تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

والمريد : صفة مشبهة من مرد ـ بضم الراء ـ على عمل ، إذا عتا فيه وبلغ الغاية التي تتجاوز ما يكون عليه أصحاب ذلك العمل ، وكأنه محول من مرد بفتح الراء ـ بمعنى مرن ـ إلى ضم الراء للدلالة على أن الوصف صار له سجية ، فالمريد صفة مشبهة ، أي العاتي في الشيطنة.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

جملة (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) إلى آخرها صفة ثانية ل (شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج: ٣] ، فالضمير المجرور عائد إلى (شَيْطانٍ). وكذلك الضمائر في (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ).

وأما الضميران البارزان في قوله (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) فعائدان إلى (من) الموصولة ، أي يضل الشيطان متوليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير.

واتفقت القراءات العشر على قراءة (كُتِبَ) ـ بضم الكاف ـ على أنه مبني للنائب. واتفقت أيضا على ـ فتح الهمزتين ـ من قوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ).

والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ، أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ، فأطلق على لزوم ذلك فعل (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي وجب عليه ، فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة. قال الحارث بن حلّزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

والضمير في (أَنَّهُ) عائد إلى (شَيْطانٍ) [الحج : ٣] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل (كُتِبَ) ، إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ، والمصدران المنسبكان من قوله (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) وقوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) نائب فعل (كُتِبَ) ومفرع عليه بفاء الجزاء ، أي كتب عليه إضلال من تولاه. والتولي : اتّخاذ ولي ، أي نصير ، أي من استنصر به.

و (من) موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابت لا على التعليق بالشرط. وهي مبتدأ ثان ، والضمير المستتر في قوله (تَوَلَّاهُ) عائد إلى (من) الموصولة.

والضمير المنصوب البارز عائد إلى (شَيْطانٍ) [الحج : ٣] ، أي أن الذي يتخذ الشيطان وليا فذلك الشيطان يضله.

والفاء في قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) داخلة على الجملة الواقعة خبرا عن (من) الموصولة

١٤١

تشبيها لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشبه الموصول بالشرط قصدا لتقوية الإخبار. والمصدر المنسبك من قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبرا عن (من) الموصولة. والتقدير : فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير. وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ. والتقدير : ثابتان.

ويجوز أن تجعل الفاء في قوله (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) فاء تفريع ويجعل ما بعدها معطوفا على (مَنْ تَوَلَّاهُ) ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع. والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليه إلى عذاب السعير.

هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات.

واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في [سورة براءة : ٦٣] (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) لأن مقتضى فعل العلم غير مقتضى فعل (كتب). فلذلك كانت (من) في قوله (مَنْ يُحادِدِ) شرطية لا محالة وكان الكلام جاريا على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله (أَنَّهُ) ضمير شأن.

ولما كان الضلال مشتهرا في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل (يُضِلُّهُ) لظهور المعنى.

وذكر متعلق فعل (يَهْدِيهِ) وهو (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهدي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب.

وفي الجمع بين (يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ) محسن الطباق بالمضادة. وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) النضر بن الحارث. وقيل نزلت فيه ؛ كان كثير الجدل يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت ترابا. وعد منهم أيضا أبو جهل ، وأبيّ بن خلف. ومن قال : إن المقصود بقوله (مَنْ يُجادِلُ) معينا خص الآية به ، ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى

١٤٢

أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً)

أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه. وهو الخلق الأول. قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥]. فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء. ثم خلقه أطوارا عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه.

ودخول المشركين بادئ ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم.

وجعل ريبهم في البعث مفروضا ب (إن) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبه كما في قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥].

والظرفية المفادة ب (في) مجازية. شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.

وجملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جوابا لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب.

والذي خلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم ـ عليه‌السلام ـ وحواء ، ثم كونت

١٤٣

في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب (ثم).

والنطفة : اسم لمني الرجل ، وهو بوزن فعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنطف : القطر والصب. والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين.

والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة. و (ثم) التي عطف بها (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي.

و (من) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد.

وكون الإنسان مخلوقا من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مدة الحيض جزءا هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي (المبيض) ـ بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان ـ لأنه مقر بيضات دقيقة هي حبيبات دقيقة جدا وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغلاف لها يقال لها (الحويصلة) ـ بضم الحاء بصيغة تصغير حوصلة ـ تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى (بوق فلوبيوس) لشبهه بالبوق ، وأضيف إلى (فلوبيوس) اسم مكتشفه وهو البرزخ بين المبيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي. وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوما تصير البيضة علقة في حجم نملة كبيرة طولها من ١٢ إلى ١٤ مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لحم هي المسماة (مضغة) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جدا كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوما فيوما إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفع للخروج وهو الولادة.

فقوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) صفة (مُضْغَةٍ). وذلك تطور من تطورات المضغة. أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شكل الخلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك

١٤٤

لم يذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة. وإذ قد جعلت المضغة من مبادئ الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لا زمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت.

والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقا بعد خلق ، أي شكلا بعد شكل.

وقدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم. فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام.

ولذلك عقب بقوله تعالى (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلا واضحا على إمكان الإحياء بعد الموت.

واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدر من فعل ونحوه تدل عليه جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إلخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنعلمكم ، أو فانظروا.

وحذف مفعول (لِنُبَيِّنَ) لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا.

وجملة (وَنُقِرُّ) عطف على جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ). وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار. فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد.

والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل.

والمسمّى : اسم مفعول من سماه ، إذا جعل له اسما ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيها لضبط الأمور غير المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يميزه عما شابهه. ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا.

١٤٥

ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبل وضعه. والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلّ معين في علم الله تعالى. وتقدم في قوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) في [سورة البقرة : ٢٨٢].

وعطف جملة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) بحرف (ثم) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود. وقوله (طِفْلاً) حال من ضمير (نُخْرِجُكُمْ) ، أي حال كونكم أطفالا. وإنما أفرد (طِفْلاً) لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع.

وجملة (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) مرتبطة بجملة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل. والمعلّل فعل (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة علم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل. وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ).

وحرف (ثم) في قوله : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) تأكيد لمثله في قوله (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً). هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي.

وإنما جعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) فجعل «الأشد» كأنه الغاية المقصودة من تطويره.

والأشدّ : سن الفتوة واستجماع القوى. وقد تقدم في [سورة يوسف : ٢٢] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

ووقع في [سورة المؤمن : ٦٧] (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ، فعطف طور الشيخوخة على طور الأشد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفرا يردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى

١٤٦

أَرْذَلِ الْعُمُرِ).

وجيء بقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن [٦٧] : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ).

وقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) هو عديل قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى). وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب.

وجعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصودا عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية. قال تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.

وقوله (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) أي بعد ما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.

و (من) الداخلة على (بعد) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة (من) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب (من) في قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) في [سورة النحل : ٧٠].

والآيتان بمعنى واحد فذكر (من) هنا تفنّن في سياق العبرتين.

و (شَيْئاً) واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوما جديدا. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

١٤٧

عطف على جملة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام.

وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالة مشاهدة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غير مشاهد فقيل في شأنه (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الآية. ومحل الاستدلال من قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) ، فهو مناسب قوله في الاستدلال الأول (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت.

والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها.

والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى.

وربت : حصل لها ربو ـ بضمّ الراء وضم الموحدة ـ وهو ازدياد الشيء يقال : ربا يربو ربوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر. وقرأ أبو جعفر وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت. ومنه قولهم : ربأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازا ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو ربوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم.

والزوج : الصنف من الأشياء. أطلق عليه اسم الزوج تشبيها له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجا فيسمى كلّ واحد منهما زوجا بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكرا ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات.

والبهيج : الحسن المنظر السارّ للناظر ، وقد سيق هذا الوصف إدماجا للامتنان في أثناء الاستدلال امتنانا بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجا لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] وقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥].

١٤٨

[٦ ، ٧] (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

فذلكة لما تقدم ، فالجملة تذييل.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه ، ومن إحياء الأرض بعد موتها وانبثاق النبت منها.

وإفراد حرف الخطاب المقترن باسم الإشارة لإرادة مخاطب غير معيّن على نسق قوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) [الحج : ٥] على أن اتصال اسم الإشارة بكاف خطاب الواحد هو الأصل.

والمجرور خبر عن اسم الإشارة ، أي ذلك حصل بسبب أن الله هو الحق إلخ .. والباء للسببية فالمعنى : تكوّن ذلك الخلق من تراب وتطور ، وتكوّن إنزال الماء على الأرض الهامدة والنبات البهيج بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره. ويجوز أن تكون الباء للملابسة ، أي كان ذلك الخلق وذلك الإنبات البهيج ملابسا لحقيّة إلهيّة الله. وهذه الملابسة ملابسة الدليل لمدلوله ، وهذا أرشق من حمل الباء على معنى السببية وهو أجمع لوجوه الاستدلال.

والحق : الثابت الذي لا مراء فيه ، أي هو الموجود. والقصر إضافي ، أي دون غيره من معبوداتكم فإنها لا وجود لها ، قال تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [الحج : ٢٣] وهذا الاستدلال هو أصل بقية الأدلة لأنه نقض للشرك الذي هو الأصل لجميع ضلالات أهله كما قال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧].

وأما بقية الأمور المذكورة بعد قوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، فهي لبيان إمكان البعث.

ووجه كون هذه الأمور الخمسة المعدودة في هذه الآية ملابسة لأحوال خلق الإنسان وأحوال إحياء الأرض أن تلك الأحوال دالة على هذه الأمور الخمسة : إما بدلالة المسبب على السبب بالنسبة إلى وجود الله وإلى ثبوت قدرته على كل شيء ، وإما بدلالة التمثيل على الممثّل والواقع على إمكان نظيره الذي لم يقع بالنسبة إلى إحياء الله الموتى ، ومجيء

١٤٩

الساعة ، والبعث. وإذا تبين إمكان ذلك حق التصديق بوقوعه لأنهم لم يكن بينهم وبين التصديق به حائل إلا ظنهم استحالته ، فالذي قدر على خلق الإنسان عن عدم سابق قادر على إعادته بعد اضمحلاله الطارئ على وجوده الأحرى ، بطريقة.

والذي خلق الأحياء بعد أن لم تكن فيها حياة يمكنه فعل الحياة فيها أو في بقيّة آثارها أو خلق أجسام مماثلة لها وإيداع أرواحها فيها بالأولى. وإذا كان كذلك علم أن ساعة فناء هذا العالم واقعة قياسا على انعدام المخلوقات بعد تكوينها ، وعلم أن الله يعيدها قياسا على إيجاد النسل وانعدام أصله الحاصل للمشركين في وقوع الساعة منزّل منزلة العدم لانتفاء استناده إلى دليل.

وصيغة نفي الجنس على سبيل التنصيص صيغة تأكيد ، لأن (لا) النافية للجنس في مقام النفي بمنزلة (إنّ) في مقام الإثبات ولذلك حملت عليها في العمل.

[٨ ـ ١٠] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

عطف على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) [الحج : ٥] كما عطفت جملة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج : ١]. والمعنى : إن كنتم في ريب من وقوع البعث فإنا نزيل ريبكم بهذه الأدلة الساطعة ، فالناس بعد ذلك فريقان : فريق يوقن بهذه الدلالة فلا يبقى في ريب ، وفريق من الناس يجادل في الله بغير علم وهؤلاء هم أئمّة الشرك وزعماء الباطل.

وجملة (لا رَيْبَ فِيها) [الحج : ٧] معترضة بين المتعاطفات ، أي ليس الشأن أن يرتاب فيها ، فلذلك نفي جنس الريب فيها ، أي فالريب.

المعنيّ بهذه الآية هو المعنيّ بقوله فيما مضى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج : ٣] ، فيكون المراد فريق المعاندين المكابرين الذين يجادلون في الله بغير علم بعد أن بلغهم الإنذار من زلزلة الساعة ، فهم كذلك يجادلون في الله بغير علم بعد أن وضحت لهم الأدلة على وقوع البعث.

١٥٠

ودافعهم إلى الجدال في الله عند سماع الإنذار بالساعة عدم علمهم ما يجادلون فيه واتباعهم وسواس الشياطين.

ودافعهم إلى الجدال في الله عند وضوح الأدلة على البعث علم علمهم ما يجادلون فيه ، وانتفاء الهدى ، وانتفاء تلقي شريعة من قبل ، والتكبر عن الاعتراف بالحجة ، ومحبة إضلال الناس عن سبيل الله. فيؤول إلى معنى أن أحوال هؤلاء مختلفة وأصحابها فريق واحد هو فريق أهل الشرك والضلالة. ومن أساطين هذا الفريق من عدّوا في تفسير الآية الأولى مثل : النضر بن الحارث ، وأبي جهل ، وأبيّ بن خلف.

وقيل : المراد من هذه الآية بمن يجادل في الله : النضر بن الحارث. كرر الحديث عنه تبيينا لحالتي جداله ، وقيل المراد بمن يجادل في هذه الآية أبو جهل ، كما قيل : إن المراد في الآية الماضية النضر بن الحارث فجعلت الآية خاصة بسبب نزولها في نظر هذا القائل. وروي ذلك عن ابن عباس. وقيل : هو الأخنس بن شريق. وتقدم معنى قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) في نظير هذه الآية. وقيل المراد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج : ٣] المقلدون ـ بكسر اللام ـ من المشركين الذين يتّبعون ما تمليه عليهم سادة الكفر ، والمراد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً) المقلّدون ـ بفتح اللام ـ أئمة الكفر.

والهدى مصدر في معنى المضاف إلى مفعوله ، أي ولا هدى هو مهدي به. وتلك مجادلة المقلّد إذا كان مقلدا هاديا للحق مثل أتباع الرسل ، فهذا دون مرتبة من يجادل في الله بعلم ، ولذلك لم يستغن بذكر السابق عن ذكر هذا.

والكتاب المنير : كتب الشرائع مثل : التوراة والإنجيل ، وهذا كما يجادل أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام المشركين والدهريين فهو جدال بكتاب منير.

والمنير : المبين للحق. شبه بالمصباح المضيء في الليل.

ويجيء في وصف (كِتابٍ) بصفة (مُنِيرٍ) تعريض بالنضر بن الحارث إذ كان يجادل في شأن الإسلام بالموازنة بين كتاب الله المنير وبين كتاب أخبار رستم ، وكتاب أخبار إسفنديار المظلمة الباطلة.

والثّني : ليّ الشيء. يقال : ثنى عنان فرسه ، إذا لواه ليدير رأس فرسه إلى الجهة التي يريد أن يوجهه إليها. ويطلق أيضا الثّني على الإمالة.

١٥١

والعطف : المنكب والجانب. و (ثانِيَ عِطْفِهِ) تمثيل للتكبر والخيلاء. ويقال : لوى جيده ، إذا أعرض تكبرا. وهذه الصفة تنطبق على حالة أبي جهل فلذلك قيل إنه المراد هنا.

واللام في قوله (لِيُضِلَ) لتعليل المجادلة ، فهو متعلّق ب (يُجادِلُ) أي غرضه من المجادلة الإضلال.

وسبيل الله : الدّين الحق.

وقوله (لِيُضِلَ) ـ بضم الياء ـ أي ليضلل الناس بجداله. فهذا المجادل يريد بجدله أن يوهم العامة بطلان الإسلام كيلا يتبعوه.

وإفراد الضمير في قوله (عِطْفِهِ) وما ذكر بعده مراعاة للفظ (من) وإن كان معنى تلك الضمائر الجمع.

وخزي الدنيا : الإهانة ، وهو ما أصابهم من القتل يوم بدر ومن القتل والأسر بعد ذلك. وهؤلاء هم الذين لم يسلموا بعد. وينطبق الخزي على ما حصل لأبي جهل يوم بدر من قتله بيد غلامين من شباب الأنصار وهما ابنا عفراء. وباعتلاء عبد الله بن مسعود على صدره وذبحه وكان في عظمته لا يخطر أمثال هؤلاء الثلاثة بخاطره.

وينطبق الخزي أيضا على ما حلّ بالنضر بن الحارث من الأسر يوم بدر وقتله صبرا في موضع يقال له : الأثيل قرب المدينة عقب وقعة بدر كما وصفته أخته قتيلة في رثائه من قصيدة :

صبرا يقاد إلى المنية متعبا

صبر المقيّد وهو عان موثق

وإذ كانت هذه الآية ونظيرتها التي سبقت مما نزل بمكة لا محالة كان قوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) من الإخبار بالغيب وهو من معجزات القرآن.

وإذاقة العذاب تخييل للمكنيّة.

وجملة (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) مقول قول محذوف تدل عليه صيغة الكلام وهي جملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من ضمير النصب في قوله تعالى (وَنُذِيقُهُ).

و (قَدَّمَتْ) بمعنى : أسلفت. جعل كفره كالشيء الذي بعث به إلى دار الجزاء قبل أن يصل هو إليها فوحده يوم القيامة حاضرا ينتظره قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا

١٥٢

حاضِراً) [الكهف : ٤٩].

والإشارة إلى العذاب والباء سببية. و (ما) موصولة. وعطف على (ما) الموصولة قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه في تأويل مصدر ، أي وبانتفاء ظلم الله العبيد ، أي ذلك العذاب مسبب لهذين الأمرين فصاحبه حقيق به لأنه جزاء فساده ولأنه أثر عدل الله تعالى وأنه لم يظلمه فيما أذاقه.

وصيغة المبالغة تقتضي بظاهرها نفي الظلم الشديد ، والمقصود أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد فصيغت له زنة المبالغة ، وكذلك التزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن ، وقد اعتاد جمع من المتأخرين أن يجعلوا المبالغة راجعة للنفي لا للمنفي وهو بعيد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١))

هذا وصف فريق آخر من الذين يقابلون الأمر بالتقوى والإنذار بالساعة مقابلة غير المطمئن بصدق دعوة الإسلام ولا المعرض عنها إعراضا تاما ولكنهم يضعون أنفسهم في معرض الموازنة بين دينهم القديم ودين الإسلام. فهم يقبلون دعوة الإسلام ويدخلون في عداد متبعيه ويرقبون ما ينتابهم بعد الدخول في الإسلام فإن أصابهم الخير عقب ذلك علموا أن دينهم القديم ليس بحق وأنّ آلهتهم لا تقدر على شيء لأنها لو قدرت لانتقمت منهم على نبذ عبادتها وظنوا أن الإسلام حق ، وإن أصابهم شرّ من شرور الدنيا العارضة في الحياة المسببة عن أسباب عادية سخطوا على الإسلام وانخلعوا عنه. وتوهموا أن آلهتهم أصابتهم بسوء غضبا من مفارقتهم عبادتها كما حكى الله عن عاد إذ قالوا لرسولهم (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤].

فالعبادة في قوله تعالى (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) مراد بها عبادة الله وحده بدليل قوله تعالى : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) [الحج : ١٢].

والظاهر أن هذه الآية نزلت بالمدينة ، ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء.

١٥٣

وفي رواية الحسن : أنها نزلت في المنافقين يعني المنافقين من الذين كانوا مشركين مثل : عبد الله بن أبي بن سلول ، وهذا بعيد لأنّ أولئك كانوا مبطنين الكفر فلا ينطبق عليهم قوله (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ). وممن يصلح مثالا لهذا الفريق العرنيّون الذين أسلموا وهاجروا فاجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلحقوا براعي إبل الصدقة خارج المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فلمّا صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذّود وفروا ، فألحق بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلب في أثرهم حتى لحقوا بهم فأمر بهم فقتلوا.

وفي حديث «الموطأ» : أن أعرابيا أسلم وبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصابه وعك بالمدينة ، فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقيله بيعته فأبى أن يقيله ، فخرج من المدينة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها» فجعله خبثا لأنه لم يكن مؤمنا ثابتا. وذكر الفخر عن مقاتل أن نفرا من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن لا ينصر الله محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا فنزل فيهم قوله تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) [الحج : ١٥] الآيات.

وعن الضحاك : أن الآية نزلت في المؤلفة قلوبهم ، منهم : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعبّاس بن مرداس قالوا : ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق ، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل. وهذا كله ناشئ عن الجهل وتخليط الأسباب الدنيوية بالأسباب الأخروية ، وجعل المقارنات الاتفاقية كالمعلومات اللزومية. وهذا أصل كبير من أصول الضلالة في أمور الدين وأمور الدنيا. ولنعم المعبّر عن ذلك قوله تعالى (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) إذ لا يهتدي إلى تطلب المسببات من أسبابها.

وحرف الشيء طرفه وجانبه سواء كان مرتفعا كحرف الجبل والوادي أم كان مستويا كحرف الطريق. ويطلق الحرف على طرف الجيش ويجمع على طرف بوزن عنب قال في «القاموس» : ولا نظير له سوى طل وطلل.

وقوله تعالى : (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) تمثيل لحال المتردد في عمله ، يريد تجربة عاقبته بحال من يمشي على حرف جبل أو حرف واد فهو متهيّئ لأن يزل عنه إلى أسفله فينقلب ، أي ينكب.

ومعنى اطمأن : استقر وسكن في مكانه. ومصدره الاطمئنان واسم المصدر الطمأنينة. وتقدم في قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في [سورة البقرة : ٢٦٠].

١٥٤

والمعنى : استمر على التوحيد فرحا بالخير الذي أصابه ، واستقرار مثل هذا على الإيمان يصيره مؤمنا إذا زال عنه التردد. وحال هؤلاء قريب من حال المؤلّفة قلوبهم.

والانقلاب : مطاوع قلبه إذا كبّه ، أي ألقاه على عكس ما كان عليه بأن جعل ما كان أعلاه أسفله كما يقلب القالب ـ بفتح اللام ـ. فالانقلاب مستعمل في حقيقته ، والكلام تمثيل. وتفسيرنا الانقلاب هنا بهذا المعنى هو المناسب لقوله (عَلى وَجْهِهِ) أي سقط وانكب عليه ، كقول امرئ القيس :

يكب على الأذقان دوح الكنهبل

وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا كبّه الله على وجهه».

وحرف الاستعلاء ظاهر وهو أيضا الملائم لتمثيل أول حاله بحال من هو على حرف.

ويطلق الانقلاب كثيرا على الانصراف من الجهة التي أتاها إلى الجهة التي جاء منها ، وهو مجاز شائع وبه فسر المفسرون. ولا يناسب اعتباره هنا لأن مثله يقال فيه : انقلب على عقبيه لا على وجهه ، كما قال تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] إذ الرجوع إنما يكون إلى جهة غير جهة الوجه.

والفتنة : اضطراب الحال وقلق البال من حدوث شر لا مدفع له ، وهي مقابل الخير.

وجملة (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) بدل اشتمال من جملة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ).

وجملة (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) معترضة بين جملة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وجملة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) [الحج : ١٢] التي هي في موضع الحال من ضمير (انْقَلَبَ) أي أسقط في الشرك.

والخسران : تلف جزء من أصل مال التجارة ، فشبه نفع الدنيا ونفع الآخرة بمال التاجر الساعي في توفيره لأن الناس يرغبون تحصيله ، وثني على ذلك إثبات الخسران لصاحبه الذي هو من مرادفات مال التجارة المشبه به ، فشبه فوات النفع المطلوب بخسارة المال.

وتعليق الخسران بالدنيا والآخرة على حذف مضاف. والتقدير خسر خير الدنيا وخير

١٥٥

الآخرة.

فخسارة الدنيا بسبب ما أصابه فيها من الفتنة ، وخسارة الآخرة بسبب عدم الانتفاع بثوابها المرجوّ له.

والمبين : الذي فيه ما يبين للناس أنه خسران بأدنى تأمل. والمراد أنه خسران شديد لا يخفى.

والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز المسند إليه أتم تمييز لتقرير مدلوله في الأذهان.

وضمير (هُوَ) ضمير فصل ، والقصر المستفاد من تعريف المسند قصر ادعائي. ادعي أن ماهية الخسران المبين انحصرت في خسرانهم ، والمقصود من القصر الادعائي تحقيق الخبر ونفي الشك في وقوعه. وضمير الفصل أكد معنى القصر فأفاد تقوية الخبر المقصور.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢))

جملة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) إلخ حال من ضمير (انْقَلَبَ) [الحج : ١١].

وقدم الضر على النفع في قوله (ما لا يَضُرُّهُ) إيماء إلى أنه تملص من الإسلام تجنبا للضر لتوهمه أن ما لحقه من الضر بسبب الإسلام وبسبب غضب الأصنام عليه ، فعاد إلى عبادة الأصنام حاسبا أنها لا تضره. وفي هذا الإيماء تهكم به يظهر بتعقيبه بقوله تعالى : (وَما لا يَنْفَعُهُ) أي فهو مخطئ في دعائه الأصنام لتزيل عنه الضر فينتفع بفعلها.

والمعنى : أنها لا تفعل ما يجلب ضرّا ولا ما يجلب نفعا.

والإشارة في قوله (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ) إلى الدعاء المستفاد من (يَدْعُوا).

والقول في اسم الإشارة وضمير الفصل والقصر مثل ما تقدّم في قوله (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج : ١١].

والبعيد : المتجاوز الحد المعروف في مدى الضلال ، أي هو الضلال الذي لا يماثله ضلال لأنه يعبد ما لاغناء له.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

١٥٦

جملة في موضع حال ثانية ، ومضمونها ارتقاء في تضليل عابدي الأصنام. فبعد أن بيّن لهم أنهم يعبدون ما لا غناء لهم فيه زاد فبين أنهم يعبدون ما فيه ضر. فموضع الارتقاء هو مضمون جملة (ما لا يَضُرُّهُ) [الحج : ١٢] كأنه قيل : ما لا يضره بل ما ينجر له منه ضرّ. وذلك أن عبادة الأصنام تضرّه في الدنيا بالتوجه عند الاضطرار إليها فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل وتضره في الآخرة بالإلقاء في النار.

ولما كان الضر الحاصل من الأصنام ليس ضرا ناشئا عن فعلها بل هو ضر ملابس لها أثبت الضر بطريق الإضافة للضمير دون طريق الإسناد إذ قال تعالى : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ولم يقل : لمن يضر ولا ينفع ، لأن الإضافة أوسع من الإسناد فلم يحصل تناف بين قوله (ما لا يَضُرُّهُ) [الحج : ١٢] وقوله (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ).

وكونه أقرب من النفع كناية عن تمحّضه للضرّ وانتفاء النفع منه لأن الشيء الأقرب حاصل قبل البعيد فيقتضي أن لا يحصل معه إلّا الضر.

واللام في قوله (لَمَنْ) لام الابتداء ، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها ، فلام الابتداء تفيد مفاد (إنّ) من التأكيد.

وقدمت من تأخير إذ حقها أن تدخل على صلة (من الموصولة. والأصل : يدعو من لضره أقرب من نفعه).

ويجوز أن تعتبر اللام داخلة على (من) الموصولة ويكون فعل (يَدْعُوا) معلقا عن العمل لدخول لام الابتداء بناء على الحق من عدم اختصاص التعليق بأفعال القلوب.

وجملة (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) إنشاء ذم للأصنام التي يدعونها بأنها شر الموالي وشر العشراء لأن شأن المولى جلب النفع لمولاه ، وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا تخلف ذلك منهما نادرا كان مذمة وغضاضة ، فأما أن يكون ذلك منه مطردا فذلك شر الموالي.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

هذا مقابل قوله (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٩] وقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١]. فالجملة معترضة ، وقد اقتصر على ذكر ما للمؤمنين من ثواب

١٥٧

الآخرة دون ذكر حالهم في الدنيا لعدم أهمية ذلك لديهم ولا في نظر الدين.

وجملة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) تذييل للكلام المتقدم من قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج : ٨] إلى هنا ، وهو اعتراض بين الجمل الملتئم منها الغرض. وفيها معنى التعليل الإجمالي لاختلاف أحوال الناس في الدنيا والآخرة.

وفعل الله ما يريد هو إيجاد أسباب أفعال العباد في سنة نظام هذا العالم ، وتبيينه الخير والشرّ ، وترتيبه الثواب والعقاب ، وذلك لا يحيط بتفاصيله إلا الله تعالى.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥))

موقع هذه الآية غامض ، ومفادها كذلك. ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالا.

فيحتمل أن يكون موقعها استئنافا ابتدائيا أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج : ٨] الآية ، وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١]. وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطئوا نصر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجّلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون.

ويحتمل أن يكون موقعها تذييلا لقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] الآية بعد أن اعترض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد : أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١] هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام.

فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء ، وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل (لَنْ يَنْصُرَهُ) بالمجرور بقوله (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١]. فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده ، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم ، وهؤلاء مشركون مترددون.

ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام ، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله

١٥٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ) [الحج : ١١] ولم تورد فيه جملة (وَمِنَ النَّاسِ) كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق. فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله (مَنْ كانَ يَظُنُ) إلخ إظهارا في مقام الإضمار ؛ فإن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ذلك الفريق فيقال بعد قوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [الحج : ١٤] ، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) إلخ ... عائدا الضمير المستتر في قوله (فَلْيَمْدُدْ) على (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١].

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين ، أحدهما : بعد معاد الضمير ، وثانيهما : التنبيه على أنّ عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين.

وضمير النصب في (يَنْصُرَهُ) عائد إلى (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] على كلا الاحتمالين.

واسم (السَّماءِ) مراد به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضا أخذا بما رواه القرطبي عن ابن زيد (يعني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) أنه قال في قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) قال : هي السماء المعروفة ، يعني المظلة. فالمعنى : فلينط حبلا بالسماء مربوطا به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئا من إزالة غيظه.

ومفعول (لْيَقْطَعْ) محذوف لدلالة المقام عليه. والتقدير : ثم ليقطعه ، أي ليقطع السبب.

والأمر في قوله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) للتعجيز ، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرط لا يقع كقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣].

وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نسجت على إيجاز بديع ، شبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارهم الإسلام على حنق ، أو حالة تردّدهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم : عليكم أن تفعلوا ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سبل الانفراج ، فامددوا حبلا بأقصى ما يمدّ إليه حبل ، وتعلّقوا به في أعلى مكان ثم قطعوه تخرّوا إلى الأرض ، وذلك تهكم بهم

١٥٩

في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم ، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة.

ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطئوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضرّ الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم ، ولعلّ هؤلاء من المنافقين.

فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف ، والمناسبة ظاهرة.

ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير (يَنْصُرَهُ اللهُ) عائدا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا مروي عن ابن عباس واختاره الفرّاء والزجاج.

ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريضا بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط. قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ٢٣ ـ ٢٤] الآية.

والسبب : الحبل. وتقدم في قوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) في [سورة البقرة : ١٦٦].

والقطع : قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس.

و (ما) مصدرية ، أي غيظه.

والاستفهام ب (هَلْ) إنكاري ، وهو معلق فعل (فَلْيَنْظُرْ) عن العمل ، والنظر قلبي ، وسمي الفعل كيدا لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه.

وقرأ الجمهور (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ـ بسكون لام ـ ليقطع وهو لام الأمر. فإذا كان في أول الكلمة كان مكسورا ، وإذا وقع بعد عاطف غير (ثمّ) كان ساكنا مثل (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) [آل عمران : ١٠٤]. فإذا وقع بعد (ثم) جاز فيه الوجهان. وقرأه ابن عامر ، وأبو عمرو وورش عن نافع ، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب ـ بكسر اللام ـ.

١٦٠