تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

والضد : اسم مصدر ، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة. ومن الثاني تسمية العدو ضدّا. ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه.

[٨٣ ـ ٨٤] (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم وآحادهم ، وما جرّه إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] ، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا ، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. وهي معترضة بين جملة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) [مريم : ٨١] وجملة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) [مريم : ٨٥]. وأيضا هي كالتذييل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تستخلص أحوالهم ، وتتضمن تسلية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم.

والاستفهام في (أَلَمْ تَرَ) تعجيبي ، ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل. والمراد حصول ضده بحثّ المخاطب على الاهتمام بتحصيله ، أي كيف لم تر ذلك ، ونزّل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرثي المشاهد ، فوقع التعجيب من مرآه بقوله : ألم تر ذلك.

والأزّ : الهزّ والاستفزاز الباطني ، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها. شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون ، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح.

وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النّبوي المنقد من حبائلها ، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي. وللإشارة إلى هذا المعنى عدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله (عَلَى الْكافِرِينَ). وجعل (تَؤُزُّهُمْ) حالا مقيّدا للإرسال لأنّ الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوّة الإيمان وصلاح العمل ، قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢].

وفرع على هذا الاستئناف وهذه التسلية قوله : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) أي فلا تستعجل

٨١

العذاب لهم إنما نعدّ لهم عدّا ، وعبر ب (تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) معدى بحرف الاستعلاء إكراما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن نزل منزلة الذي هلاكهم بيده. فنهى عن تعجيله بهلاكهم. وذلك إشارة إلى قبول دعائه عند ربّه ، فلو دعا عليهم بالهلاك لأهلكهم الله كيلا يردّ دعوة نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه يقال : عجل على فلان بكذا ، أي أسرع بتسليطه عليه ، كما يقال : عجل إليه إذا أسرع بالذهاب إليه كقوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤] ، فاختلاف حروف تعدية فعل عجل ينبئ عن اختلاف المعنى المقصود بالتعجيل.

ولعل سبب الاختلاف بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) في سورة الأحقاف [٣٥] أنّ المراد هنا استعجال الاستئصال والإهلاك وهو مقدّر كونه على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك قيل هنا : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) ، أي انتظر يومهم الموعود ، وهو يوم بدر ، ولذلك عقب بقوله : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) ، أي ننظرهم ونؤجلهم ، وأنّ العذاب المقصود في سورة الأحقاف هو عذاب الآخرة لوقوعه في خلال الوعيد لهم بعذاب النار لقوله هنالك : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٤ ، ٣٥].

والعدّ : الحساب.

و (إِنَّما) للقصر ، أي ما نحن إلا نعدّ لهم ، وهو قصر موصوف على صفة قصرا إضافيا ، أي نعد لهم ولسنا بناسين لهم كما يظنون ، أو لسنا بتاركيهم من العذاب بل نؤخرهم إلى يوم موعود.

وأفادت جملة (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) تعليل النهي عن التعجيل عليهم لأن (إِنَّما) مركبة من (إنّ) و (ما) وإنّ تفيد التعليل كما تقدّم غير مرّة.

وقد استعمل العدّ مجازا في قصر المدّة لأن الشيء القليل يعدّ ويحسب. وفي هذا إنذار باقتراب استئصالهم.

[٨٥ ـ ٨٧] (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

إتمام لإثبات قلة غناء آلهتهم عنهم تبعا لقوله : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢].

٨٢

فجملة : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) هو مبدأ الكلام ، وهو بيان لجملة : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا).

والظرف وما أضيف الظرف إليه إدماج بينت به كرامة المؤمنين وإهانة الكافرين. وفي ضمنه زيادة بيان لجملة (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) بأنهم كانوا سبب سوقهم إلى جهنم وردا ومخالفتهم لحال المؤمنين في ذلك المشهد العظيم. فالظرف متعلّق ب (يَمْلِكُونَ) وضمير (لا يَمْلِكُونَ) عائد للآلهة. والمعنى : لا يقدرون على أن ينفعوا من اتخذوهم آلهة ليكونوا لهم عزّا.

والحشر : الجمع مطلقا ، يكون في الخير كما هنا ، وفي الشرّ كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٢ ، ٢٣] ، ولذلك أتبع فعل (نَحْشُرُ) بقيد (وَفْداً) ، أي حشر الوفود إلى الملوك ، فإن الوفود يكونون مكرمين ، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات ، ولأعيان العرب وفادات سنويّة على ملوكهم وسادتهم ، ولكلّ قبيلة وفادة ، وفي المثل: «إن الشّقيّ وافد البراجم». وقد اتّبع العرب هذه السنّة فوفدوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه أشرف السادة.

وسنة الوفود هي سنة تسع من الهجرة تلت فتح مكة بعموم الإسلام بلاد العرب.

وذكر صفة (الرَّحْمنِ) هنا واضحة المناسبة للوفد.

والسوق : تسيير الأنعام قدام رعاتها ، يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تتفلّت عليهم ، فالسوق : سير خوف وحذر.

وقوله (وِرْداً) حال قصد منها التشبيه ، فلذلك جاءت جامدة لأن معنى التشبيه يجعلها كالمشتق.

والورد ـ بكسر الواو ـ : أصله السير إلى الماء ، وتسمى الأنعام الواردة وردا تسمية على حذف المضاف ، أي ذات ورد ، كما يسمى الماء الذي يرده القوم وردا. قال تعالى : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٨].

والاستثناء في (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) استثناء منقطع ، أي لكن يملك الشفاعة يومئذ من اتخذ عند الرحمن عهدا ، أي من وعده الله بأن يشفع وهم الأنبياء والملائكة.

٨٣

ومعنى (لا يَمْلِكُونَ) لا يستطيعون ، فإنّ الملك يطلق على المقدرة والاستطاعة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة العقود [٧٦].

[٨٨ ـ ٩٥] (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

عطف على جملة (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُ) [مريم : ٦٦] أو على جملة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) [مريم : ٨١] إتماما لحكاية أقوالهم ، وهو القول بأن لله ولدا ، وهو قول المشركين : الملائكة بنات الله. وقد تقدم في سورة النحل وغيرها ؛ فصريح الكلام رد على المشركين ، وكنايته تعريض بالنّصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله ، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفا : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) [مريم : ٣٥] إلخ.

والضمير عائد إلى المشركين ، فيفهم منه أنّ المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم ، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه ، وإنما قالوا ذلك تأييدا لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم.

وذكر (الرَّحْمنُ) هنا حكاية لقولهم بالمعنى ، وهم لا يذكرون اسم الرحمن ولا يقرون به ، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] ، فهم إنما يقولون : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف [٤]. فذكر (الرَّحْمنُ) هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه ، فذكر اسم (الرَّحْمنُ) لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه.

وفيه أيضا إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمن اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً).

والخطاب في (لَقَدْ جِئْتُمْ) للذين قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد ، كما تقدم في قوله آنفا : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فلا يحسن تقدير : قل لقد جئتم.

٨٤

وجملة (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) من التشنيع والتفظيع.

وقرأ نافع والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث ، وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعا لضمير مؤنث متصل ، وقرأ البقية : (تَكادُ) بالتاء المثناة الفوقية ، وهو الوجه الآخر.

والتفطر : الانشقاق ، والجمع بينه وبين (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) تفنّن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ. والخرور : السقوط.

ومن في قوله : (مِنْهُ) للتعليل ، والضمير المجرور بمن عائد إلى (شَيْئاً إِدًّا) ، أو إلى القول المستفاد من (قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً).

والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيغيّر كيانها.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص عن عاصم ، والكسائي : (يَتَفَطَّرْنَ) بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية. وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف ، وأبو بكر عن عاصم ، بتحتية بعدها نون ، من الانفطار. والوجهان مطاوع فطر المضاعف أو فطر المجرد ، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال. ولعلّ محاولة التّفرقة بينهما كما في «الكشاف» و «الشافية» لا يطرد ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] ، وقال : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، وقرئ في هذه الآية : ينفطرون وينفطرن ، والأصل توافق القراءتين في البلاغة.

والهدّ : هدم البناء. وانتصب (هَدًّا) على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور ، أي سقوط الهدم ، وهو أن يتساقط شظايا وقطعا.

و (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) متعلّق بكل من (يَتَفَطَّرْنَ) ، و (تَنْشَقُ) ، و (تَخِرُّ) ، وهو على حذف لام الجرّ قبل (أن) المصدريّة وهو حذف مطرد.

والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله : (مِنْهُ) ، وزيادة بيان لمعاد الضمير المجرور في قوله (مِنْهُ) اعتناء ببيانه.

ومعنى (دَعَوْا) : نسبوا ، كقوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) [الأحزاب : ٥] ، ومنه يقال :

٨٥

ادّعى إلى بني فلان ، أي انتسب. قال بشامة بن حزن النهشلي :

إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

وجملة (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) عطف على جملة : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً).

ومعنى (ما يَنْبَغِي) ما يتأتّى ، أو ما يجوز. وأصل الانبغاء : أنّه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلب. ومعنى ، مطاوعته : التأثّر بما طلب منه ، أي استجابة الطلب.

نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في «كتاب سيبويه» : كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال كصرف وطلب وعلم ، وما ليس فيه علاج كعدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة» اه. فبان أن أصل معنى (يَنْبَغِي) يستجيب الطلب. ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى (يَنْبَغِي) مختلفا بحسب المقام فيستعمل بمعنى : يتأتى ، ويمكن ، ويستقيم ، ويليق ، وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح.

والمعنى في هذه الآية : وما يجوز أن يتّخذ الرحمن ولدا ، بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتّى لأنه مستحيل لا تتعلّق به القدرة ، لا لأنّ الله عاجز عنه ، ونحو قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] يفيد معنى : لا يستقيم لنا ، أو لا يخوّل لنا أن نتخذ أولياء غيرك ، ونحو قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠] يفيد معنى لا تستطيع. ونحو (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] يفيد معنى : أنه لا يليق به ، ونحو : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥] يفيد معنى : لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه ، وفرق بين قولك : ينبغي لك أن لا تفعل هذا ، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، أي ما يجوز لجلال الله أن يتخذ ولدا لأنّ جميع الموجودات غير ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له. وذلك ينافي البنوة لأن بنوة الإله جزء من الإلهية ، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ، أي لو كان له ولد لعبدته قبلكم.

ومعنى (آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) : الإتيان المجازي ، وهو الإقرار والاعتراف ، مثل : باء بكذا ، أصله رجع ، واستعمل بمعنى اعترف.

٨٦

و (عَبْداً) حال ، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبدا.

ويجوز جعل (آتِي الرَّحْمنِ) بمعنى صائر إليه بعد الموت ، ويكون المعنى أنّه يحيا عبدا ويحشر عبدا بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة.

وتكرير اسم (الرَّحْمنِ) في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمن الثابت لله ، والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه ، ينافي ادعاء الولد له لأنّ الرحمن وصف يدلّ على عموم الرّحمة وتكثرها. ومعنى ذلك : أنّها شاملة لكل موجود ، فذلك يقتضي أن كل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى ، ولا يتقوم ذلك إلا بتحقق العبودية فيه. لأنه لو كان بعض الموجودات ابنا لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالبنوة مساويا له في الإلهية المقتضية الغنى المطلق ، ولأن اتخاذ الابن يتطلّب به متخذه برّ الابن به ورحمته له ، وذلك ينافي كون الله مفيض كلّ رحمة.

فذكر هذا الوصف عند قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) وقوله (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) تسجيل لغباوتهم.

وذكره عند قوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله.

وذكره عند قوله : (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها.

وجملة (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) عطف على جملة (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) ، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة. فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) وما بعده. وليس عائدا على (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدّهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه.

ومعنى (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولدا ، لأنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم للملائكة والجنّ ليكونوا شفعاءهم عند الله ، فأيأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفردا لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة : (وَيَأْتِينا فَرْداً). وفي ذلك تعريض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيان الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه.

٨٧

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أنّ هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين ، فيكون حال إتيانهم غير حال انفراد بل حال تأنس بعضهم ببعض.

ولمّا ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين ، وكان ذلك مشعرا بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورّط فيه من يدفع عنه وينصره ، وإشعار ذلك بأنّهم مغضوب عليهم ، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين ، وأنهم على العكس من حال المشركين ، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودّة والتبجيل. فالمعنى : سيجعل لهم الرحمن أودّاء من الملائكة كما قال تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت : ٣١] ، ويجعل بين أنفسهم مودّة كما قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) [الأعراف : ٤٣].

وإيثار المصدر ليفي بعدّة متعلقات بالودّ. وفسّر أيضا جعل الودّ بأن الله يجعل لهم محبّة في قلوب أهل الخير. رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي. وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي ، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة.

وفسر أيضا بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى ، فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩]. هذا أظهر الوجوه في تفسير الودّ ، وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧))

إيذان بانتهاء السورة ، فإن شأن الإتيان بكلام جامع بعد أفنان الحديث أن يؤذن بأنّ المتكلم سيطوي بساطه. وذلك شأن التذييلات والخواتم وهي ما يؤذن بانتهاء الكلام. فلما احتوت السورة على عبر وقصص وبشارات ونذر جاء هنا في التنويه بالقرآن وبيان بعض ما في تنزيله من الحكم.

فيجوز جعل الفاء فصيحة مؤذنة بكلام مقدر يدلّ عليه المذكور ، كأنه قيل : بلّغ ما أنزلنا إليك ولو كره المشركون ما فيه من إبطال دينهم وإنذارهم بسوء العاقبة فما أنزلناه إليك إلّا للبشارة والنذارة ولا تعبأ بما يحصل مع ذلك من الغيظ أو الحقد. وذلك أن

٨٨

المشركين كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كففت عن شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه آرائنا لاتّبعناك».

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على وعيد الكافرين بقوله : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٤ ، ٩٥]. ووعد المؤمنين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦]. والمفرّع هو مضمون (لِتُبَشِّرَ بِهِ) إلخ (وَتُنْذِرَ بِهِ) إلخ ، أي ذلك أثر الإعراض عما جئت به من النذارة ، وأثر الإقبال على ما جئت به من البشارة مما يسرناه بلسانك فإنا ما أنزلناه عليك إلّا لذلك.

وضمير الغائب عائد إلى القرآن بدلالة السّياق مثل : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. وبذلك علم أن التيسير تسهيل قراءة القرآن. وهذا إدماج للثناء على القرآن بأنه ميسّر للقراءة ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ٣٢].

واللّسان : اللّغة ، أي بلغتك ، وهي العربية ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥] ؛ فإن نزول القرآن بأفضل اللغات وأفصحها هو من أسباب فضله على غيره من الكتب وتسهيل حفظه ما لم يسهل مثله لغيره من الكتب.

والباء للسببية أو المصاحبة.

وعبر عن الكفار بقوم لدّ ذمّا لهم بأنهم أهل إيغال في المراء والمكابرة ، أي أهل تصميم على باطلهم ، فاللّد : جمع ألدّ ، وهو الأقوى في اللّدد ، وهو الإباية من الاعتراف بالحق. وفي الحديث الصحيح : «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم». ومما جره الإشراك إلى العرب من مذام الأخلاق التي خلطوا بها محاسن أخلاقهم أنهم ربما تمدحوا باللّدد ، قال بعضهم في رثاء البعض :

إن تحت الأحجار حزما وعزما

وخصيما ألدّ ذا مغلاق

وقد حسن مقابلة المتقين بقوم لدّ ، لأن التقوى امتثال وطاعة والشرك عصيان ولدد.

وفيه تعريض بأن كفرهم عن عناد وهم يعلمون أن ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق ، كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣].

وإيقاع لفظ القوم عليهم للإشارة إلى أن اللّدد شأنهم ، وهو الصفة التي تقومت منها قوميتهم ، كما تقدم في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، وقوله

٨٩

تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يونس [١٠١].

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

لما ذكروا بالعناد والمكابرة أتبع بالتعريض بتهديدهم على ذلك بتذكيرهم بالأمم التي استأصلها الله لجبروتها وتعنّتها لتكون لهم قياسا ومثلا. فالجملة معطوفة على جملة (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [مريم : ٩٧] باعتبار ما تضمنته من بشارة المؤمنين ونذارة المعاندين ، لأنّ في التعريض بالوعيد لهم نذارة لهم وبشارة للمؤمنين باقتراب إراحتهم من ضرّهم.

و (كَمْ) خبرية عن كثرة العدد.

والقرن : الأمة والجيل. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمّة ، وشاع تقديره بمائة سنة. و (مِنْ) بيانية ، وما بعدها تمييز (كَمْ).

والاستفهام في (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) إنكاري ، والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تبعا لقوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي ما تحسّ ، أي ما تشعر بأحد منهم. والإحساس : الإدراك بالحس ، أي لا ترى منهم أحدا.

والركز : الصوت الخفيّ ، ويقال : الرز ، وقد روي بهما قول لبيد :

وتوجّست ركز الأنيس فراعها

عن ظهر عيب والأنيس سقامها

وهو كناية عن اضمحلالهم ، كني باضمحلال لوازم الوجود عن اضمحلال وجودهم.

٩٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٠ ـ سورة طه

سمّيت سورة (طاها) باسم الحرفين المنطوق بهما في أولها. ورسم الحرفان بصورتهما لا بما ينطق به الناطق من اسميهما تبعا لرسم المصحف كما تقدم في سورة الأعراف. وكذلك وردت تسميتها في كتب السنّة في حديث إسلام عمر بن الخطاب كما سيأتي قريبا.

وفي «تفسير القرطبي» عن «مسند الدارمي» عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تبارك وتعالى قرأ : (طاها) (باسمين) قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليها» الحديث. قال ابن فورك : معناه أنّ الله أظهر كلامه وأسمعه من أراد أن يسمعه من الملائكة ، فتكون هذه التسمية مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر في «الإتقان» عن السخاوي أنها تسمى أيضا «سورة الكليم» وفيه عن الهذلي في «كامله» أنها تسمى «سورة موسى».

وهي مكية كلها على قول الجمهور. واقتصر عليه ابن عطية وكثير من المفسرين. وفي «الإتقان» أنه استثني منها آية : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه : ١٣٠]. واستظهر في «الإتقان» أن يستثنى منها قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [طه : ١٣١]. لما أخرج أبو يعلى والبزار عن أبي رافع قال : «أضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال : لا ، إلّا برهن ، فأتيت النبي فأخبرته فقال : أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فلم أخرج من عنده حتى نزلت : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية» اه.

٩١

وعندي أنه إن صح حديث أبي رافع فهو من اشتباه التّلاوة بالنزول ، فلعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها متذكّرا فظنّها أبو رافع نازلة ساعتئذ ولم يكن سمعها قبل ، أو أطلق النزول على التلاوة. ولهذا نظائر كثيرة في المرويات في أسباب النزول كما علمته غير مرة.

وهذه السورة هي الخامسة والأربعون في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. ونزلت قبل إسلام عمر بن الخطاب لما روى الدار قطني عن أنس بن مالك ، وابن إسحاق في «سيرته» عنه قال : «خرج عمر متقلدا بسيف. فقيل له : إن ختنك وأختك قد صبوا ، فأتاهما عمر وعندهما خبّاب بن الأرتّ يقرئهما سورة (طاها) ، فقال : أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه؟ فقالت له أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلّا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ طه. فلما قرأ صدرا منها قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه» إلى آخر القصة. وذكر الفخر عن بعض المفسرين أنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكّة.

وكان إسلام عمر في سنة خمس من البعثة قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة خمس أو أواخر سنة أربع من البعثة.

وعدّت آيها في عدد أهل المدينة ومكة مائة وأربعا وثلاثين ، وفي عدد أهل الشام مائة وأربعين ، وفي عدد أهل البصرة مائة واثنتين وثلاثين. وفي عدد أهل الكوفة مائة وخمسا وثلاثين.

أغراضها :

احتوت من الأغراض على :

ـ التحدي بالقرآن بذكر الحروف المقطعة في مفتتحها.

ـ والتنويه بأنه تنزيل من الله لهدي القابلين للهداية ؛ فأكثرها في هذا الشأن.

ـ والتنويه بعظمة الله تعالى ، وإثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها تماثل رسالة أعظم رسول قبله شاع ذكره في الناس ، فضرب المثل لنزول القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلام الله موسىعليه‌السلام.

ـ وبسط نشأة موسى وتأييد الله إياه ونصره على فرعون بالحجة والمعجزات وبصرف كيد فرعون عنه وعن أتباعه.

٩٢

ـ وإنجاء الله موسى وقومه ، وغرق فرعون ، وما أكرم الله به بني إسرائيل في خروجهم من بلد القبط.

ـ وقصة السامري وصنعه العجل الذي عبده بنو إسرائيل في مغيب موسى عليه‌السلام.

وكلّ ذلك تعريض بأن مآل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائر إلى ما صارت إليه بعثة موسى عليه‌السلام من النصر على معانديه. فلذلك انتقل من ذلك إلى وعيد من أعرضوا عن القرآن ولم تنفعهم أمثاله ومواعظه.

ـ وتذكير الناس بعداوة الشيطان للإنسان بما تضمنته قصة خلق آدم.

ـ ورتب على ذلك سوء الجزاء في الآخرة لمن جعلوا مقادتهم بيد الشيطان وإنذارهم بسوء العقاب في الدنيا.

ـ وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يقولونه وتثبيته على الدّين.

وتخلّل ذلك إثبات البعث ، وتهويل يوم القيامة وما يتقدمه من الحوادث والأهوال.

(طه (١))

وهذان الحرفان من حروف فواتح بعض السور مثل الم ، ويس. ورسما في خط المصحف بصورة حروف التهجي التي هي مسمى (طا) و (ها) كما رسم جميع الفواتح التي بالحروف المقطعة. وقرئا لجميع القراء كما قرئت بقية فواتح السور. فالقول فيهما كالقول المختار في فواتح تلك السور ، وقد تقدم في أول سورة البقرة وسورة الأعراف.

وقيل هما حرفان مقتضبان من كلمتي (طاهر) و (هاد) وأنهما على معنى النّداء بحذف حرف النداء.

وتقدم وجه المدّ في (طا) (ها) في أول سورة يونس. وقيل مقتضبان من فعل (طأ) أمرا من الوطء. ومن (ها) ضمير المؤنثة الغائبة عائد إلى الأرض. وفسر بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في أول أمره إذا قام في صلاة الليل قام على رجل واحدة فأمره الله بهذه الآية أن يطأ الأرض برجله الأخرى. ولم يصح.

وقيل (طاها) كلمة واحدة وأن أصلها من الحبشية ، ومعناها إنسان ، وتكلمت بها

٩٣

قبيلة (عك) أو (عكل) وأنشدوا ليزيد بن مهلهل :

إن السفاهة طاها من شمائلكم

لا بارك الله في القوم الملاعين

وذهب بعض المفسرين إلى اعتبارهما كلمة لغة (عك) أو (عكل) أو كلمة من الحبشية أو النبطية وأنّ معناها في لغة : (عك) يا إنسان ، أو يا رجل ، وفي ما عداها : يا حبيبي ، وقيل : هي اسم سمى الله به نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه على معنى النّداء ، أو هو قسم به. وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى على معنى القسم.

ورويت في ذلك آثار وأخبار ذكر بعضها عياض في «الشّفاء». ويجري فيها قول من جعل جميع هذه الحروف متحدة في المقصود منها. كقول من قال : هي أسماء للسور الواقعة فيها ، ونحو ذلك مما تقدم في سورة البقرة. وإنما غرّهم بذلك تشابه في النطق فلا نطيل بردها. وكذلك لا التفات إلى قول من زعموا أنه من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٢ ـ ٦] (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

افتتحت السورة بملاطفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّ الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك ، أي تصيبه المشقّة ويشده التعب ، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضا بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولو لا ذلك لما ادّكروا بالقرآن.

وفي هذه الفاتحة تمهيد لما يرد من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالاضطلاع بأمر التبليغ ، وبكونه من أولي العزم مثل موسى عليه‌السلام وأن لا يكون مفرطا في العزم كما كان آدم عليه‌السلام قبل نزوله إلى الأرض. وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويها بمن أنزل عليه وجاء به.

والشقاء : فرط التعب بعمل أو غمّ في النفس ، قال النابغة :

إلّا مقالة أقوام شقيت بهم

كانت مقالتهم قرعا على كبدي

وهمزة الشقاء منقلبة عن الواو. يقال : شقاء وشقاوة ـ بفتح الشين ـ وشقوة ـ بكسرها.

٩٤

ووقوع فعل (أَنْزَلْنا) في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله ، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه ، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور. فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له ، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال ، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سببا في شيء من الشقاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦].

ويجوز أن يكون المراد : ما أرسلناك لتخيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.

وقوله (إِلَّا تَذْكِرَةً) استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة ، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) الذي هو حال من القرآن لا محالة ، ففعل (أَنْزَلْنا) عامل في (لِتَشْقى) بواسطة حرف الجرّ ، وعامل في (تَذْكِرَةً) بواسطة صاحب الحال ، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله : (لِتَشْقى) حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعا وتقع في كلف لتصحيح النّظم.

وقال الواحدي في «أسباب النزول» : «قال مقاتل : قال أبو جهل والنضر بن الحارث (وزاد غير الواحدي : الوليد بن المغيرة ، والمطعم بن عديّ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك لتشقى بترك ديننا ، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده ، فأنزل الله تعالى : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) الآية ، وليس فيه سند.

والتذكرة : خطور المنسي بالذهن ؛ فإن التوحيد مستقرّ في الفطرة والإشراك مناف لها ، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملّة إبراهيم عليه.

و (لِمَنْ يَخْشى) هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدّين ، وهو كل من يفكّر للنجاة في العاقبة ، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العربي الأصلي ، ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي ، وهو خوف الله ، فيكون المراد من الفعل المآل ، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيسير الله تعالى له التقوى ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] أي الصائرين إلى التقوى.

و (تَنْزِيلاً) حال من (الْقُرْآنَ) ثانية.

٩٥

والمقصود منها التنويه بالقرآن والعناية به لينتقل من ذلك إلى الكناية بأن الذي أنزله عليك بهذه المثابة لا يترك نصرك وتأييدك.

والعدول عن اسم الجلالة أو عن ضميره إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من تحتم إفراده بالعبادة ، لأنه خالق المخاطبين بالقرآن وغيرهم مما هو أعظم منهم خلقا ، ولذلك وصف والسّماوات بالعلى صفة كاشفة زيادة في تقرير معنى عظمة خالقها. وأيضا لمّا كان ذلك شأن منزل القرآن لا جرم كان القرآن شيئا عظيما ، كقول الفرزدق :

إنّ الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول

و (الرَّحْمنُ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعا للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي. ويجوز أن يكون مبتدأ. واختير وصف (الرَّحْمنُ) لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمن : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠]. وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكرا على إحسانه بالرحمة البالغة.

وجملة (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) حال من (الرَّحْمنُ). أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف.

والاستواء : الاستقرار ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨] الآية. وقال : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤].

والعرش : عالم عظيم من العوالم العليا ، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها. وقيل غير ذلك ، ويسمى : الكرسي أيضا على الصحيح ، وقيل : الكرسي غير العرش.

وأيّا ما كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله : (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى).

وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش. وقد عرف العرب من أولئك ملوك الفرس وملوك الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة.

وحسّن التعبير بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يستوى عليه في المتعارف ، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى ، فالآية من المتشابه

٩٦

البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة : أن ليس كمثله شيء.

وقيل : الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء. وأنشدوا قول الأخطل :

قد استوى بشر على العراق

بغير سيف ودم مهراق

وهو مولّد. ويحتمل أنه تمثيل كالآية. ولعلّه انتزعه من هذه الآية.

وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة الأعراف [٥٤]. وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية.

وفي «تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة» : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة. قيل لابن عرفة : عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها ، فذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل على عدم تكفير من يقول بالتجسيم ، فقال : هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك.

وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريرا وهو جملة : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ. فهي بيان لجملة (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى). والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان.

وتقديم المجرور في قوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) للقصر ، ردا على زعم المشركين أن لآلهتهم تصرفات في الأرض ، وأن للجنّ اطلاعا على الغيب ، ولتقرير الردّ ذكرت أنحاء الكائنات ، وهي السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

والثّرى : التراب. وما تحته : هو باطن الأرض كله.

وجملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) عطف على جملة (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧))

عطف على جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [طه : ٦] لدلالة هذه الجملة على سعة علمه تعالى كما دلّت الجملة المعطوف عليها على عظيم سلطانه وقدرته. وأصل النظم : ويعلم السر وأخفى إن تجهر بالقول ؛ فموقع قوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) موقع الاعتراض بين جملة (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) وجملة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). فصيغ النظم في قالب الشرط والجزاء زيادة في تحقيق حصوله على طريقة ما يسمى بالمذهب الكلامي ، وهو سوق الخبر في صيغة الدليل على وقوعه تحقيقا له.

٩٧

والمعنى : إنه يعلم السر وأخفى من السرّ في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه ، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى. وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة. وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي :

فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل

أي سهدا في كلّ وقت حين ينام غيره ممن هو هوجل. وقول بشامة بن حزن النهشلي:

إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم

حدّ الظبات وصلناها بأيدينا

وقول إبراهيم بن كنيف النبهاني :

فإن تكن الأيام جالت صروفها

ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل

فما ليّنت منا قناة صليبة

وما ذللتنا للّتي ليس تجمل

وقول القطامي :

فمن تكن الحضارة أعجبته

فأيّ رجال بادية ترانا

فالخطاب في قوله (وَإِنْ تَجْهَرْ) يجوز أن يكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعم غيره. ويجوز أن يكون لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب.

واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة. ولمّا جاء القرآن مذكرا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم : أترون أنّ الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا! وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا (أي وهو بعيد عنا) فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢]. وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرت الآية الآنفة الذكر. وقال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ

٩٨

الصُّدُورِ) [هود : ٥].

يبقى النظر في توجيه الإتيان بهذا الشرط بطريقة الاعتراض ، وتوجيه اختيار فرض الشرط بحالة الجهر دون حالة السر مع أن الذي يتراءى للناظر أنّ حالة السر أجدر بالذكر في مقام الإعلام بإحاطة علم الله تعالى بما لا يحيط به علم الناس ، كما ذكر في الخبر المروي عن ابن مسعود في الآية الآنفة الذكر.

وأحسب لفرض الشرط بحالة الجهر بالقول خصوصية بهذا السياق اقتضاها اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجهر بالقرآن في الصلاة أو غيرها ، فيكون مورد هذه الآية كمورد قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) [الأعراف : ٢٠٥] فيكون هذا مما نسخه قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ، وتعليم للمسلمين باستواء الجهر والسر في الدعاء ، وإبطال لتوهم المشركين أن الجهر أقرب إلى علم الله من السر ، كما دل عليه الخبر المروي عن أبي مسعود المذكور آنفا.

والقول : مصدر ، وهو تلفظ الإنسان بالكلام ، فيشمل القراءة والدعاء والمحاورة ، والمقصود هنا ما له مزيد مناسبة بقوله تعالى : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه:٢]الآيات.

وجواب شرط (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) محذوف يدل عليه قوله : (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى). والتقدير : فلا تشقّ على نفسك فإنّ الله يعلم السر وأخفى ، أي فلا مزية للجهر به.

وبهذا تعلم أن ليس مساق الآية لتعليم الناس كيفية الدعاء ، فقد ثبت في السّنّة الجهر بالدعاء والذكر ، فليس من الصواب فرض تلك المسألة هنا إلّا على معنى الإشارة.

و (أَخْفى) اسم تفضيل ، وحذف المفضل عليه لدلالة المقام عليه ، أي وأخفى من السر. والمراد بأخفى منه : ما يتكلم اللسان من حديث النفس ونحوه من الأصوات التي هي أخفى من كلام السر.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

تذييل لما قبله لأنّ ما قبله تضمن صفات من فعل الله تعالى ومن خلقه ومن عظمته فجاء هذا التذييل بما يجمع صفاته.

واسم الجلالة خبر لمبتدإ محذوف. والتقدير : هو الله ، جريا على ما تقدّم عند قوله

٩٩

تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥].

وجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حال من اسم الجلالة. وكذلك جملة (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

والأسماء : الكلمات الدالة على الاتّصاف بحقائق. وهي بالنسبة إلى الله : إما علم وهو اسم الجلالة خاصة. وإما وصف مثل الرحمن والجبّار وبقية الأسماء الحسنى.

وتقديم المجرور في قوله (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) للاختصاص ، أي لا لغيره لأنّ غيره إما أن يكون اسمه مجردا من المعاني المدلولة للأسماء مثل الأصنام ، وإما أن تكون حقائقها فيه غير بالغة منتهى كمال حقيقتها كاتصاف البشر بالرحمة والملك ، وإما أن يكون الاتّصاف بها كذبا لا حقيقة ، كاتصاف البشر بالكبر ، إذ ليس أهلا للكبر والجبروت والعزّة.

ووصف الأسماء بالحسنى لأنها دالة على حقائق كاملة بالنسبة إلى المسمى بها تعالى وتقدس. وذلك ظاهر في غير اسم الجلالة ، وأما في اسم الجلالة الذي هو الاسم العلم فلأنه مخالف للأعلام من حيث إنّه في الأصل وصف دال على الانفراد بالإلهية لأنّه دال على الإله ، وعرّف باللام الدالة على انحصار الحقيقة عنده ، فكان جامعا لمعنى وجوب الوجود ، واستحق العبادة لوجود أسباب استحقاقها عنده.

وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) في سورة الأعراف [١٨٠].

[٩ ـ ١٠] (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠))

أعقب تثبيت الرسول على التبليغ والتنويه بشأن القرآن بالنسبة إلى من أنزله ومن أنزل عليه بذكر قصة موسى عليه‌السلام ليتأسّى به في الصبر على تحمل أعباء الرسالة ومقاساة المصاعب ، وتسلية له بأن الذين كذبوه سيكون جزاؤهم جزاء من سلفهم من المكذبين ، ولذلك جاء في عقب قصة موسى قوله تعالى : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً* خالِدِينَ فِيهِ) [طه : ٩٩ ـ ١٠١]. وجاء بعد ذكر قصة آدم وأنه لم يكن له عزم (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : ١٣٠] الآيات.

١٠٠