تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

مرغوب أو بدون تعليق ، وبالنذر تصير القربة الملتزمة واجبة على الناذر. وأشهر صيغة : لله عليّ ... وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعا في شريعة إبراهيم ، وقد نذر عمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به بعد إسلامه كما في الحديث.

وقرأ الجمهور (وَلْيُوفُوا) ـ بضم التحتية وسكون الواو بعدها ـ مضارع أوفى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَلْيُوفُوا) ـ بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفي المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف.

وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذانا بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة.

والعتيق : المحرر غير المملوك للناس. شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه. وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعا بدون درج لئلا يدخله إلّا من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح. وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال : «إنما سمّى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قطّ».

واعلم أنّ هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه‌السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحجّ والهدايا في الإسلام.

وقرأ الجمهور (ثُمَّ لْيَقْضُوا) ـ و (لْيُوفُوا) ـ و (لْيَطَّوَّفُوا) بإسكان لام الأمر في جميعها. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : (وَلْيُوفُوا) ـ و (لْيَطَّوَّفُوا) ـ بكسر اللام فيهما ـ. وقرأ ابن هشام عن ابن عامر ، وأبو عمرو ، وورش عن نافع ، وقنبل عن ابن كثير ، ورويس عن يعقوب : (ثُمَّ لْيَقْضُوا) ـ بكسر اللّام ـ. وتقدّم توجيه الوجهين آنفا عند قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥].

وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَلْيُوفُوا) بفتح الواو وتشديد الفاء من وفّى المضاعف.

[٣٠ ، ٣١] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

١٨١

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)

اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد ، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده. فالإشارة مراد بها التنبيه ، وذلك حيث يكون ما بعده غير صالح لوقوعه خبرا عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى : ذلك بيان ، أو ذكر ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال. والمشهور في هذا الاستعمال لفظ (هذا) كما في قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] وقول زهير :

هذا وليس كمن يعيا بخطبته

وسط النّدي إذا ما قائل نطقا

وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله.

فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره ، أي ذلك بيان ونحوه. وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر ، قال : هذا وقد كان كذا وكذا.

وجملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ) إلخ ... معترضة عطفا على جملة (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦] عطف الغرض على الغرض. وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بني على أساسها.

وضمير (فَهُوَ) عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ). والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيها لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتها ، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر. فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم ، أي قبل فتح مكة.

والحرمات : جمع حرمة ـ بضمتين ـ : وهي ما يجب احترامه.

والاحترام : اعتبار الشيء ذا حرم ، كناية عن عدم الدخول فيه. أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه ، والحرمات يشمل كل ما أوصى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها.

وعن زيد بن أسلم : الحرمات خمس : المسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم ما دام محرما ، فقصره على الذوات دون الأعمال.

١٨٢

والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ ، كالغسل في مواقعه ، والحلق ومواقيته ومناسكه.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)

لما ذكر آنفا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي وبعض ما في بطونها. وقد ذكر في سورة الأنعام.

واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في [سورة الأنعام : ١٤٥] في قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان.

وجيء بالمضارع في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزول سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى ، ويشمل ما عسى أن ينزل من بعد مثل قوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) الآية في [سورة العقود : ١٠٣].

والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله ، وهو الأوثان.

واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات (هذا حَلالٌ) مثل الدم وما أهلّ لغير الله به ، وقولهم لبعض : (هذا حَرامٌ) مثل البحيرة ، والسائبة. قال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [النحل : ١١٦].

والرّجس : حقيقته الخبث والقذارة ، وتقدم في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) في [سورة الأنعام : ١٤٥].

ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ.

و (من) في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس ، فهي تدخل على بعض أسماء

١٨٣

التمييز بيانا للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى (من) البيانية.

و (حُنَفاءَ لِلَّهِ) حال من ضمير (فَاجْتَنِبُوا) أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله ، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة ، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقا ، ولذلك زاد معنى (حُنَفاءَ) بيانا بقوله (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). وهذا كقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠].

والباء في قوله (مُشْرِكِينَ بِهِ) للمصاحبة والمعية ، أي غير مشركين معه غيره.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركا تمثيلا بديعا إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.

قال في «الكشاف» : «يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صور حال المشرك بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرّق مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة ، وإن كان مفرقا فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء ، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء ، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة». أ. ه.

يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها ، فتوزعته أنواع المهالك ، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها.

والسحيق : البعيد فلا نجاة لمن حل فيه.

وقوله : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) تخيير في نتيجة التشبيه ، كقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩]. أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان : قسم شركه ذبذبة وشكّ ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلّا انتهبها منه آخر ، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه. وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه ، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق ، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا

١٨٤

يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير ، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول.

والخرور : السقوط. وتقدم في قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) في [سورة النحل : ٢٦].

و (فَتَخْطَفُهُ) مضاعف خطف للمبالغة ، الخطف والخطف : أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة. والهويّ : نزول شيء من علو إلى الأرض. والباء في (تَهْوِي بِهِ) للتعدية مثلها في : ذهب به.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر (فَتَخْطَفُهُ) ـ بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة ـ مضارع خطّف المضاعف. وقرأه الجمهور ـ بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة ـ مضارع خطف المجرّد.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(ذلِكَ) تكرير لنظيره السابق.

الشعائر : جمع شعيرة : المعلم الواضح مشتقة من الشعور. وشعائر الله : لقب لمناسك الحجّ ، جمع شعيرة بمعنى : مشعرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله.

فمضمون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) إلخ ... أخص من مضمون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي. وتقدم ذكرها في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) في [سورة البقرة : ١٥٨]. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله ، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره. وهي معالم الحجّ : الكعبة ، والصفا والمروة ، وعرفة ، والمشعر الحرام ، ونحوها من معالم الحجّ.

وتطلق الشعيرة أيضا على بدنة الهدى. قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] لأنهم يجعلون فيها شعارا ، والشعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعنا حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نذرت للهدي ، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس.

فعلى التفسير الأول تكون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) إلى آخرها عطفا على

١٨٥

جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] إلخ. وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر.

وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) عطفا على جملة (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] تخصيصا لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله.

وضمير (فَإِنَّها) عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.

وقوله (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله : (الْقُلُوبِ) فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله. فالتقدير : فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب ، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب.

وإضافة (تَقْوَى) إلى (الْقُلُوبِ) لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

جملة (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) حال من الأنعام في قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) [الحج : ٣٠] وما بينهما اعتراضات أو حال من (شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢] على التفسير الثاني للشعائر. والمقصود بالخبر هنا : هو صنف من الأنعام ، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وضمير الخطاب موجّه للمؤمنين.

والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم النفع ، وهو حصول ما يلائم ويحفّ. وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هديا.

وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعا لا يتلفها ، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدي وأشعروه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه ، وغير ذلك.

وفي «الموطّأ» : «عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها؟ فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، ويلك في الثانية

١٨٦

أو الثالثة».

والأجل المسمّى هو وقت نحرها ، وهو يوم من أيام منى. وهي الأيام المعدودات.

والمحلّ : ـ بفتح الميم وكسر الحاء ـ مصدر ميمي من حلّ يحلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. وهو كناية عن نهاية أمرها ، كما يقال : بلغ الغاية ، ونهاية أمرها النحر أو الذبح.

و (إِلى) حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة ، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ ، والحجّ قصد البيت. قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ، فالهدايا تابعة للكعبة ، قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها ، وإنما المناحر : منى ، والمروة ، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا ، وتبيينه في السنة.

وقد جاء في قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) [الحج : ٢٦].

[٣٤ ، ٣٥] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا).

عطف على جملة (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣].

والأمة : أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه. والمراد : أنّ المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم. والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغبغب منحر العزّى ، فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمّة إلّا منسكا واحدا للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يجعل لغير الله منسك لأنّ ما لا يخلق الأنعام المقرّب بها ولا يرزقها الناس لا يستحق أن يجعل له منسك لقربانها فلا تتعدد المناسك.

١٨٧

فالتنكير في قوله (مَنْسَكاً) للإفراد ، أي واحدا لا متعددا ، ومحلّ الفائدة هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة.

وقد دل على ذلك قوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) وأدلّ عليه التفريع بقوله (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). والكلام يفيد الاقتداء ببقيّة الأمم أهل الأديان الحق.

و (عَلى) يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة ب (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) مع تقدير مضاف بعد (عَلى) تقديره : إهداء ما رزقهم ، أي عند إهداء ما رزقهم ، يعني ونحرها أو ذبحها.

ويجوز أن تكون (عَلى) بمعنى : لام التعليل. والمعنى : ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

وقد فرع على هذا الانفراد بالإلهية بقوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي إذ كان قد جعل لكم منسكا واحدا فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد ، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود ، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير. وأصل النظم : فلله أسلموا ، لأن إلهكم إله واحد. وتقديم المجرور في (فَلَهُ أَسْلِمُوا) للحصر ، أي أسلموا له لا لغيره. والإسلام : الانقياد التام ، وهو الإخلاص في الطاعة ، أي لا تخلصوا إلا الله ، أي فاتركوا جميع المناسك التي أقيمت لغير الله فلا تنسكوا إلّا في المنسك الذي جعله لكم ، تعريضا بالرد على المشركين.

وقرأ الجمهور (مَنْسَكاً) ـ بفتح السين ـ وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بكسر السين ـ ، وهو على القراءتين اسم مكان للنّسك ، وهو الذبح. إلا أنه على قراءة الجمهور جار على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك ـ بضمّ العين ـ في المضارع. وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مسجد من سجد يسجد ، قال أبو عليّ الفارسي : ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب.

(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)).

اعتراض بين سوق المنن ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون.

١٨٨

والمخبت : المتواضع الذي لا تكبّر عنده. وأصل المخبت من سلك الخبت. وهو المكان المنخفض ضد المصعد ، ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض ، والمراد بهم هنا المؤمنون ، لأنّ التواضع من شيمهم كما كان التكبّر من سمات المشركين قال تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥].

والوجل : الخوف الشديد. وتقدّم في قوله تعالى : (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) في [سورة الحجر : ٥٢].

وقد أتبع صفة (الْمُخْبِتِينَ) بأربع صفات وهي : وجل القلوب عند ذكر الله ، والصّبر على الأذى في سبيله ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود من جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود من لم يخل بواحدة منها عند إمكانها. والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدّم عند قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠].

وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب. ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر ، كما قال النّابغة :

أني أتمم أيساري وأمنحهم

مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما

والمراد بالصبر : الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام. وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تشترك فيه النفوس الجلدة من المتكبرين والمخبتين. وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقا بأدب الإسلام قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٦] الآية.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

عطف على جملة (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) [الحج : ٣٤] أي جعلنا منسكا للقربان والهدايا ، وجعلنا البدن التي تهدى ويتقرب بها شعائر من شعائر الله.

والمعنى : أنّ الله أمر بقربان البدن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه‌السلام وجعلها

١٨٩

جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ. وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجعل الإلهي يمنا وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله ، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة (لَكُمْ).

والبدن : جمع بدنة بالتحريك ، وهي البعير العظيم البدن. وهو اسم مأخوذ من البدانة ، وهي عظم الجثّة والسمن ، وفعله ككرم ونصر ، وليست زنة بدنة وصفا ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف ، وجمعه بدن. وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خشب جمع خشبة ، وثمر جمع ثمرة ، فتسكين الدال تخفيف شائع ، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي.

وفي «الموطأ» : «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة» فقول الرجل : إنها بدنة ، متعين لإرادة هديه للحجّ.

وتقديم (الْبُدْنَ) على عامله للاهتمام بها تنويها بشأنها.

والاقتصار على البدن الخاص بالإبل لأنها أفضل في الهدي لكثرة لحمها ، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة ، واسم ذلك هدي.

ومعنى كونها من شعائر الله : أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهدي في جلده إشعارا.

قال مالك في «الموطأ» : «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هديا من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة ، يقلّده قبل أن يشعره ... يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ...» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر.

وقد عدها في جملة الحرمات في قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ) في سورة العقود [٢].

وتقديم (لَكُمْ) على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم ، وتقديم (فِيها) على متعلّقه وهو (خَيْرٌ) للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد.

والخير : النّفع ، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجلالها ونعالها وقلائدها. وما يحصل للمهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم

١٩٠

النّحر ، وخير الآخرة من ثواب المهدين ، وثواب الشكر من المعطين لحومها لربّهم الذي أغناهم بها.

وفرع على ذلك أن أمر الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها.

وصوافّ : جمع صافّة. يقال : صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به. ولعلّهم كانوا يصفّونها في المنحر يوم النّحر بمنى ، لأنه كان بمنى موضع أعدّ للنحر وهو المنحر.

وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبد الله في حجّة الوداع قال فيه : «ثم انصرف رسول الله إلى المنحر فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده ثم أعطى الحربة عليّا فنحر ما غبر ، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.

وانتصب (صَوافَ) على الحال من الضمير المجرور في قوله (عَلَيْها). وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مشاهد البدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالا. وقريب منه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٤].

ومعنى (وَجَبَتْ) سقطت ، أي إلى الأرض ، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر من هديه ، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة.

والأمر في قوله (فَكُلُوا مِنْها) مجمل ، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب ، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه. وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب.

واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة.

فقال مالك : يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة ، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاء الصيد ونذر المساكين ، والحجّة لمالك صريح الآية. فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة.

١٩١

وقال أبو حنيفة : يأكل من هدي التمتّع والقران ، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه.

وقال الشافعي : لا يأكل من لحوم الهدايا بحال مستندا إلى القياس ، وهو أن المهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه. كذا قال ابن العربي. وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة.

وقال أحمد : يؤكل من الهدايا الواجبة إلّا جزاء الصيد والنذر.

وأما الأمر في قوله : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فقال الشافعي : للوجوب ، وهو الأصح. قال ابن العربي وهو صريح قول مالك. وقلت : المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثما.

والقانع : المتصف بالقنوع ، وهو التذلل. يقال : قنع من باب سأل. قنوعا ـ بضم القاف ـ إذا سأل بتذلّل.

وأما القناعة ففعلها من باب تعب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب. ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي :

العبد حرّ إن قنع (١)

والحر عبد إن قنع (٢)

فاقنع ولا تقنع فما

شيء يشين سوى الطمع

وللزمخشري في «مقاماته» : «يا أبا القاسم اقنع من القناعة لا من القنوع ، تستغن عن كل معطاء ومنوع». وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك : «والقانع هو الفقير».

والمعترّ : اسم فاعل من اعترّ ، إذا تعرّض للعطاء ، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء ، يقال : اعترّ ، إذا تعرّض. وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك : «وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر ، أي فتكون من عرا إذا زار» والمراد زيارة التعرض للعطاء.

وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف (الْمُعْتَرَّ) على (الْقانِعَ) ، فدل العطف على

__________________

(١) بكسر النون.

(٢) بفتح النون.

١٩٢

المغايرة ، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٨].

وجملة و (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس. والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن. ولو لا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجز من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له.

وقوله (كَذلِكَ) هو مثل نظائره ، أي مثل ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم.

ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) خلقناها مسخرة لكم استجلابا لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)

جملة في موضع التعليل لجملة (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج : ٣٦] ، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقوه.

والنيل : الإصابة. يقال ناله ، أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضا بمعنى أحرز ، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] وقوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) [التوبة : ٧٤].

والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمروة. قال الحسن : كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانا لله تعالى ، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج.

وفي قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) إيماء إلى أن

١٩٣

إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا ينتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المهدين وغيرهم.

فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحريم صيام يوم النّحر : «يوم تأكلون فيه من نسككم» فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم.

وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدي من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم ، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجلالها وقلائدها.

كما أومأ إليه قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) [المائدة : ٩٧].

وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعا أو ظنا قريبا من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ ، فما يبقى منها حيّا يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدى من نحره أو ذبحه حين لا يرغب فيه أحد ، ولو كانت اللحوم التي فات أن قطعت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفّن فينتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج.

وقد ترددت في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر ، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهديها.

أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج ، لينتفع بها المحتاجون في عامهم ، أوفق بمقصد الشارع تجنبا لإضاعة ما فضل منها رعيا لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] وقوله : و (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) ، جمعا بين المقاصد الشرعية.

وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلبا لفضيلة المبادرة ، فإن التقوى التي

١٩٤

تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.

وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع ، وهي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب.

وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل ، ومعنى التعليل فيه أقوى ، وعلّته انتفاع المسلمين ، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج : ٣٦].

واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين ، وكان المصريّون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة.

وقرأ الجمهور (يَنالَ) ، و (يَنالُهُ) بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل. وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد.

ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين.

و (يَنالُهُ) مشاكلة ل (يَنالَ) الأول ، استعير النيل لتعلّق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجّهه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة.

و (من) في قوله (مِنْكُمْ) ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة ، ولذلك عبّر بلفظ (التَّقْوى مِنْكُمْ) دون : تقواكم أو التقوى. مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)).

تكرير لجملة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) [الحج : ٣٦] ، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة ، فصار مدلول الجملتين مترادفا. فوقع التأكيد. فالقول في جملة (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) كالقول في أشباهها.

١٩٥

وقوله (عَلى ما هَداكُمْ عَلى) فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن ، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها. و (ما) موصولة ، والعائد محذوف مع جارّه. والتقدير : على ما هداكم إليه من الأنعام.

والهداية إليها : هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاة التوحيد لا يفارقون ذلك المكان ، والخطاب للمسلمين.

وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

استئناف بياني جوابا لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية ، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم ، وبشّر المؤمنين المخبتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة. وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا ، وهل ينتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة. فكان المقام خليقا بأن يطمئن الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضا مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم ، وحذف مفعول (يُدافِعُ) لدلالة المقام.

فالكلام موجه إلى المؤمنين ، ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر ، وإما لتنزيل غير المتردد منزلة المتردّد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه.

والتعبير بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم.

وقرأ الجمهور لفظ (يُدافِعُ) بألف بعد الدال فيفيد قوّة الدفع. وقرأه أبو عمرو ، وابن كثير ، ويعقوب (يُدافِعُ) بدون ألف بعد الدال.

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعليل لتقييد الدفاع بكونه عن الذين

١٩٦

آمنوا ، بأن الله لا يحب الكافرين الخائنين ، فلذلك يدفع عن المؤمنين لردّ أذى الكافرين : ففي هذا إيذان بمفعول (يُدافِعُ) المحذوف ، أي يدافع الكافرين الخائنين.

والخوّان : الشديد الخون ، والخون كالخيانة ، الغدر بالأمانة ، والمراد بالخوّان الكافر ، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناس على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم.

والكفور : الشديد الكفر : وأفادت (كلّ) في سياق النفي عموم نفي محبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك. ولا يتوهم من قوله (لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة (كلّ) اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة (كُلَ) وليس هو مثل قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] الموهم أن نفي قوّة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

جملة وقعت بدل اشتمال من جملة : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) [الحج : ٣٨] لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلا لهم بالنصر.

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وعاصم (أُذِنَ) بالبناء للنائب. وقرأه الباقون بالبناء إلى الفاعل.

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وأبو جعفر يقاتلون ـ بفتح التاء الفوقية ـ مبنيا إلى المجهول. وقرأه البقية ـ بكسر التاء ـ مبنيا للفاعل.

والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتلوا. والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته ، وإما بصيغة المضي.

فعلى قراءة ـ فتح التاء ـ فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي ، وهو الأذى. وأما على قراءة يقاتلون ـ بكسر التاء ـ فصيغة المضي مستعملة مجازا في التهيّؤ والاستعداد ، أي أذن للذين تهيّئوا للقتال وانتظروا إذن الله.

وذلك أنّ المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديدا فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر

١٩٧

بالقتال ، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذنا لهم بالتهيّؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠].

والباء في (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أراها متعلقة ب (أُذِنَ) لتضمينه معنى الإخبار ، أي أخبرناهم بأنهم مظلومون. وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد : إنك مظلوم ، فكأنك استعديته على ظالمه ، وذكرته بوجوب الدفاع ، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، ويكون قوله : (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) نائب فاعل (أُذِنَ) على قراءة ضم الهمزة أو مفعولا على قراءة ـ فتح الهمزة ـ. وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله (يُقاتَلُونَ) ، أي أذن لهم في القتال. وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله (يُقاتَلُونَ) والتفسير الذي رأيته أنسب وأرشق.

وجملة (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) عطف على جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي أذن لهم بذلك وذكروا بقدرة الله على أن ينصرهم. وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه ، كقولهم : عسى أن يكون كذا ، أو أن عندنا خيرا ، أو نحو ذلك ، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه.

وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطئوا النصر.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)

بدل من (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) [الحج : ٣٩] ، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى ، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١].

و (بِغَيْرِ حَقٍ) حال من ضمير (أُخْرِجُوا) ، أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم

١٩٨

الموجب إخراجهم ، فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه ، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولّد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه ، كما قال عمر بن الخطاب : «إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام». ولا يزول ذلك الحق إلّا بموجب قرره الشّرع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زهير :

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي ، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع ، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك.

ولذلك قال تعالى : (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) استثناء من عموم الحق ، ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج ، أي الحقّ عليهم ، كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية ، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله ، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيّل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وشاهده قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)

اعتراض بين جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلخ وبين قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] إلخ. فلما تضمنت جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩]

١٩٩

إلخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع ، مع التنويه بهذا الدفاع ، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين ، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة. والواو في قوله ولو لا دفاع الله الناس إلى آخره ، اعتراضية وتسمى واو الاستئناف ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلخ.

و (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جوابه ، أي انتفائه لأجل وجود شرطه ، أي عند تحقق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين. والمعنى:لو لا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصرى المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملّة الشرك ولهدموا معابدهم من صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد ، يذكر فيها اسم الله كثيرا ، قصدا منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقا للأديان المخالفة للشرك. فذكر الصوامع ، والبيع ، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتّعريف في (النَّاسَ) تعريف العهد ، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة.

ويجوز أن يكون المراد : لو لا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك (كما قاتل داود جالوت ، وكما تغلّب سليمان على ملكة سبأ). لمحق المشركون معالم التوحيد (كما محق بختنصر هيكل سليمان) فتكون هذه الجملة تذييلا لجملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] ، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال ، فالتعريف في (النَّاسَ) تعريف الجنس.

وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه أذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع. وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك.

وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب دفاع. وقرأ الباقون (دَفْعُ) ـ بفتح الدال وبدون ألف ـ. و (بَعْضَهُمْ) بدل من (النَّاسَ) بدل بعض. و (بِبَعْضٍ) متعلق ب دفاع والباء للآلة.

والهدم : تقويض البناء وتسقيطه.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر (لَهُدِّمَتْ) ـ بتخفيف الدال ـ. وقرأه الباقون ـ

٢٠٠