تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

رَبَّهُ) [مريم : ٢ ، ٣].

والانتباذ : الانفراد والاعتزال ، لأن النبذ : الإبعاد والطرح ، فالانتباذ في الأصل افتعال مطاوع نبذه ، ثم أطلق على الفعل الحاصل بدون سبق فاعل له.

وانتصب (مَكاناً) على أنه مفعول (انْتَبَذَتْ) لتضمنه معنى حلت. ويجوز نصبه على الظرفية لما فيه من الإبهام. والمعنى : ابتعدت عن أهلها في مكان شرقي.

ونكر المكان إبهاما له لعدم تعلّق الغرض بتعيين نوعه إذ لا يفيد كمالا في المقصود من القصة. وأما التصدّي لوصفه بأنه شرقي فللتنبيه على أصل اتخاذ النصارى الشرق قبلةلصلواتهم إذ كان حمل مريم بعيسى في مكان من جهة مشرق الشمس. كما قال ابن عباس : «إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتّخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى : (مَكاناً شَرْقِيًّا)» ، أي أن ذلك الاستقبال ليس بأمر من الله تعالى. فذكر كون المكان شرقيا نكتة بديعة من تاريخ الشرائع مع ما فيه من مؤاخاة الفواصل.

واتخاذ الحجاب : جعل شيء يحجب عن الناس. قيل : إنها احتجبت لتغتسل وقيل لتمتشط.

والروح : الملك ، لأن تعليق الإرسال به وإضافته إلى ضمير الجلالة دلّا على أنه من الملائكة وقد تمثل لها بشرا.

والتمثل : تكلف المماثلة ، أي أن ذلك الشكل ليس شكل الملك بالأصالة.

و (بَشَراً) حال من ضمير (تمثل) ، وهو حال على معنى التشبيه البليغ.

والبشر : الإنسان. قال تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] ، أي خالق آدم عليه‌السلام.

والسويّ : المسوّى ، أي التام الخلق. وإنما تمثل لها كذلك للتناسب بين كمال الحقيقة وكمال الصورة ، وللإشارة إلى كمال عصمتها إذ قالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ، إذ لم يكن في صورته ما يكره لأمثالها ، لأنها حسبت أنه بشر اختبأ لها ليراودها عن نفسها ، فبادرته بالتعوذ منه قبل أن يكلمها مبادرة بالإنكار على ما توهمته من قصده الذي هو المتبادر من أمثاله في مثل تلك الحالة.

وجملة (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) خبرية ، ولذلك أكدت بحرف التأكيد. والمعنى :

٢١

أنها أخبرته بأنها جعلت الله معاذا لها منه ، أي جعلت جانب الله ملجأ لها مما همّ به.

وهذه موعظة له.

وذكرها صفة (الرحمن) دون غيرها من صفات الله لأنها أرادت أن يرحمها الله بدفع من حسبته داعرا عليها.

وقولها (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) تذكير له بالموعظة بأن عليه أن يتّقي ربّه.

ومجيء هذا التذكير بصيغة الشرط المؤذن بالشك في تقواه قصد لتهييج خشيته ، وكذلك اجتلاب فعل الكون الدال على كون التّقوى مستقرة فيه. وهذا أبلغ وعظ وتذكير وحثّ على العمل بتقواه.

والقصر في قوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) قصر إضافي ، أي لست بشرا ، ردا على قولها : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) المقتضي اعتقادها أنه بشر.

وقرأ الجمهور (لِأَهَبَ) بهمزة المتكلم بعد لام العلّة. ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة. وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع ليهب بياء الغائب ، أي ليهب ربّك لك ، مع أنها مكتوبة في المصحف بألف. وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء.

ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله ، لأنها علمت أنّه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربّها في أمر لم تطقه ، كما راجعه إبراهيم عليه‌السلام في قوم لوط ، وكما راجعه محمد عليه الصلاة والسلام في فرض خمسين صلاة. ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرّا عظيما إذ هي مخطوبة لرجل ولم يبن بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف.

وقولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) تبرئة لنفسها من البغاء بما يقتضيه فعل الكون من تمكن الوصف الذي هو خبر الكون ، والمقصود منه تأكيد النفي فمفاد قولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) غير مفاد قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ، وهو مما زادت به هذه القصة على ما في قصتها في سورة آل عمران ، لأن قصتها في سورة آل عمران نزلت بعد هذه فصح الاجتزاء في القصة بقولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

وقولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي لم يبن بي زوج ، لأنها كانت مخطوبة ومراكنة ليوسف النجار ولكنه لم يبن بها فإذا حملت بولد اتهمها خطيبها وأهلها بالزنى.

٢٢

وأما قولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) فهو نفي لأن تكون بغيا من قبل تلك الساعة ، فلا ترضى بأن ترمى بالبغاء بعد ذلك. فالكلام كناية عن التنزه عن الوصم بالبغاء بقاعدة الاستصحاب ، والمعنى : ما كنت بغيّا فيما مضى أفأعدّ بغيا فيما يستقبل.

وللمفسرين في هذا المقام حيرة ذكرها الفخر والطيبي ، وفيما ذكرنا مخرج من مأزقها ، وليس كلام مريم مسوقا مساق الاستبعاد مثل قول زكرياء (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : ٨] لاختلاف الحالين لأن حال زكرياء حال راغب في حصول الولد ، وحال مريم حال متشائم منه متبرئ من حصوله.

والبغيّ : اسم للمرأة الزانية ، ولذلك لم تتصل به هاء التأنيث ، ووزنه فعيل أو فعول بمعنى فاعل فيكون أصله بغوي. لأنه من البغي فلما اجتمع الواو والياء وسكن السابق منهما قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء الأصلية وعوض عن ضمة الغين كسرة لمناسبة الياء فصار بغي.

وجواب الملك معناه : أن الأمر كما قلت ، نظير قوله في قصة زكرياء : (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، وهو عدول عن إبطال مرادها من المراجعة إلى بيان هون هذا الخلق في جانب القدرة على طريقة الأسلوب الحكيم.

وفي قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) توجيه بأن ما اشتكته من توقع ضدّ قولها وطعنهم في عرضها ليس بأمر عظيم في جانب ما أراد الله من هدي الناس لرسالة عيسى عليه‌السلام بأن الله تعالى لا يصرفه عن إنفاذ مراده ما عسى أن يعرض من ضر في ذلك لبعض عبيده ، لأنّ مراعاة المصالح العامة تقدم على مراعاة المصالح الخاصة.

فضمير (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) عائد إلى ما تضمنه حوارها من لحاق الضر بها كما فسرنا به قولها (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا). فبين جواب الملك إياها وبين جواب الله زكرياء اختلاف في المعنى.

والكلام في الموضعين على لسان الملك من عند الله ، ولكنه أسند في قصة زكرياء إلى الله لأن كلام الملك كان تبليغ وحي عن الله جوابا من الله عن مناجاة زكرياء ، وأسند في هذه القصة إلى الملك لأنه جواب عن خطابها إياه.

وقوله (وَلِنَجْعَلَهُ) عطف على (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) باعتبار ما في ذلك من قول الرّوح لها (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، أي لأن هبة الغلام الزكي كرامة من الله لها ، وجعله

٢٣

آية للناس ورحمة كرامة للغلام ، فوقع التفات من طريقة الغيبة إلى طريقة التكلم.

وجملة (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) يجوز أن تكون من قول الملك ، ويجوز أن تكون مستأنفة. وضمير (كانَ) عائد إلى الوهب المأخوذ من قوله (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً).

وهذا قطع للمراجعة وإنباء بأن التخليق قد حصل في رحمها.

[٢٢ ـ ٢٣] (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣))

الفاء للتفريع والتعقيب ، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة.

والحمل : العلوق ، يقال : حملت المرأة ولدا ، وهو الأصل ، قال تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) [الأحقاف : ١٥]. ويقال : حملت به. وكأن الباء لتأكيد اللصوق ، مثلها في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. قال أبو كبير الهذلي :

حملت به في ليلة مزءودة

كرها وعقد نطاقها لم يحلل

والانتباذ تقدم قريبا ، وكذلك انتصاب (مَكاناً) تقدم.

و (قَصِيًّا) بعيدا ، أي بعيدا عن مكان أهلها. قيل : خرجت إلى البلاد المصرية فارّة من قومها أن يعزّروها وأعانها خطيبها يوسف النجّار وأنها ولدت عيسى عليه‌السلام في الأرض المصرية. ولا يصح.

وفي إنجيل لوقا : أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوبا للحضور بقرية أهله لأن ملك البلاد يجري إحصاء سكان البلاد ، وهو ظاهر قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) [مريم : ٢٧].

والفاء في قوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) للتعقيب العرفي ، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل ، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها.

وأجاءها معناه ألجأها ، وأصله جاء ، عدي بالهمزة فقيل : أجاءه ، أي جعله جائيا. ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء ، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء ، ويضطره إلى المجيء إليه. قال الفراء : أصله من جئت وقد جعلته العرب إلجاء. وفي المثل «شرّ ما يجيئك إلى مخّة عرقوب». وقال زهير :

٢٤

وجار سار معتمدا إلينا

أجاءته المخافة والرجاء

والمخاض ـ بفتح الميم ـ : طلق الحامل ، وهو تحرك الجنين للخروج.

والجذع ـ بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة ـ : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد. وهو ما بين العروق والأغصان ، أي إلى أصل نخلة استندت إليه.

وجملة (قالَتْ) استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعد ما كان أمرها مستترا غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها.

وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية.

والمشار إليه في قولها (قَبْلَ هذا) هو الحمل. أرادت أن لا يتطرق عرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة. ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة.

وقرأ الجمهور (مِتُ) ـ بكسر الميم ـ للوجه الذي تقدم في قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) في سورة آل عمران [١٥٧]. وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل. وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل.

والنسي ـ بكسر النون وسكون السين ـ في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ، ووزن فعل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل. وذلك مثل الذبح في قوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات : ١٠٧] ، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح ، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذبيح. والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنساء ، ويقولون عند الارتحال : انظروا أنساءكم ، أي الأشياء التي شأنكم أن تنسوها.

ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها ، أي ليتني كنت شيئا غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به ، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها

٢٥

من قبل ذلك.

وقرأه حمزة ، وحفص ، وخلف (نَسْياً) ـ بفتح النون ـ وهو لغة في النّسي ، كالوتر والوتر ، والجسر والجسر.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤))

ضمير الرفع المستتر في (ناداها) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في (فَحَمَلَتْهُ) [مريم : ٢٢] ، أي : ناداها المولود.

قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وأبو جعفر ، وخلف ، وروح عن يعقوب (مِنْ تَحْتِها) ـ بكسر ميم (من) ـ على أنها حرف ابتداء متعلّق ب (ناداها) وبجر (تَحْتِها).

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب من ـ بفتح الميم ـ على أنها اسم موصول ، وفتح تحتها على أنه ظرف جعل صلة ، والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها. وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما‌السلام.

وقيد (مِنْ تَحْتِها) لتحقيق ذلك ، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويرا لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه.

وأن من قوله (أَلَّا تَحْزَنِي) تفسيرية لفعل (ناداها).

وجملة (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) خبر مراد به التعليل لجملة (أَلَّا تَحْزَنِي) ، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية.

السرّي : الجدول من الماء كالساقية ، كثير الماء الجاري.

وهبها الله طعاما طيّبا وشرابا طيّبا كرامة لها يشهدها كل من يراها ، وكان معها خطيبها يوسف النجار ، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهدا بعصمتها وبراءتها مما يظن بها. فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده. وأما الرطب فقيل كان الوقت شتاء ، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة. وإنما أعطيت رطبا دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء.

٢٦

[٢٥ ـ ٢٦] (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

فائدة قوله (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أن يكون إثمار الجذع اليابس رطبا ببركة تحريكها إياه ، وتلك كرامة أخرى لها. ولتشاهد بعينها كيف يثمر الجذع اليابس رطبا. وفي ذلك كرامة لها بقوّة يقينها بمرتبتها.

والباء في (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) لتوكيد لصوق الفعل بمفعوله مثل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وقوله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥].

وضمن (وَهُزِّي) معنى قرّبي أو أدني ، فعدي ب (إلى) ، أي حرّكي جذع النخلة وقرّبيه يدن إليك ويلن بعد اليبس ويسقط عليك رطبا.

والمعنى : أدني إلى نفسك جذع النخلة. فكان فاعل الفعل ومتعلقه متحدا ، وكلاهما ضمير معاد واحد ، ولا ضمير في ذلك لصحة المعنى وورود أمثاله في الاستعمال نحو (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) [القصص : ٣٢]. فالضامّ والمضموم إليه واحد. وإنما منع النحاة أن يكون الفاعل والمفعول ضميري معاد واحد إلّا في أفعال القلوب ، وفي فعلي : عدم وفقد ، لعدم سماع ذلك ، لا لفساد المعنى ، فلا يقاس على ذلك منع غيره.

والرطب : تمر لم يتم جفافه.

والجنيّ : فعيل بمعنى مفعول ، أي مجتنى ، وهو كناية عن حدثان سقوطه ، أي عن طراوته ولم يكن من الرطب المخبوء من قبل لأن الرطب متى كان أقرب عهدا بنخلته كان أطيب طعما.

و (تُساقِطْ) قرأه الجمهور ـ بفتح التاء وتشديد السين ـ أصله تتساقط بتاءين أدغمت التاء الثانية في السين ليتأتى التخفيف بالإدغام.

وقرأه حمزة ـ بتخفيف السين ـ على حذف إحدى التاءين للتخفيف. و (رُطَباً) على هاته القراءات تمييز لنسبة التساقط إلى النخلة.

وقرأه حفص ـ بضم التاء وكسر السين ـ على أنه مضارع ساقطت النخلة تمرها ، مبالغة في أسقطت و (رُطَباً) مفعول به.

٢٧

وقرأه يعقوب بياء تحتية مفتوحة وفتح القاف وتشديد السين فيكون الضمير المستتر عائدا إلى (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ).

وجملة (فَكُلِي) وما بعدها فذلكة للجمل التي قبلها من قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) ، أي فأنت في بحبوحة عيش.

وقرّة العين : كناية عن السرور بطريق المضادة ، لقولهم : سخنت عينه إذا كثر بكاؤه ، فالكناية بضد ذلك عن السرور كناية بأربع مراتب. وتقدم في قوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) [القصص : ٩]. وقرّة العين تشمل هناء العيش وتشمل الأنس بالطفل المولود. وفي كونه قرّة عين كناية عن ضمان سلامته ونباهة شأنه.

وفتح القاف في (وَقَرِّي عَيْناً) لأنه مضارع قررت عينه من باب رضي ، أدغم فنقلت حركة عين الكلمة إلى فائها في المضارع لأن الفاء ساكنة.

(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). (٢٦) هذا من بقية ما ناداها به عيسى ، وهو وحي من الله إلى مريم أجراه على لسان الطفل ، تلقينا من الله لمريم وإرشادا لقطع المراجعة مع من يريد مجادلتها ، فعلّمها أن تنذر صوما يقارنه انقطاع عن الكلام ، فتكون في عبادة وتستريح من سؤال السائلين ومجادلة الجهلة.

وكان الانقطاع عن الكلام من ضروب العبادة في بعض الشرائع السالفة ، وقد اقتبسه العرب في الجاهلية كما دلّ عليه حديث المرأة من أحمس التي حجّت مصمتة. ونسخ في شريعة الإسلام بالسنة ، ففي «الموطأ» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما بال هذا؟ فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه» وكان هذا الرجل يدعى أبا إسرائيل.

وروي عن أبي بكر الصدّيق رضي‌الله‌عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم ، فقال لها : «إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمي». وفي الحديث أن امرأة من أحمس حجّت مصمتة ، أي لا تتكلّم. فالصمت كان عبادة في شرع من قبلنا وليس هو بشرع لنا لأنه نسخه الإسلام بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروه فليتكلّم» ، وعمل أصحابه.

وقد دلّت الآثار الواردة في هذه على أشياء :

٢٨

الأول : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا ، فدلّ على أنه غير قربة.

الثاني : أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله : عليّ نذر. وفي «الموطأ» عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك : ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.

الثالث : أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله : «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ».

فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولا أو فعلا يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج ، فيحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية ، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم ، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم.

وفي هذا المعنى قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) [الحج : ٣٦ ـ ٣٧] ، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي.

وفي «البخاري» : عن أنس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال : ما بال هذا؟ قالوا : نذر أن يمشي. قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ. وأمره أن يركب» ، فلم ير له في المشي في الطواف قربة.

وفيه عن ابن عباس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك ، فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده».

وفي «مسند أحمد» عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي : «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان. فقال : ما بالهما؟ قالا : إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة ، فقال : أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله». وقال : إسناده حسن.

الرابع : أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك ، ولذلك قال مالك في «الموطأ» عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس: «قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية».

٢٩

ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حرج على النفس كنذر صمت ساعة ، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرء مفسدة مثل القصاص والجلد. ولذلك قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩].

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبشاركم عليكم حرام» لأن شريعة الإسلام لا تناط شرائعها إلّا بجلب المصالح ودرء المفاسد.

والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في «الموطأ». ولذلك قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة» : «ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه ، وليستغفر الله» ، فقوله : «وليستغفر الله» بناء على أنه أتى بنذره مخالفا لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه. ولو فعل أحد صمتا بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراما إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية.

وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة.

ومعنى (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) فانذري صوما وإن لقيت من البشر أحدا فقولي : إنّي نذرت صوما فحذفت جملة للقرينة. وقد جعل القول المتضمن إخبارا بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]. وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلّا في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها ، ولذلك جاء في الحديث : «إن في المعاريض مندوحة عن الكذب».

وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس ، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوما مجازا بقرينة قوله (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوما بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل ، وإشارة تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك ، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطا بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية ، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين ، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حين تسأل بقرينة قوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) [مريم : ٢٩].

٣٠

والنون في قوله (تَرَيِنَ) نون التوكيد الشديدة اتصلت بالفعل الذي صار آخره ياء بسبب حذف نون الرفع لأجل حرف الشرط فحركت الياء بحركة مجانسة لها كما هو الشأن مع نون التوكيد الشديدة.

والإنسي : الإنسان ، والياء فيه للنسب إلى الإنس ، وهو اسم جمع إنسان ، فياء النسب لإفادة فرد من الجنس مثل : ياء حرسي لواحد من الحرس. وهذا نكرة في سياق النفي يفيد العموم ، أي لن أكلم أحدا.

وعدل عن أحد إلى (إِنْسِيًّا) للرّعي على فاصلة الياء ، وليس ذلك احترازا عن تكليمها الملائكة إذ لا يخطر ذلك بالبال عند المخاطبين بمن هيئت لهم هذه المقالة فالحمل عليه سماجة.

[٢٧ ـ ٢٨] (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨))

دلت الفاء على أنّ مريم جاءت أهلها عقب انتهاء الكلام الذي كلّمها ابنها. وفي إنجيل لوقا : أنها بقيت في بيت لحم إلى انتهاء واحد وأربعين يوما ، وهي أيام التطهير من دم النّفاس ، فعلى هذا يكون التّعقيب المستفاد من الفاء تعقيبا عرفيا مثل : تزوّج فولد له.

و (قَوْمَها) : أهل محلتها. وجملة (تَحْمِلُهُ) حال من تاء (فَأَتَتْ). وهذه الحال للدلالة على أنها أتت معلنة به غير ساترة لأنها قد علمت أن الله سيبرئها ممّا يتهم به مثل من جاء في حالتها.

وجملة (قالُوا يا مَرْيَمُ) مستأنفة استئنافا بيانيا. وقال قومها هذه المقالة توبيخا لها.

وفريّ : فعيل من فرى من ذوات الياء. ولهذا اللفظ عدّة إطلاقات ، وأظهر محامله هنا أنه الشنيع في السوء ، قاله مجاهد والسدّي ، وهو جاء من مادة افترى إذا كذب لأن المرأة تنسب ولدها الذي حملت به من زنى إلى زوجها كذبا. ومنه قوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) [الممتحنة : ١٢].

ومن أهل اللغة من قال : إن الفريّ والفرية مشتقان من الإفراء بالهمز ، وهو قطع الجلد لإفساده أو لتحريقه ، تفرقة بين أفرى وفرى ، وأن فرى المجرد للإصلاح.

والأخت : مؤنث الأخ ، اسم يضاف إلى اسم آخر ، فيطلق حقيقة على ابنة أبوي ما

٣١

أضيفت إلى اسمه أو ابنة أحد أبويه. ويطلق على من تكون من أبناء صاحب الاسم الذي تضاف إليه إذا كان اسم قبيلة كقولهم : يا أخا العرب ، كما في حديث ضيف أبي بكر الصديق قوله لزوجه : «يا أخت بني فراس ما هذا؟» ، فإذا لم يذكر لفظ (بني) مضافا إلى اسم جد القبيلة كان مقدّرا ، قال سهل بن مالك الفزاري :

يا أخت خير البدو والحضارة

كيف ترين في فتى فزارة

يريد يا أخت أفضل قبائل العرب من بدوها وحضرها.

فقوله تعالى : (يا أُخْتَ هارُونَ) يحتمل أن يكون على حقيقته ، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحا في قومه ، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك ، وهذا أظهر الوجهين. ففي «صحيح مسلم» وغيره عن المغيرة ابن شعبة قال : «بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال المغيرة : فلم أدر ما أقول ، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له ، فقال : ألم يعلموا أنهم كانوا يسمّون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم» اه. ففي هذا تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلّا هارون الرسول أخا موسى.

ويحتمل أن معنى (يا أُخْتَ هارُونَ) أنها إحدى النساء من ذريّة هارون أخي موسى ، كقول أبي بكر : يا أخت بني فراس. وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي. ففي إنجيل لوقا كان كاهن اسمه زكرياء من فرقة أبيّا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات ، وإليصابات زوجة زكرياء نسيبة مريم ، أي ابنة عمّها ، وما وقع للمفسرين في نسب مريم أنها من نسل سليمان بن داود خطأ.

ولعل قومها تكلموا باللفظين فحكاه القرآن بما يصلح لهما على وجه الإيجاز. وليس في هذا الاحتمال ما ينافي حديث المغيرة بن شعبة.

والسّوء ـ بفتح السين وسكون الواو ـ : مصدر ساءه ، إذا أضرّ به وأفسد بعض حاله ، فإضافة اسم إليه تفيد أنه من شئونه وأفعاله وأنه هو مصدر له. فمعنى (امْرَأَ سَوْءٍ) رجل عمل مفسد.

ومعنى البغي تقدّم قريبا. وعنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها ، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها وبغاء ليس من شأن أمّها ، وخالفت سيرة

٣٢

أبويها فكانت امرأة سوء وكانت بغيا ؛ وما كان أبوها امرأ سوء ولا كانت أمها بغيا فكانت مبتكرة الفواحش في أهلها. وهم أرادوا ذمّها فأتوا بكلام صريحه ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مثل أبويها.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩))

أي أشارت إليه إشارة دلّت على أنها تحيلهم عليه ليسألوه عن قصته ، أو أشارت إلى أن يسمعوا منه الجواب عن توبيخهم إياها وقد فهموا ذلك من إشارتها.

ولما كانت إشارتها بمنزلة مراجعة كلام حكى حوارهم الواقع عقب الإشارة بجملة القول مفصولة غير معطوفة.

والاستفهام : إنكار ؛ أنكروا أن يكلموا من ليس من شأنه أن يتكلم ، وأنكروا أن تحيلهم على مكالمته ، أي كيف نترقب منه الجواب أو كيف نلقي عليه السؤال ، لأن الحالتين تقتضيان التكلم.

وزيادة فعل الكون في (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ) للدلالة على تمكن المظروفية في المهد من هذا الذي أحيلوا على مكالمته ، وذلك مبالغة منهم في الإنكار ، وتعجب من استخفافها بهم. ففعل (كان) زائد للتوكيد ، ولذلك جاء بصيغة المضي لأن (كان) الزائدة تكون بصيغة الماضي غالبا.

وقوله (فِي الْمَهْدِ) خبر (من) الموصولة.

و (صَبِيًّا) حال من اسم الموصول.

و (المهد) فراش الصبي وما يمهد لوضعه.

[٣٠ ـ ٣٣] (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها ، وهو طيّ يتعجب منه. ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة ، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٣

والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون : إنه ابن الله.

والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدّر إيتاءه إياه ، أي قدّر أن يؤتيني الكتاب.

والكتاب : الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير. فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن. والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢] فيكون قوله (وَجَعَلَنِي) نبيئا ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها.

والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و (آتانِيَ الْكِتابَ).

والمبارك : الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك ، لأن المبارك اسم مفعول من باركه ، إذا جعله ذا بركة ، أو من بارك فيه ، إذا جعل البركة معه.

والبركة : الخير واليمن.

ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليحلّ لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم ، فهذه أعظم بركة تقارنه. ومن بركته أن جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير ، ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة ، ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشّارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة.

وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيئا عموما وجهيا ، فلم يكن في قوله وجعلني نبيئا غنية عن قوله (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً).

والتعميم الذي في قوله (أَيْنَ ما كُنْتُ) تعميم للأمكنة ، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده ، بل هو حيثما حلّ تحلّ معه البركة.

والوصاية : الأمر المؤكد بعمل مستقبل ، أي قدّر وصيتي بالصلاة والزكاة ، أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا ، فاستعمال صيغة المضي في (أَوْصانِي) مثل استعمالها

٣٤

في قوله (آتانِيَ الْكِتابَ).

والزّكاة : الصدقة. والمراد : أن يصلّي ويزكّي. وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئناصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل ، وقرينة الخصوص قوله (ما دُمْتُ حَيًّا) لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة ، أي أن يصلي ويتصدّق في أوقات التمكن من ذلك ، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات.

فالاستغراق المستفاد من قوله (ما دُمْتُ حَيًّا) استغراق عرفي مراد به الكثرة ؛ وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته ، لأن سياق الكلام في أوصاف تميّز بها عيسىعليه‌السلام ، ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة.

والبرّ ـ بفتح الباء ـ : اسم بمعنى البار. وتقدم آنفا. وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه ، لأن برّ الوالدين كان ضعيفا في بني إسرائيل يومئذ ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف ، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرءان الولد على التساهل في البرّ بها.

والجبّار : المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم. وقد تقدم في سورة هود [٥٩] قوله: (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).

والشقيّ : الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة ، وهو ضدّ السعيد. وتقدّم عند قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) في آخر سورة هود [١٠٥].

ووصف الجبار بالشقي باعتبار ما له في الآخرة وربما في الدنيا.

وقوله (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) إلى آخره ، تنويه بكرامته عند الله ، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربّه ، والقول فيه تقدّم في آية ذكر يحيى.

وجيء بالسّلام هنا معرّفا باللام الدالة على الجنس مبالغة في تعلّق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه. وهذا مؤذن بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) [مريم : ١٥] ، وذلك هو الفرق بين المعرّف بلام الجنس وبين النكرة.

ويجوز جعل اللام للعهد ، أي سلام إليه ، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته. ومن هذا القبيل السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد : «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».

٣٥

ومؤذن أيضا بتمهيد التّعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة ، فقالوا : ولد من زنى ، وقالوا : مات مصلوبا ، وقالوا : يحشر مع الملاحدة والكفرة ، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة.

[٣٤ ـ ٣٥] (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥))

اعتراض بين الجمل المقولة في قوله : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] مع قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [مريم : ٣٦] ، أي ذلك المذكور هو عيسى ابن مريم لا كما تزعم النصارى واليهود.

والإشارة لتمييز المذكور أكمل تمييز تعريضا بالرد على اليهود والنصارى جميعا ، إذ أنزله اليهود إلى حضيض الجناة ، ورفعه النصارى إلى مقام الإلهية ، وكلاهما مخطئ مبطل ، أي ذلك هو عيسى بالحق ، وأما من تصفونه فليس هو عيسى لأن استحضار الشخص بصفات غير صفاته تبديل لشخصيته ، فلما وصفوه بغير ما هو صفته جعلوا بمنزلة من لا يعرفونه فاجتلب اسم الإشارة ليتميز الموصوف أكمل تمييز عند الذين يريدون أن يعرفوه حق معرفته. والمقصود بالتمييز تمييز صفاته الحقيقية عن الصفات الباطلة التي ألصقوها به لا تمييز ذاته عن الذوات إذ ليست ذاته بحاضرة وقت نزول الآية ، أي تلك حقيقة عيسى عليه‌السلام وصفته.

و (قَوْلَ الْحَقِ) قرأه الجمهور بالرفع ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب بالنصب ؛ فأما الرفع فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أو وصف لعيسى أو بدل منه ، وأما النصب فهو حال من اسم الإشارة أو من عيسى.

ومعنى (قَوْلَ الْحَقِ) أن تلك الصفات التي سمعتم هي قول الحق ، أي مقول هو الحق وما خالفها باطل ، أو أن عيسى عليه‌السلام هو قول الحق ، أي مقول الحق ، أي المكون من قول (كن) ، فيكون مصدرا بمعنى اسم المفعول كالخلق في قوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١].

وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون نصب (قَوْلَ الْحَقِ) بتقدير : أحقّ قول الحق ، أي هو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله منصوب بفعل محذوف وجوبا ، تقديره : أحقّ قول الحق. ويجوز أن يكون (قَوْلَ الْحَقِ) مصدرا نائبا عن فعله ، أي أقول قول الحق. وعلى

٣٦

هذين الوجهين يكون اعتراضا. ويجوز أن يكون (قَوْلَ) مصدرا بمعنى الفاعل صفة لعيسى أو حالا منه ، أي قائل الحق إذ قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) إلى قوله : (أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٠ ـ ٣٣].

و (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) صفة ثانية أو حال ثانية أو خبر ثان عن (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) على ما يناسب الوجوه المتقدمة.

والامتراء : الشكّ ، أي الذي فيه يشكون ، أي يعتقدون اعتقادا مبناه الشك والخطأ ، فإن عاد الموصول إلى القول فالامتراء فيه هو الامتراء في صدقه ، وإن عاد إلى عيسى فالامتراء فيه هو الامتراء في صفاته بين رافع وخافض.

وجملة (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) تقرير لمعنى العبودية ، أو تفصيل لمضمون جملة (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) فتكون بمنزلة بدل البعض أو الاشتمال منها ، اكتفاء بإبطال قول النصارى بأن عيسى ابن الله ، لأنه أهم بالإبطال ، إذ هو تقرير لعبودية عيسى وتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلال الألوهيّة من اتخاذ الولد ومن شائبة الشرك ، ولأنه القول الناشئ عن الغلوّ في التقديس ، فكان فيما ذكر من صفات المدح لعيسى ما قد يقوي شبهتهم فيه بخلاف قول اليهود فقد ظهر بطلانه بما عدد لعيسى من صفات الخير.

وصيغة (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ) تفيد انتفاء الولد عنه تعالى بأبلغ وجه لأنّ لام الجحود تفيد مبالغة النّفي ، وأنه مما لا يلاقي وجود المنفي عنه ، ولأن في قوله : (أَنْ يَتَّخِذَ) إشارة إلى أنه لو كان له ولد لكان هو خلقه ، واتّخذه فلم يعد أن يكون من جملة مخلوقاته ، فإثبات النبوّة له خلف من القول.

وجملة (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بيان لجملة (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) ، لإبطال شبهة النصارى إذ جعلوا تكوين إنسان بأمر التكوين عن غير سبب معتاد دليلا على أن المكوّن ابن لله تعالى ، فأشارت الآية إلى أن هذا يقتضي أن تكون أصول الموجودات أبناء لله وإن كان ما يقتضيه لا يخرج عن الخضوع إلى أمر التكوين.

وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦))

يجوز أن يكون هذا بقية لكلام جرى على لسان عيسى تأييدا لبراءة أمّه وما بينهما اعتراض كما تقدم آنفا.

والمعنى : تعميم ربوبية الله تعالى لكل الخلق.

٣٧

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ورويس عن يعقوب همزة وأن مفتوحة فخرجه الزمخشري أنه على تقدير لام التعليل ، فإن كان من كلام عيسى فهو تعليل لقوله (فَاعْبُدُوهُ) على أنه مقدّم من تأخير للاهتمام بالعلّة لكونها مقررة للمعلول ومثبته له على أسلوب قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجنّ : ١٨] ويكون قوله (فَاعْبُدُوهُ) متفرعا على قوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] بعد أن أردف بما تعلّق به من أحوال نفسه.

ولما اشتمل مدخول لام التعليل على اسم الجلالة أضمر له فيما بعد. وتقدير النظم هكذا : فاعبدوا الله لأنه ربّي وربكم.

ويجوز أن يكون عطفا على قوله (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [مريم : ٣١] ، أي وأوصاني بأنّ الله ربّي وربكم ، فيكون بحذف حرف الجر وهو مطرد مع (أنّ).

ويجوز أن يكون معطوفا على (الْحَقِ) من قوله (قَوْلَ الْحَقِ) [مريم : ٣٤] على وجه جعل (قَوْلَ) بمعنى قائل ، أي قائل الحق وقائل إن الله ربّي وربّكم ، فإن همزة (أَنْ) يجوز فتحها وكسرها بعد مادة القول.

وإن كان ممّا خوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله كان بتقدير قول محذوف ، أو عطفا على (مَرْيَمَ) من قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) [مريم : ١٦] ، أي اذكر يا محمد أن الله ربّي فكذلك ، ويكون تفريع (فَاعْبُدُوهُ) على قوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) [مريم : ٣٥] إلى آخره ...

وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، وروح عن يعقوب ـ بكسر همزة (إِنَ). ووجهها ظاهر على كلا الاحتمالين.

وجملة (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) تذييل وفذلكة لما سبقه على اختلاف الوجوه. والإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف الوجوه.

والمراد بالصراط المستقيم اعتقاد الحق ، شبه بالصراط المستقيم على التشبيه البليغ ، شبه الاعتقاد الحق في كونه موصولا إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله إلى المكان المقصود باطمئنان بال ، وعلم أن غير هذا كبنيّات الطريق من سلكها ألقت به في المخاوف والمتالف كقوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ

٣٨

سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧))

الفاء لتفريع الإخبار بحصول الاختلاف على الإخبار بأن هذا صراط مستقيم ، أي حاد عن الصراط المستقيم الأحزاب فاختلفوا بينهم في الطرائق التي سلكوها ، أي هذا صراط مستقيم لا يختلف سالكوه اختلافا أصليا ، فسلك الأحزاب طرقا أخرى هي حائدة عن الصراط المستقيم فلم يتفقوا على شيء.

وقوله (مِنْ بَيْنِهِمْ) متعلّق باختلف. و (من) حرف توكيد ، أي اختلفوا بينهم.

والمراد بالأحزاب أحزاب النصارى ، لأن الاختلاف مؤذن بأنهم كانوا متفقين ولم يكن اليهود موافقين النصارى في شيء من الدين. وقد كان النصارى على قول واحد على التّوحيد في حياة الحواريين ثم حدث الاختلاف في تلاميذهم. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) في سورة النساء [١٧١] أن الاختلاف انحلّ إلى ثلاثة مذاهب : الملكانيّة (وتسمى الجاثليقيّة) ؛ واليعقوبية ، والنسطورية. وانشعبت من هذه الفرق عدّة فرق ذكرها الشهرستاني ، ومنها الاليانة ، والبليارسية ، والمقدانوسية ، والسبالية ، والبوطينوسية ، والبولية ، إلى فرق أخرى. منها فرقة كانت في العرب تسمى الرّكوسية ورد ذكرها في الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعدي بن حاتم : إنّك ركوسي». قال أهل اللغة هي نصرانية مشوبة بعقائد الصابئة. وحدثت بعد ذلك فرقة الاعتراضية (البروتستان) أتباع (لوثير). وأشهر الفرق اليوم هي الملكانية (كاثوليك) ، واليعقوبية (أرثودوكس) ، والاعتراضية (بروتستان). ولما كان اختلافهم قد انحصر في مرجع واحد يرجع إلى إلهية عيسى اغترارا وسوء فهم في معنى لفظ (ابن) الذي ورد صفة للمسيح في الأناجيل مع أنه قد وصف بذلك فيها أيضا أصحابه. وقد جاء في التوراة أيضا «أنتم أبناء الله». وفي إنجيل متى الحواري وإنجيل يوحنا الحواري كلمات صريحة في أن المسيح ابن إنسان وأن الله إلهه وربّه ، فقد انحصرت مذاهبهم في الكفر بالله فلذلك ذيل بقوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، فشمل قوله (الّذين كفروا) هؤلاء المخبر عنهم من النصارى وشمل المشركين غيرهم.

والمشهد صالح لمعان ، وهو أن يكون مشتقا من المشاهدة أو من الشهود ، ثمّ إما أن يكون مصدرا ميميا في المعنيين أو اسم مكان لهما أو اسم زمان لهما ، أي يوم فيه

٣٩

ذلك وغيره.

والويل حاصل لهم في الاحتمالات كلها وقد دخلوا في عموم الذين كفروا بالله ، أي نفوا وحدانيته ، فدخلوا في زمرة المشركين لا محالة ، ولكنهم أهل كتاب دون المشركين.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨))

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) صيغتا تعجب ، وهو تعجب على لسان الرسول والمؤمنين ، أو هو مستعمل في التعجيب ، والمعنيان متقاربان ، وهو مستعمل كناية أيضا عن تهديدهم ، فتعيّن أن التعجيب من بلوغ حالهم في السوء مبلغا يتعجب من طاقتهم على مشاهدة مناظره وسماع مكارهه. والمعنى ؛ ما أسمعهم وما أبصرهم في ذلك اليوم ، أي ما أقدرهم على السمع والبصر بما يكرهونه. وقريب هو من معنى قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥].

وجوز أن يكون (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) غير مستعمل في التعجب بل صادف أن جاء على صورة فعل التعجب ، وإنما هو على أصل وضعه أمر للمخاطب غير المعيّن بأن يسمع ويبصر بسببهم ، ومعمول السمع والبصر محذوف لقصد التعميم ليشمل كل ما يصح أن يسمع وأن يبصر. وهذا كناية عن التهديد.

وضمير الغائبين عائد إلى (الذين كفروا) ، أي أعجب بحالهم يومئذ من نصارى وعبدة الأصنام.

والاستدراك الذي أفاده قوله (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) راجع إلى ما يفيده التقييد بالظرف في قوله (يَوْمَ يَأْتُونَنا) من ترقب سوء حالهم يوم القيامة الذي يقتضي الظن بأنهم الآن في سعة من الحال. فأفيد أنهم متلبسون بالضلال المبين وهو من سوء الحال لهم لما يتبعه من اضطراب الرأي والتباس الحال على صاحبه. وتلك نكتة التقييد بالظرف في قوله (الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

والتعبير عنهم ب (الظَّالِمُونَ) إظهار في مقام الإضمار. ونكتته التخلص إلى خصوص المشركين لأن اصطلاح القرآن إطلاق الظالمين على عبدة الأصنام وإطلاق الظلم على عبادة الأصنام ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

٤٠