تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦١

مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩].

والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل : إن الملك نفخ مما هو له كالفم.

والظرفية المفادة ب (في) كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل (فِيها) ولم يقل (فيه) للإشارة إلى أن الحمل الذي كوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.

والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، أي جعلت في آدم روحا فصار حيا. وحرف (من) تبعيضي ، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.

وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.

وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [سورة المؤمنين : ٥٠] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ١ ـ ٢].

وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

(إِنَ) مكسورة الهمزة عند جميع القراء ، فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع (أُمَّتُكُمْ). والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.

١٠١

والخطاب للأنبياء المذكورين في الآيات السابقة. والوجه حينئذ أن يكون القول المحذوف مصوغا في صيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. والتقدير : قائلين لهم إن هذه أمتكم إلى آخره. والمقول محكي بالمعنى ، أي قائلين لكلّ واحد من رسلنا وأنبيائنا المذكورين ما تضمنته جملة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ).

فصيغة الجمع مراد بها التوزيع ، وهي طريقة شائعة في الإخبار عن الجماعات. ومنه قولهم : ركب القوم دوابهم ، فتكون هذه الآية جارية على أسلوب نظيرها في سورة المؤمنين. وفيه ما يزيد هذه توضيحا فإنه ورد هنالك ذكر عدة من الأنبياء تفصيلا وإجمالا ، كما ذكروا في هذه السورة. ثم عقب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون : ٥١] وأنّ ـ بفتح الهمزة وبكسرها ـ (هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢] ، فظاهر العطف يقتضي دخول قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) في الكلام المخاطب به الرسل ، والتأكيد عن هذا الوجه لمجرد الاهتمام بالخبر ليتلقاه الأنبياء بقوة عزم ، أو روعي فيه حال الأمم الذين يبلغهم ذلك لأن الإخبار باتحاد الحال المختلفة غريب قد يثير تردّدا في المراد منه فقد يحمل على المجاز فأكد برفع ذلك. وهو وإن كان خطابا للرسل فإن مما يقصد منه تبليغ ذلك لأتباعهم ليعلموا أن دين الله واحد ، وذلك عون على قبول كل أمة لما جاء به رسولها لأنه معضود بشهادة من قبله من الرسل.

ويجوز أن تكون الجملة استئنافا والخطاب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أن هذه الملة ، وهي الإسلام ، هي ملة واحدة لسائر الرسل ، أي أصولها واحدة كقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] الآية. والتأكيد على هذا لردّ إنكار من ينكر ذلك مثل المشركين.

والإشارة بقوله تعالى : (هذِهِ) إلى ما يفسره الخبر في قوله تعالى : (أُمَّتُكُمْ) كقوله تعالى : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨]. فالإشارة إلى الحالة التي هم عليها يعني في أمور الدين كما هو شأن حال الأنبياء والرسل. فما أفادته الإشارة من التمييز للمشار إليه مقصود منه جميع ما عليه الرسل من أصول الشرائع وهو التوحيد والعمل الصالح.

والأمة هنا بمعنى الملة كقوله تعالى : (قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢] ، وقال النابغة :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

١٠٢

وأصل الأمة : الجماعة التي حالها واحد ، فأطلقت على ما تكون عليه الجماعة من الدين بقرينة أن الأمم ليست واحدة.

و (أُمَّةً واحِدَةً) حال من (أُمَّتُكُمْ) مؤكدة لما أفادته الإشارة التي هي العامل في صاحب الحال. وأفادت التمييز والتشخيص لحال الشرائع التي عليها الرسل أو التي دعا إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى كونها واحدة أنها توحّد الله تعالى فليس دونه إله. وهذا حال شرائع التوحيد وبخلافها أديان الشرك فإنها لتعدد آلهتها تتشعب إلى عدة أديان لأن لكل صنم عبادة وأتباعا وإن كان يجمعها وصف الشرك فذلك جنس عام وقد أومأ إلى هذا قوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ) ، أي لا غيري. وسيأتي بسط القول في عربية هذا التركيب في تفسير سورة المؤمنين.

وأفاد قوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ) الحصر ، أي أنا لا غيري بقرينة السياق والعطف على (أُمَّةً واحِدَةً) ، إذ المعنى : وأنا ربكم ربا واحدا ، ولذلك فرع عليه الأمر بعبادته ، أي فاعبدون دون غيري. وهذا الأمر مراعى فيه ابتداء حال السامعين من أمم الرسل ، فالمراد من العبادة التوحيد بالعبادة والمحافظة عليها.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

عطف على جملة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] أي أعرضوا عن قولنا. و (تَقَطَّعُوا) وضمائر الغيبة عائدة إلى مفهوم من المقام وهم الذين من الشأن التحدّث عنهم في القرآن المكي بمثل هذه المذام ، وهم المشركون. ومثل هذه الضمائر المراد منها المشركون كثير في القرآن. ويجوز أن تكون الضمائر عائدة إلى أمم الرسل. فعلى الوجه الأول الذي قدمناه في ضمائر الخطاب في قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢] يكون الكلام انتقالا من الحكاية عن الرسل إلى الحكاية عن حال أممهم في حياتهم أو الذين جاءوا بعدهم مثل اليهود والنصارى إذ نقضوا وصايا أنبيائهم. وعلى الوجه الثاني تكون ضمائر الغيبة التفاتا.

ثم يجوز أن تكون الواو عاطفة قصة على قصة لمناسبة واضحة كما عطف نظيرها بالفاء في سورة المؤمنين. ويجوز كونها للحال ، أي أمرنا الرسل بملة الإسلام ، وهي الملة الواحدة ، فكان من ضلال المشركين أن تقطعوا أمرهم وخالفوا الرسل وعدلوا عن دين

١٠٣

التوحيد وهو شريعة إبراهيم أصلهم. ويؤيد هذا الوجه أن نظير هذه الآية في سورة المؤمنين جاء فيه العطف بفاء التفريع.

والتقطع : مطاوع قطّع ، أي تفرقوا. وأسند التقطع إليهم لأنهم جعلوا أنفسهم فرقا فعبدوا آلهة متعددة واتخذت كل قبيلة لنفسها إلها من الأصنام مع الله ، فشبه فعلهم ذلك بالتقطع.

وفي «جمهرة الأنساب» لابن حزم : «كان الحصين بن عبيد الخزاعي ، وهو والد عمران بن حصين لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله : يا حصين ما تعبد؟ قال : عشرة آلهة ، قال : ما هم وأين هم؟ قال : تسعة في الأرض وواحد في السماء. قال : فمن لحاجتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لطلبتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فمن لكذا؟ فمن لكذا؟ كلّ ذلك يقول : الذي في السماء ، قال رسول الله : فالغ التسعة». وفي كتاب الدعوات : من «سنن الترمذي» : «أنه قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء».

والأمر : الحال. والمراد به الدين كما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) في [سورة الأنعام : ١٥٩].

ولمّا ضمن (تَقَطَّعُوا) معنى توزّعوا عدّي إلى «دينهم» فنصبه ، والأصل : تقطعوا في دينهم وتوزعوه.

وزيادة (بَيْنَهُمْ) لإفادة إنهم تعاونوا وتظاهروا على تقطّع أمرهم. فربّ قبيلة اتخذت صنما لم تكن تعبده قبيلة أخرى ثم سوّلوا لجيرتهم وأحلافهم أن يعبدوه فألحقوه بآلهتهم. وهكذا حتى كان في الكعبة عدة أصنام وتماثيل لأن الكعبة مقصودة لجميع قبائل العرب. وقد روي أن عمرو بن لحي الملقب بخزاعة هو الذي نقل الأصنام إلى العرب.

وجملة (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يجيش في نفس سامع قوله تعالى (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) وهو معرفة عاقبة هذا التقطع.

وتنوين (كُلٌ) عوض عن المضاف إليه ، أي كلّهم ، أي أصحاب ضمائر الغيبة وهم المشركون. والكلام يفيد تعريضا بالتهديد.

ودلّ على ذلك التفريع في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) [الأنبياء : ٩٤] إلى آخره.

١٠٤

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

فرّع على الوعيد المعرض به في قوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٤] تفريع بديع من بيان صفة ما توعدوا به ، وذلك من قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] الآيات.

وقدم وعد المؤمنين بجزاء أعمالهم الصالحة اهتماما به ، ولوقوعه عقب الوعيد تعجيلا لمسرة المؤمنين قبل أن يسمعوا قوارع تفصيل الوعيد ، فليس هو مقصودا من التفريع ، ولكنه يشبه الاستطراد تنويها بالمؤمنين كما سيعتنى بهم عقب تفصيل وعيد الكافرين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] إلى آخر السورة.

والكفران مصدر أصله عدم الاعتراف بالإحسان ، ضد الشكران. واستعمل هنا في حرمان الجزاء على العمل الصالح على طريقة المجاز لأن الاعتراف بالخير يستلزم الجزاء عليه عرفا كقوله تعالى : وما تفعلوا من خير فلن تكفروه [آل عمران : ١١٥] فالمعنى : أنهم يعطون جزاء أعمالهم الصالحة.

وأكد ذلك بقوله : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) مؤكدا بحرف التأكيد للاهتمام به.

والكتابة كناية عن تحققه وعدم إضاعته لأن الاعتناء بإيقاع الشيء يستلزم الحفظ عن إهماله وعن إنكاره ، ومن وسائل ذلك كتابته ليذكر ولو طالت المدة. وهذا لزوم عرفي. قال الحارث بن حلزة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

وذلك مع كون الكتابة مستعملة في معناها الأصلي كما جاءت بذلك الظواهر من الكتاب والسنة.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

جملة معترضة ، والمراد بالقرية أهلها. وهذا يعم كلّ قرية من قرى الكفر ، كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الكهف : ٥٩].

١٠٥

والحرام : الشيء الممنوع ، قال عنترة :

حرمت عليّ وليتها لم تحرم

أي : منعت أي منعها أهلها.

أي ممنوع على قرية قدّرنا إهلاكها أن لا يرجعوا ، ف (حَرامٌ) خبر مقدم و (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) في قوة مصدر مبتدأ. والخبر عن (أنّ) وصلتها لا يكون إلّا مقدّما ، كما ذكره ابن الحاجب في «أماليه» في ذكر هذه الآية.

وفعل (أَهْلَكْناها) مستعمل في إرادة وقوع الفعل ، أي أردنا إهلاكها.

والرجوع : العود إلى ما كان فيه المرء ؛ فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون (لا) في قوله تعالى : (لا يَرْجِعُونَ) زائدة للتوكيد ، لأن (حرام) في معنى النفي و (لا) نافية ونفي النفي إثبات ، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان ، فيؤول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان. وليس هذا بمراد فتعين أن المعنى : منع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها. وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان وتهديدهم بالهلاك. وهؤلاء هم الذين قدّر الله هلاكهم يوم بدر بسيوف المؤمنين.

ويجوز أن يراد رجوعهم إلى الآخرة بالبعث ، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٣] فتكون (لا) نافية. والمعنى : ممنوع عدم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه ، أي دعواهم باطلة ، أي فهم راجعون إلينا فمجازون على كفرهم ، فيكون إثباتا للبعث بنفي ضده ، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة. ويفيد تأكيدا لقوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٣].

وجملة (أَهْلَكْناها) إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة.

وفعل (أَهْلَكْناها) مستعمل في أصل معناه ، أي وقع إهلاكنا إياها. والمعنى : ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون إلينا بالبعث. وقيل (حَرامٌ) اسم مشترك بين الممنوع والواجب ، وأنشدوا قول الخنساء :

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على صخر

١٠٦

وفي كتاب «لسان العرب» «في حديث عمر : في الحرام كفارة يمين : هو أن يقول الرجل : حرام الله لا أفعل ، كما يقول : يمين الله لا أفعل ، وهي لغة العقيليين» اه. ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة (من كتب جامع الزيتونة عددها ٤٥٦١) : أن بني عقيل يقولون حرام الله لآتينك كما يقال يمين الله لآتينك انتهى. وهو يشرح كلام «لسان العرب» بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال «لسان العرب».

فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ويمين منا على قرية ، فحرف (على) داخل على المسلطة عليه اليمين ، كما تقول : عزمت عليك ، وكما يقال : حلفت على فلان أن لا ينطق. وكقول الراعي :

إني حلفت على يمين برّة

لا أكتم اليوم الخليفة قيلا

وفتح همزة «أنّ» في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم.

ومعنى (لا يَرْجِعُونَ) على هذا الوجه لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم.

وقرأ الجمهور (وَحَرامٌ) ـ بفتح الحاء وبألف بعد الراء ـ. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وحرم ـ بكسر الحاء وسكون الراء ـ ، وهو اسم بمعنى حرام.

والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين ، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف.

[٩٦ ـ ٩٧] (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

(حتى) ابتدائية. والجملة بعدها كلام مستأنف لا محل له من الإعراب ولكن (حتّى) تكسبه ارتباطا بالكلام الذي قبله. وظاهر كلام الزمخشري : أن معنى الغاية لا يفارق (حتّى) حين تكون للابتداء ، ولذلك عني هو ومن تبعه من المفسرين بتطلب المغيّا بها هاهنا فجعلها في «الكشاف» غاية لقوله (وَحَرامٌ) فقال : «(حتّى) متعلقة ب (حَرامٌ) وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة» اه. أي : فهو من تعليق الحكم على أمر لا يقع كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف: ٤٠] ، ويتركب على كلامه الوجهان اللذان تقدما في معنى الرجوع من قوله تعالى : (أَنَّهُمْ لا

١٠٧

يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] ، أي لا يرجعون عن كفرهم حتى ينقضي العالم ، أو انتفاء رجوعهم إلينا في اعتقادهم يزول عند انقضاء الدنيا. فيكون المقصود الإخبار عن دوام كفرهم على كلا الوجهين. وعلى هذا التفسير ففتح يأجوج وماجوج هو فتح السدّ الذي هو حائل بينهم وبين الانتشار في أنحاء الأرض بالفساد ، وهو المذكور في قصة ذي القرنين في سورة الكهف.

وتوقيت وعد الساعة بخروج يأجوج وماجوج أن خروجهم أول علامات اقتراب القيامة.

وقد عدّه المفسرون من الأشراط الصغرى لقيام الساعة.

وفسّر اقتراب الوعد باقتراب القيامة ، وسمّيت وعدا لأن البعث سمّاه الله وعدا في قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤].

وعلى هذا أيضا جعلوا ضمير (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) عائد إلى «يأجوج وماجوج» فالجملة حال من قوله (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

وبناء على هذا التفسير تكون هذه الآية وصفت انتشار يأجوج وماجوج وصفا بديعا قبل خروجهم بخمسة قرون فعددنا هذه الآية من معجزات القرآن العلمية والغيبية. ولعل تخصيص هذا الحادث بالتوقيت دون غيره من علامات قرب الساعة قصد منه مع التوقيت إدماج الإنذار للعرب المخاطبين ليكون ذلك نصب أعينهم تحذيرا لذرياتهم من كوارث ظهور هذين الفريقين فقد كان زوال ملك العرب العتيد وتدهور حضارتهم وقوتهم على أيدي يأجوج وماجوج وهم المغول والتتار كما بيّن ذلك الإنذار النبوي في ساعة من ساعات الوحي. فقد

روت زينب بنت جحش أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فزعا يقول : «لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا» وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها.

والاقتراب على هذا اقتراب نسبي على نسبة ما بقي من أجل الدنيا بما مضى منه كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١].

ويجوز أن يكون المراد بفتح يأجوج وماجوج تمثيل إخراج الأموات إلى الحشر ، فالفتح معنى الشق كقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] ، ويكون اسم يأجوج وماجوج تشبيها بليغا. وتخصيصهما بالذكر لشهرة كثرة

١٠٨

عددهما عند العرب من خبر ذي القرنين. ويدلّ لهذا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله لآدم (يوم القيامة) أخرج بعث النار ، فيقول : يا رب ، وما بعث النار (١)؟ فيقول الله : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون. قالوا : يا رسول الله وأيّنا ذلك الواحد (٢)؟ قال : أبشروا ، فإن منكم رجلا ومن يأجوج وماجوج تسعمائة وتسعة وتسعين».

أو يكون اسم يأجوج ومأجوج استعمل مثلا للكثرة كما في قول ذي الرمة :

لو أن يأجوج وماجوج معا

وعاد عاد واستجاشوا تبّعا

أي : حتى إذا أخرجت الأموات كيأجوج ومأجوج على نحو قوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧] ، فيكون تشبيها بليغا من تشبيه المعقول بالمعقول. ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، (جدث) بجيم ومثلثة ، أي من كل قبر في معنى قوله تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [الانفطار : ٤] فيكون ضميرا (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) عائدين إلى مفهوم من المقام دلّت عليه قرينة الرجوع من قوله تعالى: (لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] أي أهل كل قرية أهلكناها.

والاقتراب ، على هذا الوجه : القرب الشديد وهو المشارفة ، أي اقترب الوعد الذي وعده المشركون ، وهو العذاب بأن رأوا النار والحساب.

وعلامة التأنيث في فعل (فُتِحَتْ) لتأويل يأجوج وماجوج بالأمة. ثم يقدر المضاف وهو سدّ فيكتسب التأنيث من المضاف إليه.

ويأجوج وماجوج هم قبيلتان من أمة واحدة مثل طسم وجديس.

وإسناد فعل (فُتِحَتْ) إلى (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) بتقدير مضاف ، أي فتح ردمهما أو سدّهما. وفعل الفتح قرينة على المفعول.

وقرأ الجمهور (فُتِحَتْ) بتخفيف التاء الفوقية التي بعد الفاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بتشديدها.

وتقدم الكلام على يأجوج وماجوج في سورة الكهف.

__________________

(١) البعث مصدر بمعنى المفعول ، أي : المبعوثين إلى النار.

(٢) أي الذي بقي من الألف.

١٠٩

والحدب : النشز من الأرض ، وهو ما ارتفع منها.

و (يَنْسِلُونَ) يمشون النّسلان ـ بفتحتين ـ وفعله من باب ضرب ، وأصله : مشي الذئب. والمراد : المشي السريع. وإيثار التعبير به هنا من نكت القرآن الغيبية ، لأن يأجوج وماجوج لما انتشروا في الأرض انتشروا كالذئاب جياعا مفسدين.

هذا حاصل ما تفرق من كلام المفسرين وما فرضوه من الوجوه ، وهي تدور حول محور التزام أنّ (حتى) الابتدائية تفيد أن ما بعدها غاية لما قبلها مع تقدير مفعول (فُتِحَتْ) بأنه سدّ يأجوج وماجوج. ومع حمل يأجوج وماجوج على حقيقة مدلول الاسم ، وذلك ما زج بهم في مضيق تعاصى عليهم فيه تبيين انتظام الكلام فألجئوا إلى تعيين المغيّا وإلى تعيين غاية مناسبة له ولهاته المحامل كما علمت مما سبق.

ولا أرى متابعتهم في الأمور الثلاثة.

فأما دلالة (حتى) الابتدائية على معنى الغاية ، أي كون ما بعدها غاية لمضمون ما قبلها ، فلا أراه لازما. ولأمر ما فرق العرب بين استعمالها جارّة وعاطفة وبين استعمالها ابتدائية ، أليس قد صرح النحاة بأن الابتدائية يكون الكلام بعدها جملة مستأنفة تصريحا جرى مجرى الصواب على ألسنتهم فما رعوه حق رعايته فإن معنى الغاية في (حتى) الجارّة (وهي الأصل في استعمال هذا الحرف) ظاهر لأنها بمعنى (إلى). وفي (حتّى) العاطفة لأنها تفيد التشريك في الحكم وبين أن يكون المعطوف بها نهاية للمعطوف عليه في المعنى المراد.

فأما (حتى) الابتدائية فإن وجود معنى الغاية معها في مواقعها غير منضبط ولا مطرد ، ولما كان ما بعدها كلاما مستقلا تعيّن أن يكون وجودها بين الكلامين لمجرد الربط بين الكلامين فقد نقلت من معنى تنهية مدلول ما قبلها بما بعدها إلى الدلالة على تنهية المتكلم غرض كلامه بما يورده بعد (حتى) ولا يقصد تنهية مدلول ما قبل (حتى) بما عند حصول ما بعدها (الذي هو المعنى الأصل للغاية). وانظر إلى استعمال (حتى) في مواقع من معلقة لبيد (١).

__________________

(١) بيت : حتى إذا سلخا جمادي سنة ...

وبيت : حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ...

ومصراع : ... حتى إذا سخنت وخف عظامها.

١١٠

وفي قوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] فإن قول الرسول ليس غاية للزلزلة ولكنه ناشئ عنها ، وقد مثلت حالة الكافرين في ذلك الحين بأبلغ تمثيل وأشدّه وقعا في نفس السامع ، إذ جعلت مفرعة على فتح يأجوج وماجوج واقتراب الوعد الحقّ للإشارة إلى سرعة حصول تلك الحالة لهم ثم بتصدير الجملة بحرف المفاجأة والمجازاة الذي يفيد الحصول دفعة بلا تدرّج ولا مهلة ، ثم بالإتيان بضمير القصة ليحصل للسامع علم مجمل يفصله ما يفسّر ضمير القصة فقال تعالى: (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخره.

والشخوص : إحداد البصر دون تحرك كما يقع للمبهوت.

وجملة : (يا وَيْلَنا) مقول قول محذوف كما هو ظاهر ، أي يقولون حينئذ : يا ويلنا.

ودلت (في) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف ، أي كانت لنا غفلة عظيمة ، وهي غفلة الإعراض عن أدلة الجزاء والبعث.

و (يا وَيْلَنا) دعاء على أنفسهم من شدة ما لحقهم.

و (بَلْ) للإضراب الإبطالي ، أي ما كنا في غفلة لأننا قد دعينا وأنذرنا وإنما كنا ظالمين أنفسنا بمكابرتنا وإعراضنا.

والمشار إليه ب (هذا) هو مجموع تلك الأحوال من الحشر والحساب والجزاء.

[٩٨ ـ ١٠٠] (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

جملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) جواب عن قولهم (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [الأنبياء : ٩٧] إلى آخره. فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات. فالتقدير : يقال لهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم.

وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [الأنبياء : ٩٧] فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعزّ عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان ، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.

١١١

و (ما) موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل. وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجنّ والشياطين تغليبا ، على أن (ما) تستعمل فيما هو أعمّ من العاقل وغيره استعمالا كثيرا في كلام العرب.

وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلّت عليه الإشارة (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

والحصب : اسم بمعنى المحصوب به ، أي المرمي به. ومنه سميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها ، أي يرمون في جهنم ، كما قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] أي الكفار وأصنامهم.

وجملة (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) بيان لجملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). والمقصود منه : تقريب الحصب بهم في جهنم لما يدلّ عليه قوله (وارِدُونَ) من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.

وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها).

وذيل ذلك بقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي هم وأصنامهم.

والزفير : النفس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغمّ. وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام. وقرينة معاد الضمائر واضحة.

وعطف جملة (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) اقتضاه قوله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) لأن شأن الزفير أن يسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقدون السمع بهذه المناسبة.

فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.

وقد روى ابن إسحاق في «سيرته» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش ، فتلا رسول الله عليهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي (١) قبل أن يسلم فحدثه الوليد بن المغيرة

__________________

(١) بكسر الزاي وفتح الموحدة وسكون العين وفتح الراء مقصورا : السيّئ الخلق.

١١٢

بما جرى في ذلك المجلس فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فاسألوا محمدا أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبدوهم؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فحكي ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : إن كلّ من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشيطان الذي أمرهم بعبادتهم ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] ه.

وقريب من هذا في «أسباب النزول» للواحدي ، وفي «الكشاف» مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر هذا وزاد فقال : خصمت وربّ هذه البنيّة ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون ، وأن عيسى عبد صالح ، وأن عزيرا عبد صالح ، وهذه بنو مليح (١) يعبدون الملائكة ، وهذه النصارى يعبدون المسيح ، وهذه اليهود يعبدون عزيرا ، فضجّ أهل مكة (أي فرحا) وقالوا : إن محمدا قد خصم. ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن الزبعرى : ما أجهلك بلغة قومك إني قلت (وَما تَعْبُدُونَ) ، و (ما) لما لا يعقل ولم أقل «ومن تعبدون».

وإن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذارا للمشركين حتى يكون قوله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] تخصيصا لها ، أو تكون القصة سببا لنزوله.

[١٠١ ـ ١٠٣] (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

جملة (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعا إليه مقابلة حكاية حال الكافرين وما يقال لهم يوم القيامة بحكاية ما يلقاه الذين آمنوا يوم القيامة وما يقال لهم. فالذين سبقت لهم الحسنى هم الفريق المقابل لفريق القرية التي سبق في علم الله إهلاكها ، ولما كان فريق القرية هم المشركين فالفريق المقابل له هم المؤمنون. ولا علاقة لهذه الجملة بجملة (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ولا

__________________

(١) بضم الميم وفتح اللام : بطن من خزاعة.

١١٣

هي مخصصة لعموم قوله تعالى : (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بل قوله تعالى : و (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) عام يعم كل مؤمن مات على الإيمان والعمل الصالح.

والسبق ، حقيقته : تجاوز الغير في السير إلى مكان معين ، ومنه سباق الخيل ، واستعمل هنا مجازا في ثبوت الأمن في الماضي ، يقال كان هذا في العصور السابقة ، أي التي مضت أزمانها لما بين السبق وبين التقدم من الملازمة ، أي الذين حصلت لهم الحسنى في الدنيا ، أي حصل لهم الإيمان والعمل الصالح من الله ، أي بتوفيقه وتقديره ، كما حصل الإهلاك لأضدادهم بما قدر لهم من الخذلان.

والحسنى : الحالة الحسنة في الدين ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] أو الموعدة الحسنى ، أي تقرّر وعد الله إياهم بالمعاملة الحسنى. وتقدم في سورة يونس.

وذكر الموصول في تعريفهم لأن الموصول للإيماء إلى أن سبب فوزهم هو سبق تقدير الهداية لهم. وذكر اسم الإشارة بعد ذلك لتمييزهم بتلك الحالة الحسنة ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما تقدم على اسم الإشارة من الأوصاف ، وهو سبق الحسنى من الله.

واختير اسم إشارة البعيد للإيماء إلى رفعة منزلتهم ، والرفعة تشبه بالبعد.

وجملة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) بيان لمعنى مبعدون ، أي مبعدون عنها بعدا شديدا بحيث لا يلفحهم حرّها ولا يروعهم منظرها ولا يسمعون صوتها ، والصوت يبلغ إلى السمع من أبعد مما يبلغ منه المرئي.

والحسيس : الصوت الذي يبلغ الحس ، أي الصوت الذي يسمع من بعيد ، أي لا يقربون من النار ولا تبلغ أسماعهم أصواتها ، فهم سالمون من الفزع من أصواتها فلا يقرع أسماعهم ما يؤلمها.

وعقّب ذلك بما هو أخص من السلامة وهو النعيم الملائم. وجيء فيه بما يدل على العموم وهو (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) وما يدلّ على الدوام وهو (خالِدُونَ).

والشهوة : تشوق النفس إلى ما يلذّ لها.

وجملة (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ) خبر ثان عن الموصول.

١١٤

والفزع : نفرة النفس وانقباضها مما تتوقع أن يحصل لها من الألم وهو قريب من الجزع. والمراد به هنا فزع الحشر حين لا يعرف أحد ما سيئول إليه أمره ، فيكونون في أمن من ذلك بطمأنة الملائكة إياهم.

وذلك مفاد قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فهؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى هم المراد من الاستثناء في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل : ٨٧].

والتلقي : التعرض للشيء عند حلوله تعرض كرامة. والصيغة تشعر بتكلف لقائه وهو تكلف تهيؤ واستعداد.

وجملة (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) مقول لقول محذوف ، أي يقولون لهم : هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، تذكيرا لهم بما وعدوا في الدنيا من الثواب ، لئلا يحسبوا أن الموعود به يقع في يوم آخر. أي هذا يوم تعجيل وعدكم. والإشارة باسم إشارة القريب لتعيين اليوم وتمييزه بأنه اليوم الحاضر.

وإضافة (يوم) إلى ضمير المخاطبين لإفادة اختصاصه بهم وكون فائدتهم حاصلة فيه كقول جرير :

يا أيها الراكب المزجي مطيته

هذا زمانك إني قد خلا زمني

أي هذا الزمن المختص بك ، أي لتتصرف فيه.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانه إبطالا لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠].

والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) [الأنبياء : ١٠٠] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] الآية.

وقد رتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة. وأصل الجملة : نعيد

١١٥

الخلق كما بدأنا أول خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعدا علينا. فحوّل النظم فقدم الظرف بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلقه ، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء.

وقدم (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ) وهو حال من الضمير المنصوب في (نُعِيدُهُ) للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضل تمكّن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث ، فليس قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) متعلقا بما قبله من قوله تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء : ١٠٣].

وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعدا على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب ، فعدي بحرف (على) في قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا) أي حقا واجبا.

وجملة (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله.

والمراد بقوله (فاعِلِينَ) أنه الفاعل لما وعد به ، أي القادر. والمعنى : إنا كنا قادرين على ذلك.

وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

والطّيّ : ردّ بعض أجزاء الجسم الليّن المطوق على بعضه الآخر ، وضدّه النشر.

والسجل : بكسر السين وكسر الجيم هنا ، وفيه لغات. يطلق على الورقة التي يكتب فيها ، ويطلق على كاتب الصحيفة ، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف ، أي صاحب السجل ، وقيل سجل : اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها.

ولا يحسن حمله هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله للكتاب أو (لِلْكُتُبِ) ، ولا حمله على معنى الملك الموكل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهورا فكيف يشبه بفعله. فالوجه : أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ، وذلك عمل معروف. فالتشبيه بعمله رشيق.

١١٦

وقرأ الجمهور للكتاب بصيغة الإفراد ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف (لِلْكُتُبِ) ـ بضم الكاف وضم التاء ـ بصيغة الجمع. ولما كان تعريف السجل وتعريف الكتاب تعريف جنس استوى في المعرّف الإفراد والجمع. فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة ، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السجل مفردا ففيها حسن التفنن بالتضاد.

ورسمها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يحذف في مثله.

واللام في قوله للكتاب لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول طي.

ومعنى طي السماء تغيير أجرامها من موقع إلى موقع أو اقتراب بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليكتب الكاتب في إحدى صفحتيها ، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي ، وهو انقراض له أحوال كثيرة وصف بعضها في سور من القرآن.

وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها ، وفي [سورة الزمر : ٦٧] (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). ومسألة دثور السماوات (أي اضمحلالها) فرضها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر (انكسمائس) الملطي و (فيثاغورس) و (أفلاطون).

وقرأ الجمهور (نَطْوِي) بنون العظمة وكسر الواو ونصب (السَّماءَ). وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنيا للنائب وبرفع (السَّماءَ).

والبدء : الفعل الذي لم يسبق مماثله بالنسبة إلى فاعل أو إلى زمان أو نحو ذلك. وبدء الخلق كونه لم يكن قبل ، أي كما جعلنا خلقا مبدوءا غير مسبوق في نوعه.

وخلق : مصدر بمعنى المفعول.

ومعنى إعادة الخلق : إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي مثل سيرتها في جنسها ، أي في أنها عصا من العصيّ.

وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أن

١١٧

إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها. ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك. روى مسلم عن ابن عباس قال : «قام فينا رسول الله بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) الحديث. فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق. وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا.

وانتصب (وَعْداً) على أنه مفعول مطلق ل (نُعِيدُهُ) لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة. ويجوز كونه مفعولا مطلقا مؤكدا لمضمون جملة (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

[١٠٥ ، ١٠٦] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [سورة الزمر : ٧٣ ـ ٧٤] (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) إلى قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة. ولها ارتباط بقوله تعالى : ا فلا ترون (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الأنبياء : ٤٤].

وإن كان المراد أرضا من الدنيا ، أي مصيرها بيد عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى ، وهي أرض مكة وما حولها ، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح. وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين. وفي حديث أبي داود والترمذي عن ثوبان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».

١١٨

وقرأ الجمهور (فِي الزَّبُورِ) بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور ، أي المكتوب ، فعول بمعنى مفعول ، مثل : ناقة حلوب وركوب. وقرأ حمزة بصيغة الجمع زبور بوزن فعول جمع زبر ـ بكسر فسكون ـ أي مزبور ، فوزنه مثل قشر وقشور ، أي في الكتب.

فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داود قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في [سورة النساء : ١٦٣] وفي [سورة الإسراء : ٥٥] ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داود لأنه لم يذكر وعد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله. وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه‌السلام : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأعراف : ١٢٨] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل.

والزبور : كتاب داود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود. ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير. ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب (فويدو) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا : «صديقين يرشون أرص» بشين معجمة في «يرشون» وبصاد مهملة في «أرص» ، أي الصديقون يرثون الأرض. والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مثل هذا الوعد في القرآن في [سورة النور : ٥٥] في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لفرق من العباد الصالحين.

ومعنى (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة. فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وعدوا بميراث الأرض ، وقيل المراد ب (الذِّكْرِ) كتاب الشريعة وهو التوراة.

قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨] فيكون الظرف في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) مستقرّا في موضع الحال من الزبور. والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة. وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة: ٢١] ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من الملك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داود. فإن ملك داود أحد مظاهره. بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوما صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقهم الله وعده فملكوا الأرض

١١٩

ببركة رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم آنفا.

وجملة (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) تذييل للوعد وإعلان بأن قد آن أوانه وجاء إبانه. وفإن لم يأت بعد داود قوم مؤمنون ورثوا الأرض ، فلما جاء الإسلام وآمن الناس بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد بلغ البلاغ إليهم.

فالإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا) إلى الوعد الموعود في الزبور والمبلّغ في القرآن.

والمراد بالقوم العابدين من شأنهم العبادة لا ينحرفون عنها قيد أنملة كما أشعر بذلك جريان وصف العابدين على لفظ قوم المشعر بأن العبادة هي قوام قوميتهم كما قدمناه عند قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في آخر [سورة يونس : ١٠١]. فكأنه يقول : فقد أبلغتكم الوعد فاجتهدوا في نواله. والقوم العابدون هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموجودون يومئذ والذين جاءوا من بعدهم.

والعبادة : الوقوف عند حدود الشريعة. قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠]. وقد ورثوا هذا الميراث العظيم وتركوه للأمة بعدهم ، فهم فيه أطوار كشأن مختلف أحوال الرشد والسفه في التصرف في مواريث الأسلاف.

وما أشبه هذا الوعد المذكور هنا ونوطه بالعبادة بالوعد الذي وعدته هذه الأمة في القرآن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور : ٥٥ ـ ٥٦].

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

أقيمت هذه السورة على عماد إثبات الرسالة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديق دعوته. فافتتحت بإنذار المعاندين باقتراب حسابهم ووشك حلول وعد الله فيهم وإثبات رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لم يكن بدعا من الرسل ، وذكروا إجمالا ، ثم ذكرت طائفة منهم على التفصيل ، وتخلّل ذلك بمواعظ ودلائل.

١٢٠