تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

بتشديد الدال ـ للمبالغة في الهدم ، أي لهدّمت هدما ناشئا عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثرا.

والصوامع : جمع صومعة بوزن فوعلة ، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعد إليه بدرج وبأعلاه بيت ، كان الرهبان يتّخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم ، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين. من أجل ذلك سمّيت الصومعة المنارة. قال امرؤ القيس :

تضيء الظلام بالعشيّ كأنها

منارة ممسى راهب متبتّل

والبيع : جمع بيعة ـ بكسر الباء وسكون التحتية ـ مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها ، ولعلها معرّبة عن لغة أخرى.

والصلوات : جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معرّبة عن كلمة (صلوثا) (بالمثلثة في آخره بعدها ألف). فلمّا عربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك. وعن مجاهد ، والجحدري ، وأبي العالية ، وأبي رجاء أنهم قرءوها هنا (وَصَلَواتٌ) بمثلثة في آخره. وقال ابن عطية : قرأ عكرمة ، ومجاهد صلويثا ـ بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء ـ (أي المثلثة كما قال القرطبي) وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة.

والمساجد : اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنوا مسجد قباء ومسجد المدينة.

وجملة (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة. فلذلك قيل برجوع صفة (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) إلى (صَوامِعُ ، وَبِيَعٌ ، وَصَلَواتٌ ، وَمَساجِدُ) للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير (فِيهَا).

وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيرا ، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله ، لمحو ذكر اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيرا ، أي دون ذكر الأصنام. فالكثرة مستعملة في الدوام

٢٠١

لاستغراق الأزمنة ، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله.

قال ابن خويزمنداد من أئمة المالكية (من أهل أواخر القرن الرابع) «تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نارهم» اه.

قلت : أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما منع هدمها عقد الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين ، وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة.

وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأنّ صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها ، وكانت أشهر عندهم ، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها ، وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع. وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها ، وتأخير المساجد لأنها أعم ، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالا للفائدة.

وقوله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) عطف على جملة ولو لا دفاع الله الناس ، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم. وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله ، فكأنهم نصروا الله ، ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد. وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون.

وجملة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) تعليل لجملة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) ، أي كان نصرهم مضمونا لأنّ ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة. والقوة مستعملة في القدرة : والعزّة هنا حقيقة لأنّ العزّة هي المنعة ، أي عدم تسلّط غير صاحبها على صاحبها.

بدل من (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) وما بينهما اعتراض. فالمراد من (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم. وعن عثمان : «هذا والله ثناء قبل بلاء» ، أي قبل اختبار ، أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم. ومعنى (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: ٣٩].

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

٢٠٢

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)

ويجوز أن يكون بدلا من (مِنْ) الموصولة في قوله : (مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] فيكون المراد : كل من نصر الدين من أجيال المسلمين ، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله : وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوام نصرهم ، وانتظام عقد جماعتهم ، والسلامة من اختلال أمرهم ، فإن حادوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرهم إلى الله.

فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس ، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم.

والتمكين : التوثيق ، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك ، والأرض للجنس ، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم. وقد تقدم قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) في [سورة الأعراف : ١٠] ، وقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) في [سورة يوسف : ٥٦].

والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شئون الدين : إما بكونه معروفا للأمة كلها ، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائر الأمة. وإما بكونه معروفا لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه.

والمنكر : ما شأنه أن ينكر في الدين ، أي أن لا يرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها ، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شئون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ، ولا ما يفعلون في شئون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية ، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين.

٢٠٣

والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أول ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال ، ولتكون معرفة المعروف دليلا على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس.

(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)

عطف على جملة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] ، أو على جملة (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠] ، والمآل واحد ، وهو تحقيق وقوع النصر ، لأنّ الذي وعد به لا يمنعه من تحقيق وعده مانع ، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر.

والعاقبة : آخر الشيء وما يعقب الحاضر. وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسما. وفي حديث هرقل «ثم تكون لهم العاقبة».

وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.

[٤٢ ـ ٤٤] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤))

لما نعى على المشركين مساويهم في شئون الدين بإشراكهم وإنكارهم البعث وصدّهم عن الإسلام وعن المسجد الحرام وما ناسب ذلك في غرضه من إخراج أهله منه ، عطف هنا إلى ضلالهم بتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقصد من ذلك تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمثيلهم بأمثال الأمم التي استأصلها الله ، وتهديدهم بالمصير إلى مصيرهم ، ونظير هذه الآية إجمالا وتفصيلا تقدم غير مرة في سورة آل عمران وغيرها.

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) إلخ إذ التقدير : فلا عجب في تكذيبهم ، أو فلا غضاضة عليك في تكذيب قومك إياك فإن تلك عادة أمثالهم.

وقوم إبراهيم هم الكلدان ، وأصحاب مدين هم قوم شعيب ، وإنما لم يعبّر عنهم بقوم شعيب لئلا يتكرر لفظ قوم أكثر من ثلاث مرات.

وقال : (وَكُذِّبَ مُوسى) لأن مكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل.

٢٠٤

وقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) معناه فأمليت لهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش.

والأخذ حقيقته : التناول لما لم يكن في اليد ، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم ، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول ، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده ، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم ، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [سورة الأنبياء : ٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد ، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك.

ومناسبة عدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام ، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه. وألجئوه إلى الخروج من موطنه (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠] مناسبة لذكر قوم إبراهيم.

والإملاء : ترك المتلبّس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة.

والفاء في (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم ، وهو تعقيب موزع ، فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه ، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة ، فلذلك عطف فعله بحرف المهلة.

وعطفت جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ ، وهو استفهام تعجيبي ، أي فأعجب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة ، وبالحياة هلاكا ، وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم.

والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه :

و (نَكِيرِ) ـ بكسرة في آخره ـ دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا.

وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم ، فإن

٢٠٥

الله عاقب على المنكر بأشد العقاب ، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله ، وقد قال الحكماء: إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية ، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

تفرع ذكر جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) على جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله : (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [الحج : ٤٢] إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل.

و (فَكَأَيِّنْ) اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة (أَهْلَكْناها) الخبر.

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره (أَهْلَكْناها) والتقدير : أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها (كأيّن) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة (أَهْلَكْناها) في محل جر صفة ل (قَرْيَةٍ). وجملة (فَهِيَ خاوِيَةٌ) معطوفة على جملة (أَهْلَكْناها) ، وقد تقدم نظيره في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ) نبيء في [سورة آل عمران : ١٤٦].

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود. ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة.

ومعنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة (عَلى عُرُوشِها) خبر ثان عن ضمير (فَهِيَ) والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سقفها.

والعروش : جمع عرش ، وهو السقف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله

٢٠٦

تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) في [سورة البقرة : ٢٥٩].

والمعطلة : التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع ، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا. وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئارا في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشرب منها إلا بئرا واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه‌السلام.

والقصر : المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقا.

والمشيد : المبنيّ بالشّيد ـ بكسر الشين وسكون الياء ـ وهو الجصّ : وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رصّ به.

والقصور المشيّدة : وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرة مثل : قصر غمدان في اليمن ، وقصور ثمود في الحجر ، وقصور الفراعنة في صعيد مصر ، وفي «تفسير القرطبي» يقال : «إن هذه البئر وهذا القصر بحضر موت معروفان. ويقال : إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور ـ بفتح الحاء ـ. وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه‌السلام. وكان صالح معهم ، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حنظلة بن صفوان رسولا فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشا». يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة (كأيّن) تنافي إرادة قرية معيّنة.

وقرأ الجمهور (أَهْلَكْناها) ـ بنون العظمة ـ : وقرأه أبو عمرو ويعقوب أهلكتها ـ بتاء المتكلم ـ.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

تفريع على جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الحج : ٤٥] وما بعدها.

والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها ، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا ، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه

٢٠٧

قوله تعالى : (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها). فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض ، ولكن جعل الاستفهام داخلا على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جعل كالعدم فكان التعجيب من انتفائه ، فالكلام جار على خلاف مقتضى الظاهر.

والفاء في (فَتَكُونَ) سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير ، أي لم يسيروا سيرا تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها ، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض. وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتا وفي هذا المعنى قال المعرّي :

وقيل أفاد بالأسفار مالا

فقلنا هل أفاد بها فؤادا

وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات ، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائد تزيد همته نفاذا فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة.

وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مفيض الدم ـ وهو مادة الحياة ـ على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : (يَعْقِلُونَ بِها) وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : (يَعْقِلُونَ بِها) فأشار إلى أن القلوب هي العقل.

ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سيرهم في الأرض منزلة المعدوم.

وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها ؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ما علمه المسافرون علما سبيله سماع الأخبار.

وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت

٢٠٨

منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].

والفاء في جملة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) تفريع على جواب النفي في قوله : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ، وفذلكة للكلام السابق ، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم.

والضمير في قوله (فَإِنَّها) ضمير القصة والشأن ، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعد الضمير ، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب ، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات ، والمدرك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل.

واستعير العمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه.

والتعريف في (الْأَبْصارُ) ، و (الْقُلُوبُ) ، و (الصُّدُورِ) تعريف الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم ، والجمع فيها باعتبار أصحابها.

وحرف التوكيد في قوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه.

وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانها بحرف التوكيد.

والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمى ، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه ، فالقصر ترشيح للاستعارة.

ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبداعة النظم.

و (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) صفة ل (الْقُلُوبُ) تفيد توكيدا للفظ (الْقُلُوبُ). فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]. ووزان القيد في قوله :

٢٠٩

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] فهو لزيادة التقرير والتشخيص.

ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضا بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهممع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيّ» ، فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

عطف على جملة (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) [الحج : ٤٢] عطف القصة على القصة فإن من تكذيبهم أنهم كذبوا بالوعيد وقالوا : لو كان محمد صادقا في وعيده لعجّل لنا وعيده ، فكانوا يسألونه التعجيل بنزول العذاب استهزاء ، كما حكى الله عنهم في قوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، وقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [السجدة : ٢٨] فذكر ذلك في هذه الآية بمناسبة قوله (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) [الحج : ٤٤] الآية.

وحكي (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) بصيغة المضارع للإشارة إلى تكريرهم ذلك تجديدا منهم للاستهزاء وتوركا على المسلمين.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود إبلاغه إياهم.

والباء من قوله (بِالْعَذابِ) زائدة لتأكيد معنى الاستعجال بشدّته كأنه قيل يحرصون على تعجيله. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) في أول [سورة الرعد : ٦].

ولما كان استعجالهم إياه تعريضا منهم بأنهم موقنون بأنه غير واقع أعقب بقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، أي فالعذاب الموعود لهم واقع لا محالة لأنه وعد من الله والله لا يخلف وعده. وفيه تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لئلا يستبطئونه.

وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) عطف على جملة (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، فإن الله توعدهم بالعذاب وهو صادق على عذاب الدنيا والآخرة وهم إنما استعجلوا عذاب الدنيا تهكما وكناية عن إيقانهم بعدم وقوعه بلازم واحد ، وإيماء إلى عدم

٢١٠

وقوع عذاب الآخرة بلازمين ، فردّ الله عليهم ردا عاما بقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، وكان ذلك تثبيتا للمؤمنين ، ثم أعقبه بإنذارهم بأن عذاب الآخرة لا يفلتون منه أيضا وهو أشدّ العذاب.

فقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) خبر مستعمل في التعريض بالوعيد ، وهذا اليوم هو يوم القيامة.

وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُالْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٣ ـ ٥٤].

وليس المراد بقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) إلى آخره استقصار أجل حلول العذاب بهم في الدنيا كما درج عليه أكثر المفسرين لعدم رشاقة ذلك على أن هذا الاستقصار يغني عنه قوله عقب هذا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها) [الحج : ٤٨].

والخطاب في (تَعُدُّونَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وقرأ الجمهور (تَعُدُّونَ) بالفوقية ، وقرأه ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي مما يعدون ـ بياء الغائبين ـ. أي مما يعده المشركون المستعجلون بالعذاب.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

عطف على جملة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] أو على جملة (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧] باعتبار ما تضمنه استعجالهم بالعذاب من التعريض بأنهم آيسون منه لتأخّر وقوعه ، فذكّروا بأن أمما كثيرة أمهلت ثمّ حلّ بها العذاب. فوزان هذه الآية وزان قوله آنفا : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٥] إلخ ؛ إلا أن الأولى قصد منها كثرة الأمم التي أهلكت لئلا يتوهّم من ذكر قوم نوح ومن عطف عليهم أن الهلاك لم يتجاوزهم ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإهلاك دون الإمهال. وهذه الآية القصد منها التذكير بأنّ تأخير الوعيد لا يقتضي إبطاله ، ولذلك اقتصر فيها على ذكر الإمهال ثم الأخذ بعده المناسب للإملاء من حيث إنه دخول في القبضة بعد بعده عنها.

وأما عطف جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الحج : ٤٥] ـ بالفاء ـ وعطف جملة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) ـ بالواو ـ فلأن الجملة الأولى وقعت بدلا من جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤] فقرنت ـ بالفاء ـ التي دخلت نظيرتها على الجملة

٢١١

المبدل منها ، وأما هذه الجملة الثانية فخليّة عن ذلك فعطفت بالحرف الأصلي للعطف.

وجملة (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) تذييل ، أي مصير الناس كلهم إليّ. والمصير مصدر ميمي ل (صار) بمعنى : رجع ، وهو رجوع مجازي بمعنى الحصول في المكنة.

وتقديم المجرور للحصر الحقيقي ، أي لا يصير الناس إلا إلى الله ، وهو يقتضي أنّ المصير إليه كائن لا محالة ، وهو المقصود من الحصر لأن الحصر يقتضي حصول الفعل بالأحرى فهو كناية عن عدم الإفلات.

[٤٩ ـ ٥١] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

استئناف بعد المواعظ السالفة والإنذارات ، وافتتاحه ب (قُلْ) للاهتمام به ، وافتتاح المقول بنداء الناس للفت ألبابهم إلى الكلام. والمخاطبون هم المشركون.

والغرض من خطابهم إعلامهم بأن تكذيبهم واستهزاءهم لا يغيظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصدّه عن أداء رسالته ، ففي ذلك قمع لهم إذ كانوا يحسبون أنهم بتكذيبهم واستهزائهم يملّونه فيترك دعوتهم ، وفيه تثبيت للنبي وتسلية له فيما يلقاه منهم.

وقصر النبي على صفة النذارة قصر إضافي ، أي لست طالبا نكايتكم ولا تزلفا إليكم فمن آمن فلنفسه ومن عمى فعليها.

والنذير : المحذّر من شرّ يتوقع.

وفي تقديم المجرور المؤذن بالاهتمام بنذارتهم إيماء إلى أنهم مشرفون على شرّ عظيم فهم أحرياء بالنذارة.

والمبين : المفصح الموضح ، أي مبين للإنذار بما لا إيهام فيه ولا مصانعة.

وفرع على الأمر بالقول تقسيم للناس في تلقي هذا الإنذار المأمور الرسول بتبليغه إلى مصدق ومكذّب لبيان حال كلا الفريقين في الدنيا والآخرة ترغيبا في الحالة الحسنى وتحذيرا من الحالة السّوأى فقال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ) إلى آخره ... فهذا إخبار من الله تعالى كما يقتضيه قوله (فِي آياتِنا).

٢١٢

والجملة معترضة بالفاء.

والمغفرة : غفران ما قدموه من الشرك وما يتبعه من شرائع الشرك وضلالاته ومفاسده. وهذه المغفرة تفضي إلى نعيم الآخرة ، فالمعنى : أنهم فازوا في الدار الآخرة.

والرّزق : العطاء. ووصفه بالكريم يجمع وفرته وصفاءه من المكدرات كقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [فصلت : ٨] ذلك هو الجنة.

والرزق منه ما هو حاصل لهم في الدنيا ، فهم متمتعون بانشراح صدورهم ورضاهم عن ربهم ، وأعظمه ما يحصل لهم في الآخرة.

والذين سعوا هم الفريق المقابل للذين آمنوا ، فمعناه : والذين استمروا على الكفر ، فعبر عن الاستمرار بالسعي في الآيات لأنه أخص من الكفر ، وذلك حال المشركين المتحدث عنهم.

والسّعي : المشي الشديد. ويطلق على شدّة الحرص في العمل تشبيها للعامل الحريص بالماشي الشديد المشي في كونه يكدّ للوصول إلى غاية كما قال تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى) [النازعات : ٢٢ ـ ٢٣] فليس المراد أن فرعون خرج يمشي وإنما المراد أنه صرف عنايته لإحضار السحرة لإحباط دعوة موسى. وقال تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٦٤].

والكلام تمثيل ، شبهت هيئة تفننهم في التكذيب بالقرآن وتطلب المعاذير لنقض دلائله من قولهم : هو سحر ، هو شعر ، هو أساطير الأولين ، هو قول مجنون ، وتعرضهم بالمجادلات والمناقضات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهيئة الساعي في طريق يسابق غيره ليفوز بالوصول.

والمعاجز : المسابق الطالب عجز مسايره عن الوصول إلى غايته وعن اللحاق به ، فصيغ له المفاعلة لأنّ كل واحد يطلب عجز الآخر عن لحاقه. والمعنى : أنهم بعملهم يغالبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم لا يشعرون أنهم يحاولون أن يغلبوا الله وقد ظنوا أنهم نالوا مرادهم في الدنيا ولم يعلموا ما لهم من سوء العاقبة.

وقرأ الجمهور (مُعاجِزِينَ) ـ بألف بعد العين ـ وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو معجزين ـ بفتح العين وتضعيف الجيم ـ ، أي محاولين إعجاز الله تعالى وهم لا يعلمون.

٢١٣

والتصدير باسم الإشارة في قوله (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) للتنبيه على أن المخبر عنهم جديرون بما سيرد بعد اسم الإشارة من الحكم لأجل ما ذكر قبله من الأوصاف ، أي هم أصحاب الجحيم لأنّهم سعوا في آياتنا معاجزين. ومن أحسن ما يفسر هذه الآية ما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان (١) فالنّجاء النّجاء ، فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا (٢) وانطلقوا على مهلهم (٣) ، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتّبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحقّ».

[٥٢ ـ ٥٤] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

عطف على جملة (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الحج : ٤٩] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقب قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٨] إلخ ... وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك ، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفه من الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنة الله في رسله عليهم‌السلام.

فقوله : (مِنْ رَسُولٍ وَلا) نبيء نص في العموم ، فأفاد أنّ ذلك لم يعد أحدا من

__________________

(١) العريان : المجرد من الثياب ـ والنذير العريان مثل أصله : أن أحد القوم إذا رأى عدوا يريد غرة قومه ولم يجد شيئا يشير به نزع ثوبه فألوى به أي لوح.

(٢) أدلجوا بهمزة قطع مفتوحة وبسكون الدال أي : ساروا في دلجة الليل ، أي : ظلامه.

(٣) المهل ـ بفتحتين ـ عدم العجلة ، أي : انطلقوا غير فزعين.

٢١٤

الأنبياء والرسل.

وعطف نبيء على (رَسُولٍ) دالّ على أنّ للنبي معنى غير معنى الرسول :

فالرسول : هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة. والنبي : من أوحى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقة أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول ، وهو التحقيق.

والتمنّي : كلمة مشهورة ، وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصوله. والأمنية : الشيء المتمنّى. وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلّهم صالحين مهتدين ، والاستثناء من عموم أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو (مِنْ رَسُولٍ) ولا نبيء ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلّا في حال إذا تمنّى أحدهم أمنية ألقى الشيطان فيها إلخ ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خير محض والشيطان دأبه الإفساد وتعطيل الخير.

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي دون أن نرسل أحدا منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره.

والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد. واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيها للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس. ومنه قوله تعالى : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) [طه : ٨٧] وقوله : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) [النحل : ٨٦] وكقوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) [طه : ٩٦] على ما حققناه فيما مضى.

ومفعول (أَلْقَى) محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد ، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح ، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد. فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد.

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادّها ، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم ، فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ، ويلقي في قلوب أئمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم ، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان ، والله تعالى يعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي ، ويفضح وساوس الشيطان وسوء فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ

٢١٥

الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦]. فالله بهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان ، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ، ويزيد آيات دعوة رسله بيانا ، وذلك هو إحكام آياته ، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه ، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران.

وقد فسر كثير من المفسرين (تَمَنَّى) بمعنى قرأ ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتا نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها. وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواء ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقى الشيطان في أمنيته ، أي في قراءته ، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر. فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدم امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده.

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم ، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير :

تمنى كتاب الله أول ليله

تمني داود الزبور على مهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية.

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدي قومه أو حرص على ذلك فلقي منهم العناد ، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يقصر النبي من حرصه أو أن يضجره ، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد. فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحا إلى قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥].

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) للترتيب الرتبي ، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نسخ ما يلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهدى ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخا.

٢١٦

وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معترضة.

ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤١ ـ ٤٢] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤٢] وقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦]. وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمر الله رسله فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة ينسخ ما ألقاه الشيطان وتثبت الآيات السالفة. فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت. وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثار ما يلقي الشيطان ، ويحكم آثار آياته.

واللامان في قوله (لِيَجْعَلَ) وفي قوله (وَلِيَعْلَمَ) متعلقان بفعل (فَيَنْسَخُ اللهُ) فإن النسخ يقتضي منسوخا ، وفي يجعل ضمير عائد إلى الله في قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ).

والجعل هنا : جعل نظام ترتب المسببات على أسبابها ، وتكوين تفاوت المدارك ومراتب درجاتها. فالمعنى : أنّ الله مكّن الشيطان من ذلك الفعل بأصل فطرته من يوم خلق فيه داعية الإضلال ، ونسخ ما يلقيه الشيطان بواسطة رسله وآياته ليكون من ذلك فتنة ضلال كفر وهدي إيمان بحسب اختلاف القابليات. فهذا كقوله تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠].

ولام (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) مستعار لمعنى الترتب مثل اللام في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨]. وهي مستعارة لمعنى التعقيب الذي حقه أن يكون بحرف الفاء ، أي تحصل عقب النسخ الذي فعله الله فتنة من افتتن من المشركين بانصرافهم عن التأمل في أدلة نسخ ما يلقيه الشيطان ، وعن استماع ما أحكم الله به آياته ، فيستمر كفرهم ويقوى.

٢١٧

وأما لام (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فهي على أصل معنى التّعليل ، أي ينسخ الله ما يلقي الشيطان لإرادة أن يعلم المؤمنون أنه الحق برسوخ ما تمناه الرسول والأنبياء لهم من الهدى كما يحصل لهم بما يحكم الله من آياته ازدياد الهدى في قلوبهم.

و (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المتردّدون في قبول الإيمان. و (الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم الكافرون المصممون على الكفر. والفريقان هم المراد ب (الظَّالِمِينَ) في قوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). فذكر (الظَّالِمِينَ) إظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن علّة كونهم في شقاق بعيد هي ظلمهم ، أي كفرهم.

والشقاق : الخلاف والعداوة.

والبعيد هنا مستعمل في معنى : البالغ حدّا قويا في حقيقته. تشبيها لانتشار الحقيقة فيه بانتشار المسافة في المكان البعيد كما في قوله تعالى (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] أي دعاء كثير ملح.

وجملة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) معترضة بين المتعاطفات.

و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم المؤمنون بقرينة مقابلته ب (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وبقوله (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). فالمراد بالعلم الوحي والكتب التي أوتيها أصحاب الرسل السابقين فإنهم بها يصيرون من أهل العلم.

وإطلاق (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على المؤمنين تكرر في القرآن.

وهذا ثناء على أصحاب الرسل بأنهم أوتوا العلم ، وهو علم الدّين الذي يبلغهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإن نور النّبوءة يشرق في قلوب الذين يصحبون الرسول. ولذلك تجد من يصحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يكون قبل الإيمان جلفا فإذا آمن انقلب حكيما ، مثل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».

وضمير (أَنَّهُ الْحَقُ) عائد إلى العلم الذي أوتوه ، أي ليزدادوا يقينا بأن الوحي الذي أوتوه هو الحق لا غيره مما ألقاه الشيطان لهم من التشكيك والشبه والتضليل ، فالقصر المستفاد من تعريف الجزأين قصر إضافي. ويجوز أن يكون ضمير (أَنَّهُ) عائدا إلى ما

٢١٨

تقدم من قوله (فَيَنْسَخُ اللهُ) إلى قوله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ، أي أن المذكور هو الحق ، كقول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان كالمذكور.

وقوله (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) معناه : فيزدادوا إيمانا أو فيؤمنوا بالناسخ والمحكم كما آمنوا بالأصل.

والإخبات : الاطمئنان والخشوع. وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج : ٣٤] ، أي فيستقر ذلك في قلوبهم كقوله تعالى : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠].

وبما تلقيت في تفسير هذه الآية من الانتظام البيّن الواضح المستقل بدلالته والمستغني بنهله عن علالته ، والسالم من التكلّفات والاحتياج إلى ضميمة القصص ترى أن الآية بمعزل عما ألصقه بها الملصقون والضعفاء في علوم السّنّة ، وتلقاه منهم فريق من المفسرين حبا في غرائب النوادر دون تأمل ولا تمحيص ، من أن الآية نزلت في قصة تتعلق بسورة النجم فلم يكتفوا بما أفسدوا من معنى الآية حتى تجاوزوا بهذا الإلصاق إلى إفساد معاني سورة النجم ، فذكروا في ذلك روايات عن سعيد بن جبير ، وابن شهاب ، ومحمد بن كعب القرطبي ، وأبي العالية ، والضحاك وأقربها رواية عن ابن شهاب وابن جبير والضحاك قالوا : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في ناد من أندية قريش كثير أهله من مسلمين وكافرين ، فقرأ عليهم سورة النجم فلما بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] ألقى الشيطان بين السامعين عقب ذلك قوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بأن ذكر آلهتهم بخير ، وكان في آخر تلك السورة سجدة من سجود التلاوة ، فلما سجد في آخر السورة سجد كلّ من حضر من المسلمين والمشركين ، وتسامع الناس بأن قريشا أسلموا حتى شاع ذلك ببلاد الحبشة ، فرجع من مهاجرة الحبشة نفر منهم عثمان بن عفان إلى المدينة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشعر بأن الشيطان ألقى في القوم ، فأعلمه جبريل عليه‌السلام فاغتمّ لذلك فنزل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية تسلية له.

وهي قصة يجدها السامع ضغثا على إبالة ، ولا يلقي إليها النّحرير باله. وما رويت

٢١٩

إلا بأسانيد واهية ومنتهاها إلى ذكر قصة ، وليس في أحد أسانيدها سماع صحابي لشيء في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسندها إلى ابن عباس سند مطعون. على أنّ ابن عباس يوم نزلت سورة النجم كان لا يحضر مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي أخبار آحاد تعارض أصول الدين لأنها تخالف أصل عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا التباس عليه في تلقي الوحي. ويكفي تكذيبا لها قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] وفي معرفة الملك. فلو رووها الثقات لوجب رفضها وتأويلها فكيف وهي ضعيفة واهية. وكيف يروج على ذي مسكة من عقل أن يجتمع في كلام واحد تسفيه المشركين في عبادتهم الأصنام بقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] إلى قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] فيقع في خلال ذلك مدحها بأنها «الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى». وهل هذا إلا كلام يلعن بعضه بعضا. وقد اتفق الحاكون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم كلها حتى خاتمتها (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢] لأنهم إنما سجدوا حين سجد المسلمون ، فدلّ على أنهم سمعوا السورة كلها وما بين آية (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] وبين آخر السورة آيات كثيرة في إبطال الأصنام وغيرها من معبودات المشركين ، وتزييف كثير لعقائد المشركين فكيف يصحّ أن المشركين سجدوا من أجل الثناء على آلهتهم. فإن لم تكن تلك الأخبار مكذوبة من أصلها فإن تأويلها : أن بعض المشركين وجدوا ذكر اللات والعزّى فرصة للدخل لاختلاق كلمات في مدحهنّ ، وهي هذه الكلمات وروّجوها بين الناس تأنيسا لأوليائهم من المشركين وإلقاء للريب في قلوب ضعفاء الإيمان.

وفي «شرح الطيبي على الكشاف» نقلا عن بعض المؤرّخين : أن كلمات «الغرانيق ...» (أي هذه الجمل) من مفتريات ابن الزّبعرى. ويؤيد هذا ما رواه الطبري عن الضحاك : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل عليه قصة آلهة العرب (أي قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] إلخ) فجعل يتلو : اللّات والعزّى (أي الآية المشتملة على هذا) فسمع أهل مكة نبيء الله يذكر آلهتهم ففرحوا ودنوا يستمعون فألقى الشيطان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فإن قوله : «دنوا يستمعون فألقى الشيطان» إلخ يؤذن بأنهم لم يسمعوا أول السورة ولا آخرها وأن شيطانهم ألقى تلك الكلمات. ولعل ابن الزبعرى كانت له مقدرة على محاكاة الأصوات وهذه مقدرة توجد في بعض الناس. وكنت أعرف فتى من أترابنا ما يحاكي صوت أحد إلا ظنه السامع أنه صوت المحاكى.

وأما تركيب تلك القصة على الخبر الذي ثبت فيه أنّ المشركين سجدوا في آخر

٢٢٠