تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قوله : (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سببا في الأمرين : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة ، وإحباط أعمالهم.

والإحباط : إبطال العمل ، أي أبطل انتفاعهم بأعمالهم التي عملوها مع المؤمنين من قول كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وغير ذلك. وتقدم ما هو بمعناه في أول السورة.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩))

انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لآمالهم.

و (أَمْ) منقطعة في معنى (بل) للإضراب الانتقالي ، والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) للإنكار. وحرف (لن) لتأييد النفي ، أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل ، كما انتفى ذلك فيما مضى ، فلعل الله أن يفضح نفاقهم.

واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه ، ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحا للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفيّ إذ هو عضو باطن فناسب المرض الخفيّ.

والإخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الإخراج استدلال شيء من مكمنه ، فاستعير للإعلام بخبر خفيّ.

والأضغان : جمع ضغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة. والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر ، وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله :

الضاربين بكلّ أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ).

١٠١

كان مرض قلوبهم خفيا لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان ، فذكر الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحدا واحدا فيعرف ذواتهم بعلاماتهم.

والسّيمى بالقصر : العلامة الملازمة ، أصله : وسمى بوزن فعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء ، وهو بكسر أوله. فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سومى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وتقدم عند قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) في سورة البقرة [٢٧٣].

والمعنى : لأريناك أشخاصهم فعرفتهم ، أو لذكرنا لك أوصافهم فعرفتهم بها ثم يحتمل أن الله شاء ذلك وأراهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعن أنس «ما خفي على النبي بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم» ذكره البغوي والثعلبي بدون سند. ومما يروى عن حذيفة ما يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفه بالمنافقين أو ببعضهم ، ولكن إذا صح هذا فإن الله لم يأمر بإجرائهم على غير حالة الإسلام ، ويحتمل أن الله قال هذا إكراما لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يطلعه عليهم.

واللام في (لَأَرَيْناكَهُمْ) لام جواب (لَوْ) التي تزاد فيه غالبا. واللام في (فَلَعَرَفْتَهُمْ) تأكيد للام (لَأَرَيْناكَهُمْ) لزيادة تحقيق تفرع المعرفة على الإراءة.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

هذا في معنى الاحتراس مما يقتضيه مفهوم (لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) من عدم وقوع المشيئة لإراءته إياهم بنعوتهم. والمعنى : فإن لم نرك إياهم بسيماهم فلتقعن معرفتك بهم من لحن كلامهم بإلهام يجعله الله في علم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يخفى عليه شيء من لحن كلامهم فيحصل له العلم بكل واحد منهم إذا لحن في قوله ، وهم لا يخلو واحد منهم من اللحن في قوله ، فمعرفة الرسول بكل واحد منهم حاصلة وإنما ترك الله تعريفه إياهم بسيماهم ووكله إلى معرفتهم بلحن قولهم إبقاء على سنة الله تعالى في نظام الخلق بقدر الإمكان لأنها سنة ناشئة عن الحكمة فلما أريد تكريم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطلاعه على دخائل المنافقين سلك الله في ذلك مسلك الرمز.

واللام في (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) لام القسم المحذوف.

ولحن القول : الكلام المحال به إلى غير ظاهره ليفطن له من يراد أن يفهمه دون أن

١٠٢

يفهمه غيره بأن يكون في الكلام تعريض أو تورية أو ألفاظ مصطلح عليها بين شخصين أو فرقة كالألفاظ العلمية قال القتّال الكلائي :

ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا

ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

كان المنافقون يخاطبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذهم بظاهر كلامهم فنبهه الله إليه فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).

تذييل ، فهو لعمومه خطاب لجميع الأمة المقصود منه التعليم وهو مع ذلك كناية عن لازمه وهو الوعيد لأهل الأعمال السيّئة على أعمالهم ، والوعد لأهل الأعمال الصالحة على أعمالهم ، وتنبيه لأهل النفاق بأن الله يوشك أن يفضح نفاقهم كما قال آنفا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) [محمد : ٢٩].

واجتلاب المضارع في قوله : (يَعْلَمُ) للدلالة على أن علمه بذلك مستمر.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

عطف على قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٠]. ومعناه معنى الاحتراس ممّا قد يتوهم السامعون من قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) من الاستغناء عن التكليف.

ووجه هذا الاحتراس أن علم الله يتعلق بأعمال الناس بعد أن تقع ويتعلق بها قبل وقوعها فإنها ستقع ويتعلق بعزم الناس على الاستجابة لدعوة التكاليف قوة وضعفا ، ومن عدم الاستجابة كفرا وعنادا ، فبيّن بهذه الآية أن من حكمة التكاليف أن يظهر أثر علم الله بأحوال الناس وتقدم الحجة عليهم.

ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب لكل عبد مقعده من الجنة أو من النار. فقالوا أفلا نتكل على ما كتب لنا؟ قال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ، وقرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ـ ١٠]».

والبلو : الاختبار وتعرّف حال الشيء. والمراد بالابتلاء الأمر والنهي في التكليف ، فإنه يظهر به المطيع والعاصي والكافر ، وسمي ذلك ابتلاء على وجه المجاز المرسل لأنه يلزمه الابتلاء وإن كان المقصود منه إقامة مصالح الناس ودفع الفساد عنهم لتنظيم أحوال

١٠٣

حياتهم ثم ليترتب عليه مثال الحياة الأبدية في الآخرة. ولكن لما كان التكليف مبيّنا لأحوال نفوس الناس في الامتثال وممحّصا لدعاويهم وكاشفا عن دخائلهم كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء ، وإلا فإن الله تعالى يعلم تفاصيل أحوالهم ، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف فأشبهت الاختبار ، فإطلاق اسم الابتلاء على التكليف مجاز مرسل وتسمية ما يلزم التكليف من إظهار أحوال النفوس ابتلاء استعارة ، ففي قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) مجاز مرسل واستعارة.

و (حَتَّى) حرف انتهاء فما بعدها غاية للفعل الذي قبلها وهي هنا مستعملة في معنى لام التعليل تشبيها لعلة الفعل بغايته فإن غاية الفعل باعث لفاعل الفعل في الغالب ، فلذلك كثر استعمال (حَتَّى) بمعنى لام التعليل كقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧].

فالمعنى : ولنبلونكم لنعلم المجاهدين منكم والصابرين ، وليس المراد انتهاء البلوى عند ظهور المجاهدين منهم والصابرين.

وعلة الفعل لا يلزم انعكاسها ، أي لا يلزم أن لا يكون للفعل علة غيرها فللتكليف علل وأغراض عديدة منها أن تظهر حال الناس في قبول التكليف ظهورا في الدنيا تترتب عليه معاملات دنيوية.

وعلم الله الذي جعل علة للبلو هو العلم بالأشياء بعد وقوعها المسمى علم الشهادة لأن الله يعلم من سيجاهد ومن يصبر من قبل أن يبلوهم ولكن ذلك علم غيب لأنه قبل حصول المعلوم في عالم الشهادة.

والأحسن أن يكون (حَتَّى نَعْلَمَ) مستعملا في معنى حتى نظهر للناس الدعاوي الحق من الباطلة ، فالعلم كناية عن إظهار الشيء المعلوم بقطع النظر عن كون إظهاره للغير كما هنا أو للمتكلم كقول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطّيّ يخطر بيننا

لا علم من جبانها من شجاعها

أراد ليظهر للناس أنه شجاع ويظهر من هو من القوم جبان ، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد ، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر ، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

١٠٤

وبلو الإخبار : ظهور الأحدوثة من حسن السمعة وضده. وهذا في معنى قول الأصوليين ترتّب المدح والذم عاجلا ، وهو كناية أيضا عن أحوال أعمالهم من خير وشر لأن الأخبار إنما هي أخبار عن أعمالهم ، وهذه علة ثانية عطفت على قوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ). وإنما أعيد عطف فعل (نَبْلُوَا) على فعل (نَعْلَمَ) وكان مقتضى الظاهر أن يعطف (أَخْبارَكُمْ) بالواو على ضمير المخاطبين في (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولا يعاد (نَبْلُوَا) ، فالعدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى هذا التركيب للمبالغة في بلو لأخبار لأنه كناية عن بلو أعمالهم وهي المقصود من بلو ذواتهم ، فذكره كذكر العام بعد الخاص إذ تعلق البلو الأول بالجهاد والصبر ، وتعلق البلو الثاني بالأعمال كلها ، وحصل مع ذلك تأكيد البلو تأكيدا لفظيا. وقرأ الجمهور (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ وَنَبْلُوَا) بالنون في الأفعال الثلاثة. وقرأ أبو بكر عن عاصم تلك الأفعال الثلاثة بياء الغيبة والضمائر عائدة إلى اسم الجلالة في قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ). وقرأ الجمهور (وَنَبْلُوَا) بفتح الواو عطفا على (نَعْلَمَ). وقرأه رويس عن يعقوب بسكون الواو عطفا على (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))

الظاهر أن المعنيّ بالذين كفروا هنا الذين كفروا المذكورون في أول هذه السورة وفيما بعد من الآيات التي جرى فيها ذكر الكافرين ، أي الكفار الصرحاء عاد الكلام إليهم بعد الفراغ من ذكر المنافقين الذين يخفون الكفر ، عودا على بدء لتهوين حالهم في نفوس المسلمين ، فبعد أن أخبر الله أنه أضل أعمالهم وأنهم اتبعوا الباطل وأمر بضرب رقابهم وأن التعس لهم وحقّرهم بأنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، وأن الله أهلك قرى هي أشد منهم قوة ، ثم جرى ذكر المنافقين ، بعد ذلك ثني عنان الكلام إلى الذين كفروا أيضا ليعرّف الله المسلمين بأنهم في هذه المآزق التي بينهم وبين المشركين لا يلحقهم منهم أدنى ضرّ ، وليزيد وصف الذين كفروا بأنهم شاقّوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالجملة استئناف ابتدائي وهي توطئة لقوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد:٣٥]. وفعل (شَاقُّوا) مشتق من كلمة شق بكسر الشين وهو الجانب ، والمشاقة المخالفة ، كني بالمشاقة عن المخالفة لأن المستقر بشق مخالف للمستقر بشق آخر فكلاهما مخالف ، فلذلك صيغت منه صيغة المفاعلة.

١٠٥

وتبيّن الهدى لهم : ظهور ما في دعوة الإسلام من الحق الذي تدركه العقول إذا نبهت إليه ، وظهور أن أمر الإسلام في ازدياد ونماء ، وأن أمور الآخرين في إدبار ، فلم يردعهم ذلك عن محاولة الإضرار بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١]. فحصل من مجموع ذلك أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله ، وأن الإسلام دين الله.

وقيل المراد بالذين كفروا في هذه الآية يهود قريظة والنضير ، وعليه فمشاقتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاقة خفية مشاقّة كيد ومكر ، وتبيّن الهدى لهم ظهور أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الموعود به في التّوراة وكتب الأنبياء ، فتكون الآية تمهيدا لغزو قريظة والنضير.

وانتصب (شَيْئاً) على المفعول المطلق ل (يَضُرُّوا) والتنوين للتقليل ، أي لا يضرّون في المستقبل الله أقل ضرّ. وإضرار الله أريد به إضرار دينه لقصد التنويه والتشريف لهذا الدين بقرينة قوله : (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى).

والإحباط : الإبطال كما تقدم آنفا. ومعنى إبطال أعمالهم بالنسبة لأعمالهم في معاملة المسلمين أن الله يلطف برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بتيسير أسباب نصرهم وانتشار دينه ، فلا يحصّل الذين كفروا من أعمالهم للصد والمشاقة على طائل. وهذا كما تقدم في تفسير قوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١].

وحرف الاستقبال هنا لتحقيق حصول الإحباط في المستقبل وهو يدل على أن الله محبط أعمالهم من الآن إذ لا يعجزه ذلك حتى يترصد به المستقبل ، وهذا التحقيق مثل ما في قوله في سورة يوسف (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣))

اعتراض بين جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) [محمد: ٣٢] ، وبين جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) [محمد : ٣٤] وجه به الخطاب إلى المؤمنين بالأمر بطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجنب ما يبطل الأعمال الصالحة اعتبارا بما حكي من حال المشركين في الصد عن سبيل الله ومشاقة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فوصف الإيمان في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مقابل وصف الكفر في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [محمد : ٣٢] ، وطاعة الله مقابل الصدّ عن سبيل الله ، وطاعة الرسول ضد مشاقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنهي عن إبطال الأعمال ضد بطلان أعمال الذين كفروا. فطاعة

١٠٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أمروا بها هي امتثال ما أمر به ونهى عنه من أحكام الدين. وأما ما ليس داخلا تحت التشريع فطاعة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه طاعة انتصاح وأدب ، ألا ترى أن بريرة لم تطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مراجعة زوجها مغيث لما علمت أن أمره إياها ليس بعزم.

والإبطال : جعل الشيء باطلا ، أي لا فائدة منه ، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة.

ومعنى النهي عن إبطالهم الأعمال : النهي عن أسباب إبطالها ، فهذا مهيع قوله : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ). وتسمح محامله بأن يشمل النهي والتحذير عن كل ما بيّن الدين أنه مبطل للعمل كلّا أو بعضا مثل الردة ومثل الرياء في العمل الصالح فإنه يبطل ثوابه. وهو عن ابن عباس قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤]. وكان بعض السلف يخشى أن يكون ارتكاب الفواحش مبطلا لثواب الأعمال الصالحة ويحمل هذه الآية على ذلك ، وقد قالت عائشة لما بلغها أن زيد بن أرقم عقد عقدا تراه عائشة حراما : أخبروا زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن لم يترك فعله هذا ولعلها أرادت بذلك التحذير وإلا فما وجه تخصيص الإحباط بجهاده وإنما علمت أنه كان أنفس عمل عنده.

وعن الحسن البصري والزهري : لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي الكبائر. ذكر ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» : «أن زيد بن أرقم قال غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسع عشرة غزوة وغزوت منها معه سبع عشرة غزوة. وهذه كلها من مختلف الأفهام في المعنيّ بإبطال الأعمال وما يبطلها وأحسن أقوال السلف في ذلك ما روي عن ابن عمر قال : «كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا حتى نزل (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فكففنا عن القول في ذلك وكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها» ا ه. فأبان أن ذلك محامل محتملة لا جزم فيها.

وعن مقاتل (لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالمنّ وقال : هذا خطاب لقوم من بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، يمنون عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية ونزل فيهم أيضا قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) [الحجرات : ١٧].

وهذه محامل ناشئة عن الرأي والتوقع ، والذي جاء به القرآن وبينته السنة الصحيحة

١٠٧

أن الحسنات يذهبن السيئات ولم يجىء : أن السيئات يذهبن الحسنات ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠].

وتمسك المعتزلة بهاته الآية فزعموا أن الكبائر تحبط الطاعات. ومن العجب أنهم ينفون عن الله الظلم ولا يسلمون ظاهر قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] ، ومع ذلك يجعلون الله يبطل الحسنات إذا ارتكب صاحبها سيئة. ونحن نرى أن كل ذلك مسطور في صحف الحسنات والسيئات وأن الحسنة مضاعفة والسيئة بمقدارها. وهذا أصل تواتر معناه في الكتاب وصحيح الآثار ، فكيف ينبذ بالقيل والقال من أهل الأخبار.

وحمل بعض علمائنا قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) على معنى النهي عن قطع العمل المتقرب به إلى الله تعالى. وإطلاق الإبطال على القطع وعدم الإتمام يشبه أنه مجاز ، أي لا تتركوا العمل الصالح بعد الشروع فيه ، فأخذوا منه أن النفل يجب بالشروع لأنه من الأعمال ، وهو قول أبي حنيفة في النوافل مطلقا. ونسب ابن العربي في الأحكام مثله إلى مالك. ومثله القرطبي وابن الفرس. ونقل الشيخ الجد في «حاشيته على المحلّى» عن القرافي في «شرح المحصول» ونقل حلولو في «شرح جمع الجوامع» عن القرافي في «الذخيرة» : أن مالكا قال بوجوب سبع نوافل بالشروع ، وهي : الصلاة والصيام والحج والعمرة والاعتكاف والائتمام وطواف التطوع دون غيرها نحو الوضوء والصدقة والوقف والسفر للجهاد ، وزاد حلولو إلحاق الضحية بالنوافل التي تجب بالشروع ولم أقف على مأخذ القرافي ذلك ولا على مأخذ حلولو في الأخير. ولم ير الشافعي وجوبا بالشروع في شيء من النوافل وهو الظاهر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤))

هذه الآية تكملة لآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) [محمد : ٣٢] إلخ لأن تلك مسوقة لعدم الاكتراث بمشاقّهم ولبيان أن الله مبطل صنائعهم وهذه مسوقة لبيان عدم انتفاعهم لمغفرة الله إذا ماتوا على ما هم عليه من الكفر فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

واقتران خبر الموصول بالفاء إيماء إلى أنه أشرف معنى الشرط فلا يراد به ذو صلة معيّن بل المراد كل من تحققت فيه ماهية الصلة وهي الكفر والموت على الكفر.

١٠٨

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدّر لهم التعس ، وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكهم ولم يجدوا ناصرا ، وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دار الخلد وبما أتبع ذلك من وصف كيد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين ، وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم.

فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل إلى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم. ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١].

وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السّلم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهيا عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا : لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر ، وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر ، يتربصون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق ، وغزوة ذي قرد ، فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غيّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لقبه فلقبه الفاسق.

كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة.

والوهن : الضعف والعجز ، وهو هنا مجاز في طلب الدعة. ومعناه : النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف ، والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبّت في نفسه رويدا رويدا حتى تتمكن

١٠٩

منها فتصبح ملكة وسجيّة. فالمعنى : ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره ، وأوّلها الدعاء إلى السلم وهو المقصود بالنهي. والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذ في حال وهن.

وعطف (وَتَدْعُوا) على (تَهِنُوا) فهو معمول لحرف النهي ، والمعنى : ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجه لأن الدعاء إلى السلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة. وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعدة بالاستراحة من عدوان العدوّ على المسلمين ، فإن المشركين يومئذ كانوا متكالبين على المسلمين ، فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمنوا منهم ، وجعلوا ذلك فرصة لينشوا الدعوة فعرّفهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقع البأس.

ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).

فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم ، فهو سلّم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة : أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) في سورة الأنفال [٦١] ، فإنه سلم طلبه العدو ، فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة ، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة. فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخفّ ضرّا عليهم فلهم أن يبتدءوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه.

وقد صالح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد ، وصالح المسلمون في غزوهم إفريقية أهلها وانكفئوا راجعين إلى مصر. وقال عمر بن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش «فقد آثرت سلامة المسلمين». وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم.

وقرأ الجمهور (إِلَى السَّلْمِ) بفتح السين. وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر

١١٠

السين وهما لغتان. وجملة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء ، والخبر مستعمل في الوعد.

والأعلون : مبالغة في العلوّ. وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] ، أي والله جاعلكم غالبين.

و (اللهُ مَعَكُمْ) عطف على الوعد. والمعية معية الرعاية والكلاءة ، أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلا. والمعنى : وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره.

وصيغ كل من جملتي (أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ) جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم.

وقوله : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها ، أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها ، أي أن لا يخيبها ، وهو ما تقدم من قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٤ ، ٥].

يقال : وتره يتره وترا وترة كوعد ، إذا نقصه ، وفي حديث «الموطأ» «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله». ويجوز أيضا أن يراد منه صريحه ، أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم ، أي الجهاد المستفاد من قوله (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملا.

[٣٦ ، ٣٧] (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧))

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

تعليل لمضمون قوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد : ٣٥] الآية ، وافتتاحها ب (إنّ) مغن عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز ، وليس اتصال (إنّ) ب (ما) الزائدة الكافة بمغيّر موقعها بدون (ما) لأنّ اتصالها بها زادها معنى الحصر.

والمراد ب (الْحَياةُ) أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافين.

واللعب : الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في

١١١

مرحهم.

واللهو : العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكدّ عقله.

والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ ، شبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار.

وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدو بهم.

وحبّ الفتى طول الحياة يذله

وإن كان فيه نخوة وعزام

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)).

الأشبه أن هذا عطف على قوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد : ٣٥] تذكيرا بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة ، ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حبّ إبقاء المال الذي ينفق في الغزو ، فذكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نهوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى ، وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم ، ولذلك وقع بعده قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (عَنْ نَفْسِهِ) [محمد : ٣٨] ، على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) مشير إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سببا في الخير الدائم.

والأجور هنا : أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى.

فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله : (فَلا تَهِنُوا) الآية.

والمقصود من الجملة قوله : (وَتَتَّقُوا) وأما ذكر (تُؤْمِنُوا) فللاهتمام بأمر الإيمان. ووقوع (تُؤْمِنُوا) في حيز الشرط مع كون إيمانهم حاصلا يعين صرف معنى التعليق بالشرط فيه إلى إرادة الدوام على الإيمان إذا لا تتقوم حقيقة التقوى إلا مع سبق الإيمان كما قال تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ) إلى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧] الآية.

١١٢

والظاهر أن جملة (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) إدماج ، وأن المقصود من جواب الشرط هو جملة (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ). وعطف (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) لمناسبة قوله : (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) ، أي أن الله يتفضل عليكم بالخيرات ولا يحتاج إلى أموالكم ، وكانت هذه المناسبات أحسن روابط لنظم المقصود من هذه المواعظ لأن البخل بالمال من بواعث الدعاء إلى السلم كما علمت آنفا.

ومعنى الآية : وإن تؤمنوا وتتقوا باتباع ما نهيتهم عنه يرض الله منكم بذلك ويكتف به ولا يسألكم زيادة عليه من أموالكم. فيعلم أن ما يعنيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم من الإنفاق في سبيل الله إنما هو بقدر طاقتهم. وهذه الآية في الإنفاق نظيرها قوله تعالى لجماعة من المسلمين في شأن الخروج إلى الجهاد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) في سورة براءة [٣٨].

فقوله : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) يفيد بعمومه وسياقه معنى لا يسألكم جميع أموالكم ، أي إنما يسألكم ما لا يجحف بكم ، فإضافة أموال وهو جمع إلى ضمير المخاطبين تفيد العموم ، فالمنفي سؤال إنفاق جميع الأموال ، فالكلام من نفي العموم لا من عموم النفي بقرينة السياق ، وما يأتي بعده من قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية.

ويجوز أن يفيد أيضا معنى : أنه لا يطالبكم بإعطاء مال لذاته فإنه غني عنكم وإنما يأمركم بإنفاق المال لصالحكم كما قال : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد : ٣٨]. وهذا توطئة لقوله بعده (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) [محمد : ٣٨] أي ما يكون طلب بذل المال إلا لمصلحة الأمة ، وآية مصلحة أعظم من دمغها العدو عن نفسها لئلا يفسد فيها ويستعبدها.

وأما تفسير سؤال الأموال المنفي بطلب زكاة الأموال فصرف للآية عن مهيعها فإن الزكاة مفروضة قبل نزول هذه السورة لأن الزكاة فرضت سنة اثنتين من الهجرة على الأصح.

وجملة (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) إلخ تعليل لنفي سؤاله إياهم أموالهم ، أي لأنه إن سألكم إعطاء جميع أموالكم وقد علم أن فيكم من يسمح بالمال لا تبخلوا بالبذل وتجعلوا تكليفكم بذلك سببا لإظهار ضغنكم على الذين لا يعطون فيكثر الارتداد والنفاق وذلك

١١٣

يخالف مراد الله من تزكية نفوس الداخلين في الإيمان.

وهذا مراعاة لحال كثير يومئذ بالمدينة كانوا حديثي عهد بالإسلام وكانوا قد بذلوا من أموالهم للمهاجرين فيسّر الله عليهم بأن لم يسألهم زيادة على ذلك ، وكان بينهم كثير من أهل النفاق يترصدون الفرص لفتنتهم ، قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧]. وهذا يشير إليه عطف قوله : (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي تحدث فيكم أضغان فيكون سؤاله أموالكم سببا في ظهورها فكأنه أظهرها. وهذه الآية أصل في سد ذريعة الفساد.

والإحفاء : الإكثار وبلوغ النهاية في الفعل ، يقال : أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. وعن عبد الرحمن بن زيد : الإحفاء أن تأخذ كل شيء بيديك ، وهو تفسير غريب. وعبر به هنا عن الجزم في الطلب وهو الإيجاب ، أي فيوجب عليكم بذل المال ويجعل على منعه عقوبة.

والبخل : منع بذل المال.

والضغن : العداوة ، وتقدم آنفا عند قوله (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) [محمد : ٢٩]. والمعنى : يمنعوا المال ويظهروا العصيان والكراهية ، فلطف الله بالكثير منهم اقتضى أن لا يسألهم مالا على وجه الإلزام ثم زال ذلك شيئا فشيئا لما تمكن الإيمان من قلوبهم فأوجب الله عليهم الإنفاق في الجهاد.

والضمير المستتر في (وَيُخْرِجْ) عائد إلى اسم الجلالة ، وجوز أن يعود إلى البخل المأخوذ من قوله : (تَبْخَلُوا) أي من قبيل (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨]. وقرأ الجمهور (يُخْرِجْ) بياء تحتية في أوله. وقرأه يعقوب بنون في أوله.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ)

كلام المفسرين من قوله : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) إلى قوله : (عَنْ نَفْسِهِ) [محمد : ٣٦ ـ ٣٨]

١١٤

يعرب عن حيرة في مراد الله بهذا الكلام. وقد فسرناه آنفا بما يشفي وبقي علينا قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا) إلخ كيف موقعه بعد قوله : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) فإن الدعوة للإنفاق عين سؤال الأموال فكيف يجمع بين ما هنا وبين قوله آنفا (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ).

فيجوز أن يكون المعنى : تدعون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ). ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاما لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلب حاصل. ويحمل (تُدْعَوْنَ) على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب.

ويجوز أن يحمل (تُدْعَوْنَ) على دعوة الترغيب ، فتكون الآية تمهيدا للآيات المقتضية إيجاب الإنفاق في المستقبل مثل آية (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٤١] ونحوها ، ويجوز أن يكون إعلاما بأنهم سيدعون إلى الإنفاق في سبيل الله فيما بعد هذا الوقت فيكون المضارع مستعملا في زمن الاستقبال والمضارع يحتمله في أصل وضعه.

وعلى الاحتمالين فقوله : (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) إما مسوق مساق التوبيخ أو مساق التنبيه على الخطإ في الشح ببذل المال في الجهاد الذي هو محلّ السياق لأن المرء قد يبخل بخلا ليس عائدا بخله عن نفسه.

ومعنى قوله : (فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) على الاحتمال الأول فإنما يبخل عن نفسه إذ يتمكن عدّوه من التسلط عليه فعاد بخله بالضر عليه ، وعلى الاحتمال الثاني فإنما يبخل عن نفسه بحرمانها من ثواب الإنفاق.

والقصر المستفاد من إنما قصر قلب باعتبار لازم بخله لأن الباخل اعتقد أنه منع من دعاه إلى الإنفاق ولكن لازم بخله عاد عليه بحرمان نفسه من منافع ذلك الإنفاق ، فالقصر مجاز مرسل مركّب. وفعل (بخل) يتعدى ب (عَنْ) لما فيه من معنى الإمساك ويتعدى ب (على) لما فيه من معنى التضييق على المبخول عليه. وقد عدي هنا بحرف (عَنْ).

و (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مركب من كلمة (ها) تنبيه في ابتداء الجملة ، ومن ضمير الخطاب ثم من (ها) التنبيه الداخلة على اسم الإشارة المفيدة تأكيد مدلول الضمير. ونظيره

١١٥

قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة النساء [١٠٩]. والأكثر أن يكون اسم الإشارة في مثله مجردا عن (ها) اكتفاء ب (هاء) التنبيه التي في أول التركيب كقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) في سورة آل عمران [١١٩].

وجملة (تُدْعَوْنَ) في موضع الحال من اسم الإشارة ، ومجموع ذلك يفيد حصول مدلول جملة الحال لصاحبها حصولا واضحا. وزعم كثير من النحاة أن عدم ذكر اسم الإشارة بعد (ها أنا) ونحوه لحن ، لأنه لم يسمع دخول (ها) التنبيه على اسم غير اسم الإشارة كما ذكره صاحب «مغني اللبيب» ، بناء على أن (ها) التنبيه المذكورة في أول الكلام هي التي تدخل على أسماء الإشارة في نحو : هذا وهؤلاء ، وأن الضمير الذي يذكر بعدها فصل بينها وبين اسم الإشارة. ولكن قد وقع ذلك في كلام صاحب «المغني» في ديباجة كتابه إذ قال : وها أنا بائح بما أسررته ، وفي موضعين آخرين منه نبه عليهما بدر الدين الدماميني في شرحه «المزج على المغني» ، وذكر في شرحه الذي بالقول المشتهر ب «الحواشي الهندية» أن تمثيل الزمخشري في «المفصل» بقوله : ها إن زيدا منطلق يقتضي جواز : ها أنا أفعل ، لكن الرضيّ قال : لم أعثر بشاهد على وقوع ذلك.

وجملة (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) تذييل للشيء قبلها فالله الغني المطلق ، والغني المطلق لا يسأل الناس مالا في شيء ، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ).

والتعريف باللام في (الْغَنِيُ) وفي (الْفُقَراءُ) تعريف الجنس ، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه ، ولما وقعا خبرين وهما معرفتان أفادا الحصر ، أي قصر الصفة على الموصوف ، أي قصر جنس الغنيّ على الله وقصر جنس الفقراء على المخاطبين ب (أَنْتُمْ) وهو قصر ادعائي فيهما مرتب على دلالة ال على معنى كمال الجنس ، فإن كمال الغنى لله لا محالة لعمومه ودوامه ، وإن كان يثبت بعض جنس الغني لغيره. وأما كمال الفقر للناس فبالنسبة إلى غنى الله تعالى وإن كانوا قد يغنون في بعض الأحوال لكن ذلك غنى قليل وغير دائم.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).

عطف على قوله : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) [محمد : ٣٦]. والتولي: الرجوع ، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر ، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم

١١٦

كما استبدلوا دين الله بدين الشرك.

والاستبدال : التبديل ، فالسين والتاء للمبالغة ، ومفعوله (قَوْماً) أو المستبدل به محذوف دل على تقديره قوله (غَيْرَكُمْ) ، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه (غير) لتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين ، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير : يستبدل قوما بكم لأن المستعمل في فعل الاستبدال والتبديل أن يكون المفعول هو المعوّض ومجرور الباء هو العوض كقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) تقدم في سورة البقرة [٦١]. وإن كان كلا المتعلقين هو في المعنى معوض وعوض باختلاف الاعتبار ، ولذلك عدل في هذه الآية عن ذكر المجرور بالباء مع المفعول للإيجاز. والمعنى : يتخذ قوما غيركم للإيمان والتقوى ، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوما آخرين إلّا عند ارتداد المخاطبين ، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون.

روى الترمذي عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله هذه الآية «(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ). قالوا : ومن يستبدل بنا؟ قال : فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على منكب سلمان الفارسي ثم قال : هذا وقومه ، هذا وقومه» قال الترمذي حديث غريب. وفي إسناده مقال. وروى الطبراني في «الأوسط» : هذا الحديث على شرط مسلم وزاد فيه «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وأقول هو يدل على أن فارس إذا آمنوا لا يرتدون وهو من دلائل نبوءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن العرب ارتد منهم بعض القبائل بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتدّ البربر بعد فتح بلادهم وإيمانهم ثنتي عشرة مرة فيما حكاه الشيخ أبو محمد ابن أبي زيد ، ولم يرتد أهل فارس بعد إيمانهم.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان ، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولّي. والجملة معطوفة ب (ثم) على جملة (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) فهي في حيّز جواب الشرط والمعطوف على جواب الشرط بحرف من حروف التشريك يجوز جزمه على العطف ، ويجوز رفعه على الاستئناف. وقد جاء في هذه الآية على الجزم وجاء في قوله تعالى : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ١١١] على الرفع. وأبدى الفخر وجها لإيثار الجزم هنا وإيثار الاستئناف هنالك فقال : وهو مع الجواز فيه تدقيق وهو أن هاهنا لا يكون متعلقا بالتولّي لأنهم إن لم يتولوا

١١٧

يكونون ممن يأتي الله بهم على الطاعة ، وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي الله بهم مطيعين ، وأما هنالك فسواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون فلم يكن للتعليق أي بالشرط هنالك وجه فرفع بالابتداء وهاهنا جزم للتعليق ا ه. وهو دقيق ويزاد أن الفعل المعطوف على الجزاء في آية آل عمران وقع في آخر الفاصلة التي جرت أخواتها على حرف الواو والنون فلو أوثر جزم الفعل لأزيلت النون فاختلّت الفاصلة.

١١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤٨ ـ سورة الفتح

سورة (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] سميت في كلام الصحابة سورة الفتح. ووقع في «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مغفل ـ بغين معجمة مفتوحة وفاء مشدّدة مفتوحة ـ قال : قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح فرجّع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف : لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال : فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي.

وهي مدنيّة على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.

ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر وفي «الموطأ» عن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال : عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرّات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمت عليه فقال : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١]. ومعنى قوله لهي

١١٩

أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) [الفتح : ٢].

وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال : «أنزل على النبي (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) إلى قوله : (فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح : ٢ ـ ٥] مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ مما على وجه الأرض» ثم قرأها.

وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصفّ وقبل سورة التوبة. وعدة آيها تسع وعشرون. وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : «نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال رسول الله : لقد أنزلت علي آية أحب إليّ من الدنيا وما فيها» وفي رواية «من أولها إلى آخرها».

أغراضها

تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم ، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين. والتنويه بكرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب. والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه ، وأن الله قدّم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل. ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها. وفضح الذين تخلّفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر ، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية. ووعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) [الفتح : ٢٠].

[١ ـ ٣] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

افتتاح الكلام بحرف (إنّ) ناشئ على ما أحلّ للمسلمين من الكآبة على أن أجيب المشركون إلى سؤالهم الهدنة كما سيأتي من حديث عمر بن الخطاب وما تقدم من حديث

١٢٠