تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

عقّب تحذيرهم من عذاب الآخرة والنداء على سوء ضلالهم في الدنيا بالأمر بإنذارهم استقصاء في الإعذار لهم.

والضمير عائد إلى الظالمين ، وهم المشركون من أهل مكة وغيرهم من عبدة الأصنام لقوله (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقوله (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [مريم : ٤٠].

وانتصب (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) على أنه مفعول خلف عن المفعول الثاني ل (أَنْذِرْهُمْ) ، لأنه بمعنى أنذرهم عذاب يوم الحسرة.

والحسرة : الندامة الشديدة الداعية إلى التلهف. والمراد بيوم الحسرة يوم الحساب ، أضيف اليوم إلى الحسرة لكثرة ما يحدث فيه من تحسر المجرمين على ما فرطوا فيه من أسباب النجاة ، فكان ذلك اليوم كأنه مما اختصت به الحسرة ، فهو يوم حسرة بالنسبة إليهم وإن كان يوم فرح بالنسبة إلى الصالحين.

واللام في (الْحَسْرَةِ) على هذا الوجه لام العهد الذهني ، ويجوز أن يكون اللام عوضا عن المضاف إليه ، أي يوم حسرة الظالمين.

ومعنى (قُضِيَ الْأَمْرُ) : تمّم أمر الله بزجهم في العذاب فلا معقب له.

ويجوز أن يكون المراد بالأمر أمر الله بمجيء يوم القيامة ، أي إذ حشروا. و (إذ) اسم زمان ، بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ).

وجملة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) حال من (الْأَمْرُ) وهي حال سببية ، إذ التقدير : إذ قضي أمرهم.

والغفلة : الذهول عن شيء شأنه أن يعلم.

ومعنى جملة الحال على الاحتمال الأول في معنى الأمر الكناية عن سرعة صدور الأمر بتعذيبهم ، أي قضي أمرهم على حين أنهم في غفلة ، أي بهت. وعلى الاحتمال الثاني تحذير من حلول يوم القيامة بهم قبل أن يؤمنوا كقوله (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] ، وهذا أليق بقوله : (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

٤١

ومعنى (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) استمرار عدم إيمانهم إلى حلول قضاء الأمر يوم الحسرة. فاختيار صيغة المضارع فيه دون صيغة اسم الفاعل لما يدلّ عليه المضارع من استمرار الفعل وقتا فوقتا استحضارا لذلك الاستمرار العجيب في طوله وتمكنه.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

تذييل لختم القصة على عادة القرآن في تذييل الأغراض عند الانتقال منها إلى غيرها. والكلام موجّه إلى المشركين لإبلاغه إليهم.

وضمير (يُرْجَعُونَ) عائد إلى (مَنْ عَلَيْها) وإلى ما عاد إليه ضمير الغيبة في (وَأَنْذِرْهُمْ) [مريم : ٣٩].

وحقيقة الإرث : مصير مال الميت إلى من يبقى بعده. وهو هنا مجاز في تمحض التصرف في الشيء دون مشارك. فإن الأرض كانت في تصرف سكانها من الإنسان والحيوان كلّ بما يناسبه ، فإذا هلك الناس والحيوان فقد صاروا في باطن الأرض وصارت الأرض في غير تصرفهم فلم يبق تصرف فيها إلا لخالقها ، وهو تصرف كان في ظاهر الأمر مشتركا بمقدار ما خولهم الله التصرف فيها إلى أجل معلوم ، فصار الجميع في محض تصرف الله ، ومن جملة ذلك تصرفه بالجزاء.

وتأكيد جملة (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) بحرف التوكيد لدفع الشك لأن المشركين ينكرون الجزاء ، فهم ينكرون أن الله يرث الأرض ومن عليها بهذا المعنى.

وأما ضمير الفصل في قوله (نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) فهو لمجرد التأكيد ولا يفيد تخصيصا ، إذ لا يفيد ردّ اعتقاد مخالف لذلك.

وظهر لي : أن مجيء ضمير الفصل بمجرد التأكيد كثير إذا وقع ضمير الفصل بعد ضمير آخر نحو قوله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) في سورة طه [١٤] ، وقوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) في سورة يوسف [٣٧].

وأفاد هذا التذييل التعريف بتهديد المشركين بأنهم لا مفرّ لهم من الكون في قبضة الربّ الواحد الذي أشركوا بعبادته بعض ما على الأرض ، وأن آلهتهم ليست بمرجوة لنفعهم إذ ما هي إلّا مما يرثه الله.

٤٢

وبذلك كان موقع جملة (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) بيّنا ، فالتقديم مفيد القصر ، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ).

[٤١ ، ٤٢] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢))

قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين.

وإذ كان إبراهيم عليه‌السلام أبا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلانا باقيا ، لبنائه له هيكل التوحيد وهو الكعبة ، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة ، وذكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم : ٣٧] إلى قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠]. ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.

وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.

وقد جرى سرد خبر إبراهيم عليه‌السلام على أسلوب سرد قصة مريم عليها‌السلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.

وتقدم تفسير (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في أول قصة مريم [١٦].

و (الصِّدِّيقُ) ـ بتشديد الدال ـ صيغة مبالغة في الاتصاف ، مثل الملك الضّليل لقب امرئ القيس ، وقولهم : رجل مسيك : أي شحيح ، ومنه طعام حرّيف ، ويقال : دليل خرّيت ، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز ، مشتقا من الخرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره. وتقدم في قوله تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٦]. وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا ، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها ، كما في قول تأبّط شرّا :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عم الصّدق شمس بن مالك

٤٣

وتأكيد هذا الخبر بحرف التوكيد وبإقحام فعل الكون للاهتمام بتحقيقه زيادة في الثناء عليه.

وجملة (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) واقعة موقع التعليل للاهتمام بذكره في التلاوة ، وهذه الجملة معترضة بين المبدل منه والبدل ، فإن (إذ) اسم زمان وقع بدلا من إبراهيم ، أي اذكر ذلك خصوصا من أحوال إبراهيم فإنه أهمّ ما يذكر فيه لأنه مظهر صديقيته إذ خاطب أباه بذلك الإنكار.

والنبي : فعيل بمعنى مفعول ، من أنبأه بالخبر. والمراد هنا أنه منبّأ من جانب الله تعالى بالوحي. والأكثر أن يكون النبي مرسلا للتبليغ ، وهو معنى شرعي ، فالنبي فيه حقيقة عرفية. وتقدم في سورة البقرة [٢٤٦] عند قوله : (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) ، فدل ذلك على أن قوله لأبيه (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) إنما كان عن وحي من الله ليبلغ قومه إبطال عبادة الأصنام.

وقرأ الجمهور (نَبِيًّا) بياء مشددة بتخفيف الهمزة ياء لثقلها ولمناسبة الكسرة. وقرأه نافع وحده (نبيئا) بهمزة آخره ، وبذلك تصير الفاصلة القرآنية على حرف الألف ، ومثل تلك الفاصلة كثير في فواصل القرآن.

وقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) إلخ بدل اشتمال من (إبراهيم). و (إذ) اسم زمان مجرد عن الظرفية لأن (إذ) ظرف متصرف على التحقيق. والمعنى : اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه فإن ذلك الوقت أجدر أوقات إبراهيم بأن يذكر.

وأبو إبراهيم هو (آزار) تقدم ذكره في سورة الأنعام.

وافتتح إبراهيم خطابه أباه بندائه مع أن الحضرة مغنية عن النداء قصدا لإحضار سمعه وذهنه لتلقي ما سيلقيه إليه.

قال الجد الوزير رحمه‌الله فيما أملاه عليّ ذات ليلة من عام ١٣١٨ ه‍ فقال :

«علم إبراهيم أن في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق وبخاصة الآباء مع أبنائهم ، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة ، وألقى إليه حجّة فساد عبادته في صورة الاستفهام عن سبب عبادته وعمله المخطئ ، منبّها على خطئه عند ما يتأمل في عمله ، فإنه إن سمع ذلك وحاول بيان سبب

٤٤

عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه ، فإنه لو عبد حيّا مميزا لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحسّ إذ قال له : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) فذلك حجة محسوسة ، ثم أتبعها بقوله : (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [مريم : ٤٣] ، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ، ثم ألقى إليه حجة لا ثقة بالمتصلبين في الضلال بقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) [مريم : ٤٥] ، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني ، فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضي‌الله‌عنه :

زعم المنجّم والطّبيب كلاهما

لا تحشر الأجسام قلت : إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

قال : وفي النداء بقوله : (يا أَبَتِ) أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونظّر ذلك بتكرير لقمان قوله : (يا بُنَيَ) [لقمان : ١٣ ـ ١٦] ثلاث مرات ، قال : بخلاف قول نوح لابنه : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ٤٢] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز». انتهى كلامه بما يقارب لفظه.

وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته ، كما أشار إليه صاحب «الكشاف» ، ومكنى به عن نفي العلّة المسئول عنها بقوله : (لِمَ تَعْبُدُ) ، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسئول عنه ، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.

و (أَبَتِ) : أصله أبي ، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضا على غير قياس ، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة. ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء ، وخالفه الفراء فقال : ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : (يا أبت) ـ بفتح التاء ـ دون ألف بعدها ، بناء على أنهم يقولون (يا أبتا) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفا وبقاء الفتحة.

٤٥

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣))

إعادة ندائه بوصف الأبوّة تأكيد لإحضار الذهن ولإمحاض النصيحة المستفاد من النداء الأول. قال في «الكشاف» : «ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ ، فلا تستنكف ، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه» اه. ذلك أن أباه كان يرى نفسه على علم عظيم لأنه كان كبير ديانة قومه. وأراد إبراهيم علم الوحي والنبوءة.

وتفريع أمره بأن يتبعه على الإخبار بما عنده من العلم دليل على أن أحقية العالم بأن يتبع مركوزة في غريزة العقول لم يزل البشر يتقصّون مظانّ المعرفة والعلم لجلب ما ينفع واتقاء ما يضر ، قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). [النحل : ٤٣] وفي قوله : (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) استعارة مكنية ؛ شبه إبراهيم بهادي الطريق البصير بالثنايا ، وإثبات الصراط السويّ قرينة التشبيه ، وهو أيضا استعارة مصرحة بأن شبه الاعتقاد الموصل إلى الحق والنجاة بالطريق المستقيم المبلغ إلى المقصود.

و (يا أَبَتِ) تقدّم الكلام على نظيره قريبا.

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤))

إعادة النداء لزيادة تأكيد ما أفاده النداء الأول والثاني.

والمراد بعبادة الشيطان عبادة الأصنام ؛ عبر عنها بعبادة الشيطان إفصاحا عن فسادها وضلالها ، فإن نسبة الضلال والفساد إلى الشيطان مقررة في نفوس البشر ، ولكن الذين يتبعونه لا يفطنون إلى حالهم ويتبعون وساوسه تحت ستار التمويه مثل قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ففي الكلام إيجاز لأن معناه : لا تعبد الأصنام لأن اتخاذها من تسويل الشيطان للذين اتخذوها ووضعوها للناس ، وعبادتها من وساوس الشيطان للذين سنّوا سنن عبادتها ، ومن وساوسه للناس الذين أطاعوهم في عبادتها ، فمن عبد الأصنام فقد عبد الشيطان وكفى بذلك ضلالا معلوما.

٤٦

وهذا كقوله تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) وتقدم في سورة النساء [١١٧]. وفي هذا تبغيض لعبادة الأصنام ، لأن في قرارة نفوس الناس بغض الشيطان والحذر من كيده.

وجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) تعليل للنهي عن عبادته وعبادة آثار وسوسته بأنه شديد العصيان للرب الواسع الرحمة. وذكر وصف (عَصِيًّا) الذي هو من صيغ المبالغة في العصيان مع زيادة فعل (كان) للدلالة على أنه لا يفارق عصيان ربه وأنه متمكن منه ، فلا جرم أنه لا يأمر إلا بما ينافي الرحمة ، أي بما يفضي إلى النقمة ، ولذلك اختير وصف الرحمن من بين صفات الله تعالى تنبيها على أن عبادة الأصنام توجب غضب الله فتفضي إلى الحرمان من رحمته ، فمن كان هذا حاله فهو جدير بأن لا يتبع.

وإظهار اسم الشيطان في مقام الإضمار ، إذ لم يقل : إنه كان للرحمن عصيّا ، لإيضاح إسناد الخبر إلى المسند إليه ، ولزيادة التنفير من الشيطان ، لأن في ذكر صريح اسمه تنبيها إلى النفرة منه ، ولتكون الجملة موعظة قائمة بنفسها. وتقدّم الكلام على (يا أَبَتِ) قريبا.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))

لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمن انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله ، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم ، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم.

وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة ؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمن للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته من شأنه سعة الرحمة.

والولي : الصاحب والتابع ومن حالهما حال واحدة وأمرهما جميع ؛ فكني بالولاية عن المقارنة في المصير.

والتعبير بالخوف الدال على الظن دون القطع تأدب مع الله تعالى بأن لا يثبت أمرا فيما هو من تصرف الله ، وإبقاء للرجاء في نفس أبيه لينظر في التخلّص من ذلك العذاب بالإقلاع عن عبادة الأوثان.

٤٧

ومعنى : (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) فتكون في اتباع الشيطان في العذاب. وتقدّم الكلام على (يا أَبَتِ) قريبا.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦))

فصلت جملة : (قالَ ...) لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

والاستفهام للإنكار إنكارا لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم. وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه.

وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعنجهية بعكس ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة ، فدلّ ذلك على أنه كان قاسي القلب ، بعيد الفهم ، شديد التصلّب في الكفر.

وجملة (أَراغِبٌ أَنْتَ) جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طردا لقواعد التركيب اللفظي ، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانيا بعد الوصف فاعلا سادّا مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المسند. فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثبات المسند إليه ، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به ، فيلتجئ البليغ إلى الإتيان بالوصف أولا والإتيان بالاسم ثانيا.

ولمّا كان الوصف له عمل فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدإ عراقة في الأسماء ، واعتباره مع ذلك متطلّبا فاعلا ، وجعلوا فاعله سادّا مسدّ الخبر ، فصار للتركيب شبهان. والتحقيق أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. ولهذا نظر الزمخشري في «الكشاف» إلى هذا المقصد فقال : «قدم الخبر على المبتدأ في قوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى» اه. ولله دره ، وإن ضاع بين أكثر الناظرين درّه. فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه ، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عجب.

٤٨

والنداء في قوله (يا إِبْراهِيمُ) تكملة لجملة الإنكار والتعجب ، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله ، كأنه في غيبة عن إدراك فعله ، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه ، فينبغي الوقف على قوله (يا إِبْراهِيمُ).

وجملة (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) مستأنفة.

واللام موطئة للقسم تأكيدا لكونه راجمه إن لم ينته عن كفره بآلهتهم.

والرجم : الرمي بالحجارة ، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي. وإسناد أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة ؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه ، وإما لأنه كان حاكما في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيرا في دينهم فيرجم قومه إبراهيم استنادا لحكمه بمروقه عن دينهم.

وجملة (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) عطف على جملة (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) ؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم ، وبعقوبة عاجلة وهي طرده من معاشرته وقطع مكالمته.

والهجر : قطع المكالمة وقطع المعاشرة ، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخلع إشعارا بتحقيره.

و (مَلِيًّا) : طويلا ، وهو فعيل ، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر. فمليّ مشتق من مصدر ممات ، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال : أملى له ، إذا أطال له المدة ، فيأتون بهمزة التعدية ، ف (مَلِيًّا) صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة ، أي هجرا مليّا ، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان ، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء.

ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف ، أي زمانا طويلا ، بناء على أن الملا مقصورا غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ) [القمر : ١٣] ، أي سفينة ذات ألواح.

[٤٧ ، ٤٨] (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨))

٤٩

سلام عليك سلام توديع ومتاركة. وبادره به قبل الكلام الذي أعقبه به إشارة إلى أنه لا يسوءه ذلك الهجر في ذات الله تعالى ومرضاته.

ومن حلم إبراهيم أن كانت متاركته أباه مثوبة بالإحسان في معاملته في آخر لحظة.

والسلام : السلامة. و (على) للاستعلاء المجازي وهو التمكن. وهذه كلمة تحية وإكرام ، وتقدمت آنفا عند قوله (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) [مريم : ١٥].

وأظهر حرصه على هداه فقال (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، أي أطلب منه لك المغفرة من هذا الكفر ، بأن يهديه الله إلى التوحيد فيغفر له الشرك الماضي ، إذ لم يكن إبراهيم تلقى نهيا من الله عن الاستغفار للمشرك. وهذا ظاهر ما في قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤]. واستغفاره له هو المحكي في قوله تعالى : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦].

وجملة (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) مستأنفة ، وعلامة الاستقبال والفعل المضارع مؤذنان بأنه يكرر الاستغفار في المستقبل.

وجملة (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) تعليل لما يتضمنه الوعد بالاستغفار من رجاء المغفرة استجابة لدعوة إبراهيم بأن يوفق الله أبا إبراهيم للتوحيد ونبذ الإشراك.

والحفيّ : الشديد البر والإلطاف. وتقدم في سورة الأعراف [١٨٧] عند قوله : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها).

وجملة (وَأَعْتَزِلُكُمْ) عطف على جملة (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، أي يقع الاستغفار في المستقبل ويقع اعتزالي إياكم الآن ، لأن المضارع غالب في الحال. أظهر إبراهيم العزم على اعتزالهم وأنه لا يتوانى في ذلك ولا يأسف له إذا كان في ذات الله تعالى ، وهو المحكي بقوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] ، وقد خرج من بلد الكلدان عازما على الالتحاق بالشام حسب أمر الله تعالى.

رأى إبراهيم أن هجرانه أباه غير مغن ، لأن بقية القوم هم على رأي أبيه فرأى أن يهجرهم جميعا ، ولذلك قال له (وَأَعْتَزِلُكُمْ).

وضمير جماعة المخاطبين عائد إلى أبي إبراهيم وقومه تنزيلا لهم منزلة الحضور في

٥٠

ذلك المجلس ، لأن أباه واحد منهم وأمرهم سواء ، أو كان هذا المقال جرى بمحضر جماعة منهم.

وعطف على ضمير القوم أصنامهم للإشارة إلى عداوته لتلك الأصنام إعلانا بتغيير المنكر.

وعبر عن الأصنام بطريق الموصولية بقوله (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلّة اعتزاله إياهم وأصنامهم : بأن تلك الأصنام تعبد من دون الله وأن القوم يعبدونها ، فذلك وجه اعتزاله إياهم وأصنامهم.

والدعاء : العبادة ، لأنها تستلزم دعاء المعبود.

وزاد على الإعلان باعتزال أصنامهم الإعلان بأنه يدعو الله احتراسا من أن يحسبوا أنه نوى مجرد اعتزال عبادة أصنامهم فربما اقتنعوا بإمساكه عنهم ، ولذا بيّن لهم أنه بعكس ذلك يدعو الله الذي لا يعبدونه.

وعبّر عن الله بوصف الربوبية المضاف إلى ضمير نفسه للإشارة إلى انفراده من بينهم بعبادة الله تعالى فهو ربّه وحده من بينهم ، فالإضافة هنا تفيد معنى القصر الإضافي ، مع ما تتضمنه الإضافة من الاعتزاز بربوبية الله إياه والتشريف لنفسه بذلك.

وجملة (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) في موضع الحال من ضمير (وَأَدْعُوا) أي راجيا أن لا أكون بدعاء ربي شقيا. وتقدم معناه عند قوله (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) في هذه السورة [٤]. وفي إعلانه هذا الرجاء بين ظهرانيهم تعريض بأنهم أشقياء بدعاء آلهتهم.

[٤٩ ، ٥٠] (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

طوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرا إلّا نفذ عزمه ، واكتفاء بذكر ما ترتّب عليه من جعل عزمه حدثا واقعا قد حصل جزاؤه عليه من ربّه ، فإنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس بهم إذ وهبه إسحاق ابنه ، ويعقوب ابن ابنه ، وجعلهما نبيئين. وحسبك بهذه مكرمة له عند ربّه.

٥١

وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب ، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار ، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضا ، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحاق ، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومه.

وإنما اقتصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل : وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته ، فهي قد اعتزلت قومها أيضا إرضاء لربها ولزوجها ، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه ، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب ؛ ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهبة من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب. أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدا عن إبراهيم في مكة ليكون جار بيت الله. وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما.

وقد خصّ إسماعيل بالذكر استقلالا عقب ذلك ، ومثله قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [ص : ٤٥] ثم قال : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) في سورة ص [٤٨] ، وقد قال في آية الصافات [٩٩ ـ ١٠١] (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) إلى أن قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) إذ هو المراد بالغلام الحليم.

والمراد بالهبة هنا : تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سكن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها. وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة ، أو أريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه.

والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيدا وسرّ به ، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشرة سنة ، وأن من يعقوب نشأت أمّة عظيمة.

وحرف (لما) حرف وجود لوجود ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطه فتقتضي جملتين ، والأكثر أن يكون وجود جوابها عند وجود شرطها ، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية ، أي التعليل دون توقيت ، وذلك كما هنا.

٥٢

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام.

و (من) في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) [الصافات : ١١٣] إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دلّ عليه (وَهَبْنا) ، أي موهوبا من رحمتنا. وإما اسم بمعنى بعض بتأويل ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) في سورة البقرة [٨]. وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة (من) استعمالها اسما كما أثبتوا ذلك لكلمات (الكاف) و (عن) و (على) لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه ، كما قال التفتازانيّ في «حاشية الكشاف» ، وأقرّه عبد الحكيم. وعلى هذا تكون (من) في موضع نصب على المفعول به لفعل (وَهَبْنا) ، أي وهبنا لهم بعض رحمتنا ، وهي النبوءة ، لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم.

واللسان : مجاز في الذكر والثناء.

ووصف لسان بصدق وصفا بالمصدر.

الصدق : بلوغ كمال نوعه ، كما تقدم آنفا ، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل ، ووصف بالعلوّ مجازا لشرف ذلك الثناء.

وقد رتّب جزاء الله إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيبا بديعا إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف ، ونعمة الآخرة وهي الرحمة ، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق ، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين.

وتقدم اختلاف القراء في نبيئا عند ذكر إبراهيم عليه‌السلام.

[٥١ ـ ٥٣] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

أفضت مناسبة ذكر إبراهيم ويعقوب إلى أن يذكر موسى في هذا الموضع لأنه أشرف نبي من ذرية إسحاق ويعقوب.

والقول في جملة (وَاذْكُرْ) وجملة (إِنَّهُ كانَ) كالقول في نظيريهما في ذكر إبراهيم عدا أن الجملة هنا غير معترضة بل مجرد استئناف.

٥٣

وقرأ الجمهور مخلصا بكسر اللام من أخلص القاصر إذا كان الإخلاص صفته. والإخلاص في أمر ما : الإتيان به غير مشوب بتقصير ولا تفريط ولا هوادة ، مشتق من الخلوص ، وهو التمحض وعدم الخلط. والمراد هنا : الإخلاص فيما هو شأنه ، وهو الرسالة بقرينة المقام.

وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بفتح اللام من أخلصه ، إذا اصطفاه.

وخص موسى بعنوان (المخلص) على الوجهين لأن ذلك مزيته ، فإنه أخلص في الدعوة إلى الله فاستخف بأعظم جبار وهو فرعون ، وجادله مجادلة الأكفاء ، كما حكى الله عنه في قوله تعالى في سورة الشعراء [١٨ ، ١٩] : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) إلى قوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ). وكذلك ما حكاه الله عنه بقوله : (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص : ١٧] ، فكان الإخلاص في أداء أمانة الله تعالى ميزته. ولأن الله اصطفاه لكلامه مباشرة قبل أن يرسل إليه الملك بالوحي ، فكان مخلصا بذلك ، أي مصطفى ، لأن ذلك مزيته قال تعالى (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١].

والجمع بين وصف موسى لأنه رسول ونبيء. وعطف نبيئا على (رَسُولاً) مع أن الرسول بالمعنى الشرعي أخص من النبي ، فلأن الرسول هو المرسل بوحي من الله ليبلغ إلى الناس فلا يكون الرسول إلا نبيئا ، وأما النبي فهو المنبّأ بوحي من الله وإن لم يؤمر بتبليغه ، فإذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبيء وليس رسولا ، فالجمع بينهما هنا لتأكيد الوصف ، إشارة إلى أن رسالته بلغت مبلغا قويا ، فقوله نبيئا تأكيد لوصف (رَسُولاً).

وتقدم اختلاف القراء في لفظ نبيئا عند ذكر إبراهيم.

وجملة (وَنادَيْناهُ) عطف على جملة (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) فهي مثلها مستأنفة.

والنداء : الكلام الدال على طلب الإقبال ، وأصله : جهر الصوت لإسماع البعيد ، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازا مرسلا ، ومنه (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ، وهو مشتق من الندى ـ بفتح النون وبالقصر ـ وهو بعد الصوت. ولم يسمع فعله إلّا بصيغة المفاعلة ، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة ، وتقدم عند قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) في سورة البقرة [١٧١] ، وعند قوله :

٥٤

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) في سورة آل عمران [١٩٣].

وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى. قال تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) برسالتي وبكلامي في سورة الأعراف [١٤٤] ، وتقدم تحقيق صفته هناك ، وعند قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) في سورة براءة [٦].

والطّور : الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر ، ويقال له : طور سيناء.

وجانبه : ناحيته السفلى ، ووصفه بالأيمن لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس ، لأن جهة مشرق الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي.

والتقريب : أصله الجعل بمكان القرب ، وهو الدنو وهو ضد البعد. وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي. فقوله : (نَجِيًّا) حال من ضمير (مُوسى) ، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب.

ونجّي : فعيل بمعنى مفعول من المناجاة. وهي المحادثة السرية ؛ شبّه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحدا ولا أطلع عليه أحدا بالمناجاة. وفعيل بمعنى مفعول ، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة ، مثل جليس ونديم ورضيع.

ومعنى هبة أخيه له : أن الله عزّزه به وأعانه به ، إذ جعله نبيئا وأمره أن يرافقه في الدعوة ، لأن في لسان موسى حبسة ، وكان هارون فصيح اللسان ، فكان يتكلم عن موسى بما يريد إبلاغه ، وكان يستخلفه في مهمات الأمة. وإنما جعلت تلك الهبة من رحمة الله لأن الله رحم موسى إذ يسّر له أخا فصيح اللسان ، وأكمله بالإنباء حتى يعلم مراد موسى مما يبلغه عن الله تعالى. ولم يوصف هارون بأنه رسول إذ لم يرسله الله تعالى ، وإنما جعله مبلّغا عن موسى. وأما قوله تعالى : (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه : ٤٧] فهو من التغليب.

[٥٤ ، ٥٥] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

خصّ إسماعيل بالذكر هنا تنبيها على جدارته بالاستقلال بالذكر عقب ذكر إبراهيم وابنه إسحاق ، لأن إسماعيل صار جدّ أمة مستقلة قبل أن يصير يعقوب جدّ أمة ، ولأن إسماعيل هو الابن البكر لإبراهيم وشريكه في بناء الكعبة. وتقدم ذكر إسماعيل عند قوله

٥٥

تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) في سورة البقرة [١٢٧].

وخصه بوصف صدق الوعد لأنه اشتهر به وتركه خلقا في ذريته.

وأعظم وعد صدقه وعده إياه إبراهيم بأن يجده صابرا على الذبح فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢].

وجعله الله نبيئا ورسولا إلى قومه ، وهم يومئذ لا يعدون أهله أمه وبنيه وأصهاره من جرهم. فلذلك قال الله تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ثم إن أمة العرب نشأت من ذريته فهم أهله أيضا ، وقد كان من شريعته الصلاة والزكاة وشئون الحنيفية ملة أبيه إبراهيم.

ورضى الله عنه : إنعامه عليه نعما كثيرة ، إذ باركه وأنمى نسله وجعل أشرف الأنبياء من ذريته ، وجعل الشريعة العظمى على لسان رسول من ذريته.

وتقدم اختلاف القراء في قراءة نبيئا بالهمز أو بالياء المشددة.

وتقدم توجيه الجمع بين وصف رسول ونبيء عند ذكر موسى عليه‌السلام آنفا.

[٥٦ ، ٥٧] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

إدريس : اسم جعل علما على جد أبي نوح ، وهو المسمى في التوراة (أخنوخ). فنوح هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ ، فلعل اسمه عند نسّابي العرب إدريس ، أو أن القرآن سماه بذلك اسما مشتقا من الدرس لما سيأتي قريبا. واسمه (هرمس) عند اليونان ، ويزعم أنه كذلك يسمى عند المصريين القدماء ، والصحيح أن اسمه عند المصريين (توت) أو (تحوتي) أو (تهوتي) لهجات في النطق باسمه.

وذكر ابن العبري في «تاريخه» : «أن إدريس كان يلقب عند قدماء اليونان (طريسمجيسطيس) ، ومعناه بلسانهم ثلاثي التعليم ، لأنه كان يصف الله تعالى بثلاث صفات ذاتية وهي الوجود والحكمة والحياة» اه.

ولا يخفى قرب الحروف الأولى في هذا الاسم من حروف إدريس ، فلعل العرب اختصروا الاسم لطوله فاقتصروا على أوله مع تغيير.

٥٦

وكان إدريس نبيئا ، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله». قيل : هو أول من وضع للبشر عمارة المدن ، وقواعد العلم ، وقواعد التربية ، وأول من وضع الخط ، وعلّم الحساب بالنجوم وقواعد سير الكواكب ، وتركيب البسائط بالنّار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه ، وأوّل من علم الناس الخياطة. فكان هو مبدأ من وضع العلوم ، والحضارة ، والنظم العقليّة.

فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنّه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجميّة ، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية ، كما منع إبليس من الصرف ، وكما منع طالوت من الصرف.

وتقدّم اختلاف القراء في لفظ نبيئا عند ذكر إبراهيم.

وقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي. والمراد : رفع المنزلة ، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن. وقال به أبو مسلم الأصفهاني. وقال جماعة : هو رفع حقيقي إلى السماء ، وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأنّ الله أخذه» ، وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليه‌السلام. والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروحنة جثته. ومما يذكر عنه أنّه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تروحن ، فرفع. وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات. ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليه‌السلام في السماء وأنه لمّا سلّم عليه قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فأخذ منه أنّ إدريس عليه‌السلام لم تكن له ولادة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّه لم يقل له والابن الصالح ، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارا بأخوّة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.

على أنّه يجوز أن يكون ذلك سهوا من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبد الله في «صحيح البخاري». وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جدّ أبيه. وذلك يدلّ على أنّه لم ير في قوله «مرحبا بالأخ الصالح» ما ينافي أن يكون أبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ

٥٧

ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

الجملة استئناف ابتدائي ، واسم الإشارة عائد إلى المذكورين من قوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ) زكرياء [مريم : ٢] إلى هنا. والإتيان به دون الضمير للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر مع المشار إليهم من الأوصاف ، أي كانوا أحرياء بنعمة الله عليهم وكونهم في عداد المهديين المجتبين وخليقين بمحبتهم لله تعالى وتعظيمهم إياه.

والمذكور بعد اسم الإشارة هو مضمون قوله (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وقوله (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) ، فإن ذلك أحسن جزاء على ما قدموه من الأعمال ، ومن أعطوه من مزايا النبوءة والصديقية ونحوهما. وتلك وإن كانت نعما وهداية واجتباء فقد زادت هذه الآية بإسناد تلك العطايا إلى الله تعالى تشريفا لها ، فكان ذلك التشريف هو الجزاء عليها إذ لا أزيد من المجازى عليه إلّا تشريفه.

وقرأ الجمهور (مِنَ النَّبِيِّينَ) بياءين بعد الموحدة. وقرأه نافع وحده بهمزة بعد الموحدة.

وجملة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) مستأنفة دالة على شكرهم نعم الله عليهم وتقريبه إياهم بالخضوع له بالسجود عند تلاوة آياته وبالبكاء.

والمراد به البكاء الناشئ عن انفعال النفس انفعالا مختلطا من التعظيم والخوف.

و (سُجَّداً) جمع ساجد. (وَبُكِيًّا) جمع باك. والأول بوزن فعّل مثل عذّل ، والثاني وزنه فعول جمع فاعل مثل قوم قعود ، وهو يائي لأنّ فعله بكى يبكي ، فأصله : بكوي. فلما اجتمع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وحركت عين الكلمة بحركة مناسبة للياء. وهذا الوزن سماعي في جمع فاعل ومثله.

وهذه الآية من مواضع سجود القرآن المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتداء بأولئك الأنبياء في السجود عند تلاوة القرآن ، فهم سجدوا كثيرا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت عليهم ، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا. وأثنت على سجودهم قصدا للتشبه بهم بقدر الطاقة حين نحن متلبسون بذكر صنيعهم.

٥٨

وقد سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند هذه الآية وسنّ ذلك لأمته.

[٥٩ ـ ٦٣] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

فرع على الثناء عليهم اعتبار وتنديد بطائفة من ذرياتهم لم يقتدوا بصالح أسلافهم وهم المعني بالخلف.

والخلف ـ بسكون اللام ـ عقب السوء ، و ـ بفتح اللام ـ عقب الخير. وتقدم عند قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) في سورة الأعراف [١٦٩].

وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضا إلى إبراهيم ، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب. ومنهم من يدلي إليه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل.

ولفظ (مِنْ بَعْدِهِمْ) يشمل طبقات وقرونا كثيرة ، ليس قيدا لأنّ الخلف لا يكون إلّا من بعد أصله وإنّما ذكر لاستحضار ذهاب الصالحين.

والإضاعة : مجاز في التفريط بتشبيهه بإهمال العرض النفيس ، فرطوا في عبادة الله واتبعوا شهواتهم فلم يخالفوا ما تميل إليه أنفسهم ممّا هو فساد. وتقدم قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) في سورة الكهف [٣٠].

والصلاة : عبادة الله وحده.

وهذان وصفان جامعان لأصناف الكفر والفسوق ، فالشرك إضاعة للصلاة لأنّه انصراف عن الخضوع لله تعالى ، فالمشركون أضاعوا الصلاة تماما ، قال تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٣]. والشرك : اتباع للشّهوات ، لأنّ المشركين اتّبعوا عبادة الأصنام لمجرد الشهوة من غير دليل ، وهؤلاء هم المقصود هنا ، وغير المشركين كاليهود والنصارى فرطوا في صلوات واتبعوا شهوات ابتدعوها ، ويشمل ذلك كله اسم الغيّ.

والغيّ : الضلال ، ويطلق على الشرّ ، كما أطلق ضده وهو الرشد على الخير في قوله تعالى : (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجنّ : ١٠] وقوله (قُلْ إِنِّي لا

٥٩

أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) [الجنّ : ٢١]. فيجوز أن يكون المعنى فسوف يلقون جزاء غيّهم ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] أي جزاء الآثام. وتقدم الغيّ في قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) وقوله (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) كلاهما في سورة الأعراف [٢٠٢ و ١٤٦]. وقرينة ذلك مقابلته في ضدهم بقوله (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).

وحرف (سوف) دال على أن لقاءهم الغيّ متكرر في أزمنة المستقبل مبالغة في وعيدهم وتحذيرا لهم من الإصرار على ذلك.

وقوله (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) جيء في جانبهم باسم الإشارة إشادة بهم وتنبيها لهم للترغيب في توبتهم من الكفر. وجيء بالمضارع الدّال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يمطلون في الجزاء. والجنّة : علم لدار الثواب والنّعيم. وفيها جنّات كثيرة كما ورد في الحديث : «أو جنّة واحدة هي إنّها لجنان كثيرة».

والظلم : هنا بمعنى النقص والإجحاف والمطل. كقوله (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) في سورة الكهف [٣٣].

وشيء : اسم بمعنى ذات أو موجود وليس المراد مصدر الظلم.

وذكر (شَيْئاً) في سياق النفي يفيد نفي كل فرد من أفراد النقص والإجحاف والإبطاء ، فيعلم انتفاء النقص القوي بالفحوى دفعا لما عسى أن يخالج نفوسهم من الانكسار بعد الإيمان يظن أنّ سبق الكفر يحط من حسن مصيرهم.

و (جَنَّاتِ) بدل من (الْجَنَّةَ). جيء بصيغة جمع جنات مع أن المبدل منه مفرد لأنه يشتمل على جنات كثيرة كما علمت ، وهو بدل مطابق وليس بدل اشتمال.

و (عَدْنٍ) : الخلد والإقامة ، أي جنات خلد ووصفها ب (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) لزيادة تشريفها وتحسينها. وفي ذلك إدماج لتبشير المؤمنين السابقين في أثناء وعد المدعوين إلى الإيمان.

والغيب : مصدر غاب ، فكل ما غاب عن المشاهدة فهو غيب.

وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في أول البقرة [٣].

والباء في (بِالْغَيْبِ) للظرفية ، أي وعدها إياهم في الأزمنة الغائبة عنهم. أي في

٦٠