تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

الأزل إذ خلقها لهم. قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]. وفيه تنبيه على أنها وإن كانت محجوبة عنهم في الدنيا فإنها مهيئة لهم.

وجملة (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) تعليل لجملة (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي يدخلون الجنة وعدا من الله واقعا. وهذا تحقيق للبشارة.

والوعد : هنا مصدر مستعمل في معنى المفعول. وهو من باب كسا ، فالله وعد المؤمنين الصالحين جنات عدن. فالجنات لهم موعودة من ربهم.

والمأتي : الذي يأتيه غيره. وقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب ، تشبيها لمن يحصل الشيء بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه. وتشبيها للشيء المحصل بالمكان المقصود. ففي قوله (مَأْتِيًّا) تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين ، وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأنّ المأتي لا بد له من آت.

وجملة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) حال من (عِبادَهُ).

واللغو : فضول الكلام وما لا طائل تحته. وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة ، كما قال تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] ، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم.

وقوله (إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

أي لكن تسمعون سلاما. قال تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ٢٣] وقال (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦].

والرزق : الطعام.

وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه ، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر. وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم ، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص.

والبكرة : النصف الأول من النهار ، والعشي : النصف الأخير ، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل.

٦١

وجملة (تِلْكَ الْجَنَّةُ) مستأنفة ابتدائية. واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويها بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويها بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣].

و (نُورِثُ) نجعل وارثا ، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث : انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة. واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها ، تشبيها بمال الموروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر.

وقرأ الجمهور (نُورِثُ) بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء ، وقرأه رويس عن يعقوب : نورّث ـ بفتح الواو تشديد الراء ـ من ورّثه المضاعف.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤))

موقع هذه الآية هنا غريب. فقال جمهور المفسرين : إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه‌السلام أبطأ أياما عن النزول إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل : «ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا». فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية. أي إلى قوله (نَسِيًّا) ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.

والمعنى : أن الله أمر جبريل عليه‌السلام أن يقول هذا الكلام جوابا عنه ، فالنظم نظم القرآن بتقدير : وقل ما نتنزل إلّا بأمر ربّك ، أي قل يا جبريل ، فكان هذا خطابا لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآنا. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب ، وأمر الله رسوله أن يقرأها هنا ، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن.

ولا شك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك لجبريل عليه‌السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن.

والضمير لجبريل والملائكة ، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلّا عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل ، قال تعالى : (لا

٦٢

يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧].

و (نَتَنَزَّلُ) مرادف ننزّل ، وأصل التنزّل : تكلّف النزول ، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف. قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤].

واللّام في «له» للملك ، وهو ملك التصرف.

والمراد ب (ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما هو أمامنا ، وب (وَما خَلْفَنا) : ما هو وراءنا ، وب (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم ، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات.

ولمّا كان ذلك مخبرا عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات ، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فيعمّ جميع الكائنات ، ويستتبع عموم أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال ، وقد فسر بها قوله (ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ).

وجملة (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جوابا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (نَسِيًّا) : صيغة مبالغة من نسي ، أي كثير النسيان أو شديده.

والنسيان : الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها ، وقد فسروه هنا بتارك ، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان ، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله ، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصّلت : ٤٦] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله ، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك ، فنحن لا نتنزل إلّا بأمره. وهو لا يأمرنا بالتنزل إلّا عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به.

وجوز أبو مسلم وصاحب «الكشاف» : أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالا من قوله (مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم : ٦٣] ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلّا بأمر ربّك إلخ ، وهو تأويل حسن.

٦٣

وعليه فكاف الخطاب في قوله (بِأَمْرِ رَبِّكَ) خطاب كلّ قائل لمخاطبه ، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته.

وعليه فجملة (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) من قول الله تعالى لرسوله تذييلا لما قبله ، أو هي من كلام أهل الجنّة ، أي وما كان ربّنا غافلا عن إعطاء ما وعدنا به.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله (فَاعْبُدْهُ) إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن : أن الملائكة لا يتصرفون إلّا عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات ، ثمّ فرع عليه أمر الرسولعليه‌السلام بعبادته ، فقد انتقل الخطاب إليه.

وارتفع (رَبُّ السَّماواتِ) على الخبرية لمبتدإ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر. وهذا الحذف سمّاه السكاكي بالحذف الذي اتّبع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزّبير ـ بفتح الزاي وكسر الموحدة ـ :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّت

والسماوات : العوالم العلوية. والأرض : العالم السفلي ، وما بينهما : الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات.

والخطاب في (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ) و (هَلْ تَعْلَمُ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك.

والاصطبار : شدّة الصبر على الأمر الشاق ، لأنّ صيغة الافتعال ترد لإفادة قوّة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف (على) كما قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] ولكنه عدي هنا باللّام لتضمينه معنى الثّبات. أي اثبت للعبادة ، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس ، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة العشاء : «هي

٦٤

أثقل صلاة على المنافقين». فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة ، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه ، فعدي الفعل باللّام كما يقال : اثبت لعداتك.

وجملة (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها.

والسّميّ هنا الأحسن أن يكون بمعنى المسامي ، أي المماثل في شئونه كلها. فعن ابن عباس أنه فسّره بالنظير ، مأخوذا من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل ، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

أي المسمع. وكما سمي تعالى الحكيم ، أي المحكم للأمور ، فالسميّ هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة.

والاستفهام إنكاري ، أي لا مسامي لله تعالى ، أي ليس من يساميه ، أي يضاهيه ، موجودا.

وقيل السّميّ : المماثل في الاسم. كقوله في ذكر يحيى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) [مريم : ٧]. والمعنى : لا تعلم له مماثلا في اسمه الله ، فإن المشركين لم يسموا شيئا من أصنامهم الله باللّام وإنّما يقولون للواحد منها إله ، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية ، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية. قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥]. وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلا للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضا.

وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له ، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم ، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره.

[٦٦ ـ ٦٧] (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧))

لما تضمن قوله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) [مريم : ٦٥] إبطال عقيدة الإشراك به ناسب الانتقال إلى إبطال أثر من آثار الشرك. وهو نفي المشركين وقوع البعث بعد الموت حتى

٦٥

يتمّ انتقاض أصلي الكفر. فالواو عاطفة قصة على قصة ، والإتيان بفعل (يَقُولُ) مضارعا لاستحضار حالة هذا القول للتعجيب من قائله تعجيب إنكار.

والمراد بالإنسان جمع من الناس بقرينة قوله بعده (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) [مريم : ٦٨] ، فيراد من كانت هاته مقالته وهم معظم المخاطبين بالقرآن في أوّل نزوله. ويجوز أن يكون وصف حذف ، أي الإنسان الكافر ، كما حذف الوصف في قوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، أي كلّ سفينة صالحة ، فتكون كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامى : ٣ ، ٤]. وكذلك إطلاق الناس على خصوص المشركين منهم في آيات كثيرة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] إلى قوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فإن ذلك خطاب للمشركين. وقيل تعريف (الْإِنْسانُ) للعهد لإنسان معين. فقيل ، قائل هذا أبي بن خلف ، وقيل : الوليد بن المغيرة.

والاستفهام في (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) إنكار لتحقيق وقوع البعث ، فلذلك أتي بالجملة المسلّط عليها الإنكار مقترنة بلام الابتداء الدالة على توكيد الجملة الواقعة هي فيها ، أي يقول لا يكون ما حققتموه من إحيائي في المستقبل.

ومتعلق (أُخْرَجُ) محذوف أي أخرج من القبر.

وقد دخلت لام الابتداء في قوله (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) على المضارع المستقبل بصريح وجود حرف الاستقبال ، وذلك حجّة لقول ابن مالك بأن لام الابتداء تدخل على المضارع المراد به الاستقبال ولا تخلصه للحال. ويظهر أنه مع القرينة الصريحة لا ينبغي الاختلاف في عدم تخليصها المضارع للحال ، وإن صمّم الزمخشري على منعه ، وتأول ما هنا بأنّ اللام مزيدة للتوكيد وليست لام الابتداء ، وتأوله في قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] بتقدير مبتدأ محذوف ، أي ولأنت سوف يعطيك ربّك فترضى ، فلا تكون اللام داخلة على المضارع ، وكلّ ذلك تكلّف لا ملجئ إليه.

وجملة (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) معطوفة على جملة (يَقُولُ الْإِنْسانُ) ، أي يقول ذلك ومن النكير عليه أنّه لا يتذكّر أنا خلقناه من قبل وجوده.

والاستفهام إنكار وتعجيب من ذهول الإنسان المنكر البعث عن خلقه الأول.

٦٦

وقرأ الجمهور (أَوَلا يَذْكُرُ) بسكون الذال وضمّ الكاف ـ من الذكر ـ بضم الذال ـ. وقرأه أبو جعفر بفتح الذال وتشديد الكاف على أن أصله يتذكر فقلبت التاء الثانية ذالا لقرب مخرجيهما.

والشيء : هو الموجود ، أي إنا خلقناه ولم يك موجودا.

و (قبل) من الأسماء الملازمة للإضافة. ولما حذف المضاف إليه واعتبر مضافا إليه مجملا ولم يراع له لفظ مخصوص تقدّم ذكره بنيت (قبل) على الضمّ ، كقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤٠].

والتقدير : إنا خلقناه من قبل كلّ حالة هو عليها ، والتقدير في آية سورة الروم : لله الأمر من قبل كل حدث ومن بعده.

والمعنى : الإنكار على الكافرين أن يقولوا ذلك ولا يتذكروا حال النشأة الأولى فإنها أعجب عند الذين يجرون في مداركهم على أحكام العادة ، فإن الإيجاد عن عدم من غير سبق مثال أعجب وأدعى إلى الاستبعاد من إعادة موجودات كانت لها أمثلة. ولكنها فسدت هياكلها وتغيرت تراكيبها. وهذا قياس على الشاهد وإن كان القادر سواء عليه الأمران.

[٦٨ ـ ٧٠] (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

الفاء تفريع على جملة (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) [مريم : ٦٧] ، باعتبار ما تضمنته من التهديد. وواو القسم لتحقيق الوعيد. والقسم بالرب مضافا إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إدماج لتشريف قدره.

وضمير (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) عائد إلى (الْإِنْسانُ) [مريم : ٦٦] المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم ، أي لنحشرن المشركين.

وعطف (الشياطين) على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده ، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة ، فحشرهم مع الشياطين إنذار لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عند الناس

٦٧

كلهم. فلذلك عطف عليه جملة (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ، والضمير للجميع. وهذا إعداد آخر للتقريب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرّعب في قلوبهم. فحرف (ثُمَ) للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد.

و (جِثِيًّا) حال من ضمير (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) ، والجثيّ : جمع جاث. ووزنه فعول مثل: قاعد وقعود وجالس وجلوس ، وهو وزن سماعيّ في جمع فاعل. وتقدّم نظيره (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨] ، فأصل جثي جثوو ـ بواوين ـ لأن فعله واوي ، يقال : جثا يجثو إذا برك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل ، فلمّا اجتمع في جثوو واوان استثقلا بعد ضمّة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء ، فلمّا كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياء للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبت الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي.

وقرى حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف ـ بكسر الجيم ـ وهو كسر اتباع لحركة الثاء.

وهذا الجثو هو غير جثوّ الناس في الحشر المحكيّ بقوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الجاثية : ٢٨] فإن ذلك جثوّ خضوع لله ، وهذا الجثوّ حول جهنّم جثوّ مذلّة.

والقول في عطف جملة (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) كالقول في جملة (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ). وهذه حالة أخرى من الرّعب أشدّ من اللتين قبلها وهي حالة تمييزهم للإلقاء في دركات الجحيم على حسب مراتب غلوّهم في الكفر.

والنزع : إخراج شيء من غيره ، ومنه نزع الماء من البئر.

والشيعة : الطائفة التي شاعت أحدا ، أي اتّبعته ، فهي على رأي واحد. وتقدم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في سورة الحجر [١٠]. والمراد هنا شيع أهل الكفر ، أي من كلّ شيعة منهم. أي ممن أحضرناهم حول جهنّم.

والعتيّ : العصيان والتجبّر ، فهو مصدر بوزن فعول مثل : خروج وجلوس ، فقلبت الواو ياء. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف ـ بكسر العين ـ اتباعا لحركة التاء كما تقدّم في (جِثِيًّا).

٦٨

والمعنى : لنميزنّ من كلّ فرقة تجمعها محلة خاصة من دين الضلال من هو من تلك الشيعة أشدّ عصيانا لله وتجبّرا عليه. وهذا تهديد لعظماء المشركين مثل أبي جهل وأميّة بن خلف ونظرائهم.

و (أيّ) اسم موصول بمعنى (ما) و (من). والغالب أن يحذف صدر صلتها فتبنى على الضم. وأصل التركيب : أيّهم هو أشدّ عتيا على الرحمن. وذكر صفة الرحمن هنا لتفظيع عتوّهم ، لأنّ شديد الرّحمة بالخلق حقيق بالشكر له والإحسان لا بالكفر به والطغيان.

ولمّا كان هذا النّزع والتمييز مجملا ، فقد يزعم كل فريق أن غيره أشدّ عصيانا ، أعلم الله تعالى أنّه يعلم من هو أولى منهم بمقدار صلي النّار فإنّها دركات متفاوتة.

والصلي : مصدر صلي النار كرضي ، وهو مصدر سماعي بوزن فعول. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف ـ بكسر الصاد ـ اتباعا لحركة اللّام ، كما تقدم في (جِثِيًّا).

وحرفا الجر يتعلقان بأفعل التفضيل.

[٧١ ـ ٧٢] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

لمّا ذكر انتزاع الذين هم أولى بالنّار من بقية طوائف الكفر عطف عليه أنّ جميع طوائف الشرك يدخلون النار ، دفعا لتوهم أنّ انتزاع من هو أشد على الرحمن عتيا هو قصارى ما ينال تلك الطوائف من العذاب ؛ بأن يحسبوا أنّ كبراءهم يكونون فداء لهم من النّار أو نحو ذلك ، أي وذلك الانتزاع لا يصرف بقية الشيع عن النّار فإن الله أوجب على جميعهم النّار.

وهذه الجملة معترضة بين جملة (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) [مريم : ٦٨] إلخ وجملة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [مريم : ٧٣] إلخ ...

فالخطاب في (وَإِنْ مِنْكُمْ) التفات عن الغيبة في قوله (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) و (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) [مريم : ٦٨] ؛ عدل عن الغيبة إلى الخطاب ارتقاء في المواجهة بالتهديد حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة. ومقتضى الظاهر أن يقال : وإن منهم إلا واردها. وعن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ (وَإِنَّ مِنْهُمْ).

٦٩

وكذلك قرأ عكرمة وجماعة.

فالمعنى : وما منكم أحد ممن نزع من كلّ شيعة وغيره إلّا وارد جهنّم حتما قضاه الله فلا مبدل لكلماته ، أي فلا تحسبوا أن تنفعكم شفاعتهم أو تمنعكم عزّة شيعكم ، أو تلقون التبعة على سادتكم وعظماء أهل ضلالكم ، أو يكونون فداء عنكم من النّار. وهذا نظير قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ* وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٤٢ ، ٤٣] ، أي الغاوين وغيرهم.

وحرف (إن) للنفي.

والورود : حقيقته الوصول إلى الماء للاستقاء. ويطلق على الوصول مطلقا مجازا شائعا ، وأما إطلاق الورود على الدخول فلا يعرف إلا أن يكون مجازا غير مشهور فلا بد له من قرينة.

وجملة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) زيادة في الارتقاء بالوعيد بأنّهم خالدون في العذاب ، فليس ورودهم النّار بموقّت بأجل.

و (ثُمَ) للترتيب الرتبي تنويها بإنجاء الذين اتّقوا وتشويها بحال الذين يبقون في جهنم جثيّا. فالمعنى : وعلاوة على ذلك ننجي الذين اتّقوا من ورود جهنم. وليس المعنى : ثمّ ينجي المتقين من بينهم بل المعنى أنهم نجوا من الورود إلى النّار. وذكر إنجاء المتقين : أي المؤمنين ، إدماج ببشارة المؤمنين في أثناء وعيد المشركين.

وجملة (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) عطف على جملة (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). والظالمون : المشركون.

والتعبير بالّذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار. والأصل : ونذركم أيها الظالمون.

ونذر : نترك ، وهو مضارع ليس له ماض من لفظه ، أمات العرب ماضي (نذر) استغناء عنه بماضي (ترك) ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) في سورة الأنعام [٩١].

فليس الخطاب في قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) لجميع النّاس مؤمنهم وكافرهم على

معنى ابتداء كلام ؛ بحيث يقتضي أن المؤمنين يردون النّار مع الكافرين ثم ينجون من عذابها ، لأنّ هذا معنى ثقيل ينبو عنه السياق ، إذ لا مناسبة بينه وبين سياق الآيات

٧٠

السابقة ، ولأنّ فضل الله على المؤمنين بالجنّة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافي أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا ، كيف وقد صدّر الكلام بقوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم : ٦٨] وقال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً* وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٥ ، ٨٦] ، وهو صريح في اختلاف حشر الفريقين.

فموقع هذه الآية هنا كموقع قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر: ٤٣] عقب قوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢]. فلا يتوهم أن جهنّم موعد عباد الله المخلصين مع تقدّم ذكره لأنّه ينبو عنه مقام الثناء.

وهذه الآية مثار إشكال ومحطّ قيل وقال ؛ واتفق جميع المفسرين على أن المتّقين لا تنالهم نار جهنّم ، واختلفوا في محل الآية فمنهم من جعل ضمير (مِنْكُمْ) لجميع المخاطبين بالقرآن ، ورووه عن بعض السلف فصدمهم فساد المعنى ومنافاة حكمة الله والأدلّة الدالة على سلامة المؤمنين يومئذ من لقاء أدنى عذاب ، فسلكوا مسالك من التّأويل ، فمنهم من تأوّل الورود بالمرور المجرد دون أن يمس المؤمنين أذى ، وهذا بعد عن الاستعمال ، فإن الورود إنما يراد به حصول ما هو مودع في المورد لأنّ أصله من ورود الحوض. وفي آي القرآن ما جاء إلّا لمعنى المصير إلى النّار كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) [الأنبياء : ٩٨ ، ٩٩] وقوله (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٨] وقوله (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦]. على أن إيراد المؤمنين إلى النّار لا جدوى له فيكون عبثا ، ولا اعتداد بما ذكره له الفخر ممّا سمّاه فوائد.

ومنهم من تأوّل ورود جهنّم بمرور الصراط ، وهو جسر على جهنّم ، فساقوا الأخبار المروية في مرور الناس على الصراط متفاوتين في سرعة الاجتياز. وهذا أقل بعدا من الذي قبله.

وروى الطبري وابن كثير في هذين المحملين أحاديث لا تخرج عن مرتبة الضعف مما رواه أحمد في «مسنده» والحكيم التّرمذي في «نوادر الأصول». وأصح ما في الباب ما رواه أبو عيسى الترمذي قال : «يرد النّاس النّار ثمّ يصدرون عنها بأعمالهم» الحديث في مرور الصراط.

ومن النّاس من لفق تعضيدا لذلك بالحديث الصحيح : أنه «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النّار إلّا تحلة القسم» فتأول تحلة القسم بأنها ما في هذه الآية من قوله

٧١

تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وهذا محمل باطل ، إذ ليس في هذه الآية قسم يتحلل ، وإنّما معنى الحديث : إن من استحق عذابا من المؤمنين لأجل معاص فإذا كان قد مات له ثلاثة من الولد كانوا كفارة له فلا يلج النّار إلّا ولوجا قليلا يشبه ما يفعل لأجل تحلة القسم ، أي التحلل منه. وذلك أن المقسم على شيء إذا صعب عليه بر قسمه أخذ بأقل ما يتحقق فيه ما حلف عليه ، فقوله «تحلة القسم» تمثيل.

ويروى عن بعض السلف روايات أنّهم تخوفوا من ظاهر هذه الآية ، من ذلك ما نقل عن عبد الله بن رواحة ، وعن الحسن البصري ، وهو من الوقوف في موقف الخوف من شيء محتمل.

وذكر فعل (نَذَرُ) هنا دون غيره للإشعار بالتحقير ، أي نتركهم في النار لا نعبأ بهم ، لأن في فعل الترك معنى الإهمال.

والحتم : أصله مصدر حتمه إذ جعله لازما ، وهو هنا بمعنى المفعول ، أي محتوما على الكافرين ، والمقضي : المحكوم به. وجثيّ تقدم.

وقرأ الجمهور ثم تنجي بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ، وقرأه الكسائي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم.

[٧٣ ـ ٧٤] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤))

عطف على قوله (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم.

والتّلاوة : القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في البقرة [١٠٢] ، وقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) في أول الأنفال [٢]. كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير ، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة ، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون : لو كان للمؤمنين خير لعجل لهم ، فنحن في نعمة وأهل سيادة ، وأتباع محمّد من عامة الناس ، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا ، ولو كنا عند الله كما يقول

٧٢

محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه ، قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ* وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٢ ، ٥٣] ، وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١]. فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقا بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البيّنات : آيات القرآن ، ومعنى كونها بيّنات : أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة.

واللّام في قوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يجوز كونها للتّعليل ، أي قالوا لأجل الذين آمنوا ، أي من أجل شأنهم ، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل (قالَ) لتعديته إلى متعلّقه ، فيكون قولهم خطابا منهم للمؤمنين.

والاستفهام في قولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) تقريريّ.

وقرأ من عدا ابن كثير (مَقاماً) ـ بفتح الميم ـ على أنه اسم مكان من قام ، أطلق مجازا على الحظ والرفعة ، كما في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازا في الظهور والمقدرة.

وقرأه ابن كثير ـ بضم الميم ـ من أقام بالمكان ، وهو مستعمل في الكون في الدنيا. والمعنى : خير حياة.

وجملة (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) خطاب من الله لرسوله. وقد أهلك الله أهل قرون كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا وأجمل منهم منظرا. فهذه الجملة معترضة بين حكاية قولهم وبين تلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يجيبهم به عن قولهم ، وموقعها التهديد وما بعدها هو الجواب.

والأثاث : متاع البيوت الذي يتزين به ، و (رِءْياً) قرأه الجمهور بهمزة بعد الراء وبعد الهمزة ياء على وزن فعل بمعنى مفعول كذبح ، من الرؤية ، أي أحسن مرئيّا ، أي منظرا وهيئة.

وقرأه قالون عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر «ريّا» ـ بتشديد الياء بلا همزة إما على أنّه من قلب الهمزة ياء وإدغامها في الياء الأخرى ، وإما على أنّه من الريّ الذي هو

٧٣

النعمة والترفه ، من قولهم : ريّان من النّعيم. وأصله من الريّ ضد العطش ، لأنّ الريّ يستعار للتنعم كما يستعار التلهّف للتألّم.

[٧٥ ـ ٧٦] (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

هذا جواب قولهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣]. لقن الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كشف مغالطتهم أو شبهتهم ؛ فأعلمهم بأن ما هم فيه من نعمة الدنيا إنما هو إمهال من الله إيّاهم ، لأنّ ملاذ الكافر استدراج. فمعيار التفرقة بين النّعمة الناشئة عن رضى الله تعالى على عبده وبين النعمة التي هي استدراج لمن كفر به هو النظر إلى حال من هو في نعمة بين حال هدى وحال ضلال. قال تعالى في شأن الأولين : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧]. وقال في شأن الآخرين (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦].

والمعنى : أن من كان منغمسا في الضلالة اغترّ بإمهال الله له فركبه الغرور كما ركبهم إذ قالوا (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

واللّام في قوله (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) لام الأمر أو الدعاء ، استعملت مجازا في لازم معنى الأمر ، أي التحقيق ، أي فسيمد له الرحمن مدا ، أي إن ذلك واقع لا محالة على سنّة الله في إمهال الضّلال ، إعذارا لهم ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] ، وتنبيها للمسلمين أن لا يغتروا بإنعام الله على الضّلال حتى أنّ المؤمنين يدعون الله به لعدم اكتراثهم بطول مدة نعيم الكفّار.

فإن كان المقصود من (قُلْ) أن يقول النبي ذلك للكفّار فلام الأمر مجرد مجاز في التحقيق ، وإن كان المقصود أن يبلّغ النبي ذلك عن الله أنه قال ذلك فلام الأمر مجاز أيضا وتجريد بحيث إنّ الله تعالى يأمر نفسه بأن يمد لهم.

والمدّ : حقيقته إرخاء الحبل وإطالته ، ويستعمل مجازا في الإمهال كما هنا ، وفي الإطالة كما في قولهم : مدّ الله في عمرك.

٧٤

و (مَدًّا) مفعول مطلق مؤكد لعامله ، أي فليمدد له المدّ الشديد ، فسينتهي ذلك.

و (حَتَّى) لغاية المد ، وهي ابتدائية ، أي يمدّ له الرحمن إني أن يروا ما يوعدون ، أي لا محيص لهم عن رؤية ما أوعدوا من العذاب ولا يدفعه عنه طول مدّتهم في النّعمة. فتكون الغاية مضمون الجملة التي بعدها (حَتَّى) لا لفظا مفردا. والتقدير : يمدّ لهم الرحمن حتى يروا العذاب فيعلموا من هو أسعد ومن هو أشقى.

وحرف الاستقبال لتوكيد حصول العلم لهم حينئذ وليس للدّلالة على الاستقبال لأنّ الاستقبال استفيد من الغاية.

و (إِمَّا) حرف تفصيل ل (ما يُوعَدُونَ) ، أي ما أوعدوا من العذاب إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة ، فإن كلّ واحد منهم لا يعدو أن يرى أحد العذابين أو كليهما.

وانتصب لفظ (الْعَذابَ) على المفعولية ل (رَأَوْا). وحرف (إِمَّا) غير عاطف ، وهو معترض بين العامل ومعموله ، كما في قول تأبّط شرا :

هما خطّتا إمّا إسار ومنّة

وإما دم والموت بالحر أجدر

بجرّ (إسار ، ومنّة ، ودم).

وقوله (شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) مقابل قولهم (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] فالمكان يرادف المقام ، والجند الأعوان ، لأنّ الندي أريد به أهله كما تقدم ، فقوبل (خَيْرٌ نَدِيًّا) ب (أَضْعَفُ جُنْداً).

وجملة (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) معطوفة على جملة (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) لما تضمنه ذلك من الإمهال المفضي إلى الاستمرار في الضلال ، والاستمرار : الزيادة. فالمعنى على الاحتباك ، أي فليمدد له الرحمن مدا فيزدد ضلالا ، ويمدّ للذين اهتدوا فيزدادوا هدى.

وجملة (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) عطف على جملة (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً). وهو ارتقاء من بشارتهم بالنجاة إلى بشارتهم برفع الدرجات ، أي الباقيات الصالحات خير من السلامة من العذاب التي اقتضاها قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) ، أي فسيظهر أن ما كان فيه الكفرة من النعمة والعزّة هو أقلّ مما كان عليه المسلمون من الشظف والضعف باعتبار المآلين ، إذ كان مآل الكفرة العذاب ومآل

٧٥

المؤمنين السلامة من العذاب وبعد فللمؤمنين الثواب.

والباقيات الصالحات : صفتان لمحذوف معلوم من المقام ، أي الأعمال الباقي نعيمها وخيرها ، والصالحات لأصحابها هي خير عند الله من نعمة النجاة من العذاب. وقد تقدّم وجه تقديم الباقيات على الصالحات عند الكلام على نظيره في أثناء سورة الكهف.

والمردّ ، المرجع. والمراد به عاقبة الأمر.

[٧٧ ـ ٨٠] (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

تفريع على قوله (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم : ٦٦] وما اتصل به من الاعتراض والتفريعات. والمناسبة : أن قائل هذا الكلام كان في غرور مثل الغرور الذي كان فيه أصحابه. وهو غرور إحالة البعث.

والآية تشير إلى قصة خبّاب بن الأرتّ مع العاص بن وائل السهمي. ففي «الصحيح» : أن خبّابا كان يصنع السيوف في مكة ، فعمل للعاص بن وائل سيفا وكان ثمنه دينا على العاص ، وكان خبّاب قد أسلم ، فجاء خبّاب يتقاضى دينه من العاص فقال له العاص بن وائل : لا أقضيكه حتى تكفر بمحمّد ، فقال خبّاب (وقد غضب) : لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثمّ يبعثك. قال العاص : أو مبعوث أنا بعد الموت؟ قال : نعم. قال (العاص متهكما) : إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك». فنزلت هذه الآية في ذلك. فالعاص بن وائل هو المراد بالذي كفر بآياتنا.

والاستفهام في (أَفَرَأَيْتَ) مستعمل في التعجيب من كفر هذا الكافر.

والرؤية مستعارة للعلم بقصته العجيبة. نزلت القصة منزلة الشيء المشاهد بالبصر لأنه من أقوى طرق العلم. وعبر عنه بالموصول لما في الصلة من منشأ العجب ولا سيما قوله ()

(لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).

والمقصود من الاستفهام لفت الذهن إلى معرفة هذه القصة أو إلى تذكرها إن كان عالما بها.

٧٦

والخطاب لكل من يصلح للخطاب فلم يرد به معيّن. ويجوز أن يكون خطابا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والآيات : القرآن ، أي كفر بما أنزل إليه من الآيات وكذب بها. ومن جملتها آيات البعث.

والولد : اسم جمع لولد المفرد ، وكذلك قرأه الجمهور ، وقرأ حمزة والكسائي ـ في هذه السورة في الألفاظ الأربعة ـ «وولد» ـ بضمّ الواو وسكون اللام ـ فهو جمع ولد ، كأسد وأسد.

وجملة (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) جواب لكلامه على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامه على ظاهر عبارته من الوعد بقضاء الدّين من المال الذي سيجده حين يبعث ، فالاستفهام في قوله (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إنكاري وتعجيبي.

و (أَطَّلَعَ) افتعل من طلع للمبالغة في حصول فعل الطلوع وهو الارتقاء ، ولذلك يقال لمكان الطلوع مطلع بالتخفيف ومطّلع بالتشديد. ومن أجل هذا أطلق الاطلاع على الإشراف على الشيء ، لأنّ الذي يروم الإشراف على مكان محجوب عنه يرتقي إليه من علوّ ، فالأصل أن فعل (اطّلع) قاصر غير محتاج إلى التعدية ، قال تعالى : (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ* فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٤ ، ٥٥] ، فإذا ضمن (أَطَّلَعَ) معنى أشرف عدي بحرف الاستعلاء كقوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) وتقدّم إجمالا في سورة الكهف [١٨].

فانتصب (الْغَيْبَ) في هذه الآية على المفعولية لا على نزع الخافض كما توهمه بعض المفسرين. قال في «الكشاف» : «ولاختيار هذه الكلمة شأن ، يقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب» اه. فالغيب : هو ما غاب عن الأبصار.

والمعنى : أأشرف على عالم الغيب فرأى مالا وولدا معدّين له حين يأتي يوم القيامة أو فرأى ماله وولده صائرين معه في الآخرة لأنه لما قال فسيكون لي مال وولد عنى أن ماله وولده راجعان إليه يومئذ أم عهد الله إليه بأنّه معطيه ذلك فأيقن بحصوله ، لأنه لا سبيل إلى معرفة ما أعد له يوم القيامة إلا أحد هذين إما مكاشفة ذلك ومشاهدته ، وإما إخبار الله بأنه يعطيه إياه.

ومتعلّق العهد محذوف يدلّ عليه السياق. تقديره : بأن يعطيه مالا وولدا.

٧٧

و (عِنْدَ) ظرف مكان ، وهو استعارة بالكناية بتشبيه الوعد بصحيفة مكتوبة بها تعاهد وتعاقد بينه وبين الله موضوعة عند الله ، لأن الناس كانوا إذا أرادوا توثيق ما يتعاهدون عليه كتبوه في صحيفة ووضعوها في مكان حصين مشهور كما كتب المشركون صحيفة القطيعة بينهم وبين بني هاشم ووضعوها في الكعبة. وقال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل ينقض

ما في المهارق الأهواء

ولعلّ في تعقيبه بقوله (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) إشارة إلى هذا المعنى بطريق مراعاة النظير.

واختير هنا من أسمائه (الرَّحْمنِ) ، لأن استحضار مدلوله أجدر في وفائه بما عهد به من النعمة المزعومة لهذا الكافر ، ولأن في ذكر هذا الاسم توركا على المشركين الذين قالوا (وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠].

و (كَلَّا) حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلّم واحد ، أو من كلام يحكى عن متكلم آخر أو مسموع منه كقوله تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي) [الشعراء : ٦١ ، ٦٢].

والأكثر أن تكون عقب آخر الكلام المبطل بها ، وقد تقدّم على الكلام المبطل للاهتمام بالإبطال وتعجيله والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها كما في قوله تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ* وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ* وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ* إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) [المدثر : ٣٢ ـ ٣٥] على أحد تأويلين ، ولما فيها من معنى الإبطال كانت في معنى النّفي ، فهي نقيض إي وأجل ونحوهما من أحرف الجواب بتقدير الكلام السابق.

والمعنى : لا يقع ما حكى عنه من زعمه ولا من غروره ، والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها ، فلا يعهد في كلام العرب أن يقول قائل في ردّ كلام : كلّا ، ويسكت.

ولكونها حرف ردع أفادت معنى تامّا يحسن السكوت عليه. فلذلك جاز الوقف عليها عند الجمهور ، ومنع المبرد الوقف عليها بناء على أنها لا بد أن تتبع بكلام. وقال الفراء : مواقعها أربعة :

ـ موقع يحسن الوقف عليها والابتداء بها كما في هذه الآية.

ـ وموقع يحسن الوقف عليها ولا يحسن الابتداء بها كقوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* قالَ كَلَّا فَاذْهَبا) [الشعراء : ١٤ ، ١٥].

٧٨

ـ وموقع يحسن فيه الابتداء بها ولا يحسن الوقف عليها كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) [عبس : ١١].

ـ وموقع لا يحسن فيه شيء من الأمرين كقوله تعالى : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٤].

وكلام الفراء يبين أنّ الخلاف بين الجمهور وبين المبرد لفظي لأنّ الوقف أعم من السكوت التام.

وحرف التنفيس في قوله (سَنَكْتُبُ) لتحقيق أنّ ذلك واقع لا محالة كقوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨].

والمد في العذاب : الزيادة منه ، كقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥].

و (ما يَقُولُ) في الموضعين إيجاز ، لأنه لو حكي كلامه لطال. وهذا كقوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) [آل عمران : ١٨٣] ، أي وبقربان تأكله النار ، أي ما قاله من الإلحاد والتهكم بالإسلام ، وما قاله من المال والولد ، أي سنكتب جزاءه ونهلكه فنرثه ما سمّاه من المال والولد ، أي نرث أعيان ما ذكر أسماءه ، إذ لا يعقل أن يورث عنه قوله وكلامه. ف (ما يَقُولُ) بدل اشتمال من ضمير النصب في (نَرِثُهُ) ، إذ التقدير : ونرث ولده وماله.

والإرث : مستعمل مجازا في السلب والأخذ ، أو كناية عن لازمه وهو الهلاك. والمقصود : تذكيره بالموت ، أو تهديده بقرب هلاكه.

ومعنى إرث أولاده أنهم يصيرون مسلمين فيدخلون في حزب الله ، فإن العاصي ولد عمرا الصحابي الجليل وهشاما الصحابي الشهيد يوم أجنادين ، فهنا بشارة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونكاية وكمد للعاصي بن وائل.

والفرد : الذي ليس معه ما يصير به عددا ، إشارة إلى أنّه يحشر كافرا وحده دون ولده ، ولا مال له ، و (فَرْداً) حال.

[٨١ ـ ٨٢] بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢))

عطف على جملة (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُ) [مريم : ٦٦] فضمير (اتَّخَذُوا) عائد

٧٩

إلى الذين أشركوا لأنّ الكلام جرى على بعض منهم.

والاتخاذ : جعل الشخص الشيء لنفسه ، فجعل الاتخاذ هنا الاعتقاد والعبادة. وفي فعل الاتخاذ إيماء إلى أن عقيدتهم في تلك الآلهة شيء مصطلح عليه مختلق لم يأمر الله به كما قال تعالى عن إبراهيم : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥].

وفي قوله (مِنْ دُونِ اللهِ) إيماء إلى أن الحق يقتضي أن يتّخذوا الله إلها ، إذ بذلك تقرّر الاعتقاد الحق من مبدأ الخليقة ، وعليه دلّت العقول الراجحة.

ومعنى (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) ليكونوا معزّين لهم ، أي ناصرين ، فأخبر عن الآلهة بالمصدر لتصوير اعتقاد المشركين في آلهتهم أنّهم نفس العزّ ، أي إن مجرد الانتماء لها يكسبهم عزّا.

وأجرى على الآلهة ضمير العاقل لأنّ المشركين الذين اتخذوهم توهموهم عقلاء مدبرين.

والضميران في قوله : (سَيَكْفُرُونَ) و (يَكُونُونَ) يجوز أن يكونا عائدين إلى آلهة ، أي سينكر الآلهة عبادة المشركين إيّاهم ، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر ، وستكون الآلهة ذلّا ضد العزّ.

والأظهر أن ضمير (سَيَكْفُرُونَ) عائد إلى المشركين ، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً). وفيه تمام المقابلة ، أي بعد أن تكلفوا جعلهم آلهة لهم سيكفرون بعبادتهم ، فالتعبير بفعل (سَيَكْفُرُونَ) يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود ، وأن ضمير (يَكُونُونَ) للآلهة وفيه تشتيت الضمائر. ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يرجع كلا إلى ما يناسبه ، كقول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

أي : وأحرز جمع المشركين ما جمّعه المسلمون من الغنائم.

ويجوز أن يكون ضميرا (سَيَكْفُرُونَ) و (يَكُونُونَ) راجعين إلى المشركين. وأن حرف الاستقبال للحصول قريبا ، أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضدا على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها ، فهو بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن دينه سيظهر على دين الكفر. وفي هذه المقابلة طباق مرتين.

٨٠