تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) في سورة فصّلت [٩ ـ ١٢].

وعلى هذين الاحتمالين يكون الاستفهام تقريريا عن إعراضهم عن استماع الآيات التي وصفت بدء الخلق ومشوبا بالإنكار على ذلك.

وعلى جميع التقادير فالمقصود من ذلك أيضا الاستدلال على أن الذي خلق السماوات والأرض وأنشأهما بعد العدم قادر على أن يخلق الخلق بعد انعدامه قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [الإسراء : ٩٩].

ويحتمل أن يراد بالرتق العدم وبالفتق الإيجاد. وإطلاق الرؤية على العلم على هذا الاحتمال ظاهر لأن الرتق والفتق بهذا المعنى محقق أمرهما عندهم قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥].

ويحتمل أن يراد بالرتق الظلمة وبالفتق النور ، فالموجودات وجدت في ظلمة ثم أفاض الله عليها النور بأن أوجد في بعض الأجسام نورا أضاء الموجودات.

ويحتمل أن يراد بالرتق اتحاد الموجودات حين كانت مادة واحدة أو كانت أثيرا أو عماء كما جاء في الحديث : «كان في عماء» ، فكانت جنسا عاليا متحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق ، وهو حينئذ كلي انحصر في فرد. ثم خلق الله من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكل بعض مميزات ذاتية فصيّر كل متميز بحقيقة جنسا فصارت أجناسا. ثم خلق في الأجناس مميزات بالعوارض لحقائقها فصارت أنواعا. وهذا الاحتمال أسعد بطريقة الحكماء وقد اصطلحوا على تسمية هذا التمييز بالرتق والفتق ، وبعض من الصوفية وهو صاحب «مرآة العارفين» جعل الرتق علما على العنصر الأعظم يعني الجسم الكل ، والجسم الكل هو الفلك الأعظم المعبر عنه بالعرش. ذكر ذلك الحكيم الصوفي لطف الله الأرضرومي صاحب «معارج النور في أسماء الله الحسنى» المتوفى في أواخر القرن الثاني عشر الذي دخل تونس عام ١١٨٥ ه‍ في مقدمات كتابه «معارج النور» وفي رسالة له سماها «رسالة الفتق والرتق».

٤١

والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها جميعا ، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وكل عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية التي أشرنا إليها في مقدمات هذا التفسير.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)

زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابسا لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة ، ولذلك كان استمرار الحمى مفضيا إلى الهزال ثم إلى الموت.

وجعل هنا بمعنى خلق ، متعدية إلى مفعول واحد لأنها غير مراد منها التحول من حال إلى حال.

و (مِنَ الْماءِ) متعلق ب (جَعَلْنا). و (من) ابتدائية. وفرع عليه (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) إنكارا عليهم عدم إيمانهم الإيمان الذي دعاهم إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الإيمان بوحدانية الله.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

هذا من آثار فتق الأرض في حد ذاتها إذ أخرج الله منها الجبال وذلك فتق تكوين ، وجعل فيها الطّرق ، أي الأرضين السهلة التي يتمكن الإنسان من المشي فيها عكس الجبال.

والرواسي : الجبال ، لأنها رست في الأرض ، أي رسخت فيها.

والميد : الاضطراب. وقد تقدم في أول سورة النحل.

وتقدم في أول سورة النحل أن معنى (أَنْ تَمِيدَ) أن لا تميد ، أو لكراهة أن تميد.

والمعنى : وجعلنا في الأرض فجاجا. ولما كان (فِجاجاً) معناه واسعة كان في المعنى وصفا للسبيل ، فلما قدم على موصوفه انتصب على الحال. والمقصود إتمام المنة بتسخير سطح الأرض ليسلكوا منها طرقا واسعة ولو شاء لجعل مسالك ضيقة بين الجبال كأنها الأودية.

٤٢

والفجاج : جمع فجّ. والفج : الطريق الواسع.

والسبل : جمع سبيل ، وهو : الطريق مطلقا.

وجملة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير ، أي جعلنا سبلا واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم ، فتكون هذه منة أخرى وهو تدبير الله الأشياء على نحو ما يلائم الإنسان ويصلح أحواله.

فقوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) من الكلام الموجه.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه ، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس. فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى : (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء : ٣١] وبقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء : ٣١].

وأمّا حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة فلم يذكر بعده امتنان ، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ). فأدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها ، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به.

والسقف ، حقيقته : غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه ، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة. وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ ، أي جعلناها كالسقف لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) وقد تقدم في أول سورة الرعد [٢].

وجملة (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) في موضع الحال. وآيات السماء ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها ، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب ، وكلها دلائل على الحكمة البالغة فلذلك سماها آيات. وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد.

٤٣

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)

لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرّفة الجزأين لإفادة القصر ، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء ، لأنهم لما عبدوا الأصنام ، والعبادة شكر ، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية.

ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار ، ونفس الشمس والقمر ، لا في إيجادها على حالة خاصة ، جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل.

وخلق الليل هو جزئي من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تفيض النور على الموجودات ، فإن الظلمة عدم والنور وجودي وهو ضد الظلمة ، والعدم سابق للوجود فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة ، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض.

وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجّه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية ، فخلق النهار تبع لخلق الشمس وخلق الأرض ومقابلة الأرض لأشعة الشمس ، ولذلك كان لذكر خلق الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم.

وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس ، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة. وكل ذلك من المنن.

(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)

مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه لما ذكر الأشياء المتضادة بالحقائق أو بالأوقات ذكرا مجملا في بعضها الذي هو آيات السماء ، ومفصلا في بعض آخر وهو الشمس والقمر ، كان المقام مثيرا في نفوس السامعين سؤالا عن كيفية سيرها وكيف لا يقع لها اصطدام أو يقع منها تخلف عن الظهور في وقته المعلوم ، فأجيب بأن كل المذكورات له فضاء يسير

٤٤

فيه لا يلاقي فضاء سير غيره.

وضمير (يَسْبَحُونَ) عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر. وأجري عليها ضمير جماعة الذكور باعتبار تذكير أسماء بعضها مثل القمر والكوكب.

وقال في «الكشاف» : «إنه روعي فيه وصفها بالسباحة التي هي من أفعال العقلاء فأجري عليها أيضا ضمير العقلاء ، يعني فيكون ذلك ترشيحا للاستعارة».

وقوله تعالى (فِي فَلَكٍ) ظرف مستقر خبر عن (كُلٌ) ، و (كُلٌ) مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، أي كل تلك ، فهو معرفة تقديرا. وهو المقصود من الاستئناف بأن يفاد أن كلا من المذكورات مستقر في فلك لا يصادم فلك غيره ، وقد علم من لفظ (كل) ومن ظرفية (في) أن لفظ (فَلَكٍ) عام ، أي لكل منها فلكه فهي أفلاك كثيرة.

وجملة (يَسْبَحُونَ) في موضع الحال.

والسبح : مستعار للسير في متسع لا طرائق فيه متلاقية كطرائق الأرض ، وهو تقريب لسير الكواكب في الفضاء العظيم.

والفلك فسره أهل اللغة بأنه مدار النجوم ، وكذلك فسره المفسرون لهذه الآية ولم يذكروا أنه مستعمل في هذا المعنى في كلام العرب. ويغلب على ظني أنه من مصطلحات القرآن ومنه أخذه علماء الإسلام وهو أحسن ما يعبر عنه عن الدوائر المفروضة التي يضبط بها سير كوكب من الكواكب وخاصة سير الشمس وسير القمر.

والأظهر أن القرآن نقله من فلك البحر وهو الموج المستدير بتنزيل اسم الجمع منزلة المفرد. والأصل الأصيل في ذلك كله فلكة المغزل ـ بفتح الفاء وسكون اللام ـ وهي خشبة مستديرة في أعلاها مسمار مثني يدخل فيه الغزل ويدار لينفتل الغزل.

ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أن قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) فيه محسّن بديعي فإن حروفه تقرأ من آخرها على الترتيب كما تقرأ من أولها مع خفة التركيب ووفرة الفائدة وجريانه مجرى المثل من غير تنافر ولا غرابة ، ومثله قوله تعالى : (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدّثر : ٣] بطرح واو العطف ، وكلتا الآيتين بني على سبعة أحرف ، وهذا النوع سمّاه السكاكي «المقلوب المستوي» وجعله من أصناف نوع سمّاه القلب.

وخص هذا الصنف بما يتأتى القلب في حروف كلماته. وسمّاه الحريري في

٤٥

«المقامات» «ما لا يستحيل بالانعكاس» وبنى عليه المقامة السادسة عشرة ووضح أمثلة نثرا ونظما ، وفي معظم ما وضعه من الأمثلة تكلف وتنافر وغرابة ، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك والشواهد مذكورة في كتب البديع فعليك بتتبعها ، وكلما زادت طولا زادت ثقلا.

قال العلامة الشيرازي في «شرح المفتاح» : وهو نوع صعب المسلك قليل الاستعمال. قلت : ولم يذكروا منه شيئا وقع في كلام العرب فهو من مبتكرات القرآن.

ذكر أهل الأدب أن القاضي الفاضل البيساني زار العماد الكاتب فلما ركب لينصرف من عنده قال له العماد : «سر فلا كبا بك الفرس» ففطن القاضي أن فيه محسن القلب فأجابه على البديهة : «دام علا العماد» وفيه محسن القلب.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤))

عنيت الآيات من أول السورة باستقصاء مطاعن المشركين في القرآن ومن جاء به بقولهم (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، وقولهم : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [الأنبياء : ٥] وكان من جملة أمانيهم لما أعياهم اختلاق المطاعن أن كانوا يتمنون موت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يرجونه أو يدبرونه قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) في سورة الطور [٣٠] ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) في [الأنفال : ٣٠].

وقد دلّ على أن هؤلاء هم المقصود من الآية قوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) فلما كان تمنيهم موته وتربصهم به ريب المنون يقتضي أن الذين تمنوا ذلك وتربصوا به كأنهم واثقون بأنهم يموتون بعده فتتمّ شماتتهم ، أو كأنهم لا يموتون أبدا فلا يشمت بهم أحد ، وجه إليهم استفهام الإنكار على طريقة التعريض بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم خالدون.

وفي الآية إيماء إلى أن الذين لم يقدر الله لهم الإسلام ممن قالوا ذلك القول سيموتون قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا يشمتون به فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت حتى أهلك الله رءوس الذين عاندوه وهدى بقيتهم إلى الإسلام.

ففي قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) طريقة القول بالموجب ، أي أنك تموت كما قالوا ولكنهم لا يرون ذلك وهم بحال من يزعمون أنهم مخلدون فأيقنوا

٤٦

بأنهم يتربصون بك ريب المنون من فرط غرورهم ، فالتفريع كان على ما في الجملة الأولى من القول بالموجب ، أي ما هم بخالدين حتى يوقنوا أنهم يرون موتك. وفي الإنكار الذي هو في معنى النفي إنذار لهم بأنهم لا يرى موته منهم أحد.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين.

ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها ، وهي (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤]. ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين.

واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن.

وذوق الموت ذوق آلام مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد.

والمراد بالنفس النفوس الحالّة في الأجساد كالإنسان والحيوان. ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيّدا بوصف المجردات ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة. وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة : إما لفظية كما في قوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) في سورة المائدة [١١٦]. وإما تقديرية كما في قوله تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) في آل عمران [٢٨].

وجملة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة ، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشرّ جميع الأحياء ، فعلّم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلد. وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرفيق الأعلى : «ليرجعنّ رسول الله فيقطّع أيدي قوم وأرجلهم» حتى حضر أبو بكر رضي‌الله‌عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبّله وقال : «طبت حيا وميتا والله لا يجمع الله عليك موتتين». وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد :

٤٧

رأيت المنايا لم يدعن محمدا

ولا باقيا إلّا له الموت مرصدا

وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشرّ وأن الدنيا دار ابتلاء.

والبلوى : الاختبار. وتقدم غير مرة. وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر ، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة ، إطلاق مجازي ، لأن ابتناء النظام عليه دل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه. أشبه اختبار المختبر ليعلم أحوال من يختبرهم.

و (فِتْنَةً) منصوب على المفعولية المطلقة توكيدا لفعل (نَبْلُوكُمْ) لأن الفتنة ترادف البلوى.

وجملة (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) إثبات للبعث ، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر.

وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر. وأمّا احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتهم.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

هذا وصف آخر لما يؤذي به المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يرونه فهو أخص من أذاهم إياه في مغيبه ، فإذا رأوه يقول بعضهم لبعض : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

والهزؤ ـ بضم الهاء وضم الزاي ـ مصدر هزأ به ، إذا جعله للعبث والتفكه. ومعنى اتّخاذه هزؤا أنهم يجعلونه مستهزأ به فهذا من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، أو هو مصدر بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم في سورة [الكهف : ١٠٦] قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً).

وجملة (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) مبيّنة لجملة (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) فهي في معنى قول محذوف دل عليه (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لأن الاستهزاء يكون بالكلام. وقد انحصر اتخاذهم إياه عند رؤيته في الاستهزاء به دون أن يخلطوه بحديث آخر في شأنه.

والاستفهام مستعمل في التعجيب ، واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، بقرينة الاستهزاء.

ومعنى (يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) يذكرهم بسوء ، بقرينة المقام ، لأنهم يعلمون ما يذكر به

٤٨

آلهتهم مما يسوءهم ، فإن الذكر يكون بخير وبشّر فإذا لم يصرح بمتعلقه يصار إلى القرينة كما هنا وكما في قوله تعالى الآتي : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠]. وكلامهم مسوق مساق الغيظ والغضب ، ولذلك أعقبه الله بجملة الحال وهي (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ، أي يغضبون من أن تذكر آلهتهم بما هو كشف لكنهها المطابق للواقع في حال غفلتهم عن ذكر الرحمن الذي هو الحقيق بأن يذكروه. فالذكر الثاني مستعمل في الذكر بالثناء والتمجيد بقرينة المقام. والأظهر أن المراد بذكر الرحمن هنا القرآن ، أي الذكر الوارد من الرحمن. والمناسبة الانتقال من ذكر إلى ذكر. ومعنى كفرهم بذكر الرحمن إنكارهم أن يكون القرآن آية دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وأيضا كفرهم بما جاء به القرآن من إثبات البعث.

وعبر عن الله تعالى باسم (الرَّحْمنِ) تورّكا عليهم إذ كانوا يأبون أن يكون الرحمن اسما لله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) في سورة [الفرقان : ٦٠].

وضمير الفصل في قوله تعالى : (هُمْ كافِرُونَ) يجوز أن يفيد الحصر ، أي هم كافرون بالقرآن دون غيرهم ممن أسلم من أهل مكة وغيرهم من العرب لإفادة أنّ هؤلاء باقون على كفرهم مع توفر الآيات والنذر.

ويجوز أن يكون الفصل لمجرد التأكيد تحقيقا لدوام كفرهم مع ظهور ما شأنه أن يقلعهم عن الكفر.

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧))

جملة (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) معترضة بين جملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٣٦] وبين جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) ، جعلت مقدمة لجملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي). أمّا جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) فهي معترضة بين جملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] وبين جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الأنبياء : ٣٨] ، لأن قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] يثير في نفوس المسلمين تساؤلا عن مدى إمهال المشركين ، فكان قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) استئنافا بيانيا جاء معترضا بين الجمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد فالله تعالى به المكذبين.

٤٩

ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهيج حنق المسلمين عليهم فيودّوا أن ينزل بالمكذبين الوعيد عاجلا فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين. وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيدا للثانية.

والعجل : السرعة. وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلّة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة. ونحوه قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.

وجملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.

والمعنى : وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين ، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.

وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل ، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله ، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.

وحذفت ياء المتكلم من كلمة (تَسْتَعْجِلُونِ) تخفيفا مع بقاء حركتها فإذا وقف عليه حذفت الحركة من النون.

[٣٨ ـ ٤٠] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))

٥٠

نشأ عن ذكر استبطاء المسلمين وعد الله بنصرهم على الكافرين ذكر نظيره في جانب المشركين أنهم تساءلوا عن وقت هذا الوعد تهكما ، فنشأ به القولان واختلف الحالان فيكون قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) عطفا على جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧]. وهذا معبّر عن مقالة أخرى من مقالاتهم التي يتلقون بها دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء وعنادا.

وذكر مقالتهم هذه هنا مناسب لاستبطاء المسلمين النصر. وبهذا الاعتبار تكون متصلة بجملة (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] فيجوز أن تكون معطوفة عليها.

وخاطبوا بضمير الجماعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، ولأجل هذه المقالة كان المسلمون يستعجلون وعيد المشركين.

واستفهامهم استعملوه في التهكم مجازا مرسلا بقرينة إن كنتم صادقين لأن المشركين كانوا موقنين بعدم حصول الوعد.

والمراد بالوعد ما توعدهم به القرآن من نصر رسوله واستئصال معانديه. وإلى هذه الآية ونظيرها ينظر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر حين وقف على القليب الذي دفنت فيه جثث المشركين وناداهم بأسمائهم (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] أي ما وعدنا ربنا من النصر وما وعدكم من الهلاك وعذاب النار.

وجملة (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) مستأنفة للبيان لأن المسلمين يترقبون من حكاية جملة (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ما ذا يكون جوابهم عن تهكمهم. وحاصل الجواب أنه واقع لا محالة ولا سبيل إلى إنكاره.

وجواب (لو) محذوف ، تقديره : لما كانوا على ما هم عليه من الكفر والاستهزاء برسولكم وبدينكم ، ونحو ذلك مما يحتمله المقام. وقد يؤخذ من قرينة قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦]. وحذف جواب (لو) كثير في القرآن. ونكتته تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب.

و (حين) هنا : اسم زمان منصوب على المفعولية لا على الظرفية ، فهو من أسماء الزمان المتصرفة ، أي لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذبوا به وبمن أنذرهم به ولما عدوا تأخيره دليلا على تكذيبه.

٥١

وجملة (لا يَكُفُّونَ) مضاف إليها (حين). وضمير (يَكُفُّونَ) فيه وجهان : أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائدا إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام ، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه : الإمساك وهو حقيقته ، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة [الأنفال : ٥٠] (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) فإن ذلك ضرب بسياط من نار ويكون ما هنا إنذار بما سيلقونه يوم بدر كما أن آية الأنفال حكاية لما لقوه يوم بدر.

وذكر الوجوه والأدبار للتنكيل بهم وتخويفهم لأن الوجوه أعز الأعضاء على الناس كما قال عباس بن مرداس :

نعرّض للسيوف إذا التقينا

وجوها لا تعرض للطام

ولأن الأدبار يأنف الناس من ضربها لأن ضربها إهانة وهزي ، ويسمى الكسع.

والوجه الثاني : أن يكون ضمير (يَكُفُّونَ) عائدا إلى الذين كفروا ، والكفّ بمعنى الدّرء والستر مجازا بعلاقة اللزوم ، أي حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم. أي حين تحيط بهم النار مواجهة ومدابرة. وذكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم.

وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميع من لدينا كتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى ، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) ولقوله تعالى (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧] كما تقدم.

وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) عطف على (لا يَكُفُّونَ) أي لا يكف عنهم نفح النار ، أو لا يدفعون عن أنفسهم نفح النار ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم فهم واقعون في ورطة العذاب. وفي هذا إيماء إلى أنهم ستحل بهم هزيمة بدر فلا يستطيعون خلاصا منها ولا يجدون نصيرا من أحلافهم.

و (بل) للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعد لهم ، إلى التهديد بأن ذلك يحل بهم بغتة وفجأة ، وهو أشدّ على النفوس لعدم التهيّؤ له والتوطن عليه ، كما قال كثيّر :

٥٢

فقلت لها يا عز كل مصيبة

إذا وطنت يوما لها النفس ذلت

وإن كان المراد عذاب الآخرة فنفي الناصر تكذيب لهم في قولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وفاعل (تَأْتِيهِمْ) ضمير عائد إلى الوعد. وإنما قرن الفعل بعلامة المؤنث على الوجه الأول المتقدم في قوله تعالى : (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) باعتبار الوقعة أو نحو ذلك ، وهو إيماء إلى أن ذلك سيكون فيما اسمه لفظ مؤنث مثل الوقعة والغزوة. وأمّا على الوجه الثاني المتقدم الذي درج عليه سائر المفسرين فيما رأينا فلتأويل الوعد بالساعة أو القيامة أو الحين لأن الحين في معنى الساعة.

والبغتة : المفاجأة ، وهي حدوث شيء غير مترقب.

والبهت : الغلب المفاجئ المعجز عن المدافعة ، يقال : بهته فبهت. قال تعالى في سورة [البقرة : ٢٥٨] (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي غلب. وهو معنى التفريع في قوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا تؤخر عنهم. وفيه تنبيه لهم إلى أنهم أنظروا زمنا طويلا لعلهم يقلعون عن ضلالهم.

وما أشدّ انطباق هذه الهيئة على ما حصل لهم يوم بدر قال تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) في [الأنفال : ٤٢] ، وقال تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤]. ولا شك في أن المستهزئين مثل أبي جهل وشيبة ابني ربيعة وعتبة ابن ربيعة وأمية بن خلف ، كانوا ممن بغتهم عذاب السيف وكان أنصارهم من قريش ممن بهتهم ذلك.

وأما إذا أريد بضمير (تَأْتِيهِمْ) الساعة والقيامة فهي تأتي بغتة لمن هم من جنس المشركين أو تأتيهم النفخة والنشرة بغتة. وأما أولئك المستهزءون فكانوا قد انقرضوا منذ قرون.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

عطف على جملة (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الأنبياء : ٣٧] تطمين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له. ومناسبة عطفها على جملة (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) [الأنبياء : ٣٩]

٥٣

إلى آخرها ظاهرة.

وقد تقدم نظير هذه الآية في أوائل سورة الأنعام.

[٤٢ ـ ٤٤] (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)

بعد أن سلّي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على استهزائهم بالوعيد أمر أن يذكرهم بأن غرورهم بالإمهال من قبل الله رحمة منه بهم كشأنه في الرحمة بمخلوقاته بأنهم إذا نزل بهم عذابه لا يجدون حافظا لهم من العذاب غيره ولا تمنعهم منه آلهتهم.

والاستفهام إنكار وتقريع ، أي لا يكلؤهم منه أحد فكيف تجهلون ذلك ، تنبيها لهم إذا نسوا نعمه.

وذكر الليل والنهار لاستيعاب الأزمنة كأنه قيل : من يكلؤكم في جميع الأوقات.

وقدم الليل لأنه زمن المخاوف لأن الظلام يعين أسباب الضر على الوصول إلى مبتغاها من إنسان وحيوان وعلل الأجسام.

وذكر النهار بعده للاستيعاب.

ومعنى (مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه وعذابه.

وجيء بعد هذا التفريع بإضرابات ثلاثة انتقالية على سبيل التدريج الذي هو شأن الإضراب.

فالإضراب الأول قوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، وهو ارتقاء من التقريع المجعول للإصلاح إلى التأييس من صلاحهم بأنهم عن ذكر ربهم معرضون فلا يرجى منهم الانتفاع بالقوارع ، أي أخّر السؤال والتقريع واتركهم حتى إذا تورّطوا في العذاب عرفوا أن لا كالئ لهم.

٥٤

ثم أضرب إضرابا ثانيا ب (أم) المنقطعة التي هي أخت (بل) مع دلالتها على الاستفهام لقصد التقريع فقال : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ، أي بل ألهم آلهة. والاستفهام إنكار وتقريع ، أي ما لهم آلهة مانعة لهم من دوننا. وهذا إبطال لمعتقدهم أنهم اتخذوا الأصنام شفعاء.

وجملة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) مستأنفة معترضة. وضمير (يَسْتَطِيعُونَ) عائد إلى آلهة أجري عليهم ضمير العقلاء مجاراة لما يجريه العرب في كلامهم. والمعنى : كيف ينصرونهم وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ، ولا هم مؤيدون من الله بالقبول.

ثم أضرب إضرابا ثالثا انتقل به إلى كشف سبب غرورهم الذي من جهلهم به حسبوا أنفسهم آمنين من أخذ الله إياهم بالعذاب فجرّأهم ذلك على الاستهزاء بالوعيد ، وهو قوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) ، أي فما هم مستمرون فيه من النعمة إنما هو تمتيع وإمهال كما متعنا آباءهم من قبل ، وكما كان لآبائهم آجال انتهوا إليها كذلك يكون لهؤلاء ، ولكن الآجال تختلف بحسب ما علم الله من الحكمة في مداها حتى طالت أعمار آبائهم. وهذا تعريض بأن أعمار هؤلاء لا تبلغ أعمار آبائهم ، وأن الله يحل بهم الهلاك لتكذيبهم إلى أمد علمه.

وقد وجه الخطاب إليهم ابتداء بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) ، ثم أعرض عنهم من طريق الخطاب إلى طريق الغيبة لأن ما وجه إليهم من إنكار أن يكلأهم أحد من عذاب الله جعلهم أحرياء بالإعراض عنهم كما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) الآية في سورة [يونس : ٢٢].

و (يُصْحَبُونَ) إما مضارع صحبه إذا خالطه ولازمه ، والصحبة تقتضي النصر والتأييد ، فيجوز أن يكون الفاعل الذي ناب عنه من أسند إليه الفعل المبنيّ للنائب مرادا به الله تعالى ، أي لا يصحبهم الله ، أي لا يؤيدهم ؛ فيكون قوله تعالى : (مِنَّا) متعلقا ب (يُصْحَبُونَ) على معنى (من) الاتصالية ، أي صحبة متصلة بنا بمعنى صحبة متينة. وهذا نفي لما اعتقده المشركون بقولهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

ويجوز أن يكون الفاعل المحذوف محذوفا لقصد العموم ، أي لا يصحبهم صاحب ، أي لا يجيرهم جار فإن الجوار يقتضي حماية الجار فيكون قوله تعالى : (مِنَّا) متعلقا ب (يُصْحَبُونَ) على معنى (من) التي بمعنى (على) كقوله تعالى : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩].

٥٥

وإما مضارع أصحبه المهموز بمعنى حفظه ومنعه ، أي من السوء.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) لحاضرين في الأذهان وهم كفار قريش.

وقد استقريت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفار قريش.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)

تقريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلا على تكذيب وقوعه حتى قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الأنبياء : ٣٨] تهكما وتكذيبا. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) إلى قوله تعالى : (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنبياء : ٣٩ ـ ٤١] فرّع على ذلك كله استفهاما تعجيبيا من عدم اهتدائهم إلى أمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالا على قربه بحصول أماراته.

والرؤية علمية ، وسدت الجملة مسدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر ، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها ، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة ، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد ، فمن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى ، وكفى بذلك دليلا على تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعناية ربه به كما دلّ عليه فعل (نَأْتِي).

فالإتيان تمثيل بحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتل ويأسر كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦].

والتعريف في (الْأَرْضَ) تعريف العهد ، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [سورة يوسف : ٨٠] (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي أرض مصر.

والنقصان : تقليل كمية شيء.

والأطراف : جمع طرف ـ بفتح الطاء والراء ـ. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته ، وضده الوسط.

والمراد بنقصان الأرض : نقصان من عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين ، والقرينة

٥٦

المشاهدة.

والمراد : نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة ، ومن هاجر منهم إلى الحبشة ، ومن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية ، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.

وجملة (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري ، أي فكيف يحسبون أنهم غلبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم.

واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) دون الفعلية لدلالتها بتعريف جزأيها على القصر ، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون ، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص ، ولما خلت بلدتهم من عدد كثير منهم.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

استئناف ابتدائي مقصود منه الإتيان على جميع ما تقدم من استعجالهم بالوعد تهكما بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الأنبياء : ٣٨] ، من التهديد الذي وجه إليهم بقوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٣٩] إلخ ... ومن تذكيرهم بالخالق وتنبيههم إلى بطلان آلهتهم بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله تعالى : (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [الأنبياء : ٤٢ ـ ٤٤] ، ومن الاحتجاج عليهم بظهور بوارق نصر المسلمين ، واقتراب الوعد بقوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الأنبياء : ٤٤] ، عقب به أمر الله رسوله أن يخاطبهم بتعريف كنه دعوته ، وهي قصره على الإنذار بما سيحلّ بهم في الدنيا والآخرة إنذارا من طريق الوحي المنزل عليه من الله تعالى وهو القرآن ، أي فلا تعرضوا عنه ، ولا تتطلبوا مني آية غير ذلك ، ولا تسألوا عن تعيين آجال حلول الوعيد ، ولا تحسبوا أنكم تغيظونني بإعراضكم والتوغل في كفركم.

فالكلام قصر موصوف على صفة ، وقصره على المتعلّق بتلك الصفة تبعا لمتعلقه فهو قائم مقام قصرين. ولم يظهر لي مثال له من كلام العرب قبل القرآن.

وهذا الكلام يستلزم متاركة لهم بعد الإبلاغ في إقامة الحجة عليهم وذلك ذيل بقوله تعالى : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ). والواو للعطف على (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ

٥٧

بِالْوَحْيِ) عطف استئناف على استئناف لأن التذييل من قبيل الاستئناف.

والتعريف في (الصُّمُ) للاستغراق. والصمم مستعار لعدم الانتفاع بالكلام المفيد تشبيها لعدم الانتفاع بالمسموع بعدم ولوج الكلام صماخ المخاطب به. وتقدم في قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) في [سورة البقرة : ١٨]. ودخل في عمومه المشركون المعرضون عن القرآن وهم المقصود من سوق التذييل ليكون دخولهم في الحكم بطريقة الاستدلال بالعموم على الخصوص.

وتقييد عدم السماع بوقت الإعراض عند سماع الإنذار لتفظيع إعراضهم عن الإنذار لأنه إعراض يفضي بهم إلى الهلاك فهو أفظع من عدم سماع البشارة أو التحديث ، ولأن التذييل مسوق عقب إنذارات كثيرة.

واختير لفظ الدعاء لأنه المطابق للغرض إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا كما قال : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) [يوسف : ١٠٨].

والأظهر أن جملة (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) كلام مخاطب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس من جملة المأمور بأن يقوله لهم.

وقرأ الجمهور (وَلا يَسْمَعُ) ـ بتحتية في أوله ورفع (الصُّمُ) ـ. وقرأه ابن عامر ولا تسمع ـ بالتاء الفوقية المضمومة ونصب (الصُّمُ) ـ خطابا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذه القراءة نص في انفصال الجملة عن الكلام المأمور بقوله لهم.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

عطف على جملة (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥] والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي أنذرهم بأنهم سيندمون عند ما ينالهم أول العذاب في الآخرة. وهذا انتقال من إنذارهم بعذاب الدنيا إلى إنذارهم بعذاب الآخرة.

وأكد الشرط بلام القسم لتحقيق وقوع الجزاء.

والمسّ : اتصال بظاهر الجسم.

والنفحة : المرة من الرضخ في العطية ، يقال نفحه بشيء إذا أعطاه.

٥٨

وفي مادة النفح أنه عطاء قليل نزر ، وبضميمة بناء المرة فيها ، والتنكير ، وإسناد المسّ

إليها دون فعل آخر أربع مبالغات في التقليل ، فما ظنك بعذاب يدفع قليله من حلّ به إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.

والويل تقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في [سورة البقرة : ٧٩] ، وعند قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) في أول [سورة إبراهيم : ٢].

ومعنى (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إنا كنا معتدين على أنفسنا إذ أعرضنا عن التأمل في صدق دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالظلم في هذه الآية مراد به الإشراك لأن إشراكهم معروف لديهم فليس مما يعرفونه إذا مستهم نفحة من العذاب.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

يجوز أن تكون الواو عاطفة هذه الجملة على جملة (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) [الأنبياء : ٤٦] إلخ لمناسبة قولهم (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ٤٦] ، ولبيان أنهم مجازون على جميع ما أسلفوه من الكفر وتكذيب الرسول بيانا بطريق ذكر العموم بعد الخصوص في المجازين ، فشابه التذييل من أجل عموم قوله تعالى (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، وفي المجازى عليه من أجل قوله تعالى (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها).

ويجوز أن تكون الواو للحال من قوله (رَبِّكَ) [الأنبياء : ٤٦] ، وتكون نون المتكلم المعظّم التفاتا لمناسبة الجزاء للأعمال كما يقال : أدّى إليه الكيل صاعا بصاع ، ولذلك فرع عليه قوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً).

ويجوز أن تكون الجملة معترضة وتكون الواو اعتراضية.

والوضع حقيقته : حط الشيء ونصبه في مكان ، وهو ضد الرفع. ويطلق على صنع الشيء وتعيينه للعمل به وهو في ذلك مجاز.

والميزان : اسم آلة الوزن. وله كيفيات كثيرة تختلف باختلاف العوائد ، وهي تتّحد في كونها ذات طبقين متعادلين في الثقل يسميان كفتين ـ بكسر الكاف وتشديد الفاء ـ تكونان من خشب أو من حديد ، وإذا كانتا من صفر سميتا صنجتين ـ بصاد مفتوحة ونون ساكنة ـ ، معلق كل طبق بخيوط في طرف يجمعهما عود من حديد أو خشب صلب ، في

٥٩

طرفيه عروتان يشد بكل واحدة منهما طبق من الطبقين يسمى ذلك العود (شاهين) وهو موضوع ممدودا ، وتجعل بوسطه على السواء عروة لتمسكه منها يد الوازن ، وربما جعلوا تلك العروة مستطيلة من معدن وجعلوا فيها إبرة غليظة من المعدن منوطة بعروة صغيرة من معدن مصوغة في وسط (الشاهين) فإذا ارتفع الشاهين تحركت تلك الإبرة فإذا ساوت وسط العروة الطويلة على سواء عرف اعتدال الوزن وإن مالت عرف عدم اعتداله ، وتسمى تلك الإبرة لسانا ، فإذا أريد وزن شيئين ليعلم أنهما مستويان أو أحدهما أرجح وضع كلّ واحد منهما في كفّة ، فالتي وضع فيها الأثقل منهما تنزل والأخرى ذات الأخف ترتفع وإن استويتا فالموزونان مستويان ، وإذا أريد معرفة ثقل شيء في نفسه دون نسبته إلى شيء آخر جعلوا قطعا من معدن : صفر أو نحاس أو حديد أو حجر ذات مقادير مضبوطة مصطلح عليها مثل الدرهم والأوقية والرّطل ، فجعلوها تقديرا لثقل الموزون ليعلم مقدار ما فيه لدفع الغبن في التعاوض ، ووحدتها هو المثقال ، ويسمى السّنج ـ بفتح السين المهملة وسكون النون بعدها جيم ـ.

والقسط ـ بكسر القاف وسكون السين ـ اسم المفعول ، وهو مصدر وفعله أقسط مهموزا. وتقدم في قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في [سورة آل عمران : ١٨].

وقد اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا : أهو الحقيقة أم المجاز ، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف ، فمنهم من ذهب إلى أن لكل أحد من العباد ميزانا خاصا به توزن به أعماله ، وهو ظاهر صيغة الجمع في هذه الآية وقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) في [سورة القارعة : ٦ ـ ٧].

ومنهم من ذهب إلى أنه ميزان واحد توزن فيه أعمال العباد واحدا فواحدا ، وأنه بيد جبريل ، وعليه فالجمع باعتبار ما يوزن فيها ليوافق الآثار الواردة في أنه ميزان عام.

واتفق الجميع على أنه مناسب لعظمة ذلك لا يشبه ميزان الدنيا ولكنه على مثاله تقريبا. وعلى هذا التفسير يكون الوضع مستعملا في معناه الحقيقي وهو النصب والإرصاد.

وذهب مجاهد وقتادة والضحّاك وروي عن ابن عباس أيضا أن الميزان الواقع في القرآن مثل للعدل في الجزاء كقوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) في [سورة الأعراف : ٨] ، ومال إليه الطبري. قال في «الكشاف» : «الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنّصفة

٦٠