تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها ، بأن شبه ذلك التبيين بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه ، أي مثل هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بيّنات.

فالجملة معطوفة على الجمل التي قبلها عطف غرض على غرض. والمناسبة ظاهرة ، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بأن الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن. فلام التعليل محذوفة ، وحذف حرف الجر مع (أن) مطّرد.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

فذلكة لما تقدم ، لأنه لما اشتملت الآيات السابقة على بيان أحوال المترددين في قبول الإسلام كان ذلك مثارا لأن يتساءل عن أحوال الفرق بعضهم مع بعض في مختلف الأديان ، وأن يسأل عن الدين الحق لأن كل أمة تدّعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وتجادل في ذلك.

فبينت هذه الآية أن الفصل بين أهل الأديان فيما اختصموا فيه يكون يوم القيامة ، إذ لم تفدهم الحجج في الدنيا.

وهذا الكلام بما فيه من إجمال هو جار مجرى التفويض ، ومثله يكون كناية عن تصويب المتكلم طريقته وتخطئته طريقة خصمه ، لأن مثل ذلك التفويض لله لا يكون إلا من الواثق بأنه على الحق وهو كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى : ١٥] وذلك من قبيل الكناية التعريضية.

وذكر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين تقدم في آية البقرة وآية العقود.

وزاد في هذه الآية ذكر المجوس والمشركين ، لأن الآيتين المتقدمتين كانتا في مساق بيان فضل التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر في كل زمان وفي كل أمة. وزيد في هذه السورة ذكر المجوس والمشركين لأن هذه الآية مسوقة لبيان التفويض إلى الله في الحكم بين أهل الملل ، فالمجوس والمشركون ليسوا من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر.

١٦١

فأما المجوس فهم أهل دين يثبت إلهين : إلها للخير ، وإلها للشرّ ، وهم أهل فارس. ثم هي تتشعب شعبا تأوي إلى هذين الأصلين. وأقدم النحل المجوسية أسسها (كيومرث) الذي هو أول ملك بفارس في أزمنة قديمة يظن أنها قبل زمن إبراهيم عليه‌السلام ، ولذلك يلقب أيضا بلقب (جل شاه) (١) تفسيره : ملك الأرض. غير أن ذلك ليس مضبوطا بوجه علمي وكان عصر (كيومرث) يلقب (زروان) أي الأزل ، فكان أصل المجوسية هم أهل الديانة المسماة : الزروانية وهي تثبت إلهين هما (يزدان) و (أهرمن). قالوا : كان يزدان منفردا بالوجود الأزلي ، وأنه كان نورانيا ، وأنه بقي كذلك تسعة آلاف وتسعين سنة ثم حدث له خاطر في نفسه : أنه لو حدث له منازع كيف يكون الأمر فنشأ من هذا الخاطر موجود جديد ظلماني سمي (أهرمن) وهو إله الظلمة مطبوعا على الشرّ والضرّ. وإلى هذا أشار أبو العلاء المعرّي بقوله في لزومياته :

قال أناس باطل زعمهم

فراقبوا الله ولا تزعمن

فكّر يزدان على غرّة

فصيغ من تفكيره أهرمن

فحدث بين (أهرمن) وبين (يزدان) خلاف ومحاربة إلى الأبد. ثمّ نشأت على هذا الدّين نحل خصّت بألقاب وهي متقاربة التعاليم أشهرها نحلة (زرادشت) الذي ظهر في القرن السادس قبل ميلاد المسيح ، وبه اشتهرت المجوسية. وقد سمي إله الخير (أهورامزدا) أو (أرمزد) أو (هرمز) ، وسمي إله الشرّ (أهرمن) ، وجعل إله الخير نورا ، وإله الشر ظلمة. ثم دعا الناس إلى عبادة النار على أنها مظهر إله الخير وهو النّور.

ووسّع شريعة المجوسية ، ووضع لها كتابا سمّاه «زندافستا». ومن أصول شريعته تجنّب عبادة التماثيل.

ثم ظهرت في المجوس نحلة «المانوية» ، وهي المنسوبة إلى (ماني) الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير ملك الفرس بين سنة ٢٣٨ وسنة ٢٧١ م.

وظهرت في المجوس نحلة (المزدكية) ، وهي منسوبة إلى (مزدك) الذي ظهر في زمن قباذ بين سنة ٤٨٧ وسنة ٥٢٣ م. وهي نحلة قريبة من (المانوية) ، وهي آخر نحلة ظهرت في تطور المجوسيّة قبل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس.

__________________

(١) لعل صواب العبارة «جهان شاه».

١٦٢

وللمجوسية شبه في الأصل بالإشراك إلا أنها تخالفه بمنع عبادة الأحجار ، وبأن لها كتابا ، فأشبهوا بذلك أهل الكتاب. ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أي في الاكتفاء بأخذ الجزية منهم دون الإكراه على الإسلام كما يكره المشركون على الدخول في الإسلام.

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) في [سورة النحل : ٥١].

وأعيدت (إنّ) في صدر الجملة الواقعة خبرا عن اسم (إنّ) الأولى توكيدا لفظيا للخبر لطول الفصل بين اسم (إن) وخبرها. وكون خبرها جملة وهو توكيد حسن بسبب طول الفصل. وتقدم منه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) في [سورة الكهف : ٣٠]. وإذا لم يطل الفصل فالتوكيد بإعادة (إن) أقل حسنا كقول جرير :

إنّ الخليفة أنّ الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

ولا يحسن إذا كان مبتدأ الجملة الواقعة خبرا ضمير اسم (إنّ) الأولى كما تقول : إن زيدا إنه قائم ، بل لا بد من الاختلاف ليكون المؤكد الثاني غير الأول فتقبل إعادة المؤكد وإن كان المؤكّد الأول كافيا.

والفصل : الحكم ، أي يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من تصحيح الديانة.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا للإعلام بإحاطة علم الله بأحوالهم واختلافهم والصحيح من أقوالهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية. وهي مرتبطة بمعنى قوله (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) إلى قوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) [الحج : ١٢ ، ١٣] ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية. وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من

١٦٣

دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه.

وما وقع بين هاتين الجملتين استطراد واعتراض.

والرؤية : علمية. والخطاب لغير معين.

والاستفهام إنكاريّ. أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية. ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستفهام تقريريا ، لأنّ حصول علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل. وقد تقدم الكلام على معنى هذا السجود في السورتين المذكورتين.

وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، وقد حققناه في المقدمة التاسعة ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولو لا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم.

ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع. وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلا في حالهم كحال المخلوقات الأخرى.

وجملة (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) معترضة بالواو.

وجملة (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار. فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به.

وجملة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) اعتراض ثان بالواو.

والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة.

١٦٤

وجملة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرف التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل ، فتغني (أنّ) غناء حرف التعليل أو السببية.

وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء.

[١٩ ـ ٢٢] (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢))

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة (هذانِ خَصْمانِ) موقع الاستئناف البياني. لأن قوله (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني. فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [الحج : ١٨] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره. فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام.

والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحدا. وتقدم قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) في [سورة النساء : ١٠٥]. واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاء جلبته ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيدا للتفصيل في قوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ).

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين.

ووقع في «الصحيحين» عن أبي ذرّ : أنه كان يقسم أنّ هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبة بن الحارث الذين

١٦٥

بارزوا يوم بدر شيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

وفي «صحيح البخاري» عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس بن عبادة : وفيهم نزلت (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة. وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون (هذانِ) إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنزّل حضور قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : «خرجت لأنصر هذا الرجل» يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين.

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية. ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين. والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازا مرسلا لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة.

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ).

ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر. وقرأ الجمهور هذان ـ بتخفيف النون ـ. وقرأه ابن كثير ـ بتشديد النون ـ وهما لغتان.

والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته. والمراد : قطع شقّة الثوب. وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار. والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شئون الآخرة.

والحميم : الماء الشديد الحرارة.

١٦٦

والإصهار : الإذابة بالنار أو بحرارة الشمس ، يقال : أصهره وصهّره.

وما في بطونهم : أمعاؤهم ، أي هو شديد في النفاذ إلى باطنهم.

والمقامع : جمع مقمعة ـ بكسر الميم ـ بصيغة اسم آلة القمع. والقمع : الكف عن شيء بعنف. والمقمعة : السوط ، أي يضربون بسياط من حديد.

ومعنى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) أنهم لشدة ما يغمهم ، أي يمنعهم من التنفس ، يحاولون الخروج فيعادون فيها فيحصل لهم ألم الخيبة ، ويقال لهم : ذوقوا عذاب الحريق.

والحريق : النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.

[٢٣ ، ٢٤] (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

كان مقتضى الظاهر أن يكون هذا الكلام معطوفا بالواو على جملة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] لأنه قسيم تلك الجملة في تفصيل الإجمال الذي في قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] بأن يقال : والذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم الله جنات ... إلى آخره. فعدل عن ذلك الأسلوب إلى هذا النظم لاسترعاء الأسماع إلى هذا الكلام إذا جاء مبتدأ به مستقلا مفتتحا بحرف التأكيد ومتوّجا باسم الجلالة ، والبليغ لا تفوته معرفة أنّ هذا الكلام قسيم للذي قبله في تفصيل إجمال (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] لوصف حال المؤمنين المقابل لحال الذين كفروا في المكان واللباس وخطاب الكرامة.

فقوله : (يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ مقابل قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢]. وقوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) يقابل قوله (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : ١٩]. وقوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) مقابل قوله : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩]. وقوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) مقابل قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٢٢] فإنه من القول النكد.

١٦٧

والتحلية وضع الحلي على أعضاء الجسم. حلّاه : ألبسه الحلي مثل جلبب.

والأساور : جمع أسورة الذي هو جمع سوار. أشير بجمع الجمع إلى التكثير كما تقدم في قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) في [سورة الكهف : ٣١].

و (من) في قوله (مِنْ أَساوِرَ) زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور كان الخبر عنهم بأنهم يحلّون أساور معرّضا للتردد في إرادة الحقيقة فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي ، ولذلك ف (أَساوِرَ) في موضع المفعول الثاني ل (يُحَلَّوْنَ).

(وَلُؤْلُؤاً) قرأه ناقع ، ويعقوب ، وعاصم ـ بالنصب ـ عطفا على محل (أَساوِرَ) أي يحلون لؤلؤا أي عقودا ونحوها. وقرأه الباقون ـ بالجرّ عطفا على اللفظ ـ والمعنى : أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ.

وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر لؤلؤ مخالفة لمكتوب المصحف. والقراءة نقل ورواية فليس اتباع الخط واجبا على من يروي بما يخالفه. وكتب نظيره في سورة فاطر بدون ألف ، والذين قرءوه بالنصب خالفوا أيضا خط المصحف واعتمدوا روايتهم.

وسريان معنى التأكيد على القراءتين واحد لأنّ التأكيد تعلّق بالجملة كلها لا بخصوص المعطوف عليه حتى يحتاج إلى إعادة المؤكد مع المعطوف.

واللؤلؤ : الدّر. ويقال له الجمان والجوهر. وهو حبوب بيضاء وصفراء ذات بريق رقراق تستخرج من أجواف حيوان مائي حلزوني مستقرّ في غلاف ذي دفتين مغلقتين عليه يفتحهما بحركة حيوية منه لامتصاص الماء الذي يسبح فيه ويسمى غلافه صدفا ، فتوجد في جوف الحيوان حبة ذات بريق وهي تتفاوت بالكبر والصغر وبصفاء اللون وبياضه. وهذا الحيوان يوجد في عدّة بحار : كبحر العجم وهو المسمّى بالبحرين ، وبحر الجابون ، وشط جزيرة جربة من البلاد التونسية ، وأجوده وأحسنه الذي يوجد منه في البحرين حيث مصب نهري الدجلة والفرات ، ويستخرجه غوّاصون مدرّبون على التقاطه من قعر البحر بالغوص ، يغوص الغائص مشدودا بحبل بيد من يمسكه على السفينة وينتشله بعد لحظة تكفيه للالتقاط. وقد جاء وصف ذلك في قول المسيب بن علس أو الأعشى :

١٦٨

لجمانة البحريّ جاء بها

غوّاصها من لجّة البحر

نصف النّهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف لؤلؤة :

فجاء بها ما شئت من لطميّة

على وجهها ماء الفرات يموج

وقد أشارت إليه آية [سورة النحل : ١٤] (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها).

ولما كانت التحلية غير اللباس جيء باسم اللباس بعد (يُحَلَّوْنَ) بصيغة الاسم دون (يلبسون) لتحصيل الدلالة على الثّبات والاستمرار كما دلّت صيغة (يُحَلَّوْنَ) على أن التحلية متجددة بأصناف وألوان مختلفة ، ومن عموم الصيغتين يفهم تحقق مثلها في الجانب الآخر فيكون في الكلام احتباك كأنه قيل : يحلّون بها وحليتهم من أساور من ذهب ولباسهم فيها حرير يلبسونه.

والحرير : يطلق على ما نسج من خيوط الحرير كما هنا. وأصل اسم الحرير اسم لخيوط تفرزها من لعابها دودة مخصوصة تلفّها لفّا بعضها إلى بعض مثل كبّة تلتئم مشدودة كصورة الفول السوداني تحيط بالدودة كمثل الجوزة وتمكث فيه الدودة مدّة إلى أن تتحول الدودة إلى فراشة ذات جناحين فتثقب ذلك البيت وتخرج منه. وإنما تحصّل الخيوط من ذلك البيت بوضعها في ماء حار في درجة الغليان حتى يزول تماسكها بسبب انحلال المادة الصمغية اللعابية التي تشدها فيطلقونها خيطا واحدا طويلا. ومن تلك الخيوط تنسج ثياب تكون بالغة في اللين واللمعان. وثياب الحرير أجود الثياب في الدنيا قديما وحديثا ، وأقدم ظهورها في بلاد الصين منذ خمسة آلاف سنة تقريبا حيث يكثر شجر التوت ، لأن دود الحرير لا يفرز الحرير إلا إذا كان علفه ورق التّوت ، والأكثر أنه يبني بيوته في أغصان التّوت. وكان غير أهل الصين لا يعرفون تربية دود الحرير فلا يحصّلون الحرير إلّا من طريق بلاد الفرس يجلبه التجار فلذلك يباع بأثمان غالية. وكانت الأثواب الحريرية تباع بوزنها من الذهب ، ثم نقل بزر دود الحرير الذي يتولد منه الدود إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور (بوستنيانوس) بين سنة ٥٢٧ وسنة ٥٦٥ م. ومن أصناف ثياب الحرير السندس والإستبرق وقد تقدما في سورة الكهف. وعرفت الأثواب الحريرية في الرومان في حدود أوائل القرن الثالث المسيحي.

ومعنى (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أن الله يرشدهم إلى أقوال ، أي يلهمهم

١٦٩

أقوالا حسنة يقولونها بينهم ، وقد ذكر بعضها في قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] وفي قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر : ٧٤].

ويجوز أن يكون المعنى : أنهم يرشدون إلى أماكن يسمعون فيها أقوالا طيبة. وهو معنى قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤]. وهذا أشد مناسبة بمقابلة مما يسمعه أهل النار في قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٢٢].

وجملة (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) معترضة في آخر الكلام ، والواو للاعتراض ، هي كالتكملة لوصف حسن حالهم لمناسبة ذكر الهداية في قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) ، ولم يسبق مقابل لمضمون هذه الجملة بالنسبة لأحوال الكافرين وسيجيء ذكر مقابلها في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥] وذلك من أفانين المقابلة. والمعنى : وقد هدوا إلى صراط الحميد في الدنيا ، وهو دين الإسلام ، شبه بالصراط لأنه موصل إلى رضى الله.

والحميد من أسماء الله تعالى ، أي المحمود كثيرا فهو فعيل بمعنى مفعول ، فإضافة (صِراطِ) إلى اسم «الله» لتعريف أيّ صراط هو. ويجوز أن يكون (الْحَمِيدِ) صفة ل (صِراطِ) ، أي المحمود لسالكه. فإضافة صراط إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، والصراط المحمود هو صراط دين الله. وفي هذه الجملة إيماء إلى سبب استحقاق تلك النعم أنه الهداية السابقة إلى دين الله في الحياة الدنيا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

هذا مقابل قوله (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) [الحج : ٢٤] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابل في الأحوال المذكورة في آية (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] كما تقدم. فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني. والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبب استحقاق المشركين ذلك العذاب كفرهم وصدّهم عن سبيل الله.

١٧٠

وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويه به وتنزيهه عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعدوان.

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به.

وجاء (يَصُدُّونَ) بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهروهم على ذلك الصد ووافقوهم.

أما صيغة الماضي في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٢٤].

وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداء المؤمنين إليه لهم نعيم الجنّة.

والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم. والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ. ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت. والمعروف من ذلك أنهم منعوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمرا وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعرفه. فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمنا وقد أوتيتم الصباة؟ (يعني المسلمين). ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية. وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك. وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة.

ووصف المسجد بقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكف فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله.

والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيرا في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازا بعلاقة اللزوم العرفي. وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من

١٧١

الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة.

وقرأ الجمهور (سَواءً) ـ بالرفع ـ على أنه مبتدأ و (الْعاكِفُ فِيهِ) فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل (جَعَلْناهُ). وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل (جَعَلْناهُ).

والعكوف : الملازمة. والبادي : ساكن البادية.

وقوله (سَواءً) لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجدا إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة.

وكتب (وَالْبادِ) في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير والبادي بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفا باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها. وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل. ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف.

وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف. والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير.

وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دور مكة إثباتا ولا نفيا لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره. ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار. وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد. ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلّا ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة.

وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه. وكانت دور مكة تدعى السوائب في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما.

وقال مالك والشافعي : دور مكة ملك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله

١٧٢

عمر فهو من المواساة. وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجنا. وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تملك وليس لأهلها أن يكروها. وقد ظنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحا. والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها. ووجه ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما منّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي. ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم.

وخبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحادا بظلم فإن جملة (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) تذييل للجملة السابقة لما في (من) الشرطية من العموم.

والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور. والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس.

والباء في (بِإِلْحادٍ) زائدة للتوكيد مثلها في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. أي من يرد إلحادا وبعدا عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته.

والباء في (بِظُلْمٍ) للملابسة. فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام.

و (من) في قوله : (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة (من) وقوعها بعد نفي أو نهي. ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذابا من عذاب أليم.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

عطف على جملة (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الحج : ٢٥] عطف قصة على قصة.

ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن الملحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حتى أمر ببنائه ، والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحجّ.

١٧٣

و (إذ) اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدّر على ما هو متعارف في أمثاله. والتقدير : واذكر إذ بوّأنا ، أي اذكر زمان بوّأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، أي اذكر ذلك الوقت العظيم ، وعرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدلّ عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر.

والتبوئة : الإسكان. وتقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها) [يوسف : ٥٦].

والمكان : الساحة من الأرض وموضع للكون فيه ، فهو فعل مشتق من الكون ، فتبوئته المكان : إذنه بأن يتخذه مباءة ، أي مقرا يبني فيه بيتا ، فوقع بذكر (مَكانَ) إيجاز في الكلام كأنه قيل : وإذ أعطيناه مكانا ليتخذ فيه بيتا ، فقال : مكان البيت ، لأنّ هذا حكاية عن قصة معروفة لهم. وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن.

واللام في (لِإِبْراهِيمَ) لام العلة لأنّ إبراهيم مفعول أول ل (بَوَّأْنا) الذي هو من باب أعطى ، فاللام مثلها في قولهم : شكرت لك ، أي شكرتك لأجلك. وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة.

و (الْبَيْتِ) معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولو لا هذه النكتة لكان ذكر (مَكانَ) حشوا. والمقصود أن يكون مأوى للدين ، أي معهدا لإقامة شعائر الدين.

فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعليما بالدين فلذلك أعقب بحرف (أن) التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه. وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل معلما للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركا ، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس ، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) في [سورة آل عمران : ٩٦].

وقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) مؤذن بكلام مقدّر دلّ عليه (بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ). والمعنى : وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان ، وبعد أن بناه قلنا لا تشرك بي شيئا وطهّر بيتي.

١٧٤

وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت. والتطهير : تنزيهه عن كل خبيث معنى كالشرك والفواحش وظلم الناس وبثّ الخصال الذميمة ، وحسّا من الأقذار ونحوها ، أي أعدده طاهرا للطائفين والقائمين فيه.

والطواف : المشي حول الكعبة ، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.

والمراد بالقائمين : الداعون تجاه الكعبة ، ومنه سمي مقام إبراهيم ، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعا للدعاء. قال زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت مما عاذ به إبراهيم

مستقبل الكعبة وهو قائم

والركّع : جمع راكع ، ووزن فعّل يكثر جمعا لفاعل وصفا إذا كان صحيح اللام نحو : عذّل وسجّد.

والسجود : جمع ساجد مثل : الرقود ، والقعود ، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مصادر أفعالها.

[٢٧ ، ٢٨] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) ِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(وَأَذِّنْ) عطف على (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) [الحج : ٢٦]. وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان.

والتأذين : رفع الصوت بالإعلام بشيء. وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر. وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل ، أي أكثر الإخبار بالشيء. والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. ولكونه بمعنى الإخبار يعدّى إلى المفعول الثاني بالباء.

والناس يعمّ كل البشر ، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.

والمراد بالحجّ : القصد إلى بيت الله. وصار لفظ الحجّ علما بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلا

١٧٥

إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس. فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع.

وفي تعليق فعل (يَأْتُوكَ) بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل إصبعيه في أذنيه ونادى : «إن الله كتب عليكم الحجّ فحجّوا». وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه.

وجملة (يَأْتُوكَ) جواب للأمر ، جعل التأذين سببا للإتيان تحقيقا لتيسير الله الحج على الناس. فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه.

وقوله (رِجالاً) حال من ضمير الجمع في قوله (يَأْتُوكَ).

وعطف عليه (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) بواو التقسيم التي بمعنى (أو) كقوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب ، إذ الراكب لا يكون راجلا ولا العكس. والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جوابا للأمر ، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم.

ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله (رِجالاً) ثم ذكر بعده (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين.

و (رِجالاً) : جمع راجل وهو ضد الراكب.

والضامر : قليل لحم البطن. يقال : ضمر ضمورا فهو ضامر ، وناقة ضامر أيضا. والضمور من محاسن الرواحل والخيل لأنه يعينها على السير والحركة.

فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال : وعلى كلّ راحلة.

وكلمة (كلّ) من قوله (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) مستعملة في الكثرة ، أي وعلى رواحل كثيرة. وكلمة (كلّ) أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك ، وقول النابغة :

١٧٦

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أي : بها وحش كثير في رمال كثيرة.

وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة :

جادت عليه كلّ بكر حرة

فتركن كلّ قرارة كالدرهم

سحا وتسكابا فكلّ عشية

يجري عليها الماء لم يتصرم

وتقدم عند قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) في [سورة البقرة : ١٤٥]. ويأتي إن شاء الله في سورة النمل.

و (يَأْتِينَ) يجوز أن يكون صفة ل (كُلِّ ضامِرٍ) لأن لفظ (كل) صيره في معنى الجمع. وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث ، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل : يأتون ، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه.

ويجوز أن تجعل جملة (يَأْتِينَ) حالا ثانية من ضمير الجمع في (يَأْتُوكَ) لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف ، فصار المعنى : يأتوك جماعات ، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث.

وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة. وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالا بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.

والفجّ : الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب ، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تسلك بين الجبال.

والعميق : البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر ، فأطلق على البعيد مطلقا بطريقة المجاز المرسل ، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه. وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط ، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.

وقوله (لِيَشْهَدُوا) يتعلق بقوله (يَأْتُوكَ) فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبب على

١٧٧

التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ.

ومعنى (لِيَشْهَدُوا) ليحضروا منافع لهم ، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه‌السلام من الثواب. فكني بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.

وتنكير (مَنافِعَ) للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس : لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج ، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل.

وخص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وذلك هو النحر والذبح للهدايا. وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها. وقد بيّنته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا ، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء.

وحرف (عَلى) متعلّق ب (يَذْكُرُوا) ، وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة ، أي على الأنعام. وهو على تقدير مضاف ، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها.

و (ما) موصولة ، و (مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) بيان لمدلول (ما). والمعنى : ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنّ الله رزقهم تلك الأنعام ، وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها ، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم ، ولذلك فرع عليه (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه‌السلام فيكون الخطاب في قوله (فَكُلُوا) لإبراهيم ومن معه.

وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، إلى الخطاب بذلك في قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) إلخ. على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمور به إبراهيم عليه‌السلام.

١٧٨

وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.

ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٩].

ويحتمل أن تكون جملة (فَكُلُوا مِنْها) إلخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريع الخبر على الخبر تحذيرا من أن يمنع الأكل من بعضها.

والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣].

والبائس : الذي أصابه البؤس ، وهو ضيق المال ، وهو الفقير ، هذا قول جمع من المفسرين. وفي «الموطأ» : في باب ما يكره من أكل الدواب ، قال مالك : سمعت أن البائس هو الفقير اه. وقلت : من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غير مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير : الذي تكون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني.

فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه‌السلام.

وقرأ ورش عن نافع ، وقنبل عن ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ـ بكسر لام ـ (لْيَقْضُوا). وقرأه الباقون ـ بسكون اللام ـ. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد (ثم) ، كما تقدم آنفا في قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥].

و (ثم) هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهر إذ هما نسكان أهم من نحر الهدايا ، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه.

١٧٩

والتفث : كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها. واضطراب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به. قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلّا من التفسير ، أي من أقوال المفسرين. فعن ابن عمر وابن عبّاس : التفث: مناسك الحجّ وأفعاله كلها. قال ابن العربي : لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة. قلت : رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة. ونسبة الجصّاص إلى سعيد. وقال نفطويه وقطرب: التفث : هو الوسخ والدرن. ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس ، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت :

حفّوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا

ولم يسلّموا لهم قملا وصئبانا

ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أئمة اللّغة قالوا : لم يجىء في معنى التفث شعر يحتج به. قال نفطويه : سألت أعرابيا : ما معنى قوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) ، فقال : ما أفسّر القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك ، أي ما أدرنك.

وعن أبي عبيدة : التّفث : قصّ الأظفار والأخذ من الشارب وكل ما يحرم على المحرم ، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك : رمي الجمار.

وعن صاحب «العين» والفراء والزجاج : التفث الرمي ، والذبح ، والحلق ، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط. وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضا.

وعندي : أن فعل (لْيَقْضُوا) ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسخا ولا ظفرا ولا شعرا. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفا. وأن موقع (ثمّ) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف ب (ثمّ) أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة ، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية : «فلمّا قضيت بعون الله التفث ، واستبحت الطيب والرفث ، صادف موسم الخيف ، معمعان الصيف».

وقوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي إن كانوا نذورا أعمالا زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكا أو إطعام فقير أو نحو ذلك.

والنذر : التزام قربة لله تعالى لم تكن واجبة على ملتزمها بتعليق على حصول

١٨٠