تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

سورة النجم لما سجد المسلمون ، وذلك مروي في الصحيح ، فذلك من تخليط المؤلفين.

وكذلك تركيب تلك القصة على آية سورة الحجّ. وكم بين نزول سورة النجم التي هي من أوائل السور النازلة بمكة وبين نزول سورة الحج التي بعضها من أول ما نزل بالمدينة وبعضها من آخر ما نزل بمكة.

وكذلك ربط تلك القصة بقصة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة. وكم بين مدّة نزول سورة النجم وبين سنة رجوع من رجع من مهاجرة الحبشة.

فالوجه : أن هذه الشائعة التي أشيعت بين المشركين في أول الإسلام ، إنما هي من اختلافات المستهزئين من سفهاء الأحلام بمكة مثل ابن الزبعرى ، وأنهم عمدوا إلى آية ذكرت فيها اللات والعزّى ومناة فركّبوا عليها كلمات أخرى لإلقاء الفتنة في الناس وإنما خصّوا سورة النجم بهذه المرجفة لأنهم حضروا قراءتها في المسجد الحرام وتعلقت بأذهانهم وتطلبا لإيجاد المعذرة لهم بين قومهم على سجودهم فيها الذي جعله الله معجزة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد سرى هذا التعسف إلى إثبات معنى في اللغة ، فزعموا أن (تَمَنَّى) بمعنى : قرأ ، والأمنية : القراءة ، وهو ادّعاء لا يوثق به ولا يوجد له شاهد صريح في كلام العرب. وأنشدوا بيتا لحسان بن ثابت في رثاء عثمان رضي‌الله‌عنه :

تمنّى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

وهو محتمل أن معناه تمنّى أن يقرأ القرآن في أول الليل على عادته فلم يتمكّن من ذلك بتشغيب أهل الحصار عليه وقتلوه آخر الليل. ولهذا جعله تمنيا لأنه أحب ذلك فلم يستطع. وربما أنشدوه برواية أخرى فظنّ أنه شاهد آخر ، وربما توهموا الرواية الثانية بيتا آخر. ولم يذكر الزمخشري هذا المعنى في «الأساس». وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) في سورة [البقرة : ٧٨].

وجملة (إِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) معترضة. والواو للاعتراض ، والذين أوتوا العلم هم المؤمنون. وقد جمع لهم الوصفان كما في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) في سورة [الروم : ٥٦]. وكما في سورة [سبأ : ٦] (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ). فإظهار لفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) في مقام ضمير (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لقصد مدحهم بوصف الإيمان ، والإيماء إلى أن إيمانهم هو سبب هديهم. وعكسه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي

٢٢١

مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر : ٣]. فالمراد بالهدى في كلتا الآيتين عناية الله بتيسيره وإلا فإن الله هدى الفريقين بالدعوة والإرشاد فمنهم من اهتدى ومنهم من كفر.

وكتب في المصحف (لَهادِ) بدون ياء بعد الدال واعتبارا بحالة الوصل على خلاف الغالب. وفي الوقف يثبت يعقوب الياء بخلاف البقية.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

لمّا حكى عن الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أن ما يلقيه لهم الشيطان من إبطال ما جاءت به الرّسل يكون عليهم فتنة. خصّ في هذه الآية الكافرين بالقرآن بعد أن عمّهم مع جملة الكافرين بالرسل ، فخصّهم بأنهم يستمر شكّهم فيما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويترددون في الإقدام على الإسلام إلى أن يحال بينهم وبينه بحلول الساعة بغتة أو بحلول عذاب بهم قبل الساعة ، فالذين كفروا هنا هم مشركوا العرب بقرينة المضارع في فعل (لا يَزالُ) وفعل (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) الدّالين على استمرار ذلك في المستقبل.

ولأجل ذلك قال جمع من المفسرين : إن ضمير (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) عائد إلى القرآن المفهوم من المقام ، والأظهر أنه عائد إلى ما عاد عليه ضمير (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) [الحج : ٥٤].

و (السَّاعَةُ) علم بالغلبة على يوم القيامة في اصطلاح القرآن ، واليوم : يوم الحرب ، وقد شاع إطلاق اسم اليوم على وقت الحرب. ومنه دعيت حروب العرب المشهورة «أيام العرب».

والعقيم : المرأة التي لا تلد ؛ استعير العقيم للمشئوم لأنهم يعدّون المرأة التي لا تلد مشئومة.

فالمعنى : يأتيهم يوم يستأصلون فيه قتلا : وهذا إنذار بيوم بدر.

[٥٦ ـ ٥٩] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ

٢٢٢

حَلِيمٌ (٥٩))

آذنت الغاية التي في قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) [الحج : ٥٥] أن ذلك وقت زوال مرية الذين كفروا ، فكان ذلك منشأ سؤال سائل عن صورة زوال المرية : وعن ما ذا يلقونه عند زوالها ، فكان المقام أن يجاب السؤال بجملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) إلى آخر ما فيها من التفصيل ، فهي استئناف بياني.

فقوله (يَوْمَئِذٍ) تقدير مضافه الذي عوّض عنه التنوين : يوم إذ تزول مريتهم بحلول الساعة وظهور أن ما وعدهم الله هو الحق ، أو يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.

وجملة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) اشتمال من جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).

والحكم بينهم : الحكم فيما اختلفوا فيه من ادّعاء كل فريق أنه على الحق وأن ضده على الباطل ، الدال عليه قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [الحج : ٥٤] وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) [الحج : ٥٥] فقد يكون الحكم بالقول ، وقد يكون بظهور آثار الحق لفريق وظهور آثار الباطل لفريق ، وقد فصل الحكم بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ ، وهو تفصيل لأثر الحكم يدلّ على تفصيل أصله ، أي ذلك حكم الله بينهم في ذلك اليوم.

وأريد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات عمومه. وخص بالذكر منهم الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا تنويها بشأن الهجرة ، ولأجلها استوى أصحابها في درجات الآخرة سواء منهم من قتل في سبيل الله أو مات في غير قتال بعد أن هاجر من دار الكفر.

والتعريف في (الْمُلْكُ) تعريف الجنس ، فدلّت جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) على أن ماهية الملك مقصورة يومئذ على الكون ملكا لله ، كما تقدم في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أي لا ملك لغيره يومئذ.

والمقصود بالكلام هو جملة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) إذ هم البدل. وإنما قدمت جملة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) تمهيدا لها وليقع البيان بالبدل بعد الإبهام الذي في المبدل منه.

وافتتح الخبر عن الذين كفروا باسم الإشارة في قوله (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) للتنبيه على أنهم استحقوا العذاب المهين لأجل ما تقدم من صفتهم بالكفر والتكذيب بالآيات.

٢٢٣

والمهين : المذل ، أي لهم عذاب مشتمل على ما فيه مذلتهم كالضرب بالمقامع ونحوه.

وقرن (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بالفاء لما تضمنه التقسيم من معنى حرف التفصيل وهو (أما) ، كأنه قيل : وأما الذين كفروا ، لأنه لما تقدم ثواب الذين آمنوا كان المقام مثيرا لسؤال من يترقب مقابلة ثواب المؤمنين بعقاب الكافرين وتلك المقابلة من مواقع حرف التفصيل.

والرزق : العطاء ، وهو كل ما يتفضّل به من أعيان ومنافع ، ووصفه بالحسن لإفادة أنه يرضيهم بحيث لا يتطلبون غيره لأنه لا أحسن منه.

وجملة (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) بدل من جملة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ، وهي بدل اشتمال ، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم ، ولذلك وصف المدخل ب (يَرْضَوْنَهُ).

ووقعت جملة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) معترضة بين البدل والمبدل منه ، وصريحها الثناء على الله. وكنايتها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين.

وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويرا لعظمة رزق الله تعالى. وجملة : (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) تذييل ، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم ، وهو حليم بهم فيما لاقوه فهو يجازيهم بما لقوه من أجله. وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام.

وقرأ نافع (مُدْخَلاً) ـ بفتح الميم ـ على أنه اسم مكان من دخل المجرد لأن الإدخال يقتضي الدخول. وقرأ الباقون ـ بضم الميم ـ جريا على فعل (لَيُدْخِلَنَّهُمْ) المزيد وهو أيضا اسم مكان للإدخال.

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

اسم الإشارة للفصل بين الكلامين لفتا لأذهان السامعين إلى ما سيجيء من الكلام لأنّ ما بعده غير صالح لأن يكون خبرا عن اسم الإشارة. وقد تقدم نظيره عند قوله :

٢٢٤

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج : ٣٠].

وجملة (وَمَنْ عاقَبَ) إلخ ، معطوفة على جملة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحج : ٥٨] الآية.

والغرض منها التهيئة للجهاد والوعد بالنصر الذي أشير إليه سابقا بقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إلى قوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] ، فإنه قد جاء معترضا في خلال النّعي على تكذيب المكذبين وكفرهم النعم ، فأكمل الغرض الأول بما فيه من انتقالات ، ثمّ عطف الكلام إلى الغرض الذي جرت منه لمحة فعاد الكلام هنا إلى الوعد بنصر الله القوم المعتدى عليهم كما وعدهم بأن يدخلهم في الآخرة مدخلا يرضونه.

وجيء بإشارة الفصل للتنبيه على أهمية ما بعده.

وما صدق (من) الموصولة العموم لقوله فيما سلف (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] ، فنبه على أن القتال المأذون فيه هو قتال جزاء على اعتداء سابق كما دلّ عليه أيضا قوله (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩].

وتغيير أسلوب الجمع الذي في قوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلى أسلوب الإفراد في قوله (وَمَنْ عاقَبَ) للإشارة إلى إرادة العموم من هذا الكلام ليكون بمنزلة القاعدة الكلية لسنّة من سنن الله تعالى في الأمم.

ولما أتي في الصلة هنا بفعل (عاقَبَ) مع قصد شمول عموم الصلة للذين أذن لهم بأنهم ظلموا علم السامع أنّ القتال المأذون لهم به قتال جزاء على ظلم سابق.

وفي ذلك تحديد لقانون العقاب أن يكون مماثلا للعدوان المجزى عليه ، أي أن لا يكون أشدّ منه.

وسمّي اعتداء المشركين على المؤمنين عقابا في قوله (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) لأن الذي دفع المعتدين إلى الاعتداء قصد العقاب على خروجهم عن دين الشرك ونبذ عبادة أصنامهم. ويعلم أنّ ذلك العقاب ظلم بقوله فيما مضى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠].

ومعنى (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) المماثلة في الجنس فإن المشركين آذوا المسلمين

٢٢٥

وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن. ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه ، إما بالقتال فهو إخراج كامل ، أو بالأسر.

و (ثُمَ) من قوله : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) عطف على جملة (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، ف (ثم) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال «البادئ أظلم». فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين. ومعنى الآية في معني قوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة : ١٣].

وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة ، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض ، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له : بم دام ملككم؟ فقال : لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب ، فليس ذكر وصفي (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.

ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله : (إِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج : ٥٩] لأن الكلام مستمر في شأنهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))

ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله ، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر ، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة ، فضرب له مثلا بتغليب

٢٢٦

مدة النهار على مدة الليل في بعض السنة ، وتغليب مدة الليل على مدة النهار في بعضها ، لما تقرر من اشتهار التضادّ بين الليل والنهار ، أي الظلمة والنور ، وقريب منها استعارة التلبيس للإقحام في الحرب في قول المرّار السّلمي :

وكتيبة لبّستها بكتيبة حتى

إذا التبست نفضت لها يدي

فخبر اسم الإشارة هنا هو قوله : (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ) إلخ.

ويجوز أن يكون اسم الإشارة تكريرا لشبيهه السابق لقصر توكيده لأنه متصل به لأن جملة (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلخ ، مرتبطة بجملة (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) إلخ ، ولذلك يصح جعل (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلخ متعلقا بقوله (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج : ٦٠].

والإيلاج : الإدخال. مثل به اختفاء ظلام الليل عند ظهور نور النهار وعكسه تشبيها لذلك التصيير بإدخال جسم في جسم آخر ، فإيلاج الليل في النهار : غشيان ضوء النهار على ظلمة الليل ، وإيلاج النهار في الليل : غشيان ظلمة الليل على ما كان من ضوء النهار. فالمولج هو المختفي ، فإيلاج الليل انقضاؤه. واستعارة الإيلاج لذلك استعارة بديعة لأن تقلص ظلمة الليل يحصل تدريجا ، وكذلك تقلّص ضوء النهار يحصل تدريجا ، فأشبه ذلك إيلاج شيء في شيء إذ يبدو داخلا فيه شيئا فشيئا.

والباء للسببية ، أي لا عجب في النصر الموعود به المسلمون على الكافرين مع قلّة المسلمين ، فإن القادر على تغليب النهار على الليل حينا بعد أن كان أمرهما على العكس حينا آخر قادر على تغليب الضعيف على القوي ، فصار حاصل المعنى : ذلك بأن الله قادر على نصرهم.

والجمع بين ذكر إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل للإيماء إلى تقلّب أحوال الزمان فقد يصير المغلوب غالبا ، ويصير ذلك الغالب مغلوبا. مع ما فيه من التنبيه على تمام القدرة بحيث تتعلق بالأفعال المتضادّة ولا تلزم طريقة واحدة كقدرة الصناع من البشر. وفيه إدماج التنبيه بأنّ العذاب الذي استبطأه المشركون منوط بحلول أجله ، وما الأجل إلا إيلاج ليل في نهار ونهار في ليل.

وفي ذكر الليل والنهار في هذا المقام إدماج تشبيه الكفر بالليل والإسلام بالنهار لأن الكفر ضلالة اعتقاد ، فصاحبه مثل الذي يمشي في ظلمة ، ولأنّ الإيمان نور يتجلّى به

٢٢٧

الحق والاعتقاد الصحيح ، فصاحبه كالذي يمشي في النهار ، ففي هذا إيماء إلى أن الإيلاج المقصود هو ظهور النهار بعد ظلمة الليل ، أي ظهور الدين الحق بعد ظلمة الإشراك ، ولذلك ابتدئ في الآية بإيلاج الليل في النهار ، أي دخول ظلمة الليل تحت ضوء النهار.

وقوله : (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تتميم لإظهار صلاحية القدرة الإلهية. وتقدم في سورة [آل عمران : ٢٧] (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ).

وعطف (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) على السبب للإشارة إلى علم الله بالأحوال كلها فهو ينصر من ينصره بعلمه وحكمته ويعد بالنصر من علم أنه ناصره لا محالة ، فلا يصدر منه شيء إلا عن حكمة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

اسم الإشارة هنا تكرير لاسم الإشارة الذي سبقه ولذلك لم يعطف. ثم أخبر عنه بسبب آخر لنصر المؤمنين على المشركين بأن الله هو الرب الحق الذي إذا أراد فعل وقدر فهو ينصر أولياءه وأن ما يدعوه المشركون من دون الله هو الباطل فلا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون. وهذا على حمل الباء في قوله : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) على معنى السببية ، وهو محمل المفسرين. وسيأتي في سورة لقمان في نظيرها : أن الأظهر حمل الباء على الملابسة ليلتئم عطف وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ).

والحق : المطابق للواقع ، أي الصدق ، مأخوذ من حقّ الشيء إذا ثبت : والمعنى : أنه الحق في الإلهيّة ، فالقصر في هذه الجملة المستفاد من ضمير الفصل قصر حقيقي.

وأما القصر في قوله وأن ما تدعون (مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) المستفاد من ضمير الفصل فهو قصر ادعائيّ لعدم الاعتداد بباطل غيرها حتى كأنه ليس من الباطل. وهذا مبالغة في تحقير أصنامهم لأنّ المقام مقام مناضلة وتوعد ، وإلا فكثير من أصنام وأوثان غير العرب باطل أيضا.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر تدعون بالتاء الفوقيّة على الالتفات إلى خطاب المشركين لأنّ الكلام السابق الذي جرت عليهم فيه ضمائر الغيبة مقصود منه إسماعهم والتعريض باقتراب الانتصار عليهم. وقرأ البقية بالتحتية على طريقة

٢٢٨

الكلام السابق.

وعلوّ الله : مستعار للجلال والكمال التام.

والكبر : مستعار لتمام القدرة ، أي هو العلي الكبير دون الأصنام التي تعبدونها إذ ليس لها كمال ولا قدرة ببرهان المشاهدة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣))

انتقال إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس بمناسبة ما جرى من قوله (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) [الحج : ٦٢] الآية. والمقصود : التعريض بشكر الله على نعمه وأن لا يعبدوا غيره كما دلّ عليه التذييل عقب تعداد هذه النعم بقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) [الحج : ٦٦] ، أي الإنسان المشرك. وفي ذلك كله إدماج الاستدلال على انفراده بالخلق والتدبير فهو الرب الحق المستحق للعبادة. والمناسبة هي ما جرى من أن الله هو الحق وأن ما يدعونه الباطل ، فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

والخطاب لكلّ من تصلح منه الرؤية لأنّ المرئيّ مشهور.

والاستفهام : إنكاري ، نزلت غفلة كثير من الناس عن الاعتبار بهذه النعمة والاعتداد بها منزلة عدم العلم بها ، فأنكر ذلك العدم على الناس الذين أهملوا الشكر والاعتبار.

وإنما حكي الفعل المستفهم عنه الإنكاري مقترنا بحرف (لم) الذي يخلّصه إلى المضي ، وحكي متعلقه بصيغة الماضي في قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو الإنزال بصيغة الماضي كذلك ولم يراع فيهما معنى تجدّد ذلك لأن موقع إنكار عدم العلم بذلك هو كونه أمرا متقررا ماضيا لا يدّعى جهله.

و (فَتُصْبِحُ) بمعنى تصير فإن خمسا من أخوات (كان) تستعمل بمعنى : صار.

واختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من إقامة أقوات الناس والبهائم بذكر لونه الأخضر لأنّ ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦].

وإنما عبّر عن مصير الأرض خضراء بصيغة تصبح مخضرة مع أن ذلك مفرّع على

٢٢٩

فعل (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الذي هو بصيغة الماضي لأنه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة الحسنة ، ولإفادة بقاء أثر إنزال المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم فلان عليّ فأروح وأغدو شاكرا له.

وفعل تصبح مفرّع على فعل (أَنْزَلَ) فهو مثبت في المعنى. وليس مفرّعا على النفي ولا على الاستفهام ، فلذلك لم ينصب بعد الفاء لأنه لم يقصد بالفاء جواب للنفي إذ ليس المعنى : ألم تر فتصبح الأرض. قال سيبويه : «وسألته (يعني الخليل) عن (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال : هذا واجب (أي الرفع واجب) وهو تنبيه كأنك قلت : أتسمع : أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا اه.

قال في «الكشاف» : «لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه (أي الكلام) إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار. مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر. وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب»اه.

والمخضرّة : التي صار لونها الخضرة. يقال : اخضرّ الشيء ، كما يقال : اصفرّ الثمر واحمرّ ، واسودّ الأفق : وصيغة افعلّ مما يصاغ للاتصاف بالألوان.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) في موقع التعليل للإنزال ، أي أنزل الماء المتفرّع عليه الاخضرار لأنه لطيف ، أي رفيق بمخلوقاته ، ولأنه عليم بترتيب المسببات على أسبابها.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [الحج : ٦٣] للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم ، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض.

وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزّل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها ، ولأن هذه لا تتضمن تذكيرا بنعمة.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) عطف على جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

٢٣٠

الْأَرْضِ). وتقديم المجرور للدلالة على القصر. أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم ، إن جعلت القصر إضافيا ، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائيا.

ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره ، وهو معنى الغنى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيها على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها.

وأما وصف (الْحَمِيدُ) بمعنى المحمود كثيرا ، فذكره لمزاوجة وصف الغنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه.

وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصر بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقا لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب : «إني أنا الموت». وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقه قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، فهو من عداد الامتنان والاستدلال ، فكان كالتكرير للغرض ، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف. وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره. وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير. والتقدير : فهو الرب الحق.

وجملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) مستأنفة كجملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الحج : ٦٣].

والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة.

والتسخير : تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لو لا ذلك التسخير ، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل ، والإبل ، والبقر ، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع

٢٣١

الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان ، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يعذّر الانتفاع به لو لا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره ، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان ، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن ، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعجل ، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة ، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار ، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض ، وما لا يحصى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير.

وقد تقدم القول في التسخير آنفا في هذه السورة. وتقدّم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما ، وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير.

وجملة (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في موضع الحال من (الْفُلْكَ) وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لو لا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغرق.

وقوله (بِأَمْرِهِ) هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحا لحملها ، وأوحى إلى نوحعليه‌السلام معرفة صنعها ، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة إتقانها.

والإمساك : الشدّ ، وهو ضد الإلقاء. وقد ضمّن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر (عن) أو (من).

ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرضية وحطمها إياها لو لا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سنن ونظم تمنع من تسلط بعضها على بعض ، كما أشار إليه قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠]. فكما سخّر الله للناس ما ظهر على وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان ، وكما سخّر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها ، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذّر الضبط ، كذلك سخّر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك

٢٣٢

المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي تقديره.

ولفظ (السَّماءَ) في قوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كلا شاملا للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علما كالكواكب السيّارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان.

ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى : أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاما يمنعها من الخرور على الأرض ، فيكون قوله (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) امتنانا على الناس بالسلامة مما يفسد حياتهم ، ويكون قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) احتراسا جمعا بين الامتنان والتخويف ، ليكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربّهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض. وقد أشكل الاستثناء بقوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) فقيل في دفع الإشكال : إن معناه إلا يوم القيامة يأذن الله لها في الوقوع على الأرض. ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها. وفيما جعلنا ذلك احتراسا دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى.

ويجوز أن يكون لفظ (السَّماءَ) بمعنى المطر ، كقول معاوية بن مالك :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وقول زيد بن خالد الجهني في حديث «الموطأ» : «صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية على إثر سماء كانت من اللّيل» ، فيكون معنى الآية : أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قدّر أسبابها ، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرّر الناس فكان في إمساك نزوله باطّراد منة على الناس ، وكان في تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضا. فيكون هذا مشتملا على ذكر نعمتين : نعمة الغيث ، ونعمة السلامة من طغيان المياه.

ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ (السَّماءَ) الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه ، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١]. فالله يمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء ، ويمسك ما فيها من القوى كالمطر والبرد والثلج والصواعق من الوقوع على

٢٣٣

الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب. فيكون موقع (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) بعد قوله تعالى : (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) كموقع قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) في [سورة الجاثية : ١٢ ـ ١٣].

ويكون في قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إدماجا بين الامتنان والتخويف : فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس ، ومنه ما هو مكروه ، وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الآخرين وأوجز ، فهو لذلك أنسب بالإعجاز.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) استثناء من عموم متعلقات فعل (يُمْسِكُ) وملابسات مفعوله وهو كلمة (السَّماءَ) على اختلاف محامله ، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعا ملابسا لإذن من الله : هذا ما ظهر لي في معنى الآية.

وقال ابن عطيّة : «يحتمل أن يعود قوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عمد (أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذا من قوله تعالى : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] ونحوه فكأنه أراد : إلا بإذنه فيمسكها» اه. يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف.

والإذن حقيقته : قول يطلب به فعل شيء ، واستعير هنا للمشيئة والتكوين ، وهما متعلّق الإرادة والقدرة.

وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة : البرّ ، والبحر ، والجوّ.

وموقع جملة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) موقع التعليل للتسخير والإمساك باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم.

والرءوف : صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة ، وهي صفة تقتضي صرف الضر.

والرّحيم : وصف من الرحمة ، وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه. وقد تتعاقب الصفتان ، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه.

٢٣٤

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)

بعد أن أدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس ، فذكّر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها ، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها ، وبأن بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة. وهذا محل الاستدلال ، فجملة (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) عطف على جملة (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) [الحج : ٦٥] لأن صدر هذه من جملة النعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتنانا واستدلالا كذلك.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)

تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية.

وتوكيد الخبر بحرف (إنّ) لتنزيلهم منزلة المنكر أنهم كفراء.

والتعريف في (الْإِنْسانَ) تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم : جمع الأمير الصاغة ، أي صاغة بلده ، وقوله تعالى : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ٣٨]. وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث ، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦].

والكفور : مبالغة في الكافر ، لأنّ كفرهم كان عن تعنّت ومكابرة.

ويجوز كون الكفور مأخوذا من كفر النعمة وتكون المبالغة باعتبار آثار الغفلة عن الشكر ، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقيا.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧))

هذا متصل في المعنى بقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما

٢٣٥

رَزَقَهُمْ) [الحج : ٣٤] الآية. وقد فصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٧ ـ ٣٨] إلى هنا ، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) [الحج : ٣٤] الآية ليبنى عليه قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ). فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة ، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا منسكا واحدا يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد. وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعزّى ، قال النّابغة :

وما هريق على الأنصاب من جسد

 .........................

(أي دم). وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) [الحج : ٣٤] كما تقدم آنفا.

فالجملة استئناف. والمناسبة ظاهرة ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة.

والمنسك ـ بفتح الميم وفتح السين ـ : اسم مكان النّسك بضمهما كما تقدّم. وأصل النّسك العبادة ويطلق على القربان ، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان. والضمير في (ناسِكُوهُ) منصوب على نزع الخافض ، أي ناسكون فيه.

وفي «الموطأ» : «أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح ، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، فقال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) الآية ، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه.

قال الباجي في «المنتقى» : «وهو قول ربيعة». وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه ، أي نزلت في سنة تسع ، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة.

وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها ، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما أعطيه

٢٣٦

من الحجج كاف في قطع منازعة معارضيه ، فالمعارضون هم المقصود بالنهي ، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحجج وجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل : فلا تترك لهم ما ينازعونك به ، وهو من باب قول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، أي لا تفعل فأعرفك ، فجعل المتكلم النهي موجها إلى نفسه ، والمراد نهي السامع عن أسبابه ، وهو نهي للغير بطريق الكناية.

وقال الزجاج : هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله ، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه. وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله. وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعد ما سيق لهم من الحجج.

واسم (الْأَمْرِ) هنا مجمل مراد به التوحيد بالقرينة ، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرر الحجّ الذي هو من مناسكهم ، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم ، فكان قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) كشفا لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ ، وهو رمز التوحيد ، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعنّ في أمر الحجّ بعد هذا. وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحج : ٧٢] ، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بها وبالمدينة في أول مقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ ، فيبعد تفسير المنازعة بمنازعة أهل الكتاب.

وقوله (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) عطف على جملة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ). عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمر بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المكابرة تجافي الاقتناع ، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين ، وفي حذف مفعول (ادْعُ) إيذان بالتعميم.

وجملة (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك. وعلى مستعارة للتمكن من الهدى.

ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية ؛ شبه الهدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالا ، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال

٢٣٧

إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان. وفي هذا الخبر تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة.

[٦٨ ، ٦٩] (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩))

عطف على جملة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) [الحج : ٦٧]. والمعنى : إن تبيّن عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيبا واستهزاء فقل : الله أعلم بما تعملون.

وفي قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) تفويض أمرهم إلى الله تعالى ، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم ، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجّه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجّة : ولما في نفوسهم من إبطال العناد كقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) [السجدة : ٣٠].

والمراد (بِما تَعْمَلُونَ) ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل ليدحضوا به الحق وغير ذلك.

وجملة (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام مستأنف ليس من المقول ، فهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس خطابا للمشركين بقرينة قوله (بَيْنَكُمْ). والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين.

وما كانوا فيه يختلفون : هو ما عبر عنه بالأمر في قوله (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) [الحج : ٦٧].

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ٦٩] ، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلا على حساب عمله ، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.

و (ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.

٢٣٨

والاستفهام إنكاري أو تقريري ، أي أنك تعلم ذلك ، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدرا مما تلاقيه منهم.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) بيان للجملة قبلها ، أي يعلم ما في السماء والأرض علما مفصلا لا يختلف ، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنقصان.

واسم الإشارة إلى العمل في قوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أو إلى (ما) في قوله : (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الحج : ٦٩].

والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال : إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة ، وإما على الحقيقة ، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتابا لائقا بالمغيبات.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء.

واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور. ولك أن تجعلها بيانا لجملة (يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل (يَعْلَمُ) ، أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب ، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.

وتقديم المجرور على متعلّقه وهو (يَسِيرٌ) للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانه في جانب علم الله تعالى.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرّع عليها عطف غرض على غرض.

ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالا من الضمير المرفوع في قوله (جادَلُوكَ) [الحج : ٦٨] ، والمعنى : جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعد ما رأوا من الدلائل ، وتتضمن الحال تعجيبا من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.

والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدّد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحفّ بهم والتي ذكّروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.

٢٣٩

و (مِنْ دُونِ) يفيد أنهم يعرضون عن عبادة الله ، لأن كلمة (دُونِ) وإن كانت اسما للمباعدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره. فكلمة (دون) إذا دخلت عليها (من) صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه (دون). فاقتضى أن المضاف إليه غير مشارك في الفعل. فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شئون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناما بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلا.

والسلطان : الحجة. والحجة المنزّلة : هي الأمر الإلهي الوارد على ألسنة رسله وفي شرائعه ، أي يعبدون ما لا يجدون عذرا لعبادته من الشرائع السالفة : وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم ، ولم يدّعوا أن نبيئا أمر قومه بعبادة صنم ولا أن دينا إلهيا رخص في عبادة الأصنام.

و (ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلّا عن دليل ، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه. وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأنّ الدليل الشرعي أهمّ.

و (ما) التي في قوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) نافية. والجملة عطف على جملة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام. فالمراد بالظالمين المشركون المتحدّث عنهم ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم ، أي كفرهم. وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلا لأنهم عبدوها رجاء النصر. ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل : وما لا ينصرهم ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) [الأعراف : ١٩٧].

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا).

عطف على جملة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) [الحج : ٧١] لبيان

٢٤٠