تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

حتى تكون الخيرات مفعولة للناس كلهم ، فحذف الفاعل للتعميم مع الاختصار لاقتضاء المفعول إياه.

واعتبار المصدر مصدرا لفعل مبني للنائب جائز إذا قامت القرينة. وهذا ما يؤذن به صنيع الزمخشري. على أن الأخفش أجازه بدون شرط.

ويجوز أن يكون (فِعْلَ الْخَيْراتِ) هو الموحى به ، أي وأوحينا إليهم هذا الكلام ، فيكون المصدر قائما مقام الفعل مرادا به الطلب ، والتقدير : افعلوا الخيرات ، كقوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤].

وتخصيص (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) بالذكر بعد شمول الخيرات إياهما تنويه بشأنهما لأن بالصلاة صلاح النفس إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وبالزكاة صلاح المجتمع لكفاية عوز المعوزين.

وهذا إشارة إلى أصل الحنيفية التي أرسل بها إبراهيم عليه‌السلام.

ومعنى الوحي بفعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة أنه أوحي إليهم الأمر بذلك كما هو بيّن.

ثم خصّهم بذكر ما كانوا متميزين به على بقية الناس من ملازمة العبادة لله تعالى كما دلّ عليه فعل الكون المفيد تمكّن الوصف ، ودلت عليه الإشارة بتقديم المجرور إلى أنهم أفردوا الله بالعبادة فلم يعبدوا غيره قط كما تقتضيه رتبة النبوءة من العصمة عن عبادة غير الله من وقت التكليف كما قال يوسف : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٣٨] وقال تعالى في الثناء على إبراهيم : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٣٥].

[٧٤ ، ٧٥] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

عطف على جملة (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١]. وقدّم مفعول (آتَيْنا) اهتماما به لينبه على أنه محل العناية إذ كان قد تأخر ذكر قصته بعد أن جرى ذكره تبعا لذكر إبراهيم تنبيها على أنه بعث بشريعة خاصة ، وإلى قوم غير القوم الذين بعث إليهم إبراهيم ، وإلى أنه كان في مواطن غير المواطن التي حلّ فيها إبراهيم ، بخلاف إسحاق ويعقوب في ذلك كله.

٨١

ولأجل البعد أعيد فعل الإيتاء ليظهر عطفه على (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] ، ولم يعد في قصة نوح عقب هذه.

وأعقبت قصة إبراهيم بقصة لوط للمناسبة. وخص لوط بالذكر من بين الرسل لأن أحواله تابعة لأحوال إبراهيم في مقاومة أهل الشرك والفساد. وإنما لم يذكر ما هم عليه قوم لوط من الشرك استغناء بذكر الفواحش الفظيعة التي كانت لهم سنة فإنها أثر من الشرك.

والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢].

والعلم : علم الشريعة ، والتنوين فيها للتعظيم.

والقرية (سدوم). وقد تقدم ذكر ذلك في سورة هود والمراد من القرية أهلها كما مر في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) في [سورة يوسف : ٨٢].

والخبائث : جمع خبيثة بتأويل الفعلة ، أي الشنيعة. والسّوء ـ بفتح السين وسكون الواو ـ مصدر ، أي القبيح المكروه. وأما بضم السين فهو اسم مصدر لما ذكر وهو أعم من المفتوح لأن الوصف بالاسم أضعف من الوصف بالمصدر.

[٧٦ ، ٧٧] (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

لما ذكر أشهر الرسل بمناسبات أعقب بذكر أول الرسل.

وعطف (وَنُوحاً) على (لُوطاً) [الأنبياء : ٧٤] ، أي آتينا نوحا حكما وعلما ، فحذف المفعول الثاني لآتينا [الأنبياء : ٧٤] لدلالة ما قبله عليه ، أي آتيناه النبوءة حين نادى ، أي نادانا.

ومعنى (نادى) دعا ربه أن ينصره على المكذبين من قومه بدليل قوله (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

وبناء (قَبْلُ) على الضمّ يدل على مضاف إليه مقدر ، أي من قبل هؤلاء ، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنته المرادة له

٨٢

تعريضا بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسله شاذّة ولا فاذّة.

وأهل نوح : أهل بيته عدا أحد بنيه الذي كفر به.

والكرب العظيم : هو الطوفان. والكرب : شدّة حزن النفس بسبب خوف أو حزن.

ووجه كون الطوفان كربا عظيما أنه يهول الناس عند ابتدائه وعند مدّه ولا يزال لاحقا بمواقع هروبهم حتى يعمهم فيبقوا زمنا يذوقون آلام الخوف فالغرق وهم يغرقون ويطفون حتى يموتوا بانحباس التنفس ؛ وفي ذلك كله كرب متكرر ، فلذلك وصف بالعظيم.

وعدي (نَصَرْناهُ) بحرف (من) لتضمينه معنى المنع والحماية ، كما في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) [المؤمنون : ٦٥] ، وهو أبلغ من تعديته ب (على) لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدوّ بشيء. وأما نصره عليه فلا يدل إلا على المدافعة والمعونة.

ووصف القوم بالموصول للإيماء إلى علة الغرق الذي سيذكر بعد. وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) علة لنصر نوح عليه‌السلام لأن نصره يتضمن إضرار القوم المنصور عليهم.

والسّوء ـ بفتح السين ـ تقدم آنفا.

وإضافة قوم إلى السوء إشارة إلى أنهم عرفوا به. والمراد به الكفر والتكبر والعناد والاستسخار برسولهم.

و (أَجْمَعِينَ) حال من ضمير النصب في (فَأَغْرَقْناهُمْ) لإفادة أنه لم ينج من الغرق أحد من القوم ولو كان قريبا من نوح فإن الله قد أغرق ابن نوح.

وهذا تهديد لقريش لئلا يتكلوا على قرابتهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي أنه لما قرأ على عتبة بن ربيعة [سورة فصّلت : ١٣] حتى بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فزع عتبة وقال له : ناشدتك الرّحم.

[٧٨ ، ٧٩] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ

٨٣

الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شهدين (٧٨) ففهّمنا سليمان وكلّا آتينا حكما وعلما شروع في عداد جمع من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلا. وقد روعي في تخصيصهم بالذكر ما اشتهر به كل فرد منهم من المزية التي أنعم الله بها عليه ، بمناسبة ذكر ما فضل الله به موسى وهارون من إيتاء الكتاب المماثل للقرآن وما عقب ذلك. ولم يكن بعد موسى في بني إسرائيل عصر له ميزة خاصة مثل عصر داود وسليمان إذ تطور أمر جامعة بني إسرائيل من كونها مسوسة بالأنبياء من عهد يوشع بن نون. ثم بما طرأ عليها من الفوضى من بعد موت (شمشون) إلى قيام (شاول) حميّ داود إلا أنه كان ملكا قاصرا على قيادة الجند ولم يكن نبيئا ، وأما تدبير الأمور فكان للأنبياء والقضاة مثل (صمويل).

فداود أول من جمعت له النبوءة والملك في أنبياء بني إسرائيل. وبلغ ملك إسرائيل في مدة داود حدّا عظيما من البأس والقوة وإخضاع الأعداء. وأوتي داود الزبور فيه حكمة وعظة فكان تكملة للتوراة التي كانت تعليم شريعة ، فاستكمل زمن داود الحكمة ورقائق الكلام.

وأوتي سليمان الحكمة وسخر له أهل الصنائع والإبداع فاستكملت دولة إسرائيل في زمانه عظمة النظام والثروة والحكمة والتجارة فكان في قصتها مثل.

وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.

وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون (داوُدَ) عطفا على (نُوحاً) في قوله (وَنُوحاً) [الأنبياء : ٧٦] ، أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان ... إلى آخره. ف (إِذْ يَحْكُمانِ) متعلّق ب (آتينا) المحذوف ، أي كان وقت حكمهما في قضية الحرث مظهرا من مظاهر حكمهما وعلمهما.

والحكم : الحكمة ، وهو النبوءة. والعلم : أصالة الفهم. و (إِذْ نَفَشَتْ) متعلق ب (يَحْكُمانِ).

٨٤

فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء ، والجمع بين المصالح والتفاضل بين مراتب الاجتهاد ، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلا للمحق ، فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.

وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس ، وكان ابنه سليمان حينئذ يافعا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء. فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم ، والآخر راعي غنم لجماعة ، فدخلت الغنم الحرث ليلا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث ، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فقصّ أمرهما على سليمان ، فقال : لو كنت أنا قاضيا لحكمت بغير هذا. فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له : بما ذا كنت تقضي؟ قال : إني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال : وما هو؟ قال : أن يأخذ أصحاب الغنم الحرث يقوم عليه عاملهم ويصلحه عاما كاملا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه ، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له. فقال داود : وفّقت يا بني. وقضى بينهما بذلك.

فمعنى (نَفَشَتْ فِيهِ) دخلته ليلا ، قالوا : والنفش الانفلات للرعي ليلا. وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى (غَنَمُ الْقَوْمِ). وكذلك كان الحرث شركة بين أناس. كما يؤخذ مما أخرجه ابن جرير في «تفسيره» من كلام مجاهد ومرة وقتادة ، وما أخرجه ابن كثير في «تفسيره» عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير «الكشاف». وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.

واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي عالمين وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ومقتضى وقوع الحكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد ، إذ أن الحكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أوتيه داود وسليمان ، فذلك من القضاء بالاجتهاد. وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام ووقوعه في مختلف المسائل.

٨٥

وقد كان قضاء داود حقا لأنه مستند إلى غرم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم ، وأصل الغرم أن يكون تعويضا ناجزا فكان ذلك القضاء حقا. وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.

وكان حكم سليمان حقا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح. ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب ، وقد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف ، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب.

ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من (العريض) على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ فقال محمد : لا والله ، فقال عمر : والله ليمرنّ به ولو على بطنك ، ففعل الضحاك.

وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما ، فكان قضاء سليمان أرجح.

وتشبه هذه القضية قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحرّة إذ قضى أول مرة بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره ، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجدر ثم يرسل ، فاستوفى للزبير حقه. وإنما ابتدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضى بينهما بالفصل ، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.

فمعنى قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أنه ألهمه وجها آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفق بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على من فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير ، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.

٨٦

وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المعارض لقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) في معرض الثناء عليهما.

وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلا في رجوع الحاكم عن حكمه ، كما قال ابن عطية وابن العربي ؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلا وأن ما حاولاه من ذلك غفلة.

وإضافة (حكم) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين.

وتأنيث الضمير في قوله (فَفَهَّمْناها) ، ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى : (لِحُكْمِهِمْ) بمعنى الحكومة أو الخصومة.

وجملة (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورا وإنما كان حكم سليمان أصوب.

وتقدمت ترجمة داود عليه‌السلام عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في [سورة النساء : ١٦٣] ، وقوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) في [سورة الأنعام : ٨٤].

وتقدمت ترجمة سليمان عليه‌السلام عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في [سورة البقرة : ١٠٢].

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ)

هذه مزية اختصّ بها داود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة (يُسَبِّحْنَ) فهي إما بيان لجملة (سَخَّرْنا) أو حال مبينة. وذكرها هنا استطراد وإدماج.

(وَالطَّيْرَ) عطف على (الْجِبالَ) أو مفعول معه ، أي مع الطير يعني طير الجبال.

و (مَعَ) ظرف متعلق بفعل (يُسَبِّحْنَ) ، وقدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داود ، فيكون المعنى : أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبال تسبّح مثل تسبيحه. وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] إذ التأويب الترجيع ، مشتق من الأوب وهو الرجوع. وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريدا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له. ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلا له بعد أن أوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله ، ولا يعرف لداود بعد أن أوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من

٨٧

قبل النبوءة راعيا. فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية (زيف) الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارا من الملك شاول (طالوت) حين تنكر له شاول بوشاية بعض حساد داود ، كما حكي في الإصحاحين ٢٣ ـ ٢٤ من سفر صمويل الأول. وهذا سرّ التعبير ب (مع) متعلقة بفعل (سَخَّرْنا) هنا. وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) [الأنبياء : ٨١] إذ عدي فعل التسخير الذي نابت عنه واو العطف بلام الملك. وكذلك جاء لفظ (مع) في آية [سورة سبأ : ١٠] (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ).

وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.

وجملة (وَكُنَّا فاعِلِينَ) معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود. وفاعل هنا بمعنى قادر ، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه. وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل ، أي وكنا قادرين على ذلك.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

وامتن الله بصنعة علّمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع ، أي دروع السرد. قيل كانت الدروع من قبل داود ذات حراشف من الحديد ، فكانت تثقل على الكماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دروع الحلق الدقيقة فهي أخف محملا وأحسن وقاية.

وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسا درعا حرشفيا ، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد. واشتهر عند العرب ، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:

شمّ العرانين أبطال لبوسهم

من نسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سوابغ قد شكت لها حلق

كأنها حلق القفعاء مجدول (١)

__________________

(١) القفعاء : بقاف ففاء فعين : بزرة صحراء نبت ينبسط على وجه الأرض يشبه حلق الدروع.

٨٨

وكانت الدروع التّبعية مشهورة عند العرب فلعل تبّعا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف ، وقد جمعها النابغة بقوله :

وكلّ صموت نثلة تبّعية

ونسج سليم كلّ قمصاء ذائل

أراد بسليم ترخيم سليمان ، يعني سليمان بن داود ، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخرا لها.

واللبوس ـ بفتح اللام ـ أصله اسم لكل ما يلبس فهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول. وغلب إطلاقه على ما يلبس من لامة الحرب من الحديد ، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لبوس على الثياب. وقال ابن عطية : اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.

ومعي لبوس للبئيس كأنه

روق بجبهة ذي نعاج مجفل (١)

وقرأ الجمهور ليحصنكم بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ (لَبُوسٍ). وإسناد الإحصان إلى اللبوس إسناد مجازي. وقرأ ابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ـ بالمثناة الفوقية ـ على تأويل معنى (لَبُوسٍ) بالدرع ، وهي مؤنثة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب لنحصنكم بالنون.

وضمائر الخطاب في (لَكُمْ) ، ليحصنكم ، (مِنْ بَأْسِكُمْ ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) موجهة إلى المشركين تبعا لقوله تعالى قبل ذلك : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء : ٥٠] لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.

والإحصان : الوقاية والحماية. والبأس : الحرب.

ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) مستعملا في استبطاء عدم الشكر ومكنّى به عن الأمر بالشكر.

وكان العدول عن إيلاء (هل) الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن ل (هل) مزيد اختصاص بالفعل ، فلم يقل : فهل تشكرون ، وعدل إلى (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ليدلّ العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار ، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله

__________________

(١) البئيس : الشجاع ، وذو النعاج : الثور الوحشي معه نعاجه أي إناثه فهو مجفل من الصائد.

٨٩

تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) في آية تحريم الخمر [المائدة : ٩١].

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

عطف على جملة (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء : ٧٩] بمناسبة تسخير خارق للعادة في كلتا القصتين معجزة للنبيين عليهما‌السلام.

والأرض التي بارك الله فيها هي أرض الشام. وتسخير الريح : تسخيرها لما تصلح له ، وهو سير المراكب في البحر. والمراد أنها تجري إلى الشام راجعة عن الأقطار التي خرجت إليها لمصالح ملك سليمان من غزو أو تجارة بقرينة أنها مسخرة لسليمان فلا بد أن تكون سائرة لفائدة الأمة التي هو ملكها.

وعلم من أنها تجري إلى الأرض التي بارك الله فيها أنها تخرج من تلك الأرض حاملة الجنود أو مصدّرة البضائع التي تصدرها مملكة سليمان إلى بلاد الأرض وتقفل راجعة بالبضائع والميرة ومواد الصناعة وأسلحة الجند إلى أرض فلسطين ، فوقع في الكلام اكتفاء اعتمادا على القرينة. وقد صرح بما اكتفى عنه هنا في آية سورة سبأ [١٢] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ).

ووصفها هنا ب (عاصِفَةً) بمعنى قوية. ووصفها في سورة ص [٣٦] بأنها (رُخاءً) في قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ). والرخاء : الليلة المناسبة لسير الفلك. وذلك باختلاف الأحوال فإذا أراد الإسراع في السير سارت عاصفة وإذا أراد اللين سارت رخاء ، والمقام قرينة على أن المراد المواتاة لإرادة سليمان كما دل عليه قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) في الآيتين المشعر باختلاف مقصد سليمان منها كما إذا كان هو راكبا في البحر فإنه يريدها رخاء لئلا تزعجه وإذا أصدرت مملكته بضاعة أو اجتلبتها سارت عاصفة وهذا بيّن بالتأمل.

وعبر (بِأَمْرِهِ) عن رغبته وما يلائم أسفار سفائنه وهي رياح موسمية منتظمة سخرها الله له.

وأمر سليمان دعاؤه الله أن يجري الريح كما يريد سليمان : إما دعوة عامة كقوله (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥] فيشمل كل ما به استقامة أمور الملك

٩٠

وتصاريفه ، وإما دعوة خاصة عند كل سفر لمراكب سليمان فجعل الله الرياح الموسمية في بحار فلسطين مدة ملك سليمان إكراما له وتأييدا إذا كان همه نشر دين الحقّ في الأرض.

وإنما جعل الله الريح تجري بأمر سليمان ولم يجعلها تجري لسفنه لأن الله سخر الريح لكل السفن التي فيها مصلحة ملك سليمان فإنه كانت تأتيه سفن (ترشيش) ـ يظن أنها طرطوشة بالأندلس أو قرطجنة بإفريقية ـ وسفن حيرام ملك صور حاملة الذهب والفضة والعاج والقردة والطواويس وهدايا الآنية والحلل والسلاح والطيب والخيل والبغال كما في الإصحاح ١٠ من سفر الملوك الأول.

وجملة (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) معترضة بين الجمل المسوقة لذكر عناية الله بسليمان. والمناسبة أن تسخير الريح لمصالح سليمان أثر من آثار علم الله بمختلف أحوال الأمم والأقاليم وما هو منها لائق بمصلحة سليمان فيجري الأمور على ما تقتضيه الحكمة التي أرادها سبحانه إذ قال : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) [ص : ٢٠].

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

هذا ذكر معجزة وكرامة لسليمان. وهي أن سخر إليه من القوى المجردة من طوائف الجنّ والشياطين التي تتأتّى لها معرفة الأعمال العظيمة من غوص البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ومن أعمال أخرى أجملت في قوله تعالى : (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ). وفصّل بعضها في آيات أخرى كقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣] وهذه أعمال متعارفة. وإنما اختصّ سليمان بعظمتها مثل بناء هيكل بيت المقدس وبسرعة إتمامها.

ومعنى (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن الله بقدرته سخرهم لسليمان ومنعهم عن أن ينفلتوا عنه أو أن يعصوه ، وجعلهم يعملون في خفاء ولا يؤذوا أحدا من الناس ؛ فجمع الله بحكمته بين تسخيرهم لسليمان وعلمه كيف يحكمهم ويستخدمهم ويطوعهم ، وجعلهم منقادين له وقائمين بخدمته دون عناء له ، وحال دونهم ودون الناس لئلا يؤذوهم. ولما توفّي سليمان لم يسخر الله الجنّ لغيره استجابة لدعوته إذ قال : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥]. ولما مكّن الله النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنيّ الذي كاد أن يفسد عليه صلاته وهمّ بأن يربطه ، ذكر دعوة سليمان فأطلقه فجمع الله له بين التمكين من الجنّ

٩١

وبين تحقيق رغبة سليمان.

وقوله (لَهُمْ) يتعلق ب (حافِظِينَ) واللام لام التقوية. والتقدير : حافظينهم ، أي مانعينهم عن الناس.

[٨٣ ، ٨٤] (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

عطف على (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٨] أي وآتينا أيوب حكما وعلما إذ نادى ربه. وتخصيصه بالذكر مع من ذكر من الأشياء لما اختصّ به من الصبر حتى كان مثلا فيه. وتقدمت ترجمة أيوب في سورة الأنعام.

وأما القصة التي أشارت إليها هذه الآية فهي المفصلة في السفر الخاص بأيوب من أسفار النبيئين الإسرائيلية. وحاصلها أنه كان نبيئا وذا ثروة واسعة وعائلة صالحة متواصلة ، ثم ابتلي بإصابات لحقت أمواله متتابعة فأتت عليها ، وفقد أبناءه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد ، فتلقى ذلك بالصبر والتسليم. ثم ابتلي بإصابة قروح في جسده وتلقى ذلك كله بصبر وحكمة وهو يبتهل إلى الله بالتمجيد والدعاء بكشف الضر. وتلقى رثاء أصحابه لحاله بكلام عزيز الحكمة والمعرفة بالله ، وأوحى الله إليه بمواعظ. ثم أعاد عليه صحته وأخلفه مالا أكثر من ماله وولدت له زوجه أولادا وبنات بعدد من هلكوا له من قبل.

وقد ذكرت قصته بأبسط من هنا في سورة ص ، ولأهل القصص فيها مبالغات لا تليق بمقام النبوءة.

و (إذ) ظرف قيّد به إيتاء أيوب رباطة القلب وحكمة الصبر لأن ذلك الوقت كان أجلى مظاهر علمه وحكمته كما أشارت إليه القصة. وتقدم نظيره آنفا عند قوله تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ) [الأنبياء : ٧٦] فصار أيوب مضرب المثل في الصبر.

وقوله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ـ بفتح الهمزة ـ على تقدير باء الجر ، أي نادى ربه بأني مسني الضر.

والمسّ : الإصابة الخفيفة. والتعبير به حكاية لما سلكه أيوب في دعائه من الأدب مع الله إذ جعل ما حلّ به من الضر كالمس الخفيف.

٩٢

والضرّ ـ بضمّ الضاد ـ ما يتضرر به المرء في جسده من مرض أو هزال ، أو في ماله من نقص ونحوه.

وفي قوله تعالى : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) التعريض بطلب كشف الضرّ عنه بدون سؤال فجعل وصف نفسه بما يقتضي الرحمة له ، ووصف ربه بالأرحمية تعريضا بسؤاله ، كما قال أمية بن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرضه الثناء

وكون الله تعالى أرحم الراحمين لأن رحمته أكمل الرحمات لأن كل من رحم غيره فإما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا أو للثواب في الآخرة أو دفعا للرقة العارضة للنفس من مشاهدة من تحق الرحمة له فلم يخل من قصد نفع لنفسه ، وإما رحمته تعالى عباده فهي خلية عن استجلاب فائدة لذاته العلية.

ولكون ثناء أيوب تعريضا بالدعاء فرع عليه قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ). والسين والتاء للمبالغة في الإجابة ، أي استجبنا دعوته العرضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضرّ ، إشارة إلى سرعة كشف الضرّ عنه ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، وهو ما تقتضيه العادة في البرء وحصول الرزق وولادة الأولاد.

والكشف : مستعمل في الإزالة السريعة. شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة.

والموصول في قوله تعالى : (ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) مقصود منه الإبهام. ثم تفسيره ب (من) البيانية لقصد تهويل ذلك الضرّ لكثرة أنواعه بحيث يطول عدّها. ومثله قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] إشارة إلى تكثيرها. ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] ، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضرّ وينسون شكره على عظيم النعم ، أي كشفنا ما حلّ به من ضرّ في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته.

والإيتاء : الإعطاء ، أي أعطيناه أهله ، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته. وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل ، يعني بموت أولاده وبناته ، وهو على تقدير مضاف بيّن من السياق ، أي مثل أهله بأن رزق أولادا بعدد ما فقد ، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابنا وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سنّ العقم.

٩٣

وانتصب (رَحْمَةً) على المفعول لأجله. ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويها بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل. والمراد رحمة بأيوب إذ قال (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

والذكرى : التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه. وهو معطوف على (رَحْمَةً) فهو مفعول لأجله ، أي وتنبيها للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم.

وبما في (الْعابِدِينَ) من العموم صارت الجملة تذييلا.

[٨٥ ، ٨٦] (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

عطف على (وَأَيُّوبَ) [الأنبياء : ٨٣] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حكما وعلما.

وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب.

فأما صبر إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] ، وتقرر بسكناه بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر أبيه المتلقى من الله تعالى ، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة.

وأما إدريس فهو اسم (أخنوخ) على أرجح الأقوال. وقد ذكر أخنوخ في التوراة في سفر التكوين جدّا لنوح. وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدّ في صف الصابرين. والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب. وقد عدت من صبره قصص ، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم.

وأما ذو الكفل فهو نبيء اختلف في تعيينه ، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود (إيليا).

وقيل : هو خليفة اليسع في نبوءة بني إسرائيل. والظاهر أنه (عوبديا) الذي له كتاب

٩٤

من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار.

والكفل ـ بكسر الكاف وسكون الفاء ـ ، أصله : النصيب من شيء ، مشتق من كفل إذا تعهد. لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع. وذلك أن اليسع لما كبر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال : من يتكفل لي بثلاث أستخلفه : أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب. فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه (عوبديا) ، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين. وقد عد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره (انظر سفر الملوك الأول الإصحاح ١٨. ورؤيا عوبديا صفحة ٨٩١ من الكتاب المقدس). وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئا. وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام.

وجملة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) تعليل لإدخالهم في الرحمة ، وتذييل للكلام يفيد أن تلك سنة الله مع جميع الصالحين.

[٨٧ ، ٨٨] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

عطف على (وَذَا الْكِفْلِ) [الأنبياء : ٨٥]. وذكر ذي النون في جملة من خصّوا بالذكر من الأنبياء لأجل ما في قصته من الآيات في الالتجاء إلى الله والندم على ما صدر منه من الجزع واستجابة الله تعالى له.

و (ذو النون) وصف ، أي صاحب الحوت. لقب به يونس بن متى ـ عليه‌السلام ـ. وتقدمت ترجمته في سورة الأنعام وتقدمت قصته مع قومه في سورة يونس.

وذهابه مغاضبا قيل خروجه غضبان من قومه أهل (نينوى) إذ أبوا أن يؤمنوا بما أرسل إليهم به وهم غاضبون من دعوته ، فالمغاضبة مفاعلة. وهذا مقتضى المروي عن ابن عباس. وقيل : إنه أوحي إليه أن العذاب نازل بهم بعد مدة فلما أشرفت المدّة على الانقضاء آمنوا فخرج غضبان من عدم تحقق ما أنذرهم به ، فالمغاضبة حينئذ للمبالغة في الغضب لأنه غضب غريب. وهذا مقتضى المروي عن ابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ، وروي عن ابن عباس أيضا واختاره ابن جرير. والوجه أن يكون (مُغاضِباً)

٩٥

حالا مرادا بها التشبيه ، أي خرج كالمغاضب. وسيأتي تفصيل هذا المعنى في سورة الصافات.

وقوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) يقتضي أنه خرج خروجا غير مأذون له فيه من الله. ظن أنه إذا ابتعد عن المدينة المرسل هو إليها يرسل الله غيره إليهم. وقد روي عن ابن عباس أن (حزقيال) ملك إسرائيل كان في زمنه خمسة أنبياء منهم يونس ، فاختاره الملك ليذهب إلى أهل (نينوى) لدعوتهم فأبى وقال : هاهنا أنبياء غيري وخرج مغاضبا للملك. وهذا بعيد من القرآن في آيات أخرى ومن كتب بني إسرائيل.

ومحلّ العبرة من الآية لا يتوقف على تعيين القصة.

ومعنى (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قيل نقدر مضارع قدر عليه أمرا بمعنى ضيّق كقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦] وقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧] ، أي ظن أن لن نضيّق عليه تحتيم الإقامة مع القوم الذين أرسل إليهم أو تحتيم قيامه بتبليغ الرسالة ، وأنه إذا خرج من ذلك المكان سقط تعلق تكليف التبليغ عنه اجتهادا منه ، فعوتب بما حلّ به إذ كان عليه أن يستعلم ربه عما يريد فعله. وفي «الكشاف» : أن ابن عباس دخل على معاوية فقال له معاوية : «لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال : وما هي؟ فقرأ معاوية هذه الآية وقال : أو يظن نبيء الله أن الله لا يقدر عليه؟ قال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة». يعني التضييق عليه.

وقيل (نَقْدِرَ) هنا بمعنى نحكم مأخوذ من القدرة ، أي ظن أن لن نؤاخذه بخروجه من بين قومه دون إذن. ونقل هذا عن مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وهو رواية عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج. وعلى هذا يكون يونس اجتهد وأخطأ.

وعلى هذا الوجه فالتفريع تفريع خطور هذا الظن في نفسه بعد أن كان الخروج منه بادرة بدافع الغضب عن غير تأمل في لوازمه وعواقبه ، قالوا : وكان في طبعه ضيق الصدر.

وقيل معنى الكلام على الاستفهام حذفت همزته. والتقدير : أفظن أن لن نقدر عليه؟ ونسب إلى سليمان بن المعتمر أو أبي المعتمر. قال منذر بن سعيد في «تفسيره» : وقد قرئ به.

وعندي فيه تأويلان آخران وهما : أنه ظن وهو في جوف الحوت أن الله غير مخلصه

٩٦

في بطن الحوت لأنه رأى ذلك مستحيلا عادة ، وعلى هذا يكون التعقيب بحسب الواقعة ، أي ظن بعد أن ابتلعه الحوت.

وأما نداؤه ربه فذلك توبة صدرت منه عن تقصيره أو عجلته أو خطأ اجتهاده ، ولذلك قال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) مبالغة في اعترافه بظلم نفسه ، فأسند إليه فعل الكون الدال على رسوخ الوصف ، وجعل الخبر أنه واحد من فريق الظالمين وهو أدل على أرسخية الوصف ، أو أنه ظن بحسب الأسباب المعتادة أنه يهاجر من دار قومه ، ولم يظن أن الله يعوقه عن ذلك إذ لم يسبق إليه وحي من الله.

و (أَنِّي) مفسرة لفعل (نادى).

وتقديمه الاعتراف بالتوحيد مع التسبيح كنّى به عن انفراد الله تعالى بالتدبير وقدرته على كل شيء.

والظلمات : جمع ظلمة. والمراد ظلمة الليل ، وظلمة قعر البحر ، وظلمة بطن الحوت. وقيل : الظلمات مبالغة في شدة الظلمة كقوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧].

وقد تقدم أنا نظن أن «الظلمة» لم ترد مفردة في القرآن.

والاستجابة : مبالغة في الإجابة. وهي إجابة توبته مما فرط منه. والإنجاء وقع حين الاستجابة إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن الحوت إلا ساعة قليلة ، وعطف بالواو هنا بخلاف عطف (فَكَشَفْنا) على (فَاسْتَجَبْنا) وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت حتى خرج الحوت إلى قرب الشاطئ فتقاياه فخرج يسبح إلى الشاطئ.

وهذا الحوت هو من صنف الحوت العظيم الذي يبتلع الأشياء الضخمة ولا يقضمها بأسنانه. وشاع بين الناس تسمية صنف من الحوت بحوت يونس رجما بالغيب.

وجملة (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) تذييل. والإشارة ب (كَذلِكَ) إلى الإنجاء الذي أنجي به يونس ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غموم بحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة. وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغمّ والنكد الذي يلاقونه من سوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم.

واعلم أن كلمة (فَنُجِّيَ) كتبت في المصاحف بنون واحدة كما كتبت بنون واحدة

٩٧

في قوله في [سورة يوسف : ١١٠] (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ). ووجّه أبو علي هذا الرسم بأن النون الثانية لما كانت ساكنة وكان وقوع الجيم بعدها يقتضي إخفاءها لأن النون الساكنة تخفى مع الأحرف الشجرية وهي ـ الجيم والشين والضاد ـ فلما أخفيت حذفت في النطق فشابه إخفاؤها حالة الإدغام فحذفها كاتب المصحف في الخطّ لخفاء النطق بها في اللفظ ، أي كما حذفوا نون (إن) مع (لا) في نحو «إلا فعلوه» من حيث إنها تدغم في اللام.

وقرأ جمهور القراء بإثبات النونين في النطق فيكون حذف إحدى النونين في الخط مجرد تنبيه على اعتبار من اعتبارات الأداء. وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ـ بنون واحدة وبتشديد الجيم ـ على اعتبار إدغام النون في الجيم كما تدغم في اللام والراء. وأنكر ذلك عليهما أبو حاتم والزجّاج وقالا : هو لحن. ووجّه أبو عبيد والفراء وثعلب قراءتهما بأن (نُنْجِي) سكنت ياؤه ولم تحرك على لغة من يقول بقي ورضي فيسكن الياء كما في قراءة الحسن (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٨] بتسكين ياء (بَقِيَ). وعن أبي عبيد والقتبي أن النون الثانية أدغمت في الجيم.

ووجّه ابن جني متابعا للأخفش الصغير بأن أصل هذه القراءة : ننجّي ـ بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ـ فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين فصار نجي. وعن بعض النحاة تأويل هذه القراءة بأن نجّي فعل مضي مبني للنائب وأن نائب الفاعل ضمير يعود إلى النجاء المأخوذ من الفعل ، أو المأخوذ من اسم الإشارة في قوله (وَكَذلِكَ).

وانتصب (الْمُؤْمِنِينَ) على المفعول به على رأي من يجوز إنابة المصدر مع وجود المفعول به. كما في قراءة أبي جعفر (لِيَجْزِيَ) ـ بفتح الزاي ـ (قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] بتقدير ليجزى الجزاء قوما. وقال الزمخشري في «الكشاف» : إن هذا التوجيه بارد التعسف.

[٨٩ ، ٩٠] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ)

كان أمر زكرياء الذي أشار إليه قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ) آية من آيات الله في عنايته

٩٨

بأوليائه المنقطعين لعبادته فخصّ بالذكر لذلك. والقول في عطف وزكرياء كالقول في نظائره السابقة.

وجملة (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) مبيّنة لجملة (نادى رَبَّهُ). وأطلق الفرد على من لا ولد له تشبيها له بالمنفرد الذي لا قرين له. قال تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] ، ويقال مثله الواحد للذي لا رفيق له ، قال الحارث بن هشام :

وعلمت أني إن أقاتل واحدا

أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

فشبه من لا ولد بالفرد لأن الولد يصيّر أباه كالشفع لأنه كجزء منه. ولا يقال لذي الولد زوج ولا شفع.

وجملة (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ثناء لتمهيد الإجابة ، أي أنت الوارث الحق فاقض عليّ من صفتك العلية شيئا. وقد شاع في الكتاب والسنة ذكر صفة من صفات الله عند سؤاله إعطاء ما هو من جنسها ، كما قال أيوب (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء : ٨٣] ، ودلّ ذكر ذلك على أنه سأل الولد لأجل أن يرثه كما في آية [سورة مريم : ٦] (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ). حذفت هاته الجملة لدلالة المحكي هنا عليها. والتقدير : يرثني الإرث الذي لا يداني إرثك عبادك ، أي بقاء ما تركوه في الدنيا لتصرّف قدرتك ، أو يرثني مالي وعلمي وأنت ترث نفسي كلها بالمصير إليك مصيرا أبديا فأرثك خير إرث لأنه أشمل وأبقى وأنت خير الوارثين في تحقق هذا الوصف.

وإصلاح زوجه : جعلها صالحة للحمل بعد أن كانت عاقرا.

وتقدم ذكر زكرياء في سورة آل عمران وذكر زوجه في سورة مريم.

(إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)

جملة واقعة موقع التعليل للجمل المتقدمة في الثناء على الأنبياء المذكورين ، وما أوتوه من النصر ، واستجابة الدعوات ، والإنجاء من كيد الأعداء ، وما تبع ذلك ، ابتداء من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨]. فضمائر الجمع عائدة إلى المذكورين. وحرف التأكيد مفيد معنى التعليل والتسبب ، أي ما استحقّوا ما أوتوه إلا لمبادرتهم إلى مسالك الخير وجدّهم في تحصيلها.

وأفاد فعل الكون أن ذلك كان دأبهم وهجّيراهم.

٩٩

والمسارعة : مستعارة للحرص وصرف الهمة والجدّ للخيرات ، أي لفعلها ، تشبيها للمداومة والاهتمام بمسارعة السائر إلى المكان المقصود الجادّ في مسالكه.

والخيرات : جمع خير ـ بفتح الخاء وسكون الياء ـ وهو جمع بالألف والتاء على خلاف القياس فهو مثل سرادقات وحمامات واصطبلات. والخير ضدّ الشرّ ، فهو ما فيه نفع. وأما قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] فيحتمل أنه مثل هذا ، ويحتمل أنه جمع خيرة ـ بفتح فسكون ـ الذي هو مخفف خيّره المشدّد الياء ، وهي المرأة ذات الأخلاق الخيرية. وقد تقدم الكلام على (الْخَيْراتِ) في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) في [سورة براءة : ٨٨]. وعطف على ذلك أنهم يدعون الله رغبة في ثوابه ورهبة من غضبه ، كقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩].

والرغب والرهب ـ بفتح ثانيهما ـ مصدران من رغب ورهب. وهما وصف لمصدر (يَدْعُونَنا) لبيان نوع الدعاء بما هو أعم في جنسه ، أو يقدر مضاف ، أي ذوي. رغب ورهب ، فأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه.

وذكر فعل الكون في قوله تعالى : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) مثل ذكره في قوله تعالى : (كانُوا يُسارِعُونَ).

والخشوع : خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية. هذه هي مريم ابنة عمران. وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالبا ، وأيضا لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكا وزورا ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) الذي هو في حكم الصلة أيضا ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين موجب ثناء. وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيم قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالا من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ

١٠٠