تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

والإتراف : إعطاء الترف ، وهو النعيم ورفه العيش ، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم.

وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) من جملة التهكم. وذكر المفسرون في معنى (تُسْئَلُونَ) احتمالات ستة. أظهرها : أن المعنى : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك ، وفي هذا تكملة للتهكم.

وجملة (قالُوا يا وَيْلَنا) إن جعلت جملة (لا تَرْكُضُوا) معترضة على ما قررته آنفا تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

وإن جعلت جملة (لا تَرْكُضُوا) مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) جوابا لقول من قال لهم (لا تَرْكُضُوا) علىوجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيّناه غير مرة ، أي قالوا : قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا. فاعترفوا بذنبهم. قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) في سورة [الملك : ١١].

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

تفريع على جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ١٤] ، فاسم (تِلْكَ) إشارة إلى القول المستفاد من قوله تعالى (قالُوا يا وَيْلَنا) [الأنبياء : ١٤] ، وتأنيثه لأنه اكتسب التأنيث من الإخبار عنه بدعواهم ، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة يدعون بها على أنفسهم.

وهذا الوجه يرجح التفسير الأول لمعنى قوله تعالى (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) [الأنبياء : ١٣] لأن شأن الأقوال التي يقولها الخائف أن يكررها إذ يغيب رأيه فلا يهتدي للإتيان بكلام آخر ، بخلاف الكلام المسوق جوابا فإنه لا داعي إلى إعادته.

والمعنى : فما زالوا يكررون مقالتهم تلك حتى هلكوا عن آخرهم.

٢١

وسمي ذلك القول دعوى لأن المقصود منه هو الدعاء على أنفسهم بالويل ، والدعاء يسمى دعوى كما في قوله تعالى (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) في [سورة يونس : ١٠]. أي فما زال يكرر دعاؤهم بذلك فلم يكفّوا عنه إلى أن صيرناهم كالحصيد ، أي أهلكناهم.

وحرف (حَتَّى) مؤذن بنهاية ما اقتضاه قوله تعالى (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ).

والحصيد : فعيل بمعنى مفعول ، أي المحصود ، وهذه الصيغة تلازم الإفراد والتذكير إذا جرت على الموصوف بها كما هنا.

والحصد : جزّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد. وقد شاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود بمنزلة الاسم الجامد.

والخامد : اسم فاعل من خمدت النار تخمد ـ بضم الميم ـ إذا زال لهيبها.

شبهوا بزرع حصد ، أي بعد أن كان قائما على سوقه خضرا ، فهو يتضمن قبل هلاكهم بزرع في حسن المنظر والطلعة ، كما شبه بالزرع في قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) في سورة [الفتح : ٢٩]. ويقال للناشئ : أنبته الله نباتا حسنا ، قال تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) في سورة [آل عمران : ٣٧].

فللإشارة إلى الشبهين شبه البهجة وشبه الهلك أوثر تشبيههم حين هلاكهم بالحصيد.

وكذلك شبهوا حين هلاكهم بالنار الخامدة فتضمن تشبيههم قبل ذلك بالنار المشبوبة في القوة والبأس كما شبه بالنار في قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) في سورة [المائدة : ٦٤] ، وقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في سورة [البقرة: ١٧]. فحصل تشبيهان بليغان وليسا باستعارتين مكنيتين لأن ذكر المشبه فيهما مانع من تقوّم حقيقة الاستعارة خلافا للعلّامتين التفتازانيّ والجرجاني في «شرحيهما للمفتاح» متمسكين بصيغة جمعهم في قوله تعالى (جَعَلْناهُمْ) ، فجعلا ذلك استعارتين مكنيتين إذ شبهوا بزرع حين انعدامه ونار ذهب قوتها وحذف المشبه بهما ورمز إليهما بلازم كل منهما وهو الحصد والخمود فكان (حَصِيداً) وصفا في المعنى للضمير المنصوب في (جَعَلْناهُمْ) ، فالحصيد هنا وصف ليس منزلا منزلة الجامد كالذي في قوله تعالى (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] ، وبذلك لم يكن قوله تعالى (حَصِيداً) من قبيل التشبيه البليغ إذ لم يشبهوا بحصيد زرع بل أثبت لهم أنهم محصودون استعارة مكنية مثل نظيره في قوله تعالى (خامِدِينَ) الذي هو استعارة لا محالة كما هو مقتضى مجيئه بصيغة الجمع المذكر ، ومبنى الاستعارة على

٢٢

تناسي التشبيه. وهذا تكلف منهما ولم أدر ما ذا دعاهما إلى ارتكاب هذا التكلف.

وانتصب (حَصِيداً خامِدِينَ) على أن كليهما مفعول ثان مكرر لفعل الجعل كما يخبر عن المبتدأ بخبرين وأكثر ، فإن مفعولي (جعل) أصلهما المبتدأ والخبر وليس ثانيهما وصفا لأولهما كما هو ظاهر.

[١٦ ، ١٧] (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

كثير في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نظمهما وسننها وفطرها ، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة [الحجر: ٨٥] (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ). وقد بيّنا هنالك كيفية ملابسة الحق لكل أصناف المخلوقات وأنواعها بما يغني عن إعادته هنا.

وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبسا بالحق ، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام ، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاء ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقا.

فلذلك كثر أن تعقب الآيات المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكر الجزاء والحساب ، والعكس ، كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) في آخر سورة [المؤمنين : ١١٥] ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) آخر [الحجر : ٨٥] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) في سورة [ص : ٢٦ ـ ٢٨] ، وقوله تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) في سورة [الدخان : ٣٧ ـ ٤٠] ، وقوله

٢٣

تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) في سورة [الأحقاف : ٣] إلى غير هذه من الآيات.

فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلكين ، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قوامه ، فإذا كانت تلك سنة الله في خلق العوالم ظرفها ومظروفها ، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال ، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به ، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياة آخرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها ، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به.

ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة ، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض.

وحسبك تعقيب ذلك بالتفريع بالفاء في قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الآيات ختام سورة [آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١].

ولأجل هذا اطرد أو كاد أن يطرد ذكر لفظ (وَما بَيْنَهُما) بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به لأن أشرفه هو نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعبا منظورا فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك ولكنه بني على النفي أخذا لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعبا.

واللعب : العمل أو القول الذي لا يقصد به تحصيل فائدة من مصلحة أو دفع مفسدة ولا تحصيل نفع أو دفع ضر. وإنما يقصد به إرضاء النفس حين تميل إلى العبث كما قيل : «لا بد للعاقل من حمقة يعيش بها». ويرادفه العبث واللهو ، وضده : الجد. واللعب من الباطل إذ ليس في عمله حكمة فضده الحقّ أيضا.

٢٤

وانتصب (لاعِبِينَ) على الحال من ضمير (خَلَقْنَا) وهي حال لازمة إذ لا يستقيم المعنى بدونها.

وجملة (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) مقررة لمعنى جملة (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) تقريرا بالاستدلال على مضمون الجملة ، وتعليلا لنفي أن يكون خلق السماوات والأرض لعبا ، أي عبثا بأن اللعب ليس من شأننا أو على الفرض والتنازل لو أردنا اللهو لكان ما يلهو به حاصلا في أشرف الأماكن من السماوات فإنها أشد اختصاصا بالله تعالى إذ جعل سكانها عبادا له مخلصين ، فلذلك عبر عنها باسم الظرف المختص وهو لدن مضافا إلى ضمير الجلالة بقوله تعالى من (لَدُنَّا) ، أي غير العوالم المختصة بكم بل لكان في عالم الغيب الذي هو أشد اختصاصا بنا إذ هو عالم الملائكة المقربين.

فالظرفية المفادة من لدن ظرفية مجازية. وإضافة لدن إلى ضمير الجلالة دلالة على الرفعة والتفضيل كقوله تعالى (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) في سورة [القصص : ٥٧] ، وقوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) في سورة [آل عمران : ٨] ، أي لو أردنا أن نتخذ لهوا لما كان اتخاذه في عالم شهادتكم. وهذا استدلال باللزوم العرفي لأن شأن من يتخذ شيئا للتفكه به أن يستأثر به ولا يبيحه لغيره وهو مبني على متعارف عقول المخاطبين من ظنهم أن العوالم العليا أقرب إلى الله تعالى.

وجملة (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) إن جعلت (إن) شرطية فارتباطها بالتي قبلها ارتباط الشرط بجزائه المحذوف الدال عليه جواب (لو) وهو جملة (لَاتَّخَذْناهُ) فيكون تكريرا للتلازم ؛ وإن جعلت (إن) حرف نفي كانت الجملة مستأنفة لتقرير الامتناع المستفاد من (لو) ، أي ما كنا فاعلين لهوا.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

(بل) للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخلق لعبا إضراب إبطال وارتقاء ، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهية للباطل بله أن نعمل عملا هو باطل ولعب.

والقذف ، حقيقته : رمي جسم على جسم. واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زجر أو إعدام أو تكوين ما يغلب ، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء

٢٥

يأتي عليه ليتلفه أو يشتته ، فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله ، وبأن أوجد في عقولهم إدراكا للتمييز بين الصلاح والفساد ، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين ، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل ، قال تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) في سورة الأنفال [١٢].

والدمغ : كسر الجسم الصلب الأجوف ، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل ، وهو استعارة أيضا حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالته كما يزيل القذف الجسم المقذوف ، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين.

ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطل عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح ، قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) إلى قوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) في سورة الرعد [١٧].

والزاهق : المنفلت من موضعه والهالك ، وفعله كسمع وضرب ، والمصدر الزهوق. وتقدم في قوله تعالى : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) في سورة براءة [٥٥] وقوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) في سورة الإسراء [٨١].

وعند ما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) إلى قوله تعالى : (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٣ ـ ٥]. وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر. ختم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ، أي مما تصفون به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

والويل : كلمة دعاء بسوء. وفيها في القرآن توجيه لأن الويل اسم للعذاب.

[١٩ ، ٢٠] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

عطف على جملة (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧] مبيّنة أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقيام بما خلقوا

٢٦

لأجله ، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحجية القرآن.

فاللام في (وَلَهُ) للملك ، والمجرور باللام خبر مقدم. و (مَنْ فِي السَّماواتِ) مبتدأ ، وتقديم المجرور للاختصاص ، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد ردا على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.

و (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعم العقلاء وغيرهم وغلّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.

وقوله تعالى (وَمَنْ عِنْدَهُ) يجوز أن يكون معطوفا على (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) حالا من المعطوف عليه.

ويجوز أن يكون (مَنْ عِنْدَهُ) مبتدأ وجملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) خبرا.

وما صدق (من) جماعة كما دل عليه قوله تعالى (لا يَسْتَكْبِرُونَ) بصيغة الجمع.

(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.

وعلى كلا الوجهين في موقع جملة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون.

والاستحسار : مصدر كالحسور وهو التعب ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاستيخار ، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم ، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقل ذلك العمل ، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد ، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرج مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسورا ضعيفا. وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.

وجملة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بيان لجملة (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لأن من لا يتعب من عمل لا يتركه فهو يواظب عليه ولا يعيا منه.

والليل والنهار : ظرفان. والأصل في الظرف أن يستوعبه الواقع فيه ، أي يسبحون

٢٧

في جميع الليل والنهار.

وتسبيح الملائكة بأصوات مخلوقة فيهم لا يعطلها تبليغ الوحي ولا غيره من الأقوال.

والفتور : الانقطاع عن الفعل.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

(أم) هذه منقطعة عاطفة الجملة على الجملة عطف إضراب انتقالي هو انتقال من إثبات صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحجية دلالة القرآن إلى إبطال الإشراك ، انتقالا من بقية الغرض السابق الذي تهيأ السامع للانتقال منه بمقتضى التخلص ، الذي في قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] كما تقدم ، إلى التمحض لغرض إبطال الإشراك وإبطال تعدد الآلهة. وهذا الانتقال وقع اعتراضا بين جملة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] وجملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣]. وليس إضراب الانتقال بمقتض عدم الرجوع إلى الغرض المنتقل إليه.

و (أم) تؤذن بأن الكلام بعدها مسوق مساق الاستفهام وهو استفهام إنكاري ، أنكر عليه اتخاذهم آلهة.

وضمير (اتَّخَذُوا) عائد إلى المشركين المتبادرين من المقام في مثل هذه الضمائر. وله نظائر كثيرة في القرآن. ويجوز جعله التفاتا عن ضمير (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١٨] ، ويجوز أن يكون متناسقا مع ضمائر (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [الأنبياء : ٥] وما بعده.

ووصف الآلهة بأنها من الأرض تهكم بالمشركين ، وإظهار لأفن رأيهم ، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالم الأرض أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب تعريضا بأن ما كان مثل ذلك لا يستحق أن يكون معبودا ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) في [الصافات : ٩٥].

وذكر الأرض هنا مقابلة لقوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] لأن المراد أهل السماء ، وجملة (هُمْ يُنْشِرُونَ) صفة ثانية ل (آلِهَةً).

واقترانها بضمير الفصل يفيد التخصيص أن لا ينشر غير تلك الآلهة. والمراد : إنشار

٢٨

الأموات ، أي بعثهم. وهذا مسوق للتهكم وإدماج لإثبات البعث بطريقة سوق المعلوم مساق غيره المسمى بتجاهل العارف ، إذ أبرز تكذيبهم بالبعث الذي أخبرهم الله على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة تكذيبهم استطاعة الله ذلك وعجزه عنه ، أي أن الأولى بالقدرة على البعث شركاؤهم فكأنّ وقوع البعث أمر لا ينبغي النزاع فيه فإن نازع فيه المنازعون فإنما ينازعون في نسبته إلى الله ويرومون بذلك نسبته إلى شركائهم فأنكرت عليهم هذه النسبة على هذه الطريقة المفعمة بالنكت ، والمشركون لم يدّعوا لآلهتهم أنها تبعث الموتى ولا هم معترفون بوقوع البعث ولكن نزلوا منزلة من يزعم ذلك إبداعا في الإلزام. ونظيره قوله تعالى في سورة [النحل : ٢١] في ذكر الآلهة : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢))

جملة مبينة للإنكار الذي في قوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) [الأنبياء : ٢١] ولذلك فصلت ولم تعطف.

وضمير المثنى عائد إلى (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنبياء : ١٩] من قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنبياء : ١٩] أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض واختل نظامهما الذي خلقتا به.

وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق ، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له ، ولذلك كانوا يقولون في التلبية في الحج «لبيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك» وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء.

وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله هو خالق السماوات والأرض ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في سورة [الزمر : ٣٨] ، وقال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) في سورة الزخرف [٩]. فهي مسوقة لإثبات الوحدانية لا لإثبات وجود الصانع إذ لا نزاع فيه عند المخاطبين ، ولا لإثبات انفراده بالخلق إذ لا نزاع فيه كذلك ، ولكنها

٢٩

منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.

والفساد : هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء. ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيهما. فمن صلاح السماء نظام كواكبها ، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها ، ونظام النور والظلمة. ومن صلاح الأرض مهدها للسير ، وإنباتها الشجر والزرع ، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب ، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.

ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الإلهية المعروفة آثارها ، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف ، ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر لأن الآلهة لو استوت في تعلقات إراداتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثا للاستغناء بواحد منهم ، ولأنه إذا حصل كائن فإن كان حدوثه بإرادة متعددين لزم اجتماع مؤثرين على مؤثّر واحد وهو محال لاستحالة اجتماع علتين تامتين على معلول واحد. فلا جرم أن تعدد الآلهة يستلزم اختلاف متعلقات تصرفاتها اختلافا بالأنواع ، أو بالأحوال ، أو بالبقاع ، فالإله الذي لا تنفذ إرادته في بعض الموجودات ليس بإله بالنسبة إلى تلك الموجودات التي أوجدها غيره.

ولا جرم أن تختلف متعلقات إرادات الآلهة باختلاف مصالح رعاياهم أو مواطنهم أو أحوال تصرفاتهم فكل يغار على ما في سلطانه.

فثبت أنّ التعدد يستلزم اختلاف الإرادات وحدوث الخلاف.

ولما كان التماثل في حقيقة الإلهية يقتضي التساوي في قوة قدرة كل إله منهم ، وكان مقتضيا تمام المقدرة عند تعلق الإرادة بالقهر للضد بأن لا يصده شيء عن استئصال ضده ، وكل واحد منهم يدفع عن نفسه بغزو ضده وإفساد ملكه وسلطانه ، تعين أنه كلما توجه واحد منهم إلى غزو ضده أن يهلك كلّ ما هو تحت سلطانه فلا يزال يفسد ما في السماوات والأرض عند كل خلاف كما قال تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) في سورة المؤمنون [٩١].

فلا جرم دلت مشاهدة دوام السماوات والأرض على انتظامهما في متعدد العصور والأحوال على أنّ إلهها واحد غير متعدد.

فأما لو فرض التفاوت في حقيقة الإلهية فإن ذلك يقتضي رجحان بعض الآلهة على

٣٠

بعض ، وهو أدخل في اقتضاء الفساد إذ تصير الغلبة للأقوى منهم فيجعل الكل تحت كلا كله ويفسد على كل ضعيف منهم ما هو في حوزته فيكون الفساد أسرع.

وهذا الاستدلال ـ باعتبار كونه مسوقا لإبطال تعدّد خاص ، وهو التعدد الذي اعتقده أهل الشرك من العرب واليونان الزاعمين تعدد الآلهة بتعدد القبائل والتصرفات ، وكذا ما اعتقده المانوية من الفرس المثبتين إلهين أحدهما للخير والآخر للشّر أو أحدهما للنور والآخر للظلمة ـ هو دليل قطعي.

وأما باعتبار ما نحاه المتكلمون من الاستدلال بهذه الآية على إبطال تعدد الآلهة من أصله بالنسبة لإيجاد العالم وسمّوه برهان التمانع ، فهو دليل إقناعي كما قال سعد الدين التفتازانيّ في «شرح النسفية». وقال في «المقاصد» : «وفي بعضها ضعف لا يخفى».

وبيانه أن الاتفاق على إيجاد العالم يمكن صدوره من الحكيمين أو الحكماء فلا يتم الاستدلال إلا بقياس الآلهة على الملوك في العرف وهو قياس إقناعي.

ووجه تسميته برهان التمانع أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الإله هو فرض أن يتمانع الآلهة ، أي يمنع بعضهم بعضا من تنفيذ مراده ، والخوض فيه مقامنا غنيّ عنه.

والمنظور إليه في الاستدلال هنا هو لزوم فساد السماوات والأرض لا إلى شيء آخر من مقدمات خارجة عن لفظ الآية حتى يصير الدليل بها دليلا قطعيا لأن ذلك له أدلة أخرى كقوله تعالى (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، وسيجيء في سورة المؤمنون [٩١].

وأما الاستدلال ببرهان التمانع فللمتكلمين في تقريره طريقتان ذكرهما صاحب «المواقف».

الأولى : طريقة الاستدلال بلزوم التمانع بالفعل وهي الطريقة المشهورة. وتقريرها : أنه لو كان للعالم صانعان متماثلان في القدرة ، فلا يخلو إما أن تتفق إرادتاهما وحينئذ فالفعل إن كان بإرادتيهما لزم اجتماع مؤثرين تامين على مؤثر ـ بفتح المثلثة ـ واحد وهو محال لامتناع اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد. وإن كان الفعل بإحدى الإرادتين دون الأخرى لزم ترجيح إحداهما بلا مرجح لاستوائهما في الصفة والموصوف بها ، وإما أن تختلف إرادتاهما فيلزم التمانع ، ومعناه أن يمنع كل منهما الآخر من الفعل لأن الفرض أنهما مستويان في القدرة.

٣١

ويرد على الاستدلال بهاته الطريقة أمور :

أحدها أنه لا يلزم تساوي الإلهين في القدرة بل يجوز عقلا أن يكون أحدهما أقوى قدرة من الآخر ، وأجيب عنه بأن العجز مطلقا مناف للألوهية بداهة. قاله عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي».

الأمر الثاني : يجوز أن يتفق الإلهان على أن لا يريد أحدهما إلا الأمر الذي لم يرده الآخر فلا يلزم عجز من لم يفعل.

الأمر الثالث : يجوز أن يتفق الإلهان على إيجاد الأمر المراد بالاشتراك لا بالاستقلال.

الأمر الرابع : يجوز تفويض أحدهما للآخر أن يفعل فلا يلزم عجز المفوّض لأن عدم إيجاد المقدور لمانع أراده القادر لا يسمّى عجزا ، لا سيما وقد حصل مراده ، وإن لم يفعله بنفسه.

والجواب عن هذه الثلاثة الأخيرة أنّ في جميعها نقصا في الألوهية لأن الألوهية من شأنها الكمال في كل حال.

إلا أن هذا الجواب لا يخرج البرهان عن حد الإقناع.

الطريقة الثانية : عول عليها التفتازانيّ في «شرح العقائد النسفية» وهي أنّ تعدد الإلهين يستلزم إمكان حصول التمانع بينهما ، أي أن يمنع أحدهما ما يريده الآخر ، لأن المتعددين يجوز عليهم الاختلاف في الإرادة. وإذا كان هذا الإمكان لازما للتعدد فإن حصل التمانع بينهما إذ تعلقت إرادة أحدهما بوجود شخص معين وتعلقت إرادة الآخر بعدم وجوده ، فلا يصح أن يحصل المرادان معا للزوم اجتماع النقيضين ، وإن حصل أحد المرادين لزم عجز صاحب المراد الذي لم يحصل ، والعجز يستلزم الحدوث وهو محال ، فاجتماع النقيضين أو حدوث الإله لازم لازم لازم للتعدد وهو محال ، ولازم اللازم لازم فيكون الملزوم الأول محالا ، قال التفتازانيّ : وبه تندفع الإيرادات الواردة على برهان التمانع.

وأقول يرد على هذه الطريقة أن إمكان التمانع لا يوجب نهوض الدليل ، لأن هذا الإمكان يستحيل وقوعه باستحالة حدوث الاختلاف بين الإلهين بناء على أنّ اختلاف الإرادة إنما يجيء من تفاوت العلم في الانكشاف به ، ولذلك يقل الاختلاف بين الحكماء. والإلهان نفرضهما مستويين في العلم والحكمة فعلمهما وحكمتهما يقتضيان

٣٢

انكشافا متماثلا فلا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر فلا يقع بينهما تمانع ، ولذلك استدل في المقاصد على لزوم حصول الاختلاف بينهما بحكم اللزوم العادي.

بقي النظر في كيفية صدور الفعل عنهما فذلك انتقال إلى ما بنيت عليه الطريقة الأولى.

وإن احتمال اتفاق الإلهين على إرادة الأشياء إذا كانت المصلحة فيها بناء على أنّ الإلهين حكيمان لا تختلف إرادتهما ، وإن كان احتمالا صحيحا لكن يصير به تعدد الإله عبثا لأن تعدد ولاة الأمور ما كان إلا لطلب ظهور الصواب عند اختلافهما ، فإذا كانا لا يختلفان فلا فائدة في التعدد ، ومن المحال بناء صفة أعلى الموجودات على ما لا أثر له في نفس الأمر ، فالآية دليل قطعي.

ثم رجع عن ذلك في «شرح النسفية» فحقق أنها دليل إقناعي على التقديرين ، وقال المحقق الخيالي إلى أنها لا تكون دليلا قطعيا إلا بالنظر إلى تحقيق معنى الظرفية من قوله تعالى (فِيهِما) ، وعين أن تكون الظرفية ظرفية التأثير ، أي لو كان مؤثر فيهما ، أي السماوات والأرض غير الله تكون الآية حجة قطعية. وقد بسطه عبد الحكيم في «حاشيته على الخيالي» ولا حاجة بنا إلى إثبات كلامه هنا.

والاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا اللهُ) استثناء من أحد طرفي القضية لا من النسبة الحكمية ، أي هو استثناء من المحكوم عليه لا من الحكم. وذلك من مواقع الاستثناء لأن أصل الاستثناء هو الإخراج من المستثنى منه فالغالب أن يكون الإخراج من المستثنى باعتبار تسلط الحكم عليه قبل الاستثناء وذلك في المفرغ وفي المنصوب ، وقد يكون باعتباره قبل تسلط الحكم عليه وذلك في غير المنصوب ولا المفرغ فيقال حينئذ إن (إلا) بمعنى غير والمستثنى يعرب بدلا من المستثنى منه.

وفرع على هذا الاستدلال إنشاء تنزيه الله تعالى عن المقالة التي أبطلها الدليل بقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يصفونه به من وجود الشريك.

وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار لتربية المهابة.

ووصفه هنا برب العرش للتذكير بأنه انفرد بخلق السماوات وهو شيء لا ينازعون فيه بل هو خالق أعظم السماوات وحاويها وهو العرش تعريضا بهم بإلزامهم لازم قولهم بانفراده بالخلق أن يلزم انتفاء الشركاء له فيما دون ذلك.

٣٣

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠] كما تقدم عند قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١] إلخ .. فالمعنى أن من عنده وهم المقربون من المخلوقات هم مع قربهم يسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل ، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حدّ الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله. فلما كان الضمير المرفوع بالنيابة عن الفاعل مشعرا بفاعل حذف لقصد التعميم ، أي لا يسأل سائل الله تعالى عما يفعل. وكان ممن يشملهم الفاعل المحذوف هم من عنده من المقربين ، صحّ كون هذه الجملة حالا من (مَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩] ، على أن جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) تمهيد لجملة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

على أن تقديمه على جملة (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) اقتضته مناسبة الحديث عن تنزيهه تعالى على الشركاء فكان انتقالا بديعا بالرجوع إلى بقية أحوال المقربين.

فالمقصود أن من عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون.

وبهذا تعلم أن ليس ضمير (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) براجع إلى ما رجع إليه ضمير (يَصِفُونَ) [الأنبياء : ٢٢] لأن أولئك لا جدوى للإخبار بأنهم يسألون إذ لا يتردد في العلم بذلك أحد ، ولا براجع إلى (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١] لعدم صحة سؤالهم ، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) حالا من (مَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء : ١٩].

والسؤال هنا بمعنى المحاسبة ، وطلب بيان سبب الفعل ، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل ، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته». فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل وبمظنة التعرض للخطإ في بعض ما يفعل.

وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في [البقرة : ٣٠] ، ولا سؤال الدعاء ، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرة بسؤال الله تعالى ، ولا لتطلب

٣٤

مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لإلهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى ، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبّر فيها أو كشف له عما خفي منها.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

جملة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) تأكيد لجملة (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) [الأنبياء : ٢١]. أكد ذلك الإضراب الانتقالي بمثله استعظاما لفظاعته وليبنى عليه استدلال آخر كما بني على نظيره السابق ؛ فإن الأول بني عليه دليل استحالة من طريق العقل ، وهذا بني عليه دليل بطلان بشهادة الشرائع سابقها ولا حقها ، فلقن الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي ، هاتوا دليلا على أنّ لله شركاء من شواهد الشرائع والرسل.

والبرهان : الحجة الواضحة. وتقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة النساء [١٧٤].

والإشارة في قوله تعالى (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) إلى مقدّر في الذهن يفسره الخبر. والمقصود من الإشارة تمييزه وإعلانه بحيث لا يستطيع المخاطب المغالطة فيه ولا في مضمونه ، كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) في سورة لقمان [١١] ، أي أن كتب الذكر أي الكتب الدينية في متناول الناس فانظروا هل تجدون في أحد منها أن لله شركاء وأن الله أذن باتخاذهم آلهة. وإضافة (ذِكْرُ) إلى (مَنْ مَعِيَ) من إضافة المصدر إلى مفعوله وهم المذكّرون ـ بفتح الكاف ـ.

والمعية في قوله تعالى (مَنْ مَعِيَ) معيّة المتابعة ، أي من معي من المسلمين ، فما صدق (من) الموصولة الأمم ، أي هذا ذكر الأمة التي هي معي ، أي الذكر المنزل لأجلكم. فالإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠]. والمراد بقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) القرآن ، وأما قوله تعالى : (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة : التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. وهذا كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا

٣٥

إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) في [آل عمران : ١٨].

وأضرب عن الاستدلال بأنه استدلال مضيع فيهم بقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، أي لا ترج منهم اعترافا ببطلان شركهم من دليل العقل المتقدم ولا من دليل شهادة الشرائع المذكور ثانيا ، فإن أكثرهم لا يعلمون الحق ولا يكتسبون علمه.

والمراد بكونهم لا يعلمون الحق أنهم لا يتطلبون علمه كما دلت عليه قرينة التفريع عليه بقوله تعالى (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) ، أي معرضون عن النظر في الأدلة التي تدعوهم أنت إلى معرفتها والنظر فيها.

وإنما أسند هذا الحكم إلى أكثرهم لا لجميعهم تسجيلا عليهم بأن قليلا منهم يعلمون الحق ويجحدونه ، أو إيماء إلى أن قليلا منهم تهيّأت نفوسهم لقبول الحقّ. وتلك هي الحالة التي تعرض للنفس عند هبوب نسمات التوفيق عليها مثل ما عرض لعمر بن الخطاب حين وجد اللوح عند أخته مكتوبا فيه سورة طه فأقبل على قراءته بشراشره فما أتمها حتى عزم على الإسلام.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

لما أظهر لرسوله أن المعاندين لا يعلمون الحق لإعراضهم عن تلقّيه أقبل على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأييد مقاله الذي لقّنه أن يجيبهم به وهو قوله تعالى : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) [الأنبياء : ٢٤] ، فأفاده تعميمه في شرائع سائر الرسل سواء من أنزل عليه كتاب ومن لم ينزل عليه كتاب ، وسواء من كان كتابه باقيا مثل موسى وعيسى وداود ومن لم يبق كتابه مثل إبراهيم.

وليس ذكر هذه الجملة لمجرد تقرير ما قبلها من آي التوحيد وإن أفادت التقرير تبعا لفائدتها المقصودة. وفيها إظهار لعناية الله تعالى بإزالة الشرك من نفوس البشر وقطع دابره إصلاحا لعقولهم بأن يزال منها أفظع خطل وأسخف رأي ، ولم تقطع دابر الشرك شريعة كما قطعه الإسلام بحيث لم يحدث الإشراك في هذه الأمّة.

وحرف (من) في قوله تعالى (مِنْ رَسُولٍ) مزيد لتوكيد النفي.

٣٦

وفرع فيما أوحي إليهم أمره إياهم بعبادته على الإعلان بأنه لا إله غيره ، فكان استحقاق العبادة خاصا به تعالى.

وقرأ الجمهور إلا يوحى إليه بمثناة تحتية مبنيا للنائب ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون مبنيا للفاعل ، والاستثناء المفرّع في موضع الحال.

[٢٦ ـ ٢٩] (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

عطف قصة من أقوالهم الباطلة على قصة أخرى. فلما فرغ من بيان باطلهم فيما اتخذوا من دون الله آلهة انتقل إلى بيان باطل آخر وهو اعتقادهم أن الله اتخذ ولدا. وقد كانت خزاعة من سكان ضواحي مكة يزعمون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وشاركهم في هذا الزعم بعض من قريش وغيرهم من العرب. وقد تقدم عند قوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) في سورة النحل [٥٧].

والولد اسم جمع مفرده مثله ، أي اتخذ أولادا ، والولد يشمل الذكر والأنثى ، والذين قالوا اتخذ الله ولدا أرادوا أنه اتخذ بنات ، قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) [النحل : ٥٧].

ولما كان اتخاذ الولد نقصا في جانب واجب الوجود أعقب مقالتهم بكلمة (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن ذلك فإن اتخاذ الولد إنما ينشأ عن الافتقار إلى إكمال النقص العارض بفقد الولد كما قال تعالى في سورة يونس [٦٨] (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ).

ولما كان المراد من قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] أنهم زعموا الملائكة بنات الله تعالى أعقب حرف الإضراب عن قولهم بالإخبار بأنهم عباد دون ذكر المبتدأ للعلم به. والتقدير : بل الملائكة عباد مكرمون ، أي أكرمهم الله برضاه عنهم وجعلهم من عباده المقربين وفضلهم على كثير من خلقه الصالحين.

والسبق ، حقيقته : التقدم في السير على سائر آخر. وقد شاع إطلاقه مجازا على

٣٧

التقدم في كل عمل. ومنه السبق في القول ، أي التكلم قبل الغير كما في هذه الآية. ونفيه هنا كناية عن عدم المساواة ، أي كناية عن التعظيم والتوقير. ونظيره في ذلك النهي عن التقدم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] فإن التقدم في معنى السبق.

فقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) معناه لا يصدر منهم قول قبل قوله ، أي لا يقولون إلّا ما أذن لهم أن يقولون. وهذا عام يدخل فيه الردّ على زعم المشركين أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله إذا أراد الله عقابهم على أعمالهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما سيصرح بنفيه.

وتقديم (بِأَمْرِهِ) على (يَعْمَلُونَ) لإفادة القصر ، أي لا يعملون عملا إلا عن أمر الله تعالى فكما أنهم لا يقولون قولا لم يأذن فيه كذلك لا يعملون عملا إلا بأمره.

وقوله تعالى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) تقدم نظيره في سورة البقرة [٢٥٥].

وقوله تعالى (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) تخصيص بالذكر لبعض ما شمله قوله تعالى (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) اهتماما بشأنه لأنه مما كفروا بسببه إذ جعلوا الآلهة شفعاء لهم عند الله.

وحذف مفعول (ارْتَضى) لأنه عائد صلة منصوب بفعل ، والتقدير : لمن ارتضاه ، أي ارتضى الشفاعة له بأن يأذن الملائكة أن يشفعوا له إظهارا لكرامتهم عند الله أو استجابة لاستغفارهم لمن في الأرض ، كما قال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) في سورة الشورى [٥]. وذلك الاستغفار من جملة ما خلقوا لأجله فليس هو من التقدم بالقول.

ثم زاد تعظيمهم ربهم تقريرا بقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ، أي هم يعظمونه تعظيم من يخاف بطشته ويحذر مخالفة أمره.

و (مِنْ) في قوله تعالى (مِنْ خَشْيَتِهِ) للتعليل ، والمجرور ظرف مستقر ، وهو حال من المبتدأ. و (مُشْفِقُونَ) خبر ، أي وهم لأجل خشيته ، أي خشيتهم إياه.

والإشفاق : توقع المكروه والحذر منه.

والشرط الذي في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) إلخ ... شرط

٣٨

على سبيل الفرض ، أي لو قاله واحد منهم مع العلم بأنهم لا يقولونه لأجل ما تقرر من شدة خشيتهم. فالمقصود من هذا الشرط التعريض بالذين ادّعوا لهم الإلهية بأنهم ادعوا لهم ما لا يرضونه ولا يقولونه ، وأنهم ادعوا ما يوجب لقائله نار جهنم على حد (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

وعدل عن (إن) الشرطية إلى (من) الشرطيّة للدلالة على العموم مع الإيجاز. وأدخل اسم الإشارة في جواب الشرط لتحقيق التعليق بنسبته الشرط لأداته للدلالة على جدارة مضمون الجزاء بمن ثبت له مضمون الشرط ، وفي هذا إبطال لدعوى عامة النصارى إلهية عيسى عليه‌السلام وأنهم يقولون عليه ما لم يقله. ثم صرح بما اقتضاه التعريض فقال تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء وهو جهنم يجزي المثبتين لله شريكا. والظلم : الشرك.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)

قرأ الجمهور (أَوَلَمْ) ـ بواو بعد الهمزة ـ وهي واو العطف ، فالجملة معطوفة عطف الاستدلال على الخلق الثاني بالخلق الأول وما فيه من العجائب. وقرأ ابن كثير ا لم ير بدون واو عطف. قال أبو شامة : ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة. قلت : معناه أنها لم تثبت في المصحف الذي أرسل به عثمان إلى مكة فالتزم قراء مكة رواية عدم الواو إلى أن قرأ بها ابن كثير ، وأهملت غير قراءته.

والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري ، توجه الإنكار على إهمالهم للنظر.

والرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جدير أيضا بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.

والرّتق : الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.

والفتق : ضده ، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.

٣٩

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة.

ثم إن قوله تعالى (كانَتا) يحتمل أن تكونا معا رتقا واحدا بأن تكون السماوات والأرض جسما ملتئما متصلا. ويحتمل أن تكون كل سماء رتقا على حدتها ، والأرض رتقا على حدتها وكذلك الاحتمال في قوله تعالى (فَفَتَقْناهُما).

وإنما لم يقل نحو : فصارتا فتقا ، لأن الرتق متمكن منهما أشدّ تمكن كما قلنا ليستدل به على عظيم القدرة في فتقهما ، ولدلالة الفعل على حدثان الفتق إيماء إلى حدوث الموجودات كلها وأن ليس منها أزلي.

والرتق يحتمل أن يراد به معان تنشأ على محتملاتها معان في الفتق ، فإن اعتبرنا الرؤية بصرية فالرتق المشاهد هو ما يشاهده الرائي من عدم تخلل شيء بين أجزاء السماوات وبين أجزاء الأرض ، والفتق هو ما يشاهده الرائي من ضد ذلك حين يرى المطر نازلا من السماء ويرى البرق يلعج منها والصواعق تسقط منها فذلك فتقها ، وحين يرى انشقاق الأرض بماء المطر وانبثاق النبات والشجر منها بعد جفافها ، وكل ذلك مشاهد مرئي دال على تصرف الخالق ، وفي هذا المعنى جمع بين العبرة والمنة ، كما قال ابن عطية أي هو عبرة دلالة على عظم القدرة وتقريب لكيفية إحياء الموتى كما قال تعالى : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في سورة فاطر [٩].

وإن اعتبرنا الرؤية علمية احتمل أن يراد بالرتق مثل ما أريد به على اعتبار كون الرؤية بصرية ، وكان الاستفهام أيضا إنكاريا متوجها إلى إهمالهم التدبر في المشاهدات. واحتمل أن يراد بالرتق معان غير مشاهدة ولكنها مما ينبغي طلب العلم به لما فيه من الدلائل على عظم القدرة وعلى الوحدانية ، فيحتمل أن يراد بالرتق والفتق حقيقتاهما ، أي الاتصال والانفصال. ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة ، أي كانت السماوات والأرض رتقا واحدا ، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض كما أشار إليه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) في سورة هود[٧].

ويجوز على هذا الاحتمال أن يكون الرتق والفتق على التوزيع ، أي كانت السماوات رتقا في حد ذاتها وكانت الأرض رتقا في حد ذاتها ثم فتق الله السماوات وفتق الله الأرض ، وهذا كقوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ

٤٠