موعودة لهم قريبة الحصول وهي مغانم خيبر ، ونوع هو مغانم مرجوة كثيرة غير معين وقت حصولها ، ومنها مغانم يوم حنين وما بعده من الغزوات ، ونوع هو مغانم عظيمة لا يخطر ببالهم نوالها قد أعدها الله للمسلمين ولعلها مغانم بلاد الروم وبلاد الفرس وبلاد البربر. وفي الآية إيماء إلى أن هذا النوع الأخير لا يناله جميع المخاطبين لأنه لم يأت في ذكره بضميرهم ، وهو

١٥٢

الذي تأوله عمر في عدم قسمة سواد العراق وقرأ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠].

[٢٢ ، ٢٣] (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))

هذا عطف على قوله : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) [الفتح : ٢٠] على أن بعضه متعلق بالمعطوف عليه ، وبعضه معطوف على المعطوف عليه فما بينهما ليس من الاعتراض.

والمقصود من هذا العطف التنبيه على أن كف أيدي الناس عنهم نعمة على المسلمين باستبقاء قوتهم وعدتهم ونشاطهم. وليس الكف لدفع غلبة المشركين إياهم لأن الله قدّر للمسلمين عاقبة النصر فلو قاتلهم الذين كفروا لهزمهم المسلمون ولم يجدوا نصيرا ، أي لم ينتصروا بجمعهم ولا بمن يعينهم.

والمراد بالذين كفروا ما أريد بالناس في قوله : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ). وكان مقتضى الظاهر الإتيان بضمير الناس بأن يقال : ولو قاتلوكم ، فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أن الكفر هو سبب تولية الإدبار في قتالهم للمسلمين تمهيدا لقوله : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ).

و (الْأَدْبارَ) منصوب على أنه مفعول ثان لولوا ومفعوله الأول محذوف لدلالة ضمير (قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) عليه. والتقدير : لولوكم الأدبار.

وأل للعهد ، أي أدبارهم ، ولذلك يقول كثير من النحاة إن أل في مثله عوض عن المضاف إليه وهو تعويض معنوي.

والتولية : جعل الشيء واليا ، أي لجعلوا ظهورهم تليكم ، أي ارتدوا إلى ورائهم فصرتم وراءهم.

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فإن عدم وجدان الولي والنصير أشد على المنهزم من انهزامه لأن حين ينهزم قد يكون له أمل بأن يستنصر من ينجده فيكرّ به على الذين هزموه فإذا لم يجد وليا ولا نصيرا تحقق أنه غير منتصر وأصل الكلام لولوا الأدبار وما وجدوا وليا ولا نصيرا.

والولي : الموالي والصديق ، وهو أعم من النصير إذ قد يكون الولي غير قادر على

١٥٣

إيواء وليه وإسعافه.

والسنة : الطريقة والعادة. وانتصب (سُنَّةَ اللهِ) نيابة عن المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة معنى تأكيد الفعل المحذوف. والمعنى : سن الله ذلك سنة ، أي جعله عادة له ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] وقال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، أي أنّ الله ضمن النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرا وإن كانوا قد يغلبون في بعض المواقع كما وقع يوم أحد وقد قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣] وقال : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢].

وإنما يكون كمال النصر على حسب ضرورة المؤمنين وعلى حسب الإيمان والتقوى ، ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه فيكون النصر تاما في حالة الخطر كما كان يوم بدر ، ويكون سجالا في حالة السعة كما في وقعة أحد وقد دل على ذلك قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وقال الله تعالى : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، ويكون لمن بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جيوش المسلمين على حسب تمسكهم بوصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ففي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال : فيكم من صحب النبي؟ فيقال : نعم ، فيفتح عليه ، ثم يأتي زمان فيقال : فيكم من صحب أصحاب النبي؟ فيقال : نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال : فيكم من صحب من صاحب النبي؟ فيقال : نعم فيفتح».

ومعنى (خَلَتْ) مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل ، والمضاف إليه (قَبْلُ) محذوف نوى معناه دون لفظه ، أي ليس في الكلام دال على لفظه ولكن يدل عليه معنى الكلام ، فلذلك بني (قَبْلُ) على الضم. وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها.

والمعنى : أن ذلك سنة الله مع الرسل قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١].

ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميما للأزمنة بقوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور وإخبار الله تعالى به على لسان رسله وأنبيائه يدل على أن الله أراد

١٥٤

تأييد أحزابه فيعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله تعالى.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

عطف على جملة (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) [الفتح : ٢٠] وهذا كفّ غير الكف المراد من قوله : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ).

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص ، أي القصر ، أي لم يكفّهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى ، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدّر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال ، فكفّ أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعفو عنهم ويطلقهم.

وتقدم الكلام على معنى (كَفَ) في قوله آنفا (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ). والمعنى : أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم ، وهي منّة ثانية مثل المنة المذكورة في قوله : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ).

وهذه الآية أشارت إلى كف عن القتال يسّره الله رفقا بالمسلمين وإبقاء على قوتهم في وقت حاجتهم إلى ذلك بعد وقعة بدر ووقعة أحد ، واتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية. وهذا يشير إلى ما روي من طرق مختلفة وبعضها في سنن الترمذي وقال : هو حديث صحيح ، وفي بعضها زيادة على بعض «أن جمعا من المشركين يقدر بستة أو باثني عشر أو بثلاثين أو سبعين أو ثمانين مسلحين نزلوا إلى الحديبية يريدون أن يأخذوا المسلمين على غرة ففطن لهم المسلمون فأخذوهم دون حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإطلاقهم» وكان ذلك أيام كان السفراء يمشون بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل مكة ولعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطلقهم تجنبا لما يعكر صفو الصلح.

وضمائر الغيبة راجعة للذين كفروا في قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الفتح : ٢٢] ووجه عوده إليه مع أن الذين كف الله أيديهم فريق غير الفريق الذي في قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو أن عرف كلام العرب جار على أن ما يصدر من بعض القوم ينسب إلى

١٥٥

القوم بدون تمييز كما تقدم في سورة البقرة [٦٣] في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ).

وقوله : (بِبَطْنِ مَكَّةَ) ظاهر كلام الأساس : أن حقيقة البطن جوف الإنسان والحيوان وأن استعماله في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط مجاز ، قال الراغب : ويقال للجهة السفلى بطن ، وللعليا ظهر. ويقال : بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به وسط المكان كما في قول كعب بن زهير :

في فتية من قريش قال قائلهم

ببطن مكة لما أسلموا زولوا

أي في وسط البلد الحرام فإن قائل : زولوا ، هو عمر بن الخطاب أو حمزة بن عبد المطلب ، غير أن محمل ذلك في هذه الآية غير بيّن لأنه لا يعرف وقوع اختلاط بين المسلمين والمشركين في وسط مكة يفضي إلى القتال حتى يمتنّ عليهم بكف أيدي بعضهم عن بعض وكل ما وقع مما قد يفضي إلى القتال فإنما وقع في الحديبيّة. فجمهور المفسّرين حملوا بطن مكة في الآية على الحديبيّة من إطلاق البطن على أسفل المكان ، والحديبيّة قريبة من مكة وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب وتعرف اليوم باسم الشميسي ، وجعلوا الآية تشير إلى القصة المذكورة في «جامع الترمذي» وغيره بروايات مختلفة وهي ما قدمناه آنفا. ومنهم من زاد في تلك القصّة : أن جيش المسلمين اتبعوا العدوّ إلى أن دخلوا بيوت مكة وقتلوا منهم وأسروا فيكون بطن مكة محمولا على مشهور استعماله ، وهذا خبر مضطرب ومناف لظاهر قوله : (كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ). ومنهم من أبعد المحمل فجعل الآية نازلة في فتح مكة وهذا لا يناسب سياق السورة ويخالف كلام السلف من المفسّرين وهم أعلم بالمقصود ، هذا كلّه بناء على أن الباء في قوله : (بِبَطْنِ مَكَّةَ) متعلقة بفعل (كَفَ) ، أي كان الكف في بطن مكة.

ويجوز عندي أن يكون (بِبَطْنِ مَكَّةَ) ظرفا مستقرّا هو حال من ضميري (عَنْكُمْ) و (عَنْهُمْ) وهو حال مقدرة ، أي لو كنتم ببطن مكة ، أي لو لم يقع الصلح فدخلتم محاربين كما رغب المسلمون الذين كرهوا الصلح كما تقدم فيكون إطلاق (بِبَطْنِ مَكَّةَ) جاريا على الاستعمال الشائع ، أي في وسط مدينة مكة. ولهذا أوثرت مادة الظفر في قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) دون أن يقال : من بعد أن نصركم عليهم ، لأن الظفر هو الفوز بالمطلوب فلا يقتضي وجود قتال فالظفر أعم من النصر ، أي من بعد أن أنالكم ما فيه نفعكم وهو هدنة الصلح وأن تعودوا إلى العمرة في العام القابل.

١٥٦

ومناسبة تعريف ذلك المكان بهذه الإضافة الإشارة إلى أن جمع المشركين نزلوا من أرض الحرم المكي إذ نزلوا من جبل التنعيم وهو من الحرم وكانوا أنصارا لأهل مكة.

ويتعلّق قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) بفعل (كَفَ) باعتبار تعديته إلى المعطوف على مفعوله ، أعني : (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) لأنه هو الكف الذي حصل بعد ظفر المسلمين بفئة المشركين على حسب تلك الرواية والقرينة ظاهرة من قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ). وهذا إشارة إلى أن كف أيدي بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذا منّوا على العدوّ بعد التمكن منه. فعدي (أَظْفَرَكُمْ) ب (على) لتضمينه معنى أيّدكم وإلا فحقه أن يعدى بالباء.

وجملة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) تذييل للتي قبلها ، والبصير بمعنى العليم بالمرئيّات ، أي عليما بعملكم حين أحطتم بهم وسقتموهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تظنون أنكم قاتلوهم أو آسروهم.

وقرأ الجمهور (تَعْمَلُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ، أي عليما بما يعملون من انحدارهم على غرة منكم طامعين أن يتمكنوا من أن يغلبوكم وفي كلتا القراءتين اكتفاء ، أي كان الله بما تعملون ويعملون بصيرا ، أو بما يعملون وتعملون بصيرا ، لأن قوله : (كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) يفيد عملا لكل فريق ، أي علم نواياكم فكفها لحكمة استبقاء قوتكم وحسن سمعتكم بين قبائل العرب وأن لا يجد المشركون ذريعة إلى التظلم منكم بالباطل.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضى الله تعالى وجزائه ثواب الآخرة وخير الدنيا عاجله وآجله ، وضمان النصر لهم في قتال المشركين ، وما هيّأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي صد المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ به إلى أهله ، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون ، وهم

١٥٧

يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظّميه ، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان ، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية.

وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) [الفتح : ٢٢] الآية. والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عثرة هو البطن المحامي.

والمقصود من الصلة هو جملة (صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وذكر (الَّذِينَ كَفَرُوا) إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر ولهذا الإدماج نكتة أيضا ، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله.

والهدي : ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال تعالى : (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧] أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع.

والمعكوف : اسم مفعول عكفه ، إذ ألزمه المكث في مكان ، يقال : عكفه فعكف فيستعمل قاصرا ومتعديا عن ابن سيده وغيره كما يقال : رجعه فرجع وجبره فجبر. وقال أبو علي الفارسي : لا أعرف عكف متعديا ، وتأول صيغة المفعول في قوله تعالى : (مَعْكُوفاً) على أنها لتضمين عكف معنى حبس. وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطرّ المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله ، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة.

ومعنى صدهم الهدي : أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى. وليس المراد : أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لتنحر بها.

وقوله : (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أن يكون بدل اشتمال من (الْهَدْيَ) ويجوز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو (عن) ، أي عن أن يبلغ محله.

١٥٨

والمحلّ بكسر الحاء : محلّ الحل مشتق من فعل حلّ ضد حرم ، أي المكان الذي يحلّ فيه نحر الهدي ، وهو الذي لا يجزئ غيره ، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر ، ولذلك لما أحصروا أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك. ولم يثبت في السنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بتوخّي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية ، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصر.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

أتبع النعي على المشركين سوء فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وعده المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة ، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم ، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح ، فبيّن أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفا من قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) [الفتح : ٢٢] أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لمّا صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم ، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم ، فالجملة معطوفة على جملة (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أو على جملة (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) [الفتح : ٢٤] إلخ. وأيّا ما كان فهي كلام معترض بين جملة (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلخ وبين جملة (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) [الفتح : ٢٦]. ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته.

و (لَوْ لا) دالة على امتناع لوجود ، أي امتنع تعذيبنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم. وما بعد (لَوْ لا) مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع (لَوْ لا) إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجودا مطلقا غير مقيد بحال ، فالتقدير : ولو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون ، كما يدل عليه قوله بعده (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم ، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب (لَوْ لا).

وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول

١٥٩

مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه ، ولكن الامتناع ليس معلقا على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم. وكذلك قوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) ليس هو خبرا بل وصفا ثانيا إذ ليس محط الفائدة.

ووجه عطف (نِساءٌ مُؤْمِناتٌ) مع أن وجود (رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول : ولو لا المؤمنون ، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالبا ، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاء المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن.

ومعنى (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لم تعملوا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا.

فعن جنبذ ـ بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة ـ بن سبع ـ بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة ، ويقال : سباع بكسر السين يقال : إنه أنصاري ، ويقال : قاري صاحبي قال : هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة وأبو جندل بن سهيل وأبو بصير القرشي ـ ولم أقف على اسم السابع ـ وعدّت أمّ الفضل زوج العباس بن عبد المطلب ، وأحسب أن ثانيتهما أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي لحقت بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن رجع إلى المدينة. وعن حجر بن خلف : ثلاثة رجال وتسع نسوة ، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين. والظاهر أن المراد بقوله : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم ، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبيّة من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم فلا يعرفون من كان منهم مؤمنا إن كان يعرفهم المهاجرون ، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان ، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار.

و (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال من (رِجالٌ) ومعطوفه ، أو من الضمير المنصوب في (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي لو لا أن تطئوهم.

والوطء : الدوس بالرجل ، ويستعار للإبادة والإهلاك ، وقد جمعهما الحارث بن وعلة الذهلي في قوله :

١٦٠