تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢١ ـ سورة الأنبياء

سماها السلف «سورة الأنبياء» ، ففي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود قال : «بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهنّ من تلادي». ولا يعرف لها اسم غير هذا.

ووجه تسميتها سورة الأنبياء أنها ذكر فيها أسماء ستة عشر نبيئا ومريم ولم يأت في سور القرآن مثل هذا العدد من أسماء الأنبياء في سورة من سور القرآن عدا ما في سورة الأنعام. فقد ذكر فيها أسماء ثمانية عشر نبيئا في قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) إلى قوله : (وَيُونُسَ وَلُوطاً) [الأنعام : ٨٣ ـ ٨٦] فإن كانت سورة الأنبياء هذه نزلت قبل سورة الأنعام فقد سبقت بالتسمية بالإضافة إلى الأنبياء ؛ وإلا فاختصاص سورة الأنعام بذكر أحكام الأنعام أوجب تسميتها بذلك الاسم فكانت سورة الأنبياء أجدر من بقية سور القرآن بهذه التسمية ، على أن من الحقائق المسلّمة أن وجه التسمية لا يوجبها.

وهي مكية بالاتفاق. وحكى ابن عطية والقرطبي ، الإجماع على ذلك ونقل السيوطي في «الإتقان» استثناء قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤] ، ولم يعزه إلى قائل. ولعله أخذه من رواية عن مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن المعنى ننقصها بفتح البلدان ، أي بناء على أن المراد من الرؤية في الآية الرؤية البصرية ، وأن المراد من الأرض أرض الحجاز ، وأن المراد من النقص نقص سلطان الشرك منها. وكل ذلك ليس بالمتعين ولا بالراجح. وسيأتي بيانه في موضعه. وقد تقدم بيانه في نظيرها من سورة الرعد التي هي أيضا مكية فالأرجح أن سورة الأنبياء مكية كلها.

٥

وهي السورة الحادية والسبعون في ترتيب النزول نزلت بعد حم السجدة وقبل سورة النحل ، فتكون من أواخر السور النازلة قبل الهجرة. ولعلها نزلت بعد إسلام من أسلم من أهل المدينة كما يقتضيه قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، كما سيأتي بيانه ، غير أن ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس أن قوله تعالى في سورة الزخرف [٥٧] (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ، أن المراد بضرب المثل هو المثل الذي ضربه ابن الزبعرى لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] كما يأتي يقتضي أن سورة الأنبياء نزلت قبل سورة الزخرف. وقد عدّت الزخرف ثانية وستين في النزول.

وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة مائة وإحدى عشرة وفي عدّ أهل الكوفة مائة واثنتا عشرة.

أغراض السورة :

والأغراض التي ذكرت في هذه السورة هي :

ـ الإنذار بالبعث ، وتحقيق وقوعه وإنه لتحقق وقوعه كان قريبا.

ـ وإقامة الحجة عليه بخلق السماوات والأرض عن عدم وخلق الموجودات من الماء.

ـ والتحذير من التكذيب بكتاب الله تعالى ورسوله.

ـ والتذكير بأن هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو إلا كأمثاله من الرسل وما جاء إلا بمثل ما جاء به الرسل من قبله.

ـ وذكر كثير من أخبار الرسل عليهم‌السلام.

ـ والتنويه بشأن القرآن وأنه نعمة من الله على المخاطبين وشأن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رحمة للعالمين.

ـ والتذكير بما أصاب الأمم السالفة من جراء تكذيبهم رسلهم وأن وعد الله للذين كذبوا واقع لا يغرهم تأخيره فهو جاء لا محالة.

ـ وحذرهم من أن يغتروا بتأخيره كما اغتر الذين من قبلهم حتى أصابهم بغتة ، وذكر

٦

من أشراط الساعة فتح يأجوج وماجوج.

ـ وذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من الدلالة على الخالق.

ـ ومن الإيماء إلى أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أتقن وأحكم لتجزى كل نفس بما كسبت وينتصر الحق على الباطل.

ـ ثم ما في ذلك الخلق من الدلائل على وحدانية الخالق إذ لا يستقيم هذا النظام بتعدد الآلهة.

ـ وتنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن الأولاد والاستدلال على وحدانية الله تعالى.

ـ وما يكرهه على فعل ما لا يريد.

ـ وأن جميع المخلوقات صائرون إلى الفناء.

ـ وأعقب ذلك بتذكيرهم بالنعمة الكبرى عليهم وهي نعمة الحفظ.

ـ ثم عطف الكلام إلى ذكر الرسل والأنبياء.

ـ وتنظير أحوالهم وأحوال أممهم بأحوال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحوال قومه.

ـ وكيف نصر الله الرسل على أقوامهم واستجاب دعواتهم.

ـ وأن الرسل كلهم جاءوا بدين الله وهو دين واحد في أصوله قطعه الضالون قطعا.

ـ وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم.

ـ وأن العاقبة للمؤمنين في خير الدنيا وخير الآخرة ، وأن الله سيحكم بين الفريقين بالحق ويعين رسله على تبليغ شرعه.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١))

افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذرين ، فإن المراد بالناس مشركو مكة ، والاقتراب مبالغة في القرب ، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم.

وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية شبه حال إظلال الحساب لهم

٧

بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس ، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة ، وهي هيئة المغير والمعجّل في الإغارة على القوم فهو يلح في السير تكلفا للقرب من ديارهم وهم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غارّين معرضين عن اقتراب العدوّ منهم ، فالكلام تمثيل.

والمراد من الحساب إما يوم الحساب ، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله لأنه محقق الوقوع ، أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم لأنهم إذا ماتوا رأوا جزاء أعمالهم ، وذلك من الحساب. وفي هذا تعريض بالتهديد بقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بدر.

أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضا فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

واللام في قوله (لِلنَّاسِ) إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله (حِسابُهُمْ) لأن تقديره : حساب لهم. والضمير عائد إلى الناس فصار قوله (لِلنَّاسِ) مساويا للضمير الذي أضيف إليه (حساب) فكأنه قيل : اقترب حساب للناس لهم فكان تأكيدا لفظيا ، وكما تقول : أزف للحي رحيلهم ، أصله أزف الرحيل للحيّ ثم صار أزف للحي رحيلهم ، ومنه قول العرب : لا أبا لك ، أصله لا أباك ، فكانت لام (لك) مؤكدة لمعنى الإضافة لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام. قال الشاعر :

أبا لموت الذي لا بد أني

ملاق لا أباك تخوّفيني

وأصل النظم : اقترب للناس الحساب. وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعرّف الناس تعريف الجنس ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين ، ولما في تقديم الجار والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين لأنهم الذين يكنّى عنهم بالناس كثيرا في القرآن ، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل : اقترب حساب للناس الحساب ، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه. ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر وهذا نمط بديع من نسج الكلام ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى (من) أو بمعنى (إلى) متعلقة ب (اقْتَرَبَ) فيكون المجرور ظرفا

٨

لغوا ، وعن ابن مالك أنه مثّل لانتهاء الغاية بقولهم : «تقربت منك».

وجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) حال من الناس ، أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم. والمراد بالناس المشركون لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده.

والغفلة : الذهول عن الشيء وعن طرق علمه ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) في سورة [الأنعام : ١٥٦] ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) في [سورة الأعراف : ١٤٦].

والإعراض : صرف العقل عن الاشتغال بالشيء. وتقدم في قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة [النساء : ٦٣] ، وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) في سورة [الأنعام : ٦٨].

ودلت (في) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم ، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها ، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم. والمعنى : أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه.

وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه ، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة لأن المعرض عن الشيء لا يعد غافلا عنه ، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به. فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث.

[٢ ، ٣] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣))

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).

جملة مبينة لجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم ، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيرا لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب

٩

واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) في سورة [البقرة : ١٧١].

والذكر : القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.

والمحدث : الجديد. أي الجديد نزوله متكررا ، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكرا واحدا فلم يعبئوا به لانتحلوا لأنفسهم عذرا كانوا ساعتئذ في غفلة ، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صدا.

ونظير هذا قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) في سورة [الشعراء : ٥] ، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم.

ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) في سورة [النساء : ١٦٤].

وجملة (اسْتَمَعُوهُ) حال من ضمير النصب في (يَأْتِيهِمْ) وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.

وجملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال لازمة من ضمير الرفع في (اسْتَمَعُوهُ) مقيّدة لجملة (اسْتَمَعُوهُ) لأن جملة (اسْتَمَعُوهُ) حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلّا لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادة لقطع معذرتهم المستفاد من قوله (مُحْدَثٍ) كما علمت.

و (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال من المبتدأ في جملة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) وهي احتراس لجملة (اسْتَمَعُوهُ) أي استماعا لا وعي معه.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ).

جملة مستأنفة يجوز أن تكون عطفا على جملة (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] إلى آخرها ، لأن كلتا الجملتين مسوقة لذكر أحوال تلقي المشركين لدعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٠

بالتكذيب والبهتان والتآمر على رفضها. فالذين ظلموا هم المراد بالناس كما تقدم.

وواو الجماعة عائد إلى ما عاد إليه ضمائر الغيبة الراجعة إلى (لِلنَّاسِ) وليست جملة (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) عطفا على جملة (اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لأن مضمونها ليس في معنى التقييد لما يأتيهم من ذكر.

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو الجماعة لزيادة تقرير أنهم المقصود من النجوى ، ولما في الموصول من الإيماء إلى سبب تناجيهم بما ذكر وأن سبب ذلك كفرهم وظلمهم أنفسهم ، وللنداء على قبح ما هم متصفون به.

وجملة (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بدل من (النَّجْوَى) لأن ذلك هو ما تناجوا به ، فهو بدل مطابق. وليست هي كجملة (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) من جملة (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) في سورة [طه : ٦٢ ـ ٦٣] فإن تلك بدل بعض من كل لأن ذلك القول هو آخر ما أسفرت عليه النجوى.

ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء ، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجوهم بذلك ليدخلوا الشك في قلوبهم.

والنجوى : المحادثة الخفية. والإسرار : هو الكتمان والكلام الخفي جدا. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) في سورة [براءة : ٧٨] ، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولا ل (أَسَرُّوا) في قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) في [سورة طه : ٦٢] ، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.

والاستفهام في قوله (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فكيف تؤمنون بنبوته وهو أحد منكم.

وكذلك الاستفهام في قوله (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.

والمعنى : أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به

١١

فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه.

وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة ، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه ، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتيانا ، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها ، وجعلوا كلامه سحرا فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) في سورة [فصلت : ٢٦].

وقوله (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) في موضع الحال ، أي تأتون السحر وبصركم سليم ، وأرادوا به العلم البديهي ، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤))

أطلع الله رسوله على نجواهم فلم يتم لهم ما أرادوا من الإسرار بها فبعد أن حكى ما تناجوا به أمره أن يخبرهم بأن الله الذي علم نجواهم يعلم كل قول في السماء والأرض من جهر أو سر ، فالتعريف في (الْقَوْلَ) للاستغراق ، وبذلك كان هذا تذييلا ، وأعلمهم بأنه المتصف بتمام العلم للمسموعات وغيرها بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وقرأ الجمهور قل بصيغة الأمر ، وقرأ حمزة والكسائي ، وحفص ، وخلف (قالَ) بصيغة الماضي ، وكذلك هي مرسومة في المصحف الكوفي قاله أبو شامة ، أي قال الرسول لهم ، حكى الله ما قاله الرسول لهم ، وإنما قاله عن وحي فكان في معنى قراءة الجمهور قل ربي يعلم القول لأنه إذا أمر بأن يقوله فقد قاله.

وإنما لم يقل يعلم السرّ لمراعاة العلم بأن الذي قالوه من قبيل السرّ وأن إثبات علمه بكل قول يقتضي إثبات علمه بالسرّ وغيره بناء على متعارف الناس. وأما قوله في سورة [الفرقان : ٦] (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلم يتقدم قبله ذكر للإسرار ، وكان قول الذين كفروا : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] صادرا منهم تارة جهرا وتارة سرا فأعلمهم الله باطلاعه على سرّهم. ويعلم منه أنه مطلع على جهرهم بطريقة الفحوى.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥))

١٢

(بَلْ) الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الأنبياء : ٣] إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين ، وهو زعمهم أنّ ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها ، فضمير (قالُوا) لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين.

و (بَلْ) الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن. والمعنى : بل افتراه واختلقه من غير أحلام ، أي هو كلام مكذوب.

ثم انتقلوا فقالوا (هُوَ شاعِرٌ) أي كلامه شعر ، فحرف (بل) الثالثة إضراب منهم عن كلامهم وذلك مؤذن باضطرابهم وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن. وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل : الباطل لجلج ، أي ملتبس متردّد فيه.

ويجوز أن تكون (بل) الثانية والثالثة مثل (بل) الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم. والتقدير : بل قالوا افتراه بل قالوا هو شاعر ، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالا.

والأضغاث : جمع ضغث بكسر الضاد ، وهو الحزمة من أعواد أو عشب أو حشيش مختلط ثم أطلق على الأخلاط مطلقا كما في سورة يوسف [٤٤] (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها.

وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية.

ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاء بأنها سحر أروج في مثلها فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة. وقديما قال آل فرعون في معجزات موسى : إنها سحر ، بخلاف آية إعجاز القرآن.

ودخلت لام الأمر على فعل الغائب لمعنى إبلاغ الأمر إليه ، أي فقولوا له : ائتنا بآية ، والتشبيه في قوله (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) في موضع الحال من ضمير (فَلْيَأْتِنا) أي

١٣

حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه رسالته رسالة الأولين ، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة وذلك واسع في كلام العرب. قال النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل من ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون ، أي به.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

استئناف ابتدائي جوابا على قولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] ، والمعنى: أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا ، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم. وهذا كقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) في سورة [الإسراء: ٥٩].

وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم ، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها. و (ما) نافية. و (من) في قوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف (ما).

ومتعلق (آمَنَتْ) محذوف دل عليه السياق ، أي ما آمنت بالآيات قرية.

وجملة (أَهْلَكْناها) صفة ل (قَرْيَةٍ) ، وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضا يترقبون الإهلاك.

وذكرت القرية هنا مرادا بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم ، فلذلك قيل (أَهْلَكْناها) دون (أهلكناهم) كما في سورة [الكهف: ٥٩] (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ).

وفرعت جملة (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) على جملة (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) مقترنة باستفهام الإنكار ، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالا في قولهم (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] وهذا أخذ لهم بلازم قولهم.

١٤

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧))

عطف جواب على جواب. والمقصود من هذا إبطال مقصودهم من قولهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] إذا أرادوا أنه ليس بأهل للامتياز عنهم بالرسالة عن الله تعالى ، فبيّن خطأهم في استدلالهم بأن الرسل الأولين الذين اعترفوا برسالتهم ما كانوا إلا بشرا وأن الرسالة ليست إلا وحيا من الله لمن اختاره من البشر.

وقوله (إِلَّا رِجالاً) يقتضي أن ليس في النساء رسلا وهذا مجمع عليه. وإنما الخلاف في نبوءة النساء مثل مريم أخت موسى ومريم أم عيسى. ثم عرّض بجهلهم وفضح خطأهم فأمرهم أن يسألوا أهل الذكر ، أي العلم بالكتب والشرائع السالفة من الأحبار والرهبان.

وجملة (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) إلخ معترضة بين الجمل المتعاطفة.

وتوجيه الخطاب لهم بعد كون الكلام جرى على أسلوب الغيبة التفات ، ونكتته أن الكلام لما كان في بيان الحقائق الواقعة أعرض عنهم في تقريره وجعل من الكلام الموجه إلى كل سامع وجعلوا فيه معبّرا عنهم بضمائر الغيبة ، ولما أريد تجهيلهم وإلجاؤهم إلى الحجة عليهم غيّر الكلام إلى الخطاب تسجيلا عليهم وتقريعا لهم بتجهيلهم.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨))

الجسد : الجسم الذي لا حياة فيه ، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أئمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) [طه : ٨٨]. وقد تقدم هناك ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [ص : ٣٤]. قيل هو شق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه ، أي ما جعلناهم أجراما غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشر التي خاصتها أكل الطعام ، وهذا رد لما يقولونه (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] مع قولهم هنا (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣].

وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين

١٥

كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادا بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة.

وأما قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فما ذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة (وَما كانُوا خالِدِينَ).

وأتي في نفي الخلود عنهم بصيغة (ما كانُوا) تحقيقا لتمكن عدم الخلود منهم.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

(ثُمَ) عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى : وأهمّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر ، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين.

والمراد بالوعد وعدم النصر على المكذبين بقرينة قوله تعالى (فَأَنْجَيْناهُمْ) المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم ، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين ، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وفي هذا تقريع للمشركين ، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) في سورة [يونس : ١٠٢].

وانتصب الوعد ب (صَدَقْناهُمُ) على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال : صدقناهم في الوعد ، لأن (صدق) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل «صدقني سنّ بكره» (١).

__________________

(١) في «مجمع الأمثال» للميداني يضرب مثلا في الصدق. وأصله أن رجلا ساوم آخر في بكر وهو الفتى من الإبل ، وقال : ما سنه؟ قال : بازل ، وهو الكهل من الإبل فنفر البعير فدعاه صاحبه هدع هدع وهو صوت تسكن به الصغار من الإبل ، فقال المساوم : «صدقني سن بكره».

١٦

والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى (مَنْ نَشاءُ) احتباك ، والتقدير : فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم ، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.

وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان ، ولذلك لم يقل : ونهلك المسرفين ، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.

والمسرفون : المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

استئناف جواب عن قولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون ، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.

وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقا ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ٢ ـ ٣] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.

ولقصد هذا الإيقاظ صدّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل (أَنْزَلْنا) بحرف (إلى) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب «إلى» هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم.

وتنكير (كِتاباً) للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه.

والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ) زكرياء [مريم : ٢]. وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا

١٧

بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاما موجها فيصح قصد المعنيين معا من كلمة (الذكر) بأن مجيء القرآن مشتملا على أعظم الهدى ، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعة عظيمة لهم كما قال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ـ وقال ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) [البقرة : ١٥١].

وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين. وفي «تفسير الطبري» هنا قال جماعة : معنى «فيه ذكركم» أنه الشرف ، أي فيه شرفكم. وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور ، وقد فسر بمثل ذلك قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

وعلى المعنيين يكون لتفريع قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أحسن موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هداه فلم يهتد ينكر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفا.

وأيضا فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرف التحقيق قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) في سورة [العنكبوت : ٥١] ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي.

[١١ ـ ١٤] (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))

عطف على قوله (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : ٦] أو على قوله تعالى (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، وهو تعريض بالتهديد.

ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم. وفيه تعريض بنصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك ، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم ، فهو تعريض بإنذار

١٨

المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة ، وأن الله ينشئ بعدهم أمّة مؤمنة كقوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) في سورة [إبراهيم : ١٩].

و (كم) اسم ، له حقّ صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد ، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه ، والتقدير : قصمنا كثيرا من القرى ف (كم) هنا خبرية. وهي واقعة في محل نصب بفعل (قَصَمْنا).

وفي (كم) الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى ، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم ، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حالّ بهم لا محالة بحكم العموم ، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة ، فما روي عن ابن عباس : «أن المراد بالقرية (حضوراء) ـ بفتح الحاء ـ مدينة باليمن قتلوا نبيئا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم». فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية ، والتقدير : قصمنا كثيرا. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في سورة [الأنعام : ٦].

وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

ووجه اختيار لفظ (قَرْيَةٍ) هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأنبياء : ٦].

وحرف (من) في قوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) لبيان الجنس ، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام (كم).

والقصم : الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع. واستعير للاستيصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ.

وجملة (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) معترضة بين جملة (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) وجملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) إلخ. فجملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) إلخ تفريع على جملة (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ).

وضمير (مِنْها) عائد إلى (قَرْيَةٍ).

١٩

والإحساس : الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.

والبأس : شدة الألم والعذاب. وحرف (من) في قوله (مِنْها يَرْكُضُونَ) يجوز أن يكون للابتداء ، أي خارجين منها ، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل (يركضون) معنى (يهربون) ، أي من البأس الذي أحسوا به فلا بدّ من تقدير مضاف ، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية. وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق.

والركض : سرعة سير الفرس ، وأصله الضرب بالرّجل فيسمى به العدو ، لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرّجل وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس.

و (مِنْها) ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع.

ودخلت (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع. وليست (إذا) الفجائية برابطة للجواب بالشرط لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط ، و (إذا) الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه.

وجملة (لا تَرْكُضُوا) معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم الحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم ، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة وهذا كقول مالك بن الرّيب :

دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي

بذي الطبسين فالتفتّ ورائيا

أي لما دعاه الهوى ، أي ذكّره أحبابه وهو غاز بذي الطّبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه.

وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) وبين جملة (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب. وهذا ما فسر به المفسرون ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية. وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم.

٢٠