تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

وعطفت هذه الجملة على جميع ما تقدم من ذكر الأنبياء الذين أوتوا حكما وعلما وذكر ما أوتوه من الكرامات ، فجاءت هذه الآية مشتملة على وصف جامع لبعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومزيتها على سائر الشرائع مزية تناسب عمومها ودوامها ، وذلك كونها رحمة للعالمين ، فهذه الجملة عطف على جملة (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٩١] ختاما لمناقب الأنبياء ، وما بينهما اعتراض واستطراد.

ولهذه الجملة اتصال بآية (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣].

ووزانها في وصف شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزان آية : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨] وآية : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] والآيات التي بعدهما في وصف ما أوتيه الرسل السابقون.

وصيغت بأبلغ نظم إذ اشتملت هاته الآية بوجازة ألفاظها على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام ومدح مرسله تعالى ، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله تعالى للناس كافة وبأنها رحمة الله تعالى بخلقه.

فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به ، ذكر فيه الرسول ، ومرسله ، والمرسل إليهم ، والرسالة ، وأوصاف هؤلاء الأربعة ، مع إفادة عموم الأحوال ، واستغراق المرسل إليهم ، وخصوصية الحصر ، وتنكير (رَحْمَةً) للتعظيم ، إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل : إلا لنرحم العالمين ، أو إلا أنك الرحمة للعالمين. وليس التنكير للإفراد قطعا لظهور أنّ المراد جنس الرحمة وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصيا ، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب ، وهي :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

إذ تلك الكلمة قصاراها كما قالوا : «أنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل» دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا غير. وهي غير خصوصية إنما هي وفرة معان. وليس تنكير «حبيب ومنزل» إلا للوحدة لأنه أراد فردا معيّنا من جنس الأحباب وفردا معينا من جنس المنازل ، وهما حبيبه صاحب ذلك المنزل ، ومنزله.

١٢١

واعلم أن انتصاب (رَحْمَةً) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها ، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله ، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله ، ويدلّ لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إنما أنا رحمة مهداة» (١).

وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين : الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.

فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلاميذه أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس : «زين الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق» اه. وذكره عنه عياض في «الشفاء». قلت : يعني أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه. قالت عائشة : «كان خلقه القرآن». ولهذا خصّ الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك في القرآن كله ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم ليّنا. وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شجّ وجهه يوم أحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال : «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة».

وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته ، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى (لِلْعالَمِينَ) متعلق بقوله (رَحْمَةً).

والتعريف في (لِلْعالَمِينَ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالم :

__________________

(١) رواه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب «ذخيرة الحفاظ» عن أبي هريرة يصفه بالضعف.

١٢٢

الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢]. فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة إمّا لأنها لا تتعلق بجميع أحوال المكلفين ، فالحنيفية شريعة إبراهيم عليه‌السلام كانت رحمة خاصة بحالة الشخص في نفسه وليس فيها تشريع عام ، وشريعة عيسى عليه‌السلام قريبة منها في ذلك ؛ وإما لأنها قد تشتمل في غير القليل من أحكامها على شدّة اقتضتها حكمة الله في سياسة الأمم المشروعة هي لها مثل شريعة التوراة فإنها أوسع الشرائع السالفة لتعلقها بأكثر أحوال الأفراد والجماعات ، وهي رحمة كما وصفها الله بذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٥٤] ، فإن كثيرا من عقوبات أمتها جعلت في فرض أعمال شاقة على الأمة بفروض شاقة مستمرة قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إلى آيات كثيرة.

لا جرم أن الله تعالى خصّ الشريعة الإسلامية بوصف الرحمة الكاملة. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى فيما حكاه خطابا منه لموسى عليه‌السلام : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) النبي الأمي [الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٧] الآية. ففي قوله تعالى : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.

وحكمة تمييز شريعة الإسلام بهذه المزية أن أحوال النفوس البشرية مضت عليها عصور وأطوار تهيأت بتطوراتها لأن تساس بالرحمة وأن تدفع عنها المشقة إلا بمقادير ضرورية لا تقام المصالح بدونها ، فما في الشرائع السالفة من اختلاط الرحمة بالشدة وما في شريعة الإسلام من تمحّض الرحمة لم يجر في زمن من الأزمان إلا على مقتضى الحكمة ، ولكن الله أسعد هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم.

١٢٣

فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحجّ : ٧٨] وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة».

وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.

وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم ، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.

هذا وإن أريد بالعالمين في قوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وقال تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل : ٥ ـ ٧].

وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله ، وعدّ فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغرو ونحوه.

ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ» عن أبي هريرة مرفوعا : «أن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل في بئر فملأ خفّه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له».

أما المؤذي والمضرّ من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم. وهي تفاصيل الأحكام من هذا القبيل كثرة لا يعوز الفقيه تتبعها.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨))

١٢٤

عقب الوصف الجامع لرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث ما لها من الأثر في أحوال البشر بوصف جامع لأصل الدعوة الإسلامية في ذاتها الواجب على كلّ متبع لها وهو الإيمان بوحدانية الله تعالى وإبطال إلهية ما سواه ، لنبذ الشرك المبثوث بين الأمم يومئذ. وللاهتمام بذلك صدرت جملته بالأمر بأن يقول لهم لاستصغاء أسماعهم.

وصيغت الجملة في صيغة حصر الوحي إليه في مضمونها لأن مضمونها هو أصل الشريعة الأعظم ، وكل ما تشتمل عليه الشريعة متفرع عليه ، فالدعوة إليه هي مقادة الاجتلاب إلى الشريعة كلّها ، إذ كان أصل الخلاف يومئذ بين الرسول ومعانديه هو قضية الوحدانية ولذلك قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

وما كان إنكارهم البعث إلا لأنهم لم يجدوه في دين شركهم إذ كان الذين وضعوا لهم الشرك لا يحدثونهم إلا عن حالهم في الدنيا فما كان تصلبهم في إنكار البعث إلا شعبة من شعب الشرك. فلا جرم كان الاهتمام بتقرير الوحدانية تضييقا لشقة الخلاف بين النبي وبين المشركين المعرضين الذين افتتحت السورة بوصف حالهم بقوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ١ ـ ٣].

وأفادت (إنما) المكسورة الهمزة وإتلاؤها بفعل (يُوحى) قصر الوحي إلى الرسول على مضمون جملة (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). وهو قصر صفة على موصوف. و (أنما) المفتوحة الهمزة هي أخت «إنما» المكسورة الهمزة في إفادة القصر لأن (أنما) المفتوحة مركبة من (أنّ) المفتوحة الهمزة و (ما) الكافّة. كما ركبت (إنّما) المكسورة من (إن) المكسورة الهمزة و (ما) الكافّة. وإذ كانت (أنّ) المفتوحة أخت (إن) المكسورة في إفادة التأكيد فكذلك كانت عند اتصالها ب (ما) الكافّة أختا لها في إفادة القصر. وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في سورة العقود [٩٢].

وإذ قد أتليت (أنما) المفتوحة بالاسم الجامع لحقيقة الإله ، وأخبر عنه بأنه إله واحد فقد أفادت أن صاحب هذه الحقيقة مستأثر بالوحدانية فلا يكون في هذه الحقيقة تعدد أفراد

فأفادت قصرا ثانيا ، وهو قصر موصوف على صفة.

والقصر الأول إضافي ، أي ما يوحى إلى في شأن الإله إلا أن الإله إله واحد. والقصر الثاني أيضا إضافي ، أي في شأن الإله من حيث الوحدانية. ولما كان القصر

١٢٥

الإضافي من شأنه ردّ اعتقاد المخاطب بجملة القصر لزم اعتبار ردّ اعتقاد المشركين بالقصرين.

فالقصر الأول لإبطال ما يلبسون به على الناس من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى التوحيد ثم يذكر الله والرحمن ، ويلبسون تارة بأنه ساحر لأنه يدعو إلى ما لا يعقل ، قال تعالى : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٤ ـ ٥] فيكون معنى الآية في معنى قوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥].

ثم إن كلا القصرين كان كلمة جامعة لدعوة الإسلام تقريبا لشقة الخلاف والتشعيب. وعلى جميع هذه الاعتبارات تفرع عليها جملة (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

والاستفهام حقيقي ، أي فهل تسلمون بعد هذا البيان. وهو مستعمل أيضا في معنى كنائي وهو التحريض على نبذ الإشراك وعلى الدخول في دعوة الإسلام.

واسم الفاعل مستعمل في الحال على أصله ، أي فهل أنتم مسلمون الآن استبطاء لتأخر إسلامهم. وصيغ ذلك في الجملة الاسمية الدالة على الثبات دون أن يقال : فهل تسلمون ، لإفادة أن المطلوب منهم إسلام ثابت. وكأنّ فيه تعريضا بهم بأنهم في ريب يترددون.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩))

أي فإن أعرضوا بعد هذا التبيين المفصّل والجامع فأبلغهم الإنذار بحلول ما توعّدهم الله به.

والإيذان : الإعلام ، وهو بوزن أفعل من أذن لكذا بمعنى سمع. واشتقاقه من اسم الأذن ، وهي جارحة السمع ، ثم استعمل بمعنى العلم بالسمع ثم شاع استعماله في العلم مطلقا.

وأما (آذن) فهو فعل متعد بالهمزة وكثر استعمال الصيغتين في معنى الإنذار وهو الإعلام المشوب بتحذير. فمن استعمال أذن قوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)

١٢٦

[البقرة : ٢٧٩] ، ومن استعمال (آذن) قول الحارث بن حلزة :

آذنتنا ببينها أسماء

وحذف مفعول (آذَنْتُكُمْ) الثاني لدلالة قوله تعالى (ما تُوعَدُونَ) عليه ، أو يقدر : آذنتكم ما يوحى إليّ لدلالة ما تقدم عليه. والأظهر تقدير ما يشمل المعنيين كقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) [هود : ٥٧].

وقوله تعالى : (عَلى سَواءٍ) (على) فيه للاستعلاء المجازي ، وهو قوة الملابسة وتمكّن الوصف من موصوفه.

و (سواء) اسم معناه مستو. والاستواء : المماثلة في شيء ويجمع على أسواء. وأصله مصدر ثم عومل معاملة الأسماء فجمعوه لذلك ، وحقّه أن لا يجمع فيجوز أن يكون (عَلى سَواءٍ) ظرفا مستقرا هو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى (آذَنْتُكُمْ) أي أنذرتكم مستوين في إعلامكم به لا يدعي أحد منكم أنه لم يبلغه الإنذار. وهذا إعذار لهم وتسجيل عليهم كقوله في خطبته «ألا هل بلّغت».

ويجوز أن يتعلق المجرور بفعل (آذَنْتُكُمْ) قال أبو مسلم : الإيذان على السواء : الدعاء إلى الحرب مجاهرة لقوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] انتهى. يريد أن هذا مثل بحال النذير بالحرب إذ لم يكن في القرآن النازل بمكة دعاء إلى حرب حقيقية. وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون (عَلى سَواءٍ) حالا من ضمير المتكلم.

وحذف متعلق (آذَنْتُكُمْ) لدلالة قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) عليه ، ولأن السياق يؤذن به لقوله قبله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) [الأنبياء : ٩٦] الآية. وتقدم عند قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) في [سورة الأنفال : ٥٨].

وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) يشمل كل ما يوعدونه من عقاب في الدنيا والآخرة إن عاشوا أو ماتوا.

و (إن) نافية وعلق فعل (أَدْرِي) عن العمل بسبب حرف الاستفهام وحذف العائد. وتقديره : ما توعدون به.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠))

جملة معترضة بين الجمل المتعاطفة. وضمير الغائب عائد إلى الله تعالى بقرينة

١٢٧

المقام. والمقصود من الجملة تعليل الإنذار بتحقيق حلول الوعيد بهم وتعليل عدم العلم بقربه أو بعده ؛ علل ذلك بأن الله تعالى يعلم جهرهم وسرّهم وهو الذي يؤاخذهم عليه وهو الذي يعلم متى يحلّ بهم عذابه.

وعائد الموصول في قوله تعالى : (ما تَكْتُمُونَ) ضمير محذوف.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١))

عطف على جملة (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٩]. والضمير الذي هو اسم (لعلّ) عائد إلى ما يدل عليه قوله تعالى : (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من أنه أمر منتظر الوقوع وأنه تأخر عن وجود موجبه ، والتقدير : لعل تأخيره فتنة لكم ، أو لعل تأخير ما توعدون فتنة لكم ، أي ما أدرى حكمة هذا التأخير فلعله فتنة لكم أرادها الله ليملي لكم إذ بتأخير الوعد يزدادون في التكذيب والتولّي وذلك فتنة.

والفتنة : اختلال الأحوال المفضي إلى ما فيه مضرة.

والمتاع : ما ينتفع به مدة قليلة ، كما تقدم في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) في [سورة آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

استئناف ابتدائي بعد ما مضى من وصف رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجمال أصلها وأمره بإنذارهم وتسجيل التبليغ. قصد من هذا الاستئناف التلويح إلى عاقبة أمر هذا الدين المرجوة المستقبلة لتكون قصة هذا الدين وصاحبه مستوفاة المبدأ والعاقبة على وزان ما ذكر قبلها من قصص الرسل السابقين من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] إلى هنا.

وفي أمر الله تعالى نبيئه عليه الصلاة والسلام بالالتجاء إليه والاستعانة به بعد ما قال له : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] رمز إلى أنهم متولّون لا محالة وأن الله سيحكم فيهم بجزاء جرمهم لأن الحكم بالحق لا يغادرهم ، وإن الله في إعانته لأن الله إذا لقن عباده دعاء فقد ضمن لهم إجابته كقوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ونحو ذلك ، وقد صدق الله وعده واستجاب لعبده فحكم في هؤلاء

١٢٨

المعاندين بالحق يوم بدر.

والمعنى : قل ذلك بمسمع منهم إظهارا لتحديه إياهم بأنه فوّض أمره إلى ربه ليحكم فيهم بالحق الذي هو خضد شوكتهم وإبطال دينهم ، لأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

الباء في قوله تعالى (بِالْحَقِ) للملابسة. وحذف المتعلّق الثاني لفعل (احْكُمْ) لتنبيههم إلى أن النبي على الحق فإنه ما سأل الحكم بالحق إلا لأنه يريده ، أي احكم لنا أو فيهم أو بيننا.

وقرأ الجمهور قل بصيغة الأمر. وقرأ حفص (قالَ) بصيغة الماضي مثل قوله تعالى : قل ربي يعلم القول [الأنبياء : ٤] في أول هذه السورة. ولم يكتب في المصحف الكوفي بإثبات الألف. على أنه حكاية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (رَبِ) منادى مضاف حذفت منه ياء المتكلم المضاف هو إليها وبقيت الكسرة دليلا على الياء.

وقرأ الجمهور ـ بكسر الباء ـ من (رَبِ). وقرأه أبو جعفر ـ بضم الباء ـ وهو وجه عربيّ في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم كأنهم جعلوه بمنزلة الترخيم وهو جائز إذا أمن اللبس.

وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله تعالى (وَرَبُّنَا) لتضمنها تعظيما لشأن المسلمين بالاعتزاز بأن الله ربّهم.

وضمير المتكلم المشارك للنبي ومن معه من المسلمين. وفيه تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا من مربوبية الله في شيء حسب إعراضهم عن عبادته إلى عبادة الأصنام كقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

والرحمن عطف بيان من (رَبُّنَا) لأن المراد به هنا الاسم لا الوصف تورّكا على المشركين ، لأنهم أنكروا اسم الرحمن (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠].

وتعريف (الْمُسْتَعانُ) لإفادة القصر ، أي لا أستعين بغيره على ما تصفون ، إذ لا ينصرنا غير ربنا وهو ناظر إلى قوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

١٢٩

وفي قوله تعالى : (عَلى ما تَصِفُونَ) مضاف محذوف هو مجرور (على) ، أي على إبطال ما تصفون بإظهار بطلانكم للناس حتى يؤمنوا ولا يتبعوكم ، أو على إبطال ما يترتب عليه من أذاهم له وللمؤمنين وتأليب العرب عليه.

ومعنى (ما تَصِفُونَ) وما تصدر به أقوالكم من الأذى لنا. فالوصف هنا هو الأقوال الدالة عن الأوصاف ، وقد تقدم في سورة يوسف. وهم وصفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفات ذم كقولهم : مجنون وساحر ، ووصفوا القرآن بأنه شعر وأساطير الأولين ، وشهروا ذلك في دهمائهم لتأليب الناس عليه.

١٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٢ ـ سورة الحج

سميت هذه السورة سورة الحجّ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : «قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : نعم». وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصّل ، وفي سورة الحجّ سجدتان. وليس لهذه السورة اسم غير هذا.

ووجه تسميتها سورة الحجّ أنّ الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه‌السلام بالدعوة إلى حجّ البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحجّ على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحجّ بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران.

واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية ، أو كثير منها مكي وكثير منها مدني.

فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله (هذانِ خَصْمانِ) إلى (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ١٩ ـ ٢٢]. قال ابن عطيّة : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.

وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ولا نبيء إلى قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [الحج : ٥٢ ـ ٥٥] فهن مكيات.

١٣١

وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية. ورواه العوفي عن ابن عباس.

وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكيّ وبعضها مدنيّ وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكيّ بعينه ، والمدنيّ بعينه. قال ابن عطيّة : وهو الأصح.

وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكيّ وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكيّ منها وما هو مدنيّ ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. قال ابن عطية : روي عن أنس بن مالك أنه قال : «نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس» وساق الحديث الذي سيأتي. يريد ابن عطيّة أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة.

ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [الحج : ١] جار على سنن فواتح السور المكيّة. وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة. ومع هذا فليس الافتتاح ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بمعيّن أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يراد به المشركون. ولذا فيجوز أن يوجّه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فإن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الحج : ٢٥] يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صدّ المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة. وكذلك قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] فإنه صريح في أنه نزل في شأن الهجرة.

روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيئهم ليهلكن فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٣٩ ـ ٤٠] ، وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) [الحج : ٥٨] ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك.

وأحسب أنه لم تتعيّن طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة. ولعلّ ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل ذلك كثير.

١٣٢

وقد قيل في قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] إنه نزل في وقعة بدر ، لما في «الصحيح» عن علي وأبي ذرّ : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذرّ يقسم على ذلك.

ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة.

وروى الترمذي وحسّنه وصححه عن ابن أبي عمر ، عن سفيان عن ابن جدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ١ ـ ٢] ، قال : أنزلت عليه هذه وهو في سفر؟ فقال : «أتدرون ...» وساق حديثا طويلا. فاقتضى قوله : أنزلت عليه وهو في سفر؟ أن هذه السورة أنزلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.

وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غروة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس ، فالظاهر من قوله «أنزلت وهو في سفر» أنّ عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلّا عام خيبر وهو عام سبعة ، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة «أنزلت عليه وهو في سفر» في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما روى الترمذي وحسّنه وصححه أيضا عن محمد بن بشار ، عن يحيي بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) إلى قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ١ ـ ٢] إلى آخره. فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن ، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة : ليس بالقوي. وقال فيه ابن خزيمة : سيّئ الحفظ ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة. وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال : أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر ، ولم يسنده ابن عطية.

وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال : سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا

١٣٣

ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها.

وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين. وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأنّ سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها.

وعدّت آياتها عند أهل المدينة ومكة : سبعا وسبعين. وعدها أهل الشام : أربعا وسبعين. وعدها أهل البصرة : خمسا وسبعين. وعدها أهل الكوفة : ثمانا وسبعين.

ومن أغراض هذه السورة :

ـ خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله.

ـ والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتّباعا لوساوس الشياطين ، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي الآخرة.

ـ وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس.

ـ وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلّة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطوارا.

ـ وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات ، فالله هو القادر على كل ذلك ، فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.

ـ وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبّر عن الامتثال لقول الرسول عليه الصلاة والسلام.

ـ ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام.

ـ والتعريض بالمشركين بتكبّرهم عن سنّة إبراهيم عليه‌السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدّين.

ـ وتذكير لهم بما منّ الله عليهم في مشروعية الحجّ من المنافع فكفروا نعمته.

١٣٤

ـ وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب.

ـ وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرّهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا ، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.

ـ وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة.

ـ وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال.

ـ وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه.

ـ وسلّى الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكنّ الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن.

ـ وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر ، ووصف الكفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به ، والثناء على المؤمنين وأن الله يسّر لهم اتّباع الحنيفية وسمّاهم المسلمين.

ـ والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم.

ـ وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يوم نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة ، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته ، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله ، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به ، ليستبدلوا ذلك بضده.

١٣٥

وأول فريق من الناس دخولا في خطاب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم. وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.

وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يتّقى لعظمته بالخالقية ، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.

وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد.

وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأن لها مناسب للمقام. وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص ، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.

وجملة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاب لا تردد للسامع فيه.

والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثرا في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج : ٢].

والزلزلة حقيقتها : تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض. وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.

والساعة : علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي ، قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) إلى قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ١ ـ ٦].

وإضافة (زَلْزَلَةَ) إلى (السَّاعَةِ) على معنى (في) ، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.

فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر. والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة ، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى

١٣٦

الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] الآية.

ويجوز أن تكون الزلزلة مجازا عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة ، قال تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤]. وفي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب : «اللهم اهزمهم وزلزلهم».

والإتيان بلفظ (شَيْءٌ) للتهويل بتوغله في التنكير ، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلّا بأنها شيء عظيم ، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة (شَيْءٌ) وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) في [سورة البقرة : ٢٢٩].

والعظيم : الضخم ، وهو هنا استعارة للقوي الشديد ، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

جملة (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ) إلخ ... بيان لجملة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئا عظيما وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.

ويتعلق (يَوْمَ تَرَوْنَها) بفعل (تَذْهَلُ). وتقديمه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة : تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم ترون زلزلة الساعة. فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رؤية تلك الزلزلة بالإمكان.

وضمير النصب في (تَرَوْنَها) يجوز أن يعود على (زَلْزَلَةَ) [الحج : ١] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة.

ورؤيتها : رؤية ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه

١٣٧

ومشاهدة أهوال العذاب. وقرينة ذلك قوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) إلخ.

والذهول : نسيان ما من شأنه أن لا ينسى لوجود مقتضى تذكره ؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه ، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل. قاله شيخنا الجدّ الوزير قال : وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب ، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره. وكلّ ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية.

والتحقت هاء التأنيث بوصف (مُرْضِعَةٍ) للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل ، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع ، كما يقال : هي ترضع. ولو لا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال : كلّ مرضع ، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته «الكافية» بقوله :

وما من الصفات بالأنثى يخص

عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نص

وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد

كذي غدت مرضعة طفلا ولد

والمراد : أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد ، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعا ، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن علقه على طريقة الكناية.

وزيادة كلمة (كلّ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها. ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة. وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه ، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها ، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة. وهذا من بديع الكناية

١٣٨

عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأولى ، فهو لزوم بدرجة ثانية ، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء.

و (ما) في (عَمَّا أَرْضَعَتْ) موصولة ما صدقها الطفل الرضيع. والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، وحذف مثله كثير.

والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول.

وقوله (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) هو كناية أيضا كقوله (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ). ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين.

والحمل : مصدر بمعنى المفعول ، بقرينة تعلقه بفعل (تَضَعُ) أي تضع جنينها.

والتعبير ب (ذاتِ حَمْلٍ) دون التعبير : بحامل ، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر. فلا يقال : امرأة حامل ، بل يقال : ذات حمل قال تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع.

والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ).

والخطاب في (تَرَى النَّاسَ) لغير معيّن ، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس ، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله (يَوْمَ تَرَوْنَها) ، وإنما أوثر الإفراد هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع. وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله (وَتَرَى) لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] وقوله (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].

وقرأ الجمهور (سُكارى) ـ بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف ـ. ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ. وقوله بعده (وَما هُمْ بِسُكارى) قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

وقرأه حمزة والكسائي (سُكارى) بوزن عطشى في الموضعين. وسكارى وسكرى

١٣٩

جمع سكران. وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر ، وقياس جمعه سكارى. وأما سكرى فهو محمول على نوكى لما في السكر من اضطراب العقل. وله نظير وهو جمع كسلان على كسالى وكسلى.

وجملة (وَما هُمْ بِسُكارى) في موضع الحال من الناس.

و (عَذابَ اللهِ) صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجع ، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبن ملائكة العذاب.

وجملة (وَما هُمْ بِسُكارى) في موضع الحال من (النَّاسَ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣))

عطف على جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) [الحج : ١] ، أي الناس فريقان : فريق يمتثل الأمر فيتقي الله ويخشى عذابه ، وفريق يعرض عن ذلك ويعارضه بالجدل الباطل في شأن الله تعالى من وحدانيته وصفاته ورسالته. وهذا الفريق هم أئمة الشرك وزعماء الكفر لأنهم الذين يتصدّون للمجادلة بما لهم من أغاليط وسفسطة وما لهم من فصاحة وتمويه.

والاقتصار على ذكرهم إيماء إلى أنهم لو لا تضليلهم قومهم وصدهم إياهم عن متابعة الدين لاتّبع عامة المشركين الإسلام لظهور حجته وقبولها في الفطرة.

وقيل : أريد ب (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) النضر بن الحارث أو غيره كما سيأتي ، فتكون (من) الموصولة صادقة على متعدد عامة لكل من تصدق عليه الصلة.

والمجادلة : المخاصمة والمحاجّة. والظرفية مجازية ، أي يجادل جدلا واقعا في شأن الله. ووصف الجدل بأنه بغير علم ، أي جدلا ملتبسا بمغايرة العلم ، وغير العلم هو الجهل ، أي جدلا ناشئا عن سوء نظر وسوء تفكير فلا يعلم ما تقتضيه الألوهية من الصفات كالوحدانية والعلم وفعل ما يشاء.

واتباع الشيطان : الانقياد إلى وسوسته التي يجدها في نفسه والتي تلقاها بمعتاده والعمل بذلك دون تردد ولا عرض على نظر واستدلال.

وكلمة (كل) في قوله (كُلَّ شَيْطانٍ) مستعملة في معنى الكثرة. كما سيأتي قريبا عند قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) [الحج : ٢٧] في هذه السورة. وتقدم في تفسير قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) في [سورة البقرة : ١٤٥].

١٤٠