تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

عبد الله بن مغفل فالتأكيد مصروف للسامعين على طريقة التعريض ، وأما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كان واثقا بذلك ، وسيأتي تبيين هذا التأكيد قريبا.

والفتح : إزالة غلق الباب أو الخزانة قال تعالى : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) [الأعراف : ٤٠] ويطلق على النصر وعلى دخول الغازي بلاد عدوّه لأن أرض كل قوم وبلادهم مواقع عنها فاقتحام الغازي إياها بعد الحرب يشبه إزالة الغلق عن البيت أو الخزانة ، ولذلك كثر إطلاق الفتح على النصر المقترن بدخول أرض المغلوب أو بلده ولم يطلق على انتصار كانت نهايته غنيمة وأسر دون اقتحام أرض فيقال : فتح خيبر وفتح مكة ولا يقال : فتح بدر. وفتح أحد. فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح ، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) في سورة الصف [١٣]. ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه. وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الآية سورة الم السجدة [٢٨].

ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين : المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح. والمعنى : سنفتح. وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه ، شبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي. أو نقول استعمل (فَتَحْنا) بمعنى : قدّرنا لك الفتح ، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع. وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره ، وذلك أيضا كناية عن علو شأن المخبر مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١].

وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيها له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله : ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد ، وعن البراء بن عازب «تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية» ، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح. ويؤيد هذا المحمل حديث عبد الله بن مغفّل

١٢١

«قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح» ، وفي رواية «دخل مكة وهو يقرأ سورة الفتح على راحلته».

على أن قرائن كثيرة ترجح أن يكون المراد بالفتح المذكور في سورة الفتح : أولاها أنّه جعله مبينا.

الثّانية : أنه جعل علّته (النصر العزيز) الثانية ، ولا يكون الشيء علّة لنفسه.

الثالثة : قوله (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ١٨].

الرّابعة : قوله : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) [الفتح : ١٩].

الخامسة : قوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ٢٧].

والجمهور على أن المراد في سورة الفتح هو صلح الحديبية ، وجعلوا إطلاق اسم الفتح عليه مجازا مرسلا باعتبار أنه آل إلى فتح خيبر وفتح مكة ، أو كان سببا فيهما فعن الزهري «لقد كان يوم الحديبية أعظم الفتوح ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة فلما وقع صلح مشي الناس بعضهم في بعض ، أي تفرقوا في البلاد فدخل بعضهم أرض بعض من أجل الأمن بينهم ، وعلموا وسمعوا عن الله فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكّة في عشرة آلاف» ا ه ، وفي رواية «فلما كانت الهدنة أمن الناس بعضهم بعضا فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يكلّم أحد يعقل بالإسلام إلا دخل فيه». وعلى هذا فالمجاز في إطلاق مادة الفتح على سببه ومآله لا في صورة الفعل ، أي التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي لأنه بهذا الاعتبار المجازي قد وقع فيما مضي فيكون اسم الفتح استعمل استعمال المشترك في معنييه ، وصيغة الماضي استعملت في معنييها فيظهر وجه الإعجاز في إيثار هذا التركيب. وقيل : هو فتح خيبر الواقع عند الرجوع من الحديبية كما يجىء في قوله : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) [الفتح : ١٥].

وعلى هذه المحامل فتأكيد الكلام ب (إن) لما في حصول ذلك من تردد بعض المسلمين أو تساؤلهم ، فعن عمر أنه لما نزلت (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : «أو فتح هو يا رسول الله؟ قال : نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح». وروى البيهقي عن عروة بن الزبير قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله ما هذا بفتح صددنا عن البيت وصدّ هدينا. فبلغ ذلك رسول الله فقال : بئس الكلام

١٢٢

هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا ولقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون. فقال المسلمون : صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا».

وحذف مفعول (فَتَحْنا) لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص.

واللام في قوله : (فَتَحْنا لَكَ) لام العلة ، أي فتحنا لأجلك فتحا عظيما مثل التي في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافا للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة.

وقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) بدل اشتمال من ضمير (لَكَ). والتقدير : إنا فتحنا فتحا مبينا لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك ، وهدايتك صراطا مستقيما ونصرك نصرا عزيزا ... وجعلت مغفرة الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح ، وليست لام التعليل مقتضية حصر الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة ، فإن كثيرا من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها ممّا يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه تعالى كان من علته أن يغفر الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفرة عامة إتماما للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح.

فالمعنى : أن الله جعل عند حصول هذا الفتح غفران جميع ما قد يؤاخذ الله على مثله رسله حتى لا يبقى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يقصر به عن بلوغ نهاية الفضل بين المخلوقات. فجعل هذه المغفرة جزاء له على إتمام أعماله التي أرسل لأجلها من التبليغ والجهاد والنصب والرغبة إلى الله. فلما كان الفتح حاصلا بسعيه وتسببه بتيسير الله له ذلك جعل الله جزاءه غفران ذنوبه بعظم أثر ذلك الفتح بإزاحة الشرك وعلوّ كلمة الله تعالى وتكميل النفوس وتزكيتها بالإيمان وصالح الأعمال حتى ينتشر الخير بانتشار الدين ويصير الصلاح خلقا للناس يقتدي فيه بعضهم ببعض وكل هذا إنما يناسب فتح مكة وهذا هو ما تضمنته

١٢٣

سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) من قوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ١ ـ ٣] أي إنه حينئذ قد غفر لك أعظم مغفرة وهي المغفرة التي تليق بأعظم من تاب على تائب ، وليست إلا مغفرة جميع الذنوب سابقها وما عسى أن يأتي منها مما يعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذنبا لشدة الخشية من أقل التقصير كما يقال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما من أن يأتي بعدها بما يؤاخذ عليه. وقال ابن عطية : وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب ، ولهذا المعنى اللّطيف الجليل كانت سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) مؤذنة باقتراب أجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس ، وقد روي ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال : تقدم السائر في سيره على الركب ، ويقال : تقدم نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم وتأخّر. وقد يترك ذلك اعتمادا على القرينة ، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلّق فينزّل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات وأكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢]. والمراد ب (ما تَقَدَّمَ) : تعميم المغفرة للذنب كقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [البقرة : ٢٥٥] ، فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه تعالى رفع قدره رفعة عدم المؤاخذة بذنب لو قدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) في سورة القتال [٥٥].

وإنما أسند فعل (لِيَغْفِرَ) إلى اسم الجلالة العلم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصدا للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أنف لم يكن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ) لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما.

وإتمام النعمة : إعطاء ما لم يكن أعطاه إياه من أنواع النعمة مثل إسلام قريش وخلاص بلاد الحجاز كلّها للدخول تحت حكمه ، وخضوع من عانده وحاربه ، وهذا ينظر

١٢٤

إلى قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فذلك ما وعد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية وحصل بعد سنين.

ومعنى (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : يزيدك هديا لم يسبق وذلك بالتوسيع في بيان الشريعة والتعريف بما لم يسبق تعريفه به منها ، فالهداية إلى الصراط المستقيم ثابتة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقت بعثته ولكنها تزداد بزيادة بيان الشريعة وبسعة بلاد الإسلام وكثرة المسلمين مما يدعو إلى سلوك طرائق كثيرة في إرشادهم وسياستهم وحماية أوطانهم ودفع أعدائهم ، فهذه الهداية متجمعة من الثبات على ما سبق هديه إليه ، ومن الهداية إلى ما لم يسبق إليه وكل ذلك من الهداية.

والصراط المستقيم : مستعار للدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة. وتنوين (صِراطاً) للتعظيم. وانتصب (صِراطاً) على أنه مفعول ثان ليهدي بتضمين معنى الإعطاء ، أو بنزع الخافض كما تقدّم في الفاتحة.

والنصر العزيز : غير نصر الفتح المذكور لأنه جعل علة الفتح فهو ما كان من فتح مكة وما عقبه من دخول قبائل العرب في الإسلام بدون قتال. وبعثهم الوفود إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتلقوا أحكام الإسلام ويعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم. ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنصور ، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معديكرب :

آمن ريحانة الداعي السميع

أي المسمع ، وكالحكيم على أحد تأويلين.

والعزة : المنعة.

وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) ولم يكتف بالضمير اهتماما بهذا النصر وتشريعا له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر والصراحة أدعى إلى السمع ، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ).

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ)

١٢٥

هذه الجملة بدل اشتمال من مضمون جملة (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) [الفتح : ٣]. وحصل منها الانتقال إلى ذكر حظ المسلمين من هذا الفتح فإن المؤمنين هم جنود الله الذين قد نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢] فكان في ذكر عناية الله بإصلاح نفوسهم وإذهاب خواطر الشيطان عنهم وإلهامهم إلى الحق في ثبات عزمهم ، وقرارة إيمانهم تكوين لأسباب نصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والفتح الموعود به ليندفعوا حين يستنفرهم إلى العدوّ بقلوب ثابتة ، ألا ترى أن المؤمنين تبلبلت نفوسهم من صلح الحديبية إذا انصرفوا عقبه عن دخول مكة بعد أن جاءوا للعمرة بعدد عديد حسبوه لا يغلب ، وأنهم إن أرادهم العدوّ بسوء أو صدهم عن قصدهم قابلوه فانتصروا عليه وأنهم يدخلون مكة قسرا. وقد تكلموا في تسمية ما حلّ بهم يومئذ فتحا كما علمت مما تقدم فلما بين لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه من الخير اطمأنت نفوسهم بعد الاضطراب ورسخ يقينهم بعد خواطر الشك فلولا ذلك الاطمئنان والرسوخ لبقوا كاسفي البال شديدي البلبال ، فذلك الاطمئنان هو الذي سماه الله بالسكينة ، وسمّي إحداثه في نفوسهم إنزالا للسكينة في قلوبهم فكان النصر مشتملا على أشياء من أهمها إنزال السكينة ، وكان إنزال السكينة بالنسبة إلى هذا النصر نظير التأليف بين قلوب المؤمنين مع اختلاف قبائلهم وما كان بينهما من الأمن في الجاهلية بالنسبة للنصر الذي في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال : ٦٢ ، ٦٣].

وإنزالها : إيقاعها في العقل والنفس وخلق أسبابها الجوهرية والعارضة ، وأطلق على ذلك الإيقاع فعل الإنزال تشريفا لذلك الوجدان بأنه كالشيء الذي هو مكان مرتفع فوق الناس فألقي إلى قلوب الناس ، وتلك رفعة تخييلية مراد بها شرف ما أثبتت له على طريقة التخييلية. ولما كان من عواقب تلك السكينة أنها كانت سببا لزوال ما يلقيه الشيطان في نفوسهم من التأويل لوعد الله إياهم بالنصر على غير ظاهره ، وحمله على النصر المعنوي لاستبعادهم أن يكون ذلك فتحا ، فلما أنزل الله عليهم السكينة اطمأنت نفوسهم ، فزال ما خامرها وأيقنوا أنه وعد الله وأنه واقع فانقشع عنهم ما يوشك أن يشكك بعضهم فيلتحق بالمنافقين الظانين بالله ظن السوء فإن زيادة الأدلة تؤثر رسوخ المستدلّ عليه في العقل وقوة التصديق. وهذا اصطلاح شائع في القرآن وجعل ذلك الازدياد كالعلّة لإنزال السكينة في قلوبهم لأن الله علم أن السكينة إذ حصلت في قلوبهم رسخ إيمانهم ، فعومل المعلوم حصوله من الفعل معاملة العلة وأدخل عليه حرف التعليل وهو لام ـ كي ـ وجعلت قوة الإيمان بمنزلة إيمان آخر دخل على الإيمان الأسبق لأن الواحد من أفراد الجنس إذا انضم

١٢٦

إلى أفراد أخر زادها قوة فلذلك علق بالإيمان ظرف (مَعَ) في قوله : (مَعَ إِيمانِهِمْ) فكان في ذلك الحادث خير عظيم لهم كما كان فيه خير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن كان سببا لتشريفه بالمغفرة العامة ولإتمام النعمة عليه ولهدايته صراطا مستقيما ولنصره نصرا عزيزا ، فأعظم به حدثا أعقب هذا الخير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

تذييل للكلام السابق لأنه أفاد أن لا عجب في أن يفتح الله لك فتحا عظيما وينصرك على أقوام كثيرين أشداء نصرا صحبه إنزال السكينة في قلوب المؤمنين بعد أن خامرهم الفشل وانكسار الخواطر ، فالله من يملك جميع وسائل النصر وله القوة القاهرة في السماوات والأرض وما هذا نصر إلا بعض مما لله من القوة والقهر.

والواو اعتراضية وجملة التذييل معترضة بين جملة (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) وبين متعلقها وهو (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥] الآية.

وأطلق على أسباب النصر الجنود تشبيها لأسباب النصر بالجنود التي تقاتل وتنتصر.

وفي تعقيب جملة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بجملة التذييل إشارة إلى أن المؤمنين من جنود الله وأن إنزال السكينة في قلوبهم تشديد لعزائمهم فتخصيصهم بالذكر قبل هذا العموم وبعده تنويه بشأنهم ، ويومئ إلى ذلك قوله بعد (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) الآية.

فمن جنود السماوات : الملائكة الذين أنزلوا يوم بدر ، والريح التي أرسلت على العدوّ يوم الأحزاب ، والمطر الذي أنزل يوم بدر فثبت الله به أقدام المسلمين. ومن جنود الأرض جيوش المؤمنين وعديد القبائل الذين جاءوا مؤمنين مقاتلين مع النبي صلى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة مثل بني سليم ، ووفود القبائل الذين جاءوا مؤمنين طائعين دون قتال في سنة الوفود.

والجنود : جمع جند ، والجند اسم لجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمعه باعتبار تعدد الجماعات لأن الجيش يتألف من جنود : مقدمة وميمنة وميسرة وقلب وساقة.

وتقديم المسند على المسند إليه في (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لإفادة الحصر ، وهو حصر ادعائي إذ لا اعتداد بما يجمعه الملوك والفاتحون من الجنود لغلبة العدوّ بالنسبة لما لله من الغلبة لأعدائه والنصر لأوليائه. وجملة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) تذييل لما قبله من الفتح والنصر وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين.

١٢٧

والمعنى : أنه عليم بأسباب الفتح والنصر وعليم بما تطمئن به قلوب المؤمنين بعد البلبلة وأنه حكيم يضع مقتضيات علمه في مواضعها المناسبة وأوقاتها الملائمة.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

اللام للتعليل متعلقة بفعل (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] فما بعد اللام علة لعلة إنزال السكينة فتكون علة لإنزال السكينة أيضا بواسطة أنه علة العلة.

وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع توهم أن يكون الوعد بهذا الإدخال مختصا بالرجال. وإذ كانت صيغة الجمع صيغة المذكر مع ما قد يؤكد هذا التوهم من وقوعه علة أو علة علة للفتح وللنصر وللجنود وكلها من ملابسات الذكور ، وإنما كان للمؤمنات حظ في ذلك لأنهن لا يخلون من مشاركة في تلك الشدائد ممن يقمن منهن على المرضى والجرحى وسقي الجيش وقت القتال ومن صبر بعضهنّ على الثّكل أو التأيّم ، ومن صبرهن على غيبة الأزواج والأبناء وذوي القرابة. والإشارة في قوله (وَكانَ ذلِكَ) إلى المذكور من إدخال الله إياهم الجنة.

والمراد بإدخالهم الجنة إدخال خاص وهو إدخالهم منازل المجاهدين وليس هو الإدخال الذي استحقوه بالإيمان وصالح الأعمال الأخرى. ولذلك عطف عليه (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

والفوز : مصدر ، وهو الظفر بالخير والنجاح. و (عِنْدَ اللهِ) متعلّق ب (فَوْزاً) ، أي فازوا عند الله بمعنى : لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦))

الحديث عن جنود الله في معرض ذكر نصر الله يقتضي لا محالة فريقا مهزوما بتلك الجنود وهم العدو ، فإذا كان النصر الذي قدره الله معلولا بما بشر به المؤمنين فلا جرم اقتضى أنه معلول بما يسوء العدوّ وحزبه ، فذكر الله من علة ذلك النصر أنّه يعذّب بسببه المنافقين حزب العدو ، والمشركين صميم العدوّ ، فكان قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) معطوفا

١٢٨

على (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥].

والمراد : تعذيب خاص زائد على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب الكفر والنفاق وقد أومأ إلى ذلك قوله بعده (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ).

والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفيّ فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه.

كان المنافقون لم يخرج منهم أحد إلى فتح مكة ولا إلى عمرة القضية لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين مظاهرين لهم ولأنهم كانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة وأنه يكون النصر للمشركين.

والتعذيب : إيصال العذاب إليهم وذلك صادق بعذاب الدنيا بالسيف كما قال تعالى:(يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤] وقال : (يا أَيُّهَا) النبي (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] ، وبالوجل ، وحذر الافتضاح ، وبالكمد من رؤية المؤمنين منصورين سالمين قال تعالى : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) [آل عمران : ١١٩] وقال : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة : ٥٠] وصادق بعذاب الآخرة وهو ما خص بالذكر في آخر الآية بقوله : (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ).

وعطف (الْمُنافِقاتِ) نظير عطف (الْمُؤْمِناتِ) [الفتح : ٥] المتقدم لأن نساء المنافقين يشاركنهم في أسرارهم ويحضون ما يبيتونه من الكيد ويهيئون لهم إيواء المشركين إذا زاروهم.

وقوله : (الظَّانِّينَ) صفة للمذكورين من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات فإن حق الصفة الواردة بعد متعدد أن تعود إلى جميعه ما لم يكن مانع لفظي أو معنوي.

والسّوء بفتح السين في قوله : (ظَنَّ السَّوْءِ) في قراءة جميع العشرة ، وأما في قولهم (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) فهو في قراءة الجمهور بالفتح أيضا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بضمّ السّين. والمفتوح والمضموم مترادفان في أصل اللغة ومعناهما المكروه ضد السرور ، فهما لغتان مثل : الكره والكره ، الضّعف والضعف ، والضّر والضّر ، والبأس والبؤس. هذا عن الكسائي وتبعه الزمخشري وبينه الجوهري بأن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر ، إلا أن الاستعمال غلب المفتوح في أن يقع وصفا لمذموم مضافا إليه موصوفه كما وقع في هذه الآية وفي قوله : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) في سورة براءة [٩٨] ، وغلب المضموم في معنى الشيء الذي هو بذاته شرّ. فإضافة الظن إلى السوء

١٢٩

من إضافة الموصوف إلى الصفة.

والمراد : ظنهم بالله أنهم لم يعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولا يقدر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصر لقلة أتباعه وعزة أعدائه ، فهذا ظن سوء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا المناسب لقراءته بالفتح.

وأمّا (دائِرَةُ السَّوْءِ) في قراءة الجمهور فهي الدائرة التي تسوء أولئك الظانين بقرينة قوله : (عَلَيْهِمْ) ، ولا التفات إلى كونها محمودة عند المؤمنين إذ ليس المقام لبيان ذلك والإضافة مثل إضافة (ظَنَّ السَّوْءِ) ، وأما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فإضافة (دائِرَةُ) المضموم من إضافة الأسماء ، أي الدائرة المختصة بالسوء والملازمة له لا من إضافة الموصوف. وليس في قراءتهما خصوصية زائدة على قراءة الجمهور ولكنها جمعت بين الاستعمالين ففتح السوء الأول متعيّن وضم الثاني جائز وليس براجح والاختلاف اختلاف في الرواية.

وجملة (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء أو وعيد ، ولذلك جاءت بالاسمية لصلوحيتها لذلك بخلاف جملة (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ) فإنها إخبار عما جنوه من سوء فعلهم فالتعبير بالماضي منه أظهر.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

هذا نظير ما تقدم آنفا إلا أن هذا أوثر بصفة عزيز دون عليم لأن المقصود من ذكر الجنود هنا الإنذار والوعيد بهزائم تحل بالمنافقين والمشركين فكما ذكر (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيما تقدم للإشارة إلى أنّ نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون بجنود المؤمنين وغيرهما ذكر ما هنا للوعيد بالهزيمة فمناسبة صفة عزيز ، أي لا يغلبه غالب.

[٨ ، ٩] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

لما أريد الانتقال من الوعد بالفتح والنصر وما اقتضاه ذلك مما اتصل به ذكره إلى تبيين ما جرى في حادثة الحديبية وإبلاغ كل ذي حظ من تلك القضية نصيبه المستحق ثناء أو غيره صدر ذلك بذكر مراد الله من إرسال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون ذلك كالمقدمة للقصة وذكرت حكمة الله تعالى في إرساله ما له مزيد اختصاص بالواقعة المتحدث عنها ، فذكرت

١٣٠

أوصاف ثلاثة هي : شاهد ، ومبشر ، ونذير. وقدم منها وصف الشاهد لأنه يتفرع عنه الوصفان بعده.

فالشاهد : المخبر بتصديق أحد أو تكذيبه فيما ادعاه أو ادعي به عليه وتقدم في قوله: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١] وقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) في سورة البقرة [١٤٣].

فالمعنى : أرسلناك في حال أنك تشهد على الأمة بالتبليغ بحيث لا يعذر المخالفون عن شريعتك فيما خالفوا فيه ، وتشهد على الأمم وهذه الشهادة حاصلة في الدنيا وفي يوم القيامة ، فانتصب (شاهِداً) على أنه حال ، وهو حال مقارنة ويترتّب على التبليغ الذي سيشهد به أنه مبشر للمطيعين ونذير للعاصين على مراتب العصيان. والكلام استئناف ابتدائي وتأكيده بحرف التأكيد للاهتمام.

وقوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). قرأ الجمهور الأفعال الأربعة (لِتُؤْمِنُوا وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) بالمثناة الفوقية في الأفعال الأربعة فيجوز أن تكون اللام في (لِتُؤْمِنُوا) لام كي مفيدة للتعليل ومتعلقة بفعل (أَرْسَلْناكَ).

والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أمة الدعوة ، أي لتؤمن أنت والذين أرسلت إليهم شاهدا ومبشرا ونذيرا ، والمقصود الإيمان بالله. وأقحم (وَرَسُولِهِ) لأن الخطاب شامل للأمّة وهم مأمورون بالإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بأن يؤمن بأنه رسول الله ولذلك كان يقول في تشهده : «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» وقال يوم حنين : «أشهد أني عبد الله ورسوله». وصحّ أنه كان يتابع قول المؤذن «أشهد أن محمدا رسول الله». ويجوز أن يكون الخطاب للناس خاصة ولا إشكال في عطف (وَرَسُولِهِ). ويجوز أن يكون الكلام قد انتهى عند قوله (وَنَذِيراً) وتكون جملة (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) إلخ جملة معترضة ، ويكون اللام في قوله (لِتُؤْمِنُوا) لام الأمر وتكون الجملة استئنافا للأمر كما في قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) في سورة الحديد [٧].

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة فيها ، والضمائر عائدة إلى معلوم من السياق لأن الشهادة والتبشير والنذارة متعينة للتعلق بمقدّر ، أي شاهدا على الناس ومبشرا ونذيرا لهم ليؤمنوا بالله إلخ.

١٣١

والتعزيز : النصر والتأييد ، وتعزيزهم الله كقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) [محمد : ٧].

والتوقير : التعظيم. والتسبيح : الكلام الذي يدل على تنزيه الله تعالى عن كل النقائص.

وضمائر الغيبة المنصوبة الثلاثة عائدة إلى اسم الجلالة لأن إفراد الضمائر مع كونالمذكور قبلها اسمين دليل على أن المراد أحدهما. والقرينة على تعيين المراد ذكر (وَتُسَبِّحُوهُ) ، ولأن عطف (وَرَسُولِهِ) على لفظ الجلالة اعتداد بأن الإيمان بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان بالله فالمقصود هو الإيمان بالله. ومن أجل ذلك قال ابن عباس في بعض الروايات عنه : إن ضمير (تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) عائد إلى (رَسُولِهِ).

والبكرة : أول النهار. والأصيل : آخره ، وهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح والإكثار منه ، كما يقال : شرقا وغربا لاستيعاب الجهات. وقيل التسبيح هنا : كناية عن الصلوات الواجبة والقول في (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) هو هو.

وقد وقع في سورة الأحزاب نظير هذه الآية وهو قوله : يا أيها النبي (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥ ، ٤٦] ، فزيد في صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنالك (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) ولم يذكر مثله في الآية هذه التي في سورة الفتح. ووجه ذلك أن هذه الآية التي في سورة الفتح وردت في سياق إبطال شك الذين شكوا في أمر الصلح والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر ، والثناء على الذين اطمأنوا لذلك فاقتصر من أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوصف الأصلي وهو أنه شاهد على الفريقين وكونه مبشرا لأحد الفريقين ونذيرا للآخر ، بخلاف آية الأحزاب فإنها وردت في سياق تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوجه زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه ، فناسب أن يزاد في صفاته ما فيه إشارة إلى التمحيص بين ما هو من صفات الكمال وما هو من الأوهام الناشئة عن مزاعم كاذبة مثل التبنّي ، فزيد كونه (داعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) ، أي لا يتبع مزاعم الناس ورغباتهم وأنه سراج منير يهتدي به من همّته في الاهتداء دون التقعير.

وقد تقدم في تفسير سورة الأحزاب حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «التوراة» فارجع إليه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

١٣٢

شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة ، وهذه الجملة مستأنفة ، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام ، وصيغة المضارع في قوله : (يُبايِعُونَكَ) لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

والحصر المفاد من (إِنَّما) حصر الفعل في مفعوله ، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائيّ بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول. وحيث كان الحصر تأكيدا على تأكيد ، كما قال صاحب «المفتاح» : «لم أجعل (إنّ) التي في مفتتح الجملة للتأكيد لحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان».

وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله تعالى يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايع بالفتح على وجه التخييلية مثل إثبات الأظفار للمنية.

وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايع بالفتح كما قال كعب بن زهير :

حتى وضعت يميني لا أنازعه

في كفّ ذي يسرات قيله القيل

ومما زاد هذا التخييل حسنا ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في «المفتاح» : والمشاكلة من المحسنات البديعية والله منزّه عن اليد وسمات المحدثات.

فجملة (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) مقررة لمضمون جملة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) المفيدة أن بيعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر ، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف. وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم : إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة» ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايع بالفتح ويضع هذا المبايع يده على يد المبايع ، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية. ويشهد لهذا ما في «صحيح مسلم» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بايعه الناس كان عمر آخذا بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أيدي الناس كيلا يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت توضع على يد المبايعين. وأيّا ما كان

١٣٣

فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل.

والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع ، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى : يا أيها النبي (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) [الممتحنة : ١٢] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة. وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السّمر وكانوا ألفا وأربعمائة على أكثر الروايات. وقال جابر بن عبد الله : أو أكثر ، وعنه : أنهم خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة. وأول من بايع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي. وتسمّى بيعة الرضوان لقول الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨].

وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم ، فكان جابر بن عبد الله يقول : بايعوه على أن لا يفرّوا ، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد : بايعناه على الموت ، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت. ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبيّة عن البيعة إلا عثمان إذا كان غائبا بمكة للتفاوض في شأن العمرة ، ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال : «هذه يد عثمان» ثم جاء عثمان فبايع ، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جمله حتّى بايع الناس ولم يكن منافقا ولكنّه كان ضعيف العزم. وقال لهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنتم خير أهل الأرض.

وفرع قوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيما خطيرا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك.

والنكث : كالنقض للحبل. قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢]. وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد.

والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل. ومضارع (يَنْكُثُ) بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القرّاء. ومعنى (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ):

١٣٤

أن نكثه عائد عليه بالضرّ كما دلّ عليه حرف على.

و (إِنَّما) للقصر وهو لقصر النكث على مدلول (عَلى نَفْسِهِ) ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئا فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث ، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقال : أوفى بالعهد وهي لغة تهامة ، ويقال : وفي بدون همز وهي لغة عامة العرب ، ولم تجيء في القرآن إلا الأولى. قالوا : ولم ينكث أحد ممن بايع.

والظاهر عندي : أن سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ورويس عن يعقوب فسنؤتيه بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأه الباقون بياء الغيبة عائدا ضميره على اسم الجلالة.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١))

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)

لمّا حذر من النكث ورغّب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل : غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والدّيل بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أراد المسير إلى العمرة استنفر من حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدّوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه. وكان من أهل البيعة زيد بن خالد الجهني من جهينة وخرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أسلم مائة رجل منهم مرداس بن مالك الأسلمي والد عبّاس الشاعر وعبد الله بن أبي أوفى وزاهر بن الأسود ، وأهبان ـ بضم الهمزة ـ بن أوس ، وسلمة بن الأكوع الأسلمي ، ومن غفار خفات ـ بضم الخاء المعجمة ـ بن إيماء ـ بفتح الهمزة ـ بعدها تحتية ساكنة ، ومن مزينة عائذ بن عمرو. وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين ، وأعدّوا للمعذرة بعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم شغلتهم أموالهم

١٣٥

وأهلوهم ، فأخبر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قبل أن يعتذروا. وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه.

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث ، فكمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد. والمعنى : أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم.

والمخلّفون بفتح اللام هم الذين تخلّفوا. وأطلق عليهم المخلفون أي غيرهم خلفهم وراءه ، أي تركهم خلفه ، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقا. يقال : خلفنا فلانا ، إذا مرّوا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استنفروا ولم يعتذروا حينئذ.

والأموال : الإبل.

وأهلون : جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوفي لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون ، فعدّ مما ألحق بجمع المذكر السالم.

ومعنى فاستغفر لنا : اسأل لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكرياء مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله تعالى : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الآية.

وجملة (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) في موضع الحال. ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ).

والمعنى : أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار ، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة ، فقد روي أنهم قالوا : يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره (١) بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

__________________

(١) العقر بضم العين وفتحها : الأصل والمكان.

١٣٦

أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما فيه ردّ أمرهم إلى الله ليعلمهم أن استغفاره الله لهم لا يكره الله على المغفرة بل الله يفعل ما يشاء إذا أراده فإن كان أراد بهم نفعا نفعهم وإن كان أراد بهم ضرا ضرهم فما كان من النصح لأنفسهم أن يتورطوا فيما لا يرضي الله ثم يستغفرونه. فلعله لا يغفر لهم ، فالغرض من هذا تخويفهم من عقاب ذنبهم إذ تخلفوا عن نفير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبوا في الاعتذار ليكثروا من التوبة وتدارك الممكن كما دل عليه قوله تعالى بعده (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ) [الفتح : ١٦] الآية.

فمعنى (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) هنا الإرادة التي جرت على وفق علمه تعالى من إعطائه النفع إياهم أو إصابته بضرّ وفي هذا الكلام توجيه بأن تخلّفهم سبب في حرمانهم من فضيلة شهود بيعة الرضوان وفي حرمانهم من شهود غزوة خيبر بنهيه عن حضورهم فيها.

ومعنى الملك هنا : القدرة والاستطاعة ، أي لا يقدر أحد أن يغير ما أراده الله وتقدم نظير هذا التركيب في قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) في سورة العقود [١٧].

والغالب في مثل هذا أن يكون لنفي القدرة على تحويل الشر خيرا كقوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١]. فكان الجري على ظاهر الاستعمال مقتضيا الاقتصار على نفي أن يملك أحد لهم شيئا إذا أراد الله ضرهم دون زيادة أو أراد بكم نفعا ، فتوجه هذه الزيادة أنها لقصد التتميم والاستيعاب ، ونظيره (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) في سورة الأحزاب [١٧]. وقد مضى قريب من هذا في قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) في سورة الأعراف [١٨٨] فراجعه.

وقرأ الجمهور (ضَرًّا) بفتح الضاد ، وقرأه حمزة والكسائي بضمها وهما بمعنى ، وهو مصدر فيجوز أن يكون هنا مرادا به معنى المصدر ، أي إن أراد أن يضركم أو ينفعكم. ويجوز أن يكون بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، أي إن أراد بكم ما يضركم وما ينفعكم. ومعنى تعلق (أَرادَ) به أنه بمعنى أراد إيصال ما يضركم أو ما ينفعكم.

وهذا الجواب لا عدة فيه من الله بأن يغفر لهم إذ المقصود تركهم في حالة وجل

١٣٧

ليستكثروا من فعل الحسنات. وقصدت مفاتحتهم بهذا الإبهام لإلقاء الوجل في قلوبهم أن يغفر لهم ثم سيتبعه بقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٩] الآية الذي هو أقرب إلى الإطماع.

و (بَلْ) في قوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) إضراب لإبطال قولهم (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا). وبه يزداد مضمون قوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تقريرا لأنه يتضمن إبطالا لعذرهم ، ومن معنى الإبطال يحصل بيان الإجمال الذي في قوله: (كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) إذ يفيد أنه خبير بكذبهم في الاعتذار فلذلك أبطل اعتذارهم بحرف الإبطال.

وتقديم (بِما تَعْمَلُونَ) على متعلّقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا. وما صدق (بِما تَعْمَلُونَ) ما اعتقدوه وما ماهوا به من أسباب تخلفهم عن نفير الرسول وكثيرا ما سمّى القرآن الاعتقاد عملا. وفي قوله : (كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) تهديد ووعيد.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [الفتح : ١١] ، أي خبيرا بما علمتم ، ومنه ظنكم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون.

وأعيد حرف الإبطال زيادة لتحقيق معنى البدلية كما يكرر العامل في المبدل منه والانقلاب : الرجوع إلى المأوى.

و (أَنْ) مخففة من (أنّ) المشددة واسمها ضمير الشأن وسدّ المصدر مسدّ مفعولي (ظَنَنْتُمْ) ، وجيء بحرف (لَنْ) المفيد استمرار النفي. وأكد بقوله : (أَبَداً) لأن ظنهم كان قويا.

والتزيين : التحسين ، وهو كناية عن قبول ذلك وإنما جعل ذلك الظن مزينا في اعتقادهم لأنهم لم يفرضوا غيره من الاحتمال ، وهو أن يرجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سالما. وهكذا شأن العقول الواهية والنفوس الهاوية أن لا تأخذ من الصور التي تتصور بها الحوادث إلا الصورة التي تلوح لها في بادئ الرأي. وإنما تلوح لها أول شيء لأنها الصورة المحبوبة ثم يعتريها التزيين في العقل فتلهو عن فرض غيرها فلا تستعد لحدثانه ، ولذلك قيل : حبك

١٣٨

الشيء يعمي ويصم.

كانوا يقولون بين أقوالهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أكلة ـ بفتحات ثلاث ـ رأس ـ كناية عن القلة ، أي يشبعهم رأس بعير ـ لا يرجعون ، أي هم قليل بالنسبة لقريش والأحابيش وكنانة ، ومن في حلفهم.

وإن (السَّوْءِ) أعم من ظنهم أن لا يرجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون ، أي ظننتم ظن السوء بالدين وبمن بقي من الموقنين لأنهم جزموا باستئصال أهل الحديبيّة وأنّ المشركين ينتصرون ثم يغزون المدينة بمن ينضمّ إليهم من القبائل فيسقط في أيدي المؤمنين ويرتدون عن الدين فذلك ظن السوء. والسّوء بفتح السين تقدم آنفا في قوله : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح : ٦].

والبور : مصدر كالهلك بناء ومعنى ، ومثله البوار بالفتح كالهلاك ولذلك وقع وصفا بالإفراد وموصوفه في معنى الجمع. والمراد الهلاك المعنوي ، وهو عدم الخير والنفع في الدين والآخرة نظير قوله تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة براءة [٤٢].

وإقحام كلمة (قَوْماً) بين (كُنْتُمْ) و (بُوراً) لإفادة أن البوار صار من مقوّمات قوميتهم لشدة تلبسه بجميع أفرادهم كما تقدم عند قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. وقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يونس [١٠١].

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣))

جملة معترضة بين أجزاء القول المأمور به في قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الفتح : ١١] الآيات وقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٩] وهذا الاعتراض للتحذير من استدراجهم أنفسهم في مدارج الشك في إصابة أعمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفضي بهم إلى دركات الكفر بعد الإيمان إذ كان تخلفهم عن الخروج معه وما عللوا به تثاقلهم في نفوسهم وإظهار عذر مكذوب أضمروا خلافه ، كل ذلك حوما حول حمى الشك يوشكون أن يقعوا فيه.

و (مَنْ) شرطية. وإظهار لفظ الكافرين في مقام أن يقال : اعتدنا لهم سعيرا ، لزيادة تقرير معنى (مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

١٣٩

والسعير : النار المسعرة وهو من أسماء جهنم.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

عطف على جملة (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الفتح : ١١] فهو من أجزاء القول ، وهذا انتقال من التخويف الذي أو همه (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) إلى إطماعهم بالمغفرة التي سألوها ، ولذلك قدم الضر على النفع في الآية الأولى فقيل (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) [الفتح : ١١] ليكون احتمال إرادة الضر بهم أسبق في نفوسهم.

وقدمت المغفرة هنا بقوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ليتقرر معنى الإطماع في نفوسهم فيبتدروا إلى استدراك ما فاتهم. وهذا تمهيد لوعدهم الآتي في قوله : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) إلى قوله : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) [الفتح : ١٦].

وزاد رجاء المغفرة تأكيدا بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي الرحمة والمغفرة أقرب من العقاب ، وللأمرين مواضع ومراتب في القرب والبعد ، والنوايا والعوارض ، وقيمة الحسنات والسيئات ، قد أحاط الله بها وقدرها تقديرا.

ولفظ (مَنْ يَشاءُ) في الموضعين إجمال للمشيئة وأسبابها وقد بينت غير مرة في تضاعيف القرآن والسنة ومن ذلك قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

هذا استئناف ثان بعد قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١]. وهو أيضا إعلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما سيقوله المخلفون عن الحديبيّة يتعلّق بتخلّفهم عن الحديبية وعذرهم الكاذب ، وأنهم سيندمون على تخلفهم حين يرون اجتناء أهل الحديبيّة ثمرة غزوهم ، ويتضمن تأكيد تكذيبهم في اعتذارهم عن التخلف بأنهم حين يعلمون أن هنالك مغانم من قتال غير شديد يحرصون على الخروج ولا تشغلهم أموالهم

١٤٠