تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

من غير أن يظلم أحد» ه. أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥].

والوضع : ترشيح ومستعار للظهور.

وذهب الأشاعرة إلى أخذ الميزان على ظاهره.

وللمعتزلة في ذلك قولان ففريق قالوا : الميزان حقيقة ، وفريق قالوا : هو مجاز. وقد ذكر القولين في «الكشاف» فدل صنيعه على أن القولين جاريان على أقوال أئمتهم وصرح به في «تقرير المواقف».

وفي «المقاصد» : «ونسبة القول بانتفاء حقيقة الميزان إلى المعتزلة على الإطلاق قصور من بعض المتكلمين» ه.

قلت : لعلّه أراد به النسفيّ في «عقائده».

قال أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم» : «انفرد القرآن بذكر الميزان ، وتفردت السنة بذكر الصراط والحوض ، فلما كان هذا الأمر هكذا اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال إن الأعمال توزن حقيقة في ميزان له كفّتان وشاهين وتجعل في الكفتين صحائف الحسنات والسيئات ويخلق الله الاعتماد فيها على حسب علمه بها. ومنهم من قال إنما يرجع الخبر عن الوزن إلى تعريف الله العباد بمقادير أعمالهم. ونقل الطبري وغيره عن مجاهد أنه كان يميل إلى هذا.

وليس بممتنع أن يكون الميزان والوزن على ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض فها هنا يقف من وقف ويمشي على هذا من مشى. فمن كان رأيه الوقوف فمن الأول ينبغي أن يقف ، ومن أراد المشي ليجدنّ سبيلا مئتاء (١) إذ يجد ثلاثة معان ميزانا ووزنا وموزونا ، فإذا مشى في طريق الميزان والوزن ووجده صحيحا في كلّ لفظة حتى إذا بلغ تمييز الموزون ولم يتبين له لا ينبغي أن يرجع القهقرى فيبطل ما قد أثبت بل يبقي ما تقدم على حقيقته وصحته ويسعى في تأويل هذا وتبيينه اه.

وقلت : كلا القولين مقبول والكلّ متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا والله تعالى قادر على كل شيء. وليس بمثل هذه المباحث تعرف قدرة

__________________

(١) بكسر الميم وبهمزة ساكنة بعدها ومد في آخره : الطريق العام المسلوك.

٦١

الله تعالى ولا بالقياس على المعتاد المتعارف تجحد تصرفاته تعالى.

ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي وأن بيانه بقوله (الْقِسْطَ) في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحا.

وتقدم ذكر الوزن في قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) في [سورة الأعراف : ٨].

والقسط : العدل ، ويقال : القسطاس ، وهو كلمة معرّبة من اللغة الرومية (اللاطينية). وقد نقل البخاري في آخر «صحيحه» ذلك عن مجاهد.

فعلى اعتبار جعل الموازين حقيقة في آلات وزن في الآخرة يكون لفظ القسط الذي هو مصدر بمعنى العدل للموازين على تقدير مضاف ، أي ذات القسط ، وعلى اعتبار في الموازين في العدل يكون لفظ القسط بدلا من الموازين فيكون تجريدا بعد الترشيح. ويجوز أن يكون مفعولا لأجله فإنه مصدر صالح لذلك.

واللام في قوله تعالى (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) تحتمل أن تكون للعلة مع تقدير مضاف ، أي لأجل يوم القيامة ، أي الجزاء في يوم القيامة. وتحتمل أن تكون للتوقيت بمعنى (عند) التي هي للظرفية الملاصقة كما يقال : كتب لثلاث خلون من شهر كذا ، وكقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] أي نضع الموازين عند يوم القيامة.

وتفريع (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) على وضع الموازين تفريع العلة على المعلول أو المعلول على العلة. والظلم : ضد العدل ، ولذلك فرع نفيه على إثبات وضع العدل. و (شَيْئاً) منصوب على المفعولية المطلقة ، أي شيئا من الظلم.

ووقوعه في سياق النفي دل على تأكيد العموم ، أي شيئا من الظلم.

ووقوعه في سياق النفي دلّ على تأكيد العموم من فعل (تُظْلَمُ) الواقع أيضا في سياق النفي ، أي لا تظلم بنقص من خير استحقته ولا بزيادة شيء لم تستحقه ، فالظلم صادق بالحالين والشيء كذلك.

وهذه الجملة كلمة جامعة لمعان عدة مع إيجاز لفظها ، فنفي جنس الظلم ونفي عن كل نفس فأفاد أن لا بقاء لظلم بدون جزاء.

وجملة (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) في موضع الحال. و (إن) وصيلة دالة على

٦٢

أن مضمون ما بعدها من شأنه أن يتوهم تخلف الحكم عنه فإذا نصّ على شمول الحكم إياه علم أن شموله لما عداه بطريق الأولى. وقد يرد هذا الشرط بحرف (لو) غالبا كما في قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في [آل عمران : ٩١]. ويرد بحرف (إن) كما هنا ، وقول عمرو بن معد يكرب :

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

وقد تقدم في سورة آل عمران.

وقرأ الجمهور (مِثْقالَ) بالنصب على أنه خبر (كانَ) وأن اسمها ضمير عائد إلى (شَيْئاً). وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة.

وقرأ نافع وأبو جعفر (مِثْقالَ) مرفوعا على أن (كانَ) تامّة و (مِثْقالَ) فاعل.

ومعنى القراءتين متّحد المآل ، وهو : أنه إن كان لنفس مثقال حبّة من خردل من خير أو من شرّ يؤت بها في ميزان أعمالها ويجاز عليها.

وجملة (أَتَيْنا بِها) على القراءة الأولى مستأنفة ، وعلى القراءة الثانية إما جواب للشرط أو مستأنفة وجواب الشرط محذوف. وضمير (بِها) عائد إلى (مِثْقالَ حَبَّةٍ). واكتسب ضميره التأنيث لإضافة معاده إلى مؤنث وهو (حَبَّةٍ).

والمثقال : ما يماثل شيئا في الثقل ، أي الوزن ، فمثقال الحبة : مقدارها. والحبة : الواحدة من ثمر النبات الذي يخرج من السنبل أو في المزادات التي كالقرون أو العبابيد كالقطاني.

والخردل : حبوب دقيقة كحبّ السمسم هي بزور شجر يسمى عند العرب الخردل. واسمه في علم النبات (سينابيس). وهو صنفان بري وبستاني. وينبت في الهند ومصر وأوروبا. وشجرته ذات ساق دقيقة ينتهي ارتفاعها إلى نحو متر. وأوراقها كبيرة. يخرج أزهارا صفرا منها تتكون بزوره إذ تخرج في مزادات صغيرة مملوءة من هذا الحب ، تخرج خضراء ثم تصير سوداء مثل الخرنوب الصغير. وإذا دقّ هذا الحب ظهرت منه رائحة معطّرة إذا قربت من الأنف شما دمعت العينان ، وإذا وضع معجونها على الجلد أحدث فيه بعد هنيهة لذعا وحرارة ثم لا يستطيع الجلد تحملها طويلا ويترك موضعه من الجلد شديد الحمرة لتجمّع الدم بظاهر الجلد ولذلك يجعل معجونه بالماء دواء يوضع على المحل المصاب باحتقان الدم مثل ذات الجنب والنزلات الصدرية.

٦٣

وجملة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) عطف على جملة (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ومفعول (كَفى) محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً). والتقدير : وكفى الناس نحن في حال حسابهم.

ومعنى كفاهم نحن حاسبين أنهم لا يتطلعون إلى حاسب آخر يعدل مثلنا. وهذا تأمين للناس من أن يجازى أحد منهم بما لا يستحقه. وفي ذلك تحذير من العذاب وترغيب في الثواب.

وضمير الجمع في قوله تعالى (حاسِبِينَ) مراعى فيه ضمير العظمة من قوله تعالى (بِنا) ، والباء مزيدة للتوكيد ، وأصل التركيب : كفينا الناس ، وهذه الباء تدخل بعد فعل (كفى) غالبا فتدخل على فاعله في الأكثر كما هنا وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في [سورة النساء : ٧٩]. وتدخل على مفعوله كما في الحديث : «كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكل ما سمع».

وانتصب (حاسِبِينَ) على الحال أو التمييز لنسبة (كَفى). وتقدمت نظائر هذا التركيب غير مرّة منها في قوله تعالى (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في [سورة النساء : ٧٩].

[٤٨ ـ ٥٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

عطف على جملة (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) إلى قوله تعالى : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية ، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء ، وأنه ما كان بدعا من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذلك من ذكر عناد الأقوام ، وثبات الأقدام ، والتأييد من الملك العلّام ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) في سورة [الإسراء : ٧٧]. فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين.

وفي سوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضا لما بنيت عليه السورة من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى إليهم [الأنبياء : ٧] الآيات ، ثم قوله تعالى :

٦٤

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا) يوحى (إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ، ثم قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥]. واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

وابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه‌السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام.

وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة.

ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب.

والفرقان : ما يفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل. وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم. فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) في [سورة الصافات : ١١٧].

والإخبار عن الفرقان بإسناد إيتائه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يعد كونه إيتاء من الله تعالى ووحيا كما أوتي محمد عليه الصلاة والسلام القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه‌السلام ما جاء إلا بمثله. وفيه تنبيه على جلالة ذلك الموتى.

ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) في [سورة غافر : ٢٣]. ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في [سورة البقرة : ٥٣].

وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى الآتي : (وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ). وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيما لبعض بل هي صفات متداخلة ، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث.

والضياء : النور. يستعمل مجازا في الهدى والعلم ، وهو استعمال كثير ، وهو المراد هنا وقد قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) في [سورة المائدة : ٤٤].

٦٥

والذكر أصله : خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه. ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله ، فقوله تعالى (لِلْمُتَّقِينَ) يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول ، أي الذين اتصفوا بتقوى الله ، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه ، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم. ويجوز أن يكون اللام للعلة ، أي ذكر لأجل المتقين ، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين.

ووصفهم بما يزيد معنى المتقين بيانا بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) وهو على نحو قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في [سورة البقرة : ٢ ـ ٣].

والباء في قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) بمعنى (في). والغيب : ما غاب عن عيون الناس ، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس.

والإشفاق : رجاء حادث مخوف. ومعنى الإشفاق من الساعة : الإشفاق من أهوالها ، فهم يعدّون لها عدّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة.

وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ). فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهؤلاء هم فرعون وقومه.

وقد عقب هذا التعريض بذكر المقصود من سوق الكلام الناشئ هو عنه ، وهو المقابلة بقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

واسم الإشارة يشير إلى القرآن لأن حضوره في الأذهان وفي التلاوة بمنزلة حضور ذاته. ووصفه القرآن بأنه ذكر لأن لفظ الذكر جامع لجميع الأوصاف المتقدمة كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في [سورة النحل : ٤٤].

ووصف القرآن بالمبارك يعمّ نواحي الخير كلها لأن البركة زيادة الخير ؛ فالقرآن كلّه خير من جهة بلاغة ألفاظه وحسنها وسرعة حفظه وسهولة تلاوته ، وهو أيضا خير لما اشتمل عليه من أفنان الكلام والحكمة والشريعة واللطائف البلاغية ، وهو في ذلك كله آية على صدق الذي جاء به لأن البشر عجزوا عن الإتيان بمثله وتحدّاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فما استطاعوا. وبذلك اهتدت به أمم كثيرة في جميع الأزمان ، وانتفع به من آمنوا به وفريق

٦٦

ممن حرموا الإيمان. فكان وصفه بأنه مبارك وافيا على وصف كتاب موسى عليه‌السلام بأنه فرقان وضياء.

وزاده تشريفا بإسناد إنزاله إلى ضمير الجلالة. وجعل الوحي إلى الرسول إنزالا لما يقتضيه الإنزال من رفعة القدر إذ اعتبر مستقرّا في العالم العلوي حتى أنزل إلى هذا العالم.

وفرّع على هذه الأوصاف العظيمة استفهام توبيخي تعجيبي من إنكارهم صدق هذا الكتاب ومن استمرارهم على ذلك الإنكار بقوله تعالى : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). ولكون إنكارهم صدقه حاصلا منهم في حال الخطاب جيء بالجملة الاسمية ليتأتى جعل المسند اسما دالا على الاتّصاف في زمن الحال وجعل الجملة دالة على الثبات في الوصف وفاء بحق بلاغة النظم.

[٥١ ـ ٥٧] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧))

أعقبت قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم فيما أوحي إليه من مقاومة الشرك ووضوح الحجة على بطلانه ، لأن إبراهيم كان هو المثل الأول قبل مجيء الإسلام في مقاومة الشرك إذ قاومه بالحجة وبالقوة وبإعلان التوحيد إذ أقام للتوحيد هيكلا بمكة هو الكعبة وبجبل (نابو) من بلاد الكنعانيين حيث كانت مدينة تسمى يومئذ (لوزا) ثم بنى بيت ايل بالقرب من موضع مدينة (أورشليم) في المكان الذي أقيم به هيكل سليمان من بعد ، فكانت قصة إبراهيم مع قومه شاهدا على بطلان الشرك الذي كان مماثلا لحال المشركين بمكة الذين جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطع دابره. وفي ذكر قصة إبراهيم تورك على المشركين من أهل مكة إذ كانوا على الحالة التي نعاها جدّهم إبراهيم على قومه ، وكفى بذلك حجة عليهم. وأيضا فإن شريعة إبراهيم أشهر شريعة بعد شريعة موسى.

وتأكيد الخبر عنه بلام القسم للوجه الذي بيناه آنفا في تأكيد الخبر عن موسى وهارون ، وهو تنزيل العرب في مخالفتهم لشريعة أبيهم إبراهيم منزلة المنكر لكون إبراهيم

٦٧

أوتي رشدا وهديا.

وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.

والرشد : الهدى والرأي الحق ، وضده الغي ، وتقدم في قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) في [سورة البقرة : ٢٥٦]. وإضافة (الرُّشْدُ) إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي الرشد الذي أرشده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد ، أي رشدا يليق به ؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم ، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى ، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.

وزاده تنويها وتفخيما تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي آتيناه رشدا عظيما على علم منا بإبراهيم ، أي بكونه أهلا لذلك الرشد ، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه ، أي علم من سريرته صفات قد رضيها وأحمدها فاستأهل بها اتخاذه خليلا. وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤].

وقوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن نؤتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا. ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.

و (إِذْ قالَ) ظرف لفعل (آتَيْنا) أي كان إيتاؤه الرشد حين قال لأبيه وقومه : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) إلخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حين نزول الوحي إليه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بدئ به من الوحي.

وقوم إبراهيم كانوا من (الكلدان) وكان يسكن بلدا يقال له (كوثى) بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة (أور الكلدان) ، ويقال : أيضا إنها (أورفة) في (الرها) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله (حاران) وحاران هي (حرّان) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح ١٢ من التكوين لقوله فيه : «اذهب من أرضك ومن

٦٨

عشيرتك ومن بيت أبيك». ومات أبوه في (حاران) كما في الإصحاح ١١ من التكوين فيتعين أن دعوة إبراهيم كانت من (حاران) لأنه من حاران خرج إلى أرض كنعان. وقد اشتهر حرّان بأنه بلد الصابئة وفيه هيكل عظيم للصابئة ، وكان قوم إبراهيم صابئة يعبدون الكواكب ويجعلون لها صورا مجسمة.

والاستفهام في قوله تعالى : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) يتسلط على الوصف في قوله تعالى: (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فكأنه قال : ما عبادتكم هذه التماثيل؟. ولكنه صيغ بأسلوب توجه الاستفهام إلى ذات التماثيل لإبهام السؤال عن كنه التماثيل في بادئ الكلام إيماء إلى عدم الملاءمة بين حقيقتها المعبر عنها بالتماثيل وبين وصفها بالمعبودية المعبر عنه بعكوفهم عليها. وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم فهم يظنونه سائلا مستعلما ولذلك أجابوا سؤاله بقولهم (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) ؛ فإن شأن السؤال بكلمة (ما) أنّه لطلب شرح ماهية المسئول عنه.

والإشارة إلى التماثيل لزيادة كشف معناها الدال على انحطاطها عن رتبة الألوهية. والتعبير عنها بالتماثيل يسلب عنها الاستقلال الذاتي.

والأصنام التي كان يعبدها الكلدان قوم إبراهيم هي (بعل) وهو أعظمها ، وكان مصوغا من ذهب وهو رمز الشمس في عهد سميرميس ، وعبدوا رموزا للكواكب ولا شك أنهم كانوا يعبدون أصنام قوم نوح : ودّا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا ، إما بتلك الأسماء وإما بأسماء أخرى. وقد دلت الآثار على أن من أصنام أشور (إخوان الكلدان) صنما اسمه (نسروخ) وهو نسر لا محالة.

وجعل العكوف مسندا إلى ضميرهم مؤذن بأن إبراهيم لم يكن من قبل مشاركا لهم في ذلك فيعلم منه أنّه في مقام الرد عليهم ، ذلك أن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فيه معنى دوامهم على ذلك.

وضمن (عاكِفُونَ) معنى العبادة ، فذلك عدّي باللام لإفادة ملازمة عبادتها.

وجاءوا في جوابه بما توهّموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق ، ولذلك لم يلبث أن أجابهم : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مؤكدا ذلك بلام القسم.

وفي قوله تعالى : (كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ) من اجتلاب فعل الكون وحرف الظرفية ، إيماء

٦٩

إلى تمكنهم من الضلال وانغماسهم فيه لإفادة أنّه ضلال بواح لا شبهة فيه ، وأكد ذلك بوصفه ب (مُبِينٍ). فلما ذكروا له آباءهم شرّكهم في التخطئة بدون هوادة بعطف الآباء عليهم في ذلك ليعلموا أنهم لا عذر لهم في اتّباع آبائهم ولا عذر لآبائهم في سنن ذلك لهم لمنافاة حقيقة تلك الأصنام لحقيقة الألوهية واستحقاق العبادة.

ولإنكارهم أن يكون ما عليه آباؤهم ضلالا ، وإيقانهم أن آباءهم على الحق ، شكّوا في حال إبراهيم أنطق عن جد منه وأن ذلك اعتقاده فقالوا (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) ، فعبروا عنه (بِالْحَقِ) المقابل للعب وذلك مسمى الجدّ. فالمعنى : بالحق في اعتقادك أم أردت به المزح ، فاستفهموا وسألوه (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ). والباء للمصاحبة. والمراد باللعب هنا لعب القول وهو المسمّى مزحا ، وأرادوا بتأويل كلامه بالمزج التلطّف معه وتجنب نسبته إلى الباطل استجلابا لخاطره لما رأوا من قوة حجته.

وعدل عن الإخبار عنه بوصف لاعب إلى الإخبار بأنه من زمرة اللاعبين مبالغة في توغل كلامه ذلك في باب المزح بحيث يكون قائله متمكنا في اللعب ومعدودا من الفريق الموصوف باللعب.

وجاء هو في جوابهم بالإضراب عن قولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) لإبطال أن يكون من اللاعبين ، وإثبات أن ربهم هو الرب الذي خلق السماوات ، أي وليست تلك التماثيل أربابا إذ لا نزاع في أنها لم تخلق السماوات والأرض بل هي مصنوعة منحوتة من الحجارة كما في الآية الأخرى (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] فلما شذّ عنها خلق السماوات والأرض كما هو غير منكر منكم فهي منحوتة من أجزاء الأرض فما هي إلّا مربوبة مخلوقة وليست أربابا ولا خالقة. فضمير الجمع في قوله تعالى (فَطَرَهُنَ) ضمير السماوات والأرض لا محالة.

فكان جواب إبراهيم إبطالا لقولهم (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) مع مستند الإبطال بإقامة الدليل على أنه جاءهم بالحق. وليس فيه طريقة الأسلوب الحكيم كما ظنه الطيبي.

وقوله تعالى : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) إعلام لهم بأنه مرسل من الله لإقامة دين التوحيد لأن رسول كلّ أمة شهيد عليها كما قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ، ولم يكن يومئذ في قومه من يشهد ببطلان إلهية أصنامهم ، فتعين أن المقصود من الشاهدين أنه بعض الذين شهدوا بتوحيد الله بالإلهية في مختلف الأزمان أو الأقطار.

٧٠

ويحتمل معنى التأكيد لذلك بمنزلة القسم ، كقول الفرزدق :

شهد الفرزدق حين يلقى ربه

أن الوليد أحقّ بالعذر

ثم انتقل إبراهيم عليه‌السلام من تغيير المنكر بالقول إلى تغييره باليد معلنا عزمه على ذلك بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) مؤكدا عزمه بالقسم ، فالواو عاطفة جملة القسم على جملة الخبر التي قبلها.

والتاء تختص بقسم على أمر متعجب منه وتختص باسم الجلالة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥].

وسمى تكسيره الأصنام كيدا على طريق الاستعارة أو المشاكلة التقديرية لاعتقاد المخاطبين أنهم يزعمون أن الأصنام تدفع عن أنفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.

والكيد : التحيل على إلحاق الضر في صورة غير مكروهة عند المتضرر. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) في [سورة يوسف : ٢٨].

وإنما قيد كيده بما بعد انصراف المخاطبين إشارة إلى أنه يلحق الضر بالأصنام في أول وقت التمكن منه ، وهذا من عزمه عليه‌السلام لأن المبادرة في تغيير المنكر مع كونه باليد مقام عزم وهو لا يتمكن من ذلك مع حضور عبدة الأصنام فلو حاول كسرها بحضرتهم لكان عمله باطلا ، والمقصود من تغيير المنكر : إزالته بقدر الإمكان ، ولذلك فإزالته باليد لا تكون إلا مع المكنة.

و (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة لعاملها. وقد تقدم نظيره غير مرة منها عند قوله تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) في [سورة براءة : ٢٥].

[٥٨ ـ ٦١] (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

الضميران البارزان في (فَجَعَلَهُمْ) وفي (لَهُمْ) عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل ، وضمير (لَعَلَّهُمْ) عائد إلى قوم إبراهيم ، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩].

٧١

والجذاذ ـ بضم الجيم ـ في قراءة الجمهور : اسم جمع جذاذة ، وهي فعالة من الجذّ ، وهو القطع مثل قلامة وكناسة ، أي كسرهم وجعلهم قطعا. وقرأ الكسائي (جُذاذاً) ـ بكسر الجيم ـ على أنه مصدر ، فهو من الإخبار بالمصدر للمبالغة.

قيل : كانت الأصنام سبعين صنما مصطفة ومعها صنم عظيم وكان هو مقابل باب بيت الأصنام ، وبعد أن كسرها جعل الفأس في رقبة الصنم الأكبر استهزاء بهم.

ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى الأصنام من قوله (أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧]. وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء ، ومثله ضمائر قوله بعده (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣].

وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.

وقول قومه (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) يدل على أنهم لم يخطر ببالهم أن يكون كبير الآلهة فعل ذلك ، وهؤلاء القوم هم فريق لم يسمع توعد إبراهيم إياهم بأن يكيد أصنامهم والذين (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) هم الذين توعد إبراهيم الأصنام بمسمع منهم.

والفتى : الذكر الذي قوي شبابه. ويكون من الناس ومن الإبل. والأنثى : فتاة ، وقد يطلقونه صفة مدح دالة على استكمال خصال الرجل المحمودة.

والذكر : التحدث بالكلام.

وحذف متعلق «يذكر» لدلالة القرينة عليه ، أي يذكرهم بتوعد. وهذا كقوله تعالى: (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] كما تقدم.

وموضع جملتي (يَذْكُرُهُمْ) و (يُقالُ لَهُ) في موضع الصفة ل (فَتًى).

وفي قولهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) دلالة على أن المنتصبين للبحث في القضية لم يكونوا

٧٢

يعرفون إبراهيم ، أو أن الشهداء أرادوا تحقيره بأنه مجهول لا يعرف وإنما يدعى أو يسمى إبراهيم ، أي ليس هو من الناس المعروفين.

ورفع (إِبْراهِيمُ) على أنه نائب فاعل (يُقالُ) ، لأن فعل القول إذا بني إلى المجهول كثيرا ما يضمن معنى الدعوة أو التسمية ، فلذلك حصلت الفائدة من تعديته إلى المفرد البحت وإن كان شأن فعل القول أن لا يتعدّى إلا إلى الجملة أو إلى مفرد فيه معنى الجملة مثل قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠].

ومعنى (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) على مشاهدة الناس ، فاستعير حرف الاستعلاء لتمكن البصر فيه حتى كأنّ المرئي مظروف في الأعين.

ومعنى (يَشْهَدُونَ) لعلهم يشهدون عليه بأنه الذي توعد الأصنام بالكيد.

[٦٢ ـ ٦٧] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) ُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

وقع هنا حذف جملة تقتضيها دلالة الاقتضاء. والتقدير : فأتوا به فقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا.

وقوله تعالى (بَلْ) إبطال لأن يكون هو الفاعل لذلك ، فنفى أن يكون فعل ذلك ، لأن (بل) تقتضي نفي ما دل على كلامهم من استفهامه.

وقوله تعالى (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الخبر مستعمل في معنى التشكيك ، أي لعله فعله كبيرهم إذ لم يقصد إبراهيم نسبة التحطيم إلى الصنم الأكبر لأنه لم يدع أنه شاهد ذلك ولكنه جاء بكلام يفيد ظنه بذلك حيث لم يبق صحيحا من الأصنام إلا الكبير. وفي تجويز أن يكون كبيرهم هذا الذي حطمهم إخطار دليل انتفاء تعدد الآلهة لأنه أوهمهم أن كبيرهم غضب من مشاركة تلك الأصنام له في المعبودية ، وذلك تدرّج إلى دليل الوحدانية ، فإبراهيم في إنكاره أن يكون هو الفاعل أراد إلزامهم الحجة على انتفاء ألوهية الصنم العظيم ، وانتفاء ألوهية الأصنام المحطمة بطريق الأولى على نية أن يكر على ذلك كله

٧٣

بالإبطال ويوقنهم بأنه الذي حطم الأصنام وأنها لو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها ولو كان كبيرهم كبير الآلهة لدفع عن حاشيته وحرفائه ، ولذلك قال (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) تهكّما بهم وتعريضا بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للآلهية.

وشمل ضمير (فَسْئَلُوهُمْ) جميع الأصنام ما تحطم منها وما بقي قائما. والقوم وإن علموا أن الأصنام لم تكن تتكلم من قبل إلا أن إبراهيم أراد أن يقنعهم بأن حدثا عظيما مثل هذا يوجب أن ينطقوا بتعيين من فعله بهم. وهذا نظير استدلال علماء الكلام على دلالة المعجزة على صدق الرسول بأن الله لا يخرق عادة لتصديق الكاذب ، فخلقه خارق العادة عند تحدّي الرسول دليل على أن الله أراد تصديقه.

وأما ما روي في «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منه في ذات الله ـ عزوجل ـ قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا). وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فقال : من هذه؟ قال : أختي. فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني ...» وساق الحديث.

فمعناه أنه كذب في جوابه عن قول قومه : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) حيث قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، لأن (بل) إذا جاء بعد استفهام أفاد إبطال المستفهم عنه.

فقولهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) سؤال عن كونه محطم الأصنام ، فلما قال : (بَلْ) فقد نفى ذلك عن نفسه ، وهو نفي مخالف للواقع ولاعتقاده فهو كذب. غير أن الكذب مذموم ومنهي عنه ويرخص فيه للضرورة مثل ما قاله إبراهيم ، فهذا الإضراب كان تمهيدا للحجة على نية أن يتضح لهم الحق بآخره. ولذلك قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) الآية.

أما الإخبار بقوله (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) فليس كذبا وإن كان مخالفا للواقع ولاعتقاد المتكلم لأن الكلام والأخبار إنما تستقر بأواخرها وما يعقبها ، كالكلام المعقب بشرط أو استثناء ، فإنه لما قصد تنبيههم على خطأ عبادتهم للأصنام مهّد لذلك كلاما هو جار على الفرض والتقدير فكأنه قال : لو كان هذا إلها لما رضي بالاعتداء على شركائه ، فلما حصل الاعتداء عليهم بمحضر كبيرهم تعين أن يكون هو الفاعل لذلك ، ثم ارتقى في الاستدلال بأن سلب الإلهية عن جميعهم بقوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) كما تقدم. فالمراد من الحديث

٧٤

أنها كذبات في بادئ الأمر وأنها عند التأمل يظهر المقصود منها. وذلك أن النهي عن الكذب إنما علته خدع المخاطب وما يتسبب على الخبر المكذوب من جريان الأعمال على اعتبار الواقع بخلافه. فإذا كان الخبر يعقب بالصدق لم يكن ذلك من الكذب بل كان تعريضا أو مزحا أو نحوهما.

وأما ما ورد في حديث الشفاعة «فيقول إبراهيم : لست هناكم ويذكر كذبات كذبها» فمعناه أنه يذكر أنه قال كلاما خلافا للواقع بدون إذن من الله بوحي ، ولكنه ارتكب قول خلاف الواقع لضرورة الاستدلال بحسب اجتهاده فخشي أن لا يصادف اجتهاده الصواب من مراد الله فخشي عتاب الله فتخلص من ذلك الموقف.

وقوله تعالى (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض ، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى:(فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون.

وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في : ركب القوم دوابهم ، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه ، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم. فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ). وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف. والجملة مفيدة للحصر ، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظلم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمّن فعل بها ذلك ، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم.

والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير ، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره.

وفعل (نُكِسُوا) مبني للمجهول ، أي نكسهم ناكس ، ولمّا لم يكن لذلك النكس فاعل إلّا أنفسهم بني الفعل للمجهول فصار بمعنى : انتكسوا على رءوسهم. وهذا تمثيل.

والنكس : قلب أعلى الشيء أسفله وأسفله أعلاه ، يقال : صلب اللص منكوسا ، أي مجعولا رأسه مباشرا للأرض ، وهو أقبح هيئات المصلوب. ولما كان شأن انتصاب جسم الإنسان أن يكون منتصبا على قدميه فإذا نكّس صار انتصابه كأنه على رأسه ، فكان قوله

هنا (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) تمثيلا لتغيّر رأيهم عن الصواب كما قالوا (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ

٧٥

الظَّالِمُونَ) إلى معاودة الضلال بهيئة من تغيرت أحوالهم من الانتصاب على الأرجل إلى الانتصاب على الرءوس منكوسين. فهو من تمثيل المعقول بالمحسوس والمقصود به التشنيع. وحرف (على) للاستعلاء أي علت أجسادهم فوق رءوسهم بأن انكبوا انكبابا شديدا بحيث لا تبدو رءوسهم. وتحتمل الآية وجوها أخرى أشار إليها في «الكشاف».

والمعنى : ثم تغيرت آراؤهم بعد أن كادوا يعترفون بحجة إبراهيم فرجعوا إلى المكابرة والانتصار للأصنام ، فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ، أي أنت تعلم أن هؤلاء الأصنام لا تنطق فما أردت بقولك (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) إلا التنصل من جريمتك.

فجملة (لَقَدْ عَلِمْتَ) إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ).

وجملة (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) تفيد تقوي الاتصاف بانعدام النطق ، وذلك بسبب انعدام آلته وهي الألسن.

وفعل (عَلِمْتَ) معلق عن العمل لوجود حرف النفي بعده ، فلما اعترفوا بأن الأصنام لا تستطيع النطق انتهز إبراهيم الفرصة لإرشادهم مفرعا على اعترافهم بأنها لا تنطق استفهاما إنكاريا على عبادتهم إياها وزائدا بأن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر.

وجعل عدم استطاعتها النفع والضر ملزوما لعدم النطق لأن النطق هو واسطة الإفهام ، ومن لا يستطيع الإفهام تبين أنه معدوم العقل وتوابعه من العلم والإرادة والقدرة.

و (أُفٍ) اسم فعل دالّ على الضجر ، وهو منقول من صورة تنفس المتضجّر لضيق نفسه من الغضب. وتنوين (أُفٍ) يسمى تنوين التنكير والمراد به التعظيم ، أي ضجرا قويا لكم. وتقدم في [سورة الإسراء : ٢٣] (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ).

واللام في (لَكُمْ) لبيان المتأفّف بسببه ، أي أف لأجلكم وللأصنام التي تعبدونها من دون الله.

وإظهار اسم الجلالة لزيادة البيان وتشنيع عبادة غيره.

وفرّع على الإنكار والتضجر استفهاما إنكاريا عن عدم تدبرهم في الأدلة الواضحة من العقل والحس فقال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

٧٦

[٦٨ ، ٦٩] (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩))

لما غلبهم بالحجة القاهرة لم يجدوا مخلصا إلا بإهلاكه. وكذلك المبطل إذا قرعت باطله

حجة فساده غضب على المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته والتشفّي منه ، كما فعل المشركون من قريش مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عجزوا عن المعارضة. واختار قوم إبراهيم أن يكون إهلاكه بالإحراق لأن النار أهول ما يعاقب به وأفظعه.

والتحريق : مبالغة في الحرق ، أي حرقا متلفا.

وأسند قول الأمر بإحراقه إلى جميعهم لأنهم قبلوا هذا القول وسألوا ملكهم ، وهو (النمروذ) ، إحراق إبراهيم فأمر بإحراقه لأن العقاب بإتلاف النفوس لا يملكه إلا ولاة أمور الأقوام. قيل الذي أشار بالرأي بإحراق إبراهيم رجل من القوم كردي اسمه (هينون) ، واستحسن القوم ذلك ، والذي أمر بالإحراق (نمروذ) ، فالأمر في قولهم (حَرِّقُوهُ) مستعمل في المشاورة.

ويظهر أن هذا القول كان مؤامرة سرية بينهم دون حضرة إبراهيم ، وأنهم دبّروه ليبغتوه به خشية هروبه لقوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) [الأنبياء : ٧٠].

ونمروذ هذا يقولون : إنه ابن (كوش) بن حام بن نوح ، ولا يصح ذلك لبعد ما بين زمن إبراهيم وزمن (كوش). فالصواب أن (نمروذ) من نسل (كوش). ويحتمل أن تكون كلمة (نمروذ) لقبا لملك (الكلدان) وليست علما. والمقدر في التاريخ أن ملك مدينة (أور) في زمن إبراهيم هو (ألغى بن أورخ) وهو الذي تقدم ذكره عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في [سورة البقرة : ٢٥٨].

ونصر الآلهة بإتلاف عدوّها.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إن كنتم فاعلين النصر ، وهذا تحريض وتلهيب لحميتهم.

وجملة (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم (حَرِّقُوهُ) فأشبهت جمل المحاورة ، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق. وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى ، أي فألقوه في النار قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم

٧٧

إذ وجّه إلى النار تعلّق الإرادة بسلب قوة الإحراق ، وأن تكون بردا وسلاما إن كان الكلام على الحقيقة ، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقى فيك بحرّك.

وأما كونها سلاما فهو حقيقة لا محالة ، وذكر (سَلاماً) بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد ، فعقب ذكره بذكر السلام لذلك. وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وإنما ذكر (بَرْداً) ثمّ أتبع ب (سَلاماً) ولم يقتصر على (بَرْداً) لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار بردا.

و (عَلى إِبْراهِيمَ) يتنازعه (بَرْداً وَسَلاماً). وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له ، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

تسمية عزمهم على إحراقه كيدا يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم.

والأخسر : مبالغة في الخاسر ، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة.

وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر ، وهو قصر للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة. وسميت خيبتهم خسارة على طريقة الاستعارة تشبيها لخيبة قصدهم إحراقه بخيبة التاجر في تجارته ، كما دل عليه قوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) ، أي فخابوا خيبة عظيمة. وذلك أن خيبتهم جمع لهم بها سلامة إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعدوه للعقاب معجزة وتأييدا لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذابا كما دلّ عليه قوله تعالى في [سورة الحج : ٤٤] (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). وقد عدّ فيهم قوم إبراهيم ، ولم أر من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول. والظاهر أن الله سلّط عليهم الأشوريين فأخذوا بلادهم ، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون ، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلّطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة ٢٢٨٦ قبل المسيح.

٧٨

[٧١ ـ ٧٣] (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدوّ له كافرين بربّه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان).

وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطا ابن أخيه (هاران) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأة إبراهيم معهما ، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته.

وانتصب (لُوطاً) على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطا لم يكن مهددا من الأعداء لذاته فيتعلّق به فعل الإنجاء.

وضمن (نَجَّيْناهُ) معنى الإخراج فعدّي بحرف (إلى).

والأرض : هي أرض فلسطين. ووصفها الله بأنه باركها للعالمين ، أي للناس ، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن. وورد في التوراة : أن الله قال لإبراهيم : إنها تفيض لبنا وعسلا.

والبركة : وفرة الخير والنفع. وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في [سورة آل عمران : ٩٦].

وهبة إسحاق له ازدياده له على الكبر وبعد أن يئست زوجه سارة من الولادة.

وهبة يعقوب ازدياده لإسحاق بن إبراهيم في حياة إبراهيم ورؤيته إياه كهلا صالحا.

والنافلة : الزيادة غير الموعودة ، فإن إبراهيم سأل ربه فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أراد الولد فولد له إسماعيل كما في [سورة الصافات : ١٠٠] ، ثم ولد له إسحاق عن غير مسألة كما في سورة هود فكان نافلة ، وولد لإسحاق يعقوب فكان أيضا نافلة.

وانتصب (نافِلَةً) على الحال التي عاملها (وَهَبْنا) فتكون حالا من إسحاق ويعقوب شأن الحال الواردة بعد المفردات أن تعود إلى جميعها.

٧٩

وتنوين (كُلًّا) عوض عن المضاف إليه. والمعنى : وكلّهم جعلنا صالحين ، أي أصلحنا نفوسهم. والمراد إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، لأنهم الذين كان الحديث الأخير عنهم. وأما لوط فإنما ذكر على طريق المعية وسيخص بالذكر بعد هذه الآية.

وإعادة فعل «جعل» في قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) دون أن يقال : وأئمة يهدون ، بعطف (أَئِمَّةً) على (صالِحِينَ) ، اهتماما بهذا الجعل الشريف ، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم فأعيد الفعل ليكون له مزيد استقرار.

ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول.

وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار كما يظهر بالذوق.

والأئمة : جمع إمام وهو القدوة والذي يعمل كعمله. وأصل الإمام المثال الذي يصنع الشيء على صورته في الخير أو في الشر.

وجملة (يَهْدُونَ) في موضع الحال مقيدة لمعنى الإمامة ، أي أنهم أئمة هدى وإرشاد.

وقوله (بِأَمْرِنا) أي كانوا هادين بأمر الله ، وهو الوحي زيادة على الجعل. وفي «الكشاف» : «فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه لأن الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاهتداء بالمهدي أميل» اه.

وهذا الهدي هو تزكية نفوس الناس وإصلاحها وبث الإيمان ويشمل هذا شئون الإيمان وشعبه وآدابه.

وأما قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) فذلك إقامة شرائع الدين بين الناس من العبادات والمعاملات. وقد شملها قوله تعالى (فِعْلَ الْخَيْراتِ).

و (فِعْلَ الْخَيْراتِ) مصدر مضاف إلى (الْخَيْراتِ) ، ويتعين أنه مضاف إلى مفعوله لأن الخيرات مفعولة وليست فاعلة فالمصدر هنا بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن المقصود هو مفعوله ، وأما الفاعل فتبع له ، أي أن يفعلوا هم ويفعل قومهم الخيرات ،

٨٠