تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١٩ ـ سورة مريم

اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنّة سورة مريم. ورويت هذه التسمية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي ، وابن مندة ، وأبو نعيم ، وأبو أحمد الحاكم : عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جدّه أبي مريم قال : «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية ، فقال : والليلة أنزلت عليّ سورة مريم فسمّها مريم». فكان يكنى أبا مريم ، واشتهر بكنيته ، واسمه نذير ، ويظهر أنه أنصاري.

وابن عبّاس سمّاها سورة (كهيعص) ، وكذلك وقعت تسميتها في «صحيح البخاري» في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها. ولم يعدها جلال الدين في «الإتقان» في عداد السور المسماة باسمين ، ولعله لم ير الثاني اسما.

وهي مكية عند الجمهور. وعن مقاتل : أن آية السجدة مدنية. ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد.

وذكر السيوطي في «الإتقان» قولا بأن قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: ٧١] الآية مدني ، ولم يعزه لقائل.

وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول ؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه. وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية ، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا.

ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصّل في غيرها.

٥

ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة.

وعدّت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين. وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين.

أغراض السورة

ويظهر أنّ هذه السورة نزلت للردّ على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها ، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير.

وهل يثبت الخطي إلا وشيجه

ثمّ التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم.

والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا ، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى.

والتنزيه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته ، وأن الله يسرّه بكونه عربيا ليسر تلك اللغة.

والإنذار ممّا حل بالمكذبين من الأمم من الاستيصال.

واشتملت على كرامة زكرياء إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته.

وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها ، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه‌السلام. ومثله كلامه في المهد.

والتنزيه بإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وإسماعيل ، وإدريس عليهم‌السلام.

ووصف الجنّة وأهلها.

وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبيّ بن خلف والعاصي بن وائل وتبججهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم.

وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها.

ووعد الرسول النصر على أعدائه.

وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى.

٦

والتنويه بالقرآن ولملته العربية ، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم.

وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمن ست عشرة مرة ، وذكر اسم الرحمة أربع مرات ، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمن. والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان [٦٠] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ).

ووقع في هذه السورة استطراد بآية (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤].

(كهيعص (١))

حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها. وقد تقدم القول في مجموع نظائرها. وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام.

والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفا عليه ، لأنّ الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات.

وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها.

وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب اسم الحرف الثاني وهو ها بالإمالة. وفي رواية عن نافع وابن كثير (ها) بحركة بين الكسر والفتح. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي (يا) بالإمالة.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وأبو جعفر بإظهار دال (صاد). وقرأ الباقون بإدغامه في ذال (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) [مريم : ٢] وإنما لم يمد (ها) و (يا) مع أنّ القارئ إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالها ، واسما هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت.

واعلم أنك إن جريت على غير المختار في معاني فواتح السور ، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر ، وأما الأقوال التي خصت بعضها

٧

بمعان ، فقيل في معنى (كهيعص) إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى : الكافي أو الكريم أو الكبير ، والهاء من هادي ، والياء من حكيم أو رحيم ، والعين من العليم أو العظيم ، والصاد من الصادق ، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى ، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وقيل اسم من أسماء القرآن ، أي بتسمية جديدة ، وليس في ذلك حديث يعتمد.

[٢ ـ ٣] (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣))

افتتاح كلام ، فيتعيّن أن (ذِكْرُ) خبر مبتدأ محذوف ، مثله شائع الحذف في أمثال هذا من العناوين. والتقدير : هذا ذكر رحمة ربّك عبده. وهو بمعنى : اذكر. ويجوز أن يكون (ذِكْرُ) أصله مفعولا مطلقا نائبا عن عامله بمعنى الأمر ، أي اذكر ذكرا ، ثمّ حول عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات كما حول في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وقد تقدم في [سورة الفاتحة : ٢]. ويرجحه عطف (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) [مريم : ١٦] ونظائره.

وقد جاء نظم هذا الكلام على طريقة بديعة من الإيجاز والعدول عن الأسلوب المتعارف في الإخبار ، وأصل الكلام : ذكر عبدنا زكرياء إذ نادى ربّه فقال : رب إلخ ... فرحمة ربّك ، فكان في تقديم الخبر بأن الله رحمه اهتمام بهذه المنقبة له ، والإنباء بأن الله يرحم من التجأ إليه ، مع ما في إضافة (رَبِ) إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى ضمير زكرياء من التنويه بهما.

وافتتحت قصة مريم وعيسى بما يتصل بها من شئون آل بيت مريم وكافلها لأنّ في تلك الأحوال كلها تذكيرا برحمة الله تعالى وكرامته لأوليائه.

وزكرياء نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وهو زكرياء الثاني زوج خالة مريم ، وليس له كتاب في أسفار التوراة. وأما الذي له كتاب فهو زكرياء بن برخيا الذي كان موجودا في القرن السادس قبل المسيح. وقد مضت ترجمة زكرياء الثاني في سورة آل عمران ومضت قصّة دعائه هنالك.

و (إِذْ نادى رَبَّهُ) ظرف ل (رَحْمَتِ). أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت ، أو بدل من (ذِكْرُ) ، أي اذكر ذلك الوقت.

والنداء : أصله رفع الصوت بطلب الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) في سورة آل عمران [١٩٣] وقوله : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ

٨

أُورِثْتُمُوها) في [سورة الأعراف : ٤٣]. ويطلق النداء كثيرا على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام ، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء. ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهرا. أي تضرعا لأنه أوقع في نفس المدعو. ومعنى الكلام : أن زكرياء قال : يا رب ، بصوت خفي.

وإنما كان خفيا لأن زكرياء رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أنّ الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس ، فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا ، فلعل يقين زكرياء كاف في تقوية التوجه ، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء. ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا ، لأنه نداء من يسمع الخفاء.

والمراد بالرحمة : استجابة دعائه ، كما سيصرح به بقوله : يا زكرياء (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧]. وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكرياء كما وقع فليس فيها

إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء.

[٤ ـ ٦] (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

جملة (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) مبنية لجملة (نادى رَبَّهُ) [مريم : ٣]. وهي وما بعدها تمهيد للمقصود من الدعاء وهو قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا). وإنّما كان ذلك تمهيدا لما يتضمنه من اضطراره لسؤال الولد. والله يجيب المضطر إذا دعاه ، فليس سؤاله الولد سؤال توسع لمجرد تمتع أو فخر.

ووصف من حاله ما تشتد معه الحاجة إلى الولد حالا ومآلا ، فكان وهن العظم وعموم الشيب حالا مقتضيا للاستعانة بالولد مع ما يقتضيه من اقتراب إبان الموت عادة ، فذلك مقصود لنفسه ووسيلة لغيره وهو الميراث بعد الموت. والخبران من قوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) مستعملان مجازا في لازم الإخبار ، وهو الاسترحام لحاله. لأن المخبر ـ بفتح الباء ـ عالم بما تضمنه الخبران.

والوهن : الضعف. وإسناده إلى العظم دون غيره مما شمله الوهن في جسده لأنه

٩

أوجز في الدلالة على عموم الوهن جميع بدنه لأنّ العظم هو قوام البدن وهو أصلب شيء فيه فلا يبلغه الوهن إلّا وقد بلغ ما فوقه.

والتعريف في (العظم) تعريف الجنس دال على عموم العظام منه.

وشبّه عموم الشّيب شعر رأسه أو غلبته عليه باشتعال النار في الفحم بجامع انتشار شيء لامع في جسم أسود ، تشبيها مركبا تمثيليا قابلا لاعتبار التفريق في التشبيه ، وهو أبدع أنواع المركب. فشبه الشعر الأسود بفحم والشعر الأبيض بنار على طريق التمثيلية المكنية ورمز إلى الأمرين بفعل (اشْتَعَلَ).

وأسند الاشتعال إلى الرأس ، وهو مكان الشعر الذي عمّه الشيب ، لأنّ الرأس لا يعمه الشيب إلّا بعد أن يعمّ اللّحية غالبا ، فعموم الشيب في الرأس أمارة التوغل في كبر السن.

وإسناد الاشتعال إلى الرأس مجاز عقلي ، لأنّ الاشتعال من صفات النار المشبه بها الشيب فكان الظاهر إسناده إلى الشيب ، فلما جيء باسم الشيب تمييزا لنسبة الاشتعال حصل بذلك خصوصية المجاز وغرابته ، وخصوصية التفصيل بعد الإجمال ، مع إفادة تنكير (شَيْباً) من التعظيم فحصل إيجاز بديع. وأصل النظم المعتاد : واشتعل الشيب في شعر الرأس.

ولما في هذه الجملة من الخصوصيات من مبنى المعاني والبيان كان لها أعظم وقع عند أهل البلاغة نبه عليه صاحب «الكشاف» ووضحه صاحب «المفتاح» فانظرهما.

وقد اقتبس معناها أبو بكر بن دريد في قوله :

واشتعل المبيضّ في مسوده

مثل اشتعال النّار في جزل الغضا

ولكنّه خليق بأن يكون مضرب قولهم في المثل : «ماء ولا كصدّى».

والشيب : بياض الشعر. ويعرض للشعر البياض بسبب نقصان المادة التي تعطي اللون الأصلي للشعر ، ونقصانها بسبب كبر السن غالبا ، فلذلك كان الشيب علامة على الكبر ، وقد يبيضّ الشعر من مرض.

وجملة (لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) معترضة بين الجمل التمهيدية ، والباء في قوله : (بِدُعائِكَ) للمصاحبة.

١٠

والشقيّ : الذي أصابته الشقوة ، وهي ضد السعادة ، أي هي الحرمان من المأمول وضلال السّعي. وأطلق نفي الشقاوة والمراد حصول ضدها وهو السعادة على طريق الكناية إذ لا واسطة بينهما عرفا.

ومثل هذا التركيب جرى في كلامهم مجرى المثل في حصول السعادة من شيء. ونظيره قوله تعالى في هذه السورة في قصة إبراهيم : (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [مريم : ٤٨] أي عسى أن أكون سعيدا. أي مستجاب الدعوة. وفي حديث أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربّه في شأن الذين يذكرون الله ومن جالسهم «هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم» أي يسعد معهم. وقال بعض الشعراء ، لم نعرف اسمه وهو إسلامي :

وكنت جليس قعقاع بن شور

ولا يشقى بقعقاع جليس

أي يسعد به جليسه.

والمعنى : لم أكن فيما دعوتك من قبل مردود الدعوة منك ، أي أنه قد عهد من الله الاستجابة كلما دعاه.

وهذا تمهيد للإجابة من طريق غير طريق التمهيد الذي في الجمل المصاحبة له بل هو بطريق الحث على استمرار جميل صنع الله معه ، وتوسل إليه بما سلف له معه من الاستجابة.

روي أن محتاجا سأل حاتما الطائي أو معن بن زائدة قائلا : «أنا الذي أحسنت إليّ يوم كذا» فقال : «مرحبا بمن توسل بنا إلينا».

وجملة (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) عطف على جملة (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، أي قاربت الوفاة وخفت الموالي من بعدي. وما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبي صالح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا أنه قال : «يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله». فلعلّه خشي سوء معرفتهم بما يخلّفه من الآثار الدينية والعلمية. وتلك أعلاق يعزّ على المؤمن تلاشيها ، ولذلك قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فإن نفوس الأنبياء لا تطمح إلا لمعالي الأمور ومصالح الدين وما سوى ذلك فهو تبع.

فقوله (يَرِثُنِي) يعني به وراثة ماله. ويؤيّده ما أخرجه عبد الرزاق عن قتادة عن الحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يرحم الله زكرياء ما كان عليه من وراثة ماله».

والظواهر تؤذن بأن الأنبياء كانوا يورثون ، قال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)

١١

[النمل : ١٦]. وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» فإنما يريد به رسول الله نفسه ، كما حمله عليه عمر في حديثه مع العبّاس وعليّ في «صحيح البخاري» إذ قال عمر : «يريد رسول الله بذلك نفسه» ، فيكون ذلك من خصوصيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان ذلك حكما سابقا كان مراد زكرياء إرث آثار النبوءة خاصة من الكتب المقدّسة وتقاييده عليها.

والموالي : العصبة وأقرب القرابة ، جمع مولى بمعنى الولي.

ومعنى : (مِنْ وَرائِي) من بعدي ، فإن الوراء يطلق ويراد به ما بعد الشيء ، كما قال النّابغة :

وليس وراء الله للمرء مطلب

أي بعد الله. فمعنى (مِنْ وَرائِي) من بعد حياتي.

و (مِنْ وَرائِي) في موضع الصفة ل (الْمَوالِيَ) أو الحال.

وامرأة زكرياء اسمها اليصابات من نسل هارون أخي موسى فهي من سبط لاوي.

والعاقر : الأنثى التي لا تلد ، فهو وصف خاص بالمرأة ، ولذلك جرد من علامة التأنيث إذ لا لبس. ومصدره : العقر ـ بفتح العين وضمها مع سكون القاف ـ. وأتى بفعل (كان) للدلالة على أن العقر متمكن منها وثابت لها فلذلك حرم من الولد منها.

ومعنى (مِنْ لَدُنْكَ) أنه من عند الله عندية خاصة ، لأنّ المتكلّم يعلم أنّ كلّ شيء من عند الله بتقديره وخلقه الأسباب ومسبباتها تبعا لخلقها ، فلما قال (مِنْ لَدُنْكَ)(١) دلّ على أنه سأل وليا غير جار أمره على المعتاد من إيجاد الأولاد لانعدام الأسباب المعتادة ، فتكون هبته كرامة له.

ويتعلّق (لِي) و (مِنْ لَدُنْكَ) بفعل هب. وإنما قدم (لِي) على (مِنْ لَدُنْكَ) لأنه الأهم في غرض الداعي ، وهو غرض خاص يقدم على الغرض العام.

و (يَرِثُنِي) قرأه الجمهور بالرفع على الصفة ل (وَلِيًّا). وقرأه أبو عمرو ، والكسائي بالجزم على أنه جواب الدعاء في قوله (فَهَبْ لِي) لإرادة التسبب لأن أصل الأجوبة الثمانية أنها على تقدير فاء السببية.

و (آلِ يَعْقُوبَ) يجوز أن يراد بهم خاصة بني إسرائيل كما يقتضيه لفظ (آلِ)

__________________

(١) في المطبوعة (من عندك).

١٢

المشعر بالفضيلة والشرف ، فيكون يعقوب هو إسرائيل ؛ كأنه قال : ويرث من آل إسرائيل ، أي حملة الشريعة وأحبار اليهودية كقوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [النساء : ٥٤] ، وإنما يذكر آل الرجل في مثل هذا السياق إذا كانوا على سننه ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٨] وقوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء : ٣] ، مع أن الناس كلهم ذرية من حملوا معه.

ويجوز أن يراد يعقوب آخر غير إسرائيل. وهو يعقوب بن ماثان ، قاله : معقل والكلبي ، وهو عمّ مريم أخو عمران أبيها ، وقيل : هو أخو زكرياء ، أي ليس له أولاد فيكون ابن زكرياء وارثا ليعقوب لأنه ابن أخيه ، فيعقوب على هذه هو من جملة الموالي الذين خافهم زكرياء من ورائه.

[٧ ـ ٨] (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨))

مقول قول محذوف دلّ عليه السياق عقب الدعاء إيجازا ، أي قلنا يا زكرياء إلخ ...

والتبشير : الوعد بالعطاء. وفي الحديث : «أنّه قال للأنصار فأبشروا وأمّلوا» ، وفي حديث وفد بني تميم : «اقبلوا البشرى ، فقالوا بشرتنا فأعطنا».

ومعنى (اسْمُهُ يَحْيى) سمّه يحيى ، فالكلام خبر مستعمل في الأمر.

والسّميّ فسروه بالموافق في الاسم ، أي لم نجعل له من يوافقه في هذا الاسم من قبل وجوده. فعليه يكون هذا الإخبار سرا من الله أودعه زكرياء فلا يظن أنه قد يسمّي أحد ابنه يحيى فيما بين هذه البشارة وبين ازدياد الولد. وهذه منّة من الله وإكرام لزكرياء إذ جعل اسم ابنه مبتكرا ، وللأسماء المبتكرة مزيّة قوّة تعريف المسمى لقلّة الاشتراك ، إذ لا يكون مثله كثيرا مدّة وجوده ، وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمّنا واستجادة.

وعندي : أن السّميّ هنا هو الموافق في الاسم الوصفي بإطلاق الاسم على الوصف ، فإن الاسم أصله في الاشتقاق (وسم) ، والسمة : أصلها وسمة ، كما في قوله تعالى : (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) [النجم : ٢٧] ، أي يصفونهم أنهم إناث ، ومنه قوله

١٣

الآتي : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] أي لا مثيل لله تعالى في أسمائه. وهذا أظهر في الثناء على يحيى والامتنان على أبيه. والمعنى : أنه لم يجىء قبل يحيى من الأنبياء من اجتمع له ما اجتمع ليحيى فإنه أعطي النبوءة وهو صبيّ ، قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] ، وجعل حصورا ليكون غير مشقوق عليه في عصمته عن الحرام ، ولئلا تكون له مشقة في الجمع بين حقوق العبادة وحقوق الزوجة ، وولد لأبيه بعد الشيخوخة ولأمّه بعد العقر ، وبعث مبشرا برسالة عيسى عليه‌السلام ، ولم يكن هو رسولا ، وجعل اسمه العلم مبتكرا غير سابق من قبله. وهذه مزايا وفضائل وهبت له ولأبيه ، وهي لا تقتضي أنه أفضل الأنبياء لأنّ الأفضلية تكون بمجموع فضائل لا ببعضها وإن جلّت ، ولذلك قيل «المزيّة لا تقتضي الأفضليّة» وهي كلمة صدق.

وجملة (قالَ رَبِ) جواب للبشارة.

و (أَنَّى) استفهام مستعمل في التعجب ، والتعجب مكنى به عن الشكر ، فهو اعتراف بأنها عطية عزيزة غير مألوفة لأنّه لا يجوز أن يسأل الله أن يهب له ولدا ثمّ يتعجب من استجابة الله له. ويجوز أن يكون قد ظن الله يهب له ولدا من امرأة أخرى بأن يأذنه بتزوج امرأة غير عاقر ، وتقدّم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران.

وجملة (امْرَأَتِي عاقِراً) حال من ياء التكلّم. وكرّر ذلك مع قوله في دعائه (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً). وهو يقتضي أنّ زكرياء كان يظن أن عدم الولادة بسبب عقر امرأته ، وكان الناس يحسبون ذلك إذا لم يكن بالرجل عنّة ولا خصاء ولا اعتراض ، لأنهم يحسبون الإنعاظ والإنزال هما سبب الحمل إن لم تكن بالمرأة عاهة العقر. وهذا خطأ فإن عدم الولادة يكون إمّا لعلّة بالمرأة في رحمها أو لعلة في ماء الرجل يكون غير صالح لنماء البويضات التي تبرزها رحم المرأة.

و (مِنَ) في قوله (مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) للابتداء ، وهو مجاز في معنى التعليل.

والكبر : كثرة سني العمر ، لأنه يقارنه ظهور قلّة النشاط واختلال نظام الجسم.

و (عِتِيًّا) مفعول (بَلَغْتُ).

والبلوغ : مجاز في حلول الإبان ، وجعل نفسه هنا بالغا الكبر وفي آية آل عمران [٤٠] قال : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) لأن البلوغ لما كان مجازا في حصول الوصف صح أن يسند إلى الوصف وإلى الموصوف.

١٤

والعتيّ ـ بضم العين في قراءة الجمهور ـ مصدر عتا العود إذا يبس ، وهو بوزن فعول أصله عتوو ، والقياس فيه أن تصحح الواو لأنها إثر ضمّة ولكنهم لما استثقلوا توالي ضمتين بعدهما واوان وهما بمنزلة ـ ضمتين ـ تخلصوا من ذلك الثقل بإبدال ضمّة العين كسرة ثم قلبوا الواو الأولى ياء لوقوعها ساكنة إثر كسرة فلما قلبت ياء اجتمعت تلك الياء مع الواو التي هي لام ، وكأنهم ما كسروا التاء في عتي بمعنى اليبس إلّا لدفع الالتباس بينه وبين العتوّ الذي هو الطغيان فلا موجب لطلب تخفيف أحدهما دون الآخر.

شبه عظامه بالأعواد اليابسة على طريقة المكنية ، وإثبات وصف العتي لها استعارة تخييلية.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩))

فصلت جملة (قالَ كَذلِكَ) لأنها جرت على طريقة المحاورة. وهي جواب عن تعجبه. والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [مريم : ٨]. فضمير (قالَ) عائد إلى الرب من قوله (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [مريم : ٨].

والإشارة في قوله (كَذلِكَ) إلى قول زكرياء (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا). والجار والمجرور مفعول لفعل (قالَ رَبُّكَ) ، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدّر ربّك ، ففعل (قالَ رَبُّكَ) مراد به القول التكويني ، أي التقديري ، أي تعلّق الإرادة والقدرة. والمقصود من تقريره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله (عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، فجملة (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) استئناف بياني جوابا لسؤال ناشئ عن قوله (كَذلِكَ) لأنّ تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يبطل ذلك التعجب المقرّر ، وذلك كونه هيّنا في جانب قدرة الله تعالى العظيمة.

ويجوز أن يكون المشار إليه بقوله (كَذلِكَ) هو القول المأخوذ من (قالَ رَبُّكَ) ، أي أن قول ربّك (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت ، فيكون جاريا على طريقة التشبيه كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وقد تقدم في سورة البقرة [١٤٣]. وعلى هذا الاحتمال فجملة (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) تعليل لإبطال التعجب إبطالا مستفادا من قوله (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ) ، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله

١٥

(قالَ رَبُّكَ) إلى التكلم في قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) التفاتا. ومقتضى الظاهر : هو عليه هيّن.

والهيّن ـ بتشديد الياء ـ : السهل حصوله.

وجملة (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، أي إيجاد الغلام لك هيّن عليّ في حال كوني قد خلقتك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجودا ، أي في حال كونه مماثلا لخلقي إياك ، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم.

ومعنى (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) : لم تكن موجودا.

وقرأ الجمهور (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) بتاء المتكلّم.

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف : (وقد خلقناك) بنون العظمة.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))

أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام ، لأنّ البشارة لم تعيّن زمنا ، وقد يتأخر الموعود به لحكمة ، فأراد زكرياء أن يعلم وقت الموعود به. وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به ، ولذلك حذف متعلّق (آيَةً). وإضافة (آيَتُكَ) على معنى اللّام ، أي آية لك ، أي جعلنا علامة لك.

ومعنى (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أن لا تقدر على الكلام ، لأنّ ذلك هو المناسب لكونه آية من قبل الله تعالى. وليس المراد نهيه عن كلام الناس ، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية. وقد قدمنا تحقيق ذلك في سورة آل عمران.

وجعلت مدة انتفاء تكليمه الناس هنا ثلاث ليال ، وجعلت في سورة آل عمران ثلاثة أيام فعلم أنّ المراد هنا ليال بأيامها وأنّ المراد في آل عمران أيام بلياليها.

وأكد ذلك هنا بوصفها ب (سَوِيًّا) أي ثلاث ليال كاملة ، أي بأيامها.

وسويّ : فعيل بمعنى مفعول ، يستوي الوصف به الواحد والواحدة والمتعدد منهما.

١٦

وفسر أيضا (سَوِيًّا) بأنه حال من ضمير المخاطب ، أي حال كونك سويا ، أي بدون عاهة الخرس والبكم ، ولكنّها آية لك اقتضتها الحكمة التي بيّناها في سورة آل عمران. وعلى هذا فذكر الوصف لمجرد تأكيد الطمأنينة ، وإلا فإن تأجيله بثلاث ليال كاف في الاطمئنان على انتفاء العاهة.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

الظاهر أن المعنى أنه خرج على قومه ليصلي على عادته ، فكان في محرابه في صلاة خاصة ودعاء خفي ، ثم خرج لصلاة الجماعة إذ هو الحبر الأعظم لهم.

وضمن خرج معنى طلع فعدي ب (عَلى) كقوله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص : ٧٩].

والمحراب : بيت أو محتجر يخصص للعبادة الخاصة. قال الحريري : فمحرابي أحرى بي.

والوحي : الإشارة بالعين أو بغيرها ، والإيماء لإفادة معنى شأنه أن يفاد بالكلام.

و (أن) تفسيرية. وجملة (سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) تفسير (لأوحى) ، لأن (أوحى) فيه معنى القول دون حروفه.

وإنما أمرهم بالتسبيح لئلا يحسبوا أن زكرياء لما لم يكلمهم قد نذر صمتا فيقتدوا به فيصمتوا ، وكان الصمت من صنوف العبادة في الأمم السالفة ، كما سيأتي في قوله تعالى : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦]. فأومأ إليهم أن يشرعوا فيما اعتادوه من التسبيح ؛ أو أراد أن يسبحوا الله تسبيح شكر على أن وهب نبيئهم ابنا يرث علمه ، ولعلهم كانوا علموا ترقبه استجابه دعوته ، أو أنه أمرهم بذلك أمرا مبهما يفسره عند ما تزول حبسة لسانه.

[١٢ ـ ١٤] (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤))

مقول قول محذوف ، بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى ، فلا محالة أنه صادر من قائل ، ولا يناسب إلّا أن يكون قولا من الله تعالى ، وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته. والأظهر أنّ هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكرياء. فهذا ابتداء ذكر

١٧

فضائل يحيى.

وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به. والسياق يدلّ عليه. والتقدير : قلنا يا يحيى خذ الكتاب.

والكتاب : التوراة لا محالة ، إذ لم يكن ليحيى كتاب منزّل عليه.

والأخذ : مستعار للتفهم والتدبر ، كما يقال : أخذت العلم عن فلان ، لأنّ المعتني بالشيء يشبه الآخذ.

والقوة : المراد بها قوّة معنوية ، وهي العزيمة والثّبات.

والباء للملابسة ، أي أخذا ملابسا للثبات على الكتاب ، أي على العمل به وحمل الأمّة على اتباعه ، فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها. و (آتَيْناهُ) عطف على جملة القول المحذوفة ، أي قلنا : يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم.

والحكم : اسم للحكمة. وقد تقدم معناها في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) في سورة البقرة [٢٦٩]. والمراد بها النّبوءة ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) في سورة يوسف [٢٢] ، فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه. وقيل : الحكم هو الحكمة والفهم.

و (صَبِيًّا) حال من الضمير المنصوب في (وَآتَيْناهُ). وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد ، كما أعطى نبيئه محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه. ويبعد أن يكون يحيى أعطي النبوءة وهو صبي ، لأن النبوءة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشدّ. واتفق العلماء على أن يحيى أعطي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير. ولعل الله لما أراد أن يكون شهيدا في مقتبل عمره باكره بالنبوءة.

والحنان : الشفقة. ومن صفات الله تعالى الحنان. ومن كلام العرب : حنانيك ، أي حنانا منك بعد حنان. وجعل حنان يحيى من لدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس.

والزكاة : زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث ، كما في قوله تعالى : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى

١٨

أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] أو أريد بها البركة.

وتقي : فعيل بمعنى مفعل ، من اتّقى إذا اتّصف بالتقوى ، وهي تجنب ما يخالف الدّين. وجيء في وصفه بالتقوى بفعل (كانَ تَقِيًّا) للدلالة على تمكنه من الوصف.

وكذلك عطف بروره بوالديه على كونه تقيا للدلالة على تمكنه من هذا الوصف.

والبرور : الإكرام والسعي في الطاعة. والبرّ ـ بفتح الباء ـ وصف على وزن المصدر ، فالوصف به مبالغة. وأما البر ـ بكسر الباء ـ فهو اسم مصدر لعدم جريه على القياس.

والجبّار : المستخف بحقوق الناس ، كأنه مشتق من الجبر ، وهو القسر والغصب.

لأنّه يغصب حقوق النّاس.

والعصيّ : فعيل من أمثلة المبالغة ، أي شديد العصيان ، والمبالغة منصرفة إلى النفي لا إلى المنفيّ. أي لم يكن عاصيا بالمرة.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

الأظهر أنه عطف على (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢] مخاطبا به المسلمون ليعلموا كرامة يحيى عند الله.

والسّلام : اسم للكلام الذي يفاتح به الزائر والراحل فيه ثناء أو دعاء. وسمي ذلك سلاما لأنه يشتمل على الدعاء بالسلامة ولأنه يؤذن بأن الذي أقدم هو عليه مسالم له لا يخشى منه بأسا. فالمراد هنا سلام من الله عليه ، وهو ثناء الله عليه ، كقوله (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. فإذا عرّف السلام باللام فالمراد به مثل المراد بالمنكّر أو مراد به العهد ، أي سلام إليه ، كما سيأتي في السلام على عيسى. فالمعنى : أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة.

وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداء أطوار : طور الورود على الدنيا ، وطور الارتحال عنها ، وطور الورود على الآخرة. وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال.

والمراد باليوم مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال.

١٩

وجيء بالفعل المضارع في (وَيَوْمَ يَمُوتُ) لاستحضار الحالة التي مات فيها ، ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلّا إجمالا.

[١٦ ـ ٢١] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) الَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

جملة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) عطف على جملة (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) [مريم : ٢] عطف القصة على القصة فلا يراعى حسن اتّحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية ، على أن ذلك الاتحاد ليس بملتزم. على أنك علمت أن الأحسن أن يكون قوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) مصدرا وقع بدلا من فعله.

والمراد بالذكر : التّلاوة ، أي اتل خبر مريم الذي نقصّه عليك.

وفي افتتاح القصة بهذا زيادة اهتمام بها وتشويق للسامع أن يتعرفها ويتدبرها.

والكتاب : القرآن ، لأنّ هذه القصة من جملة القرآن. وقد اختصت هذه السورة بزيادة كلمة (فِي الْكِتابِ) بعد كلمة (وَاذْكُرْ). وفائدة ذلك التنبيه إلى أن ذكر من أمر بذكرهم كائن بآيات القرآن وليس مجرد ذكر فضله في كلام آخر من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : «لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي».

ولم يأت مثل هذه الجملة في سورة أخرى لأنه قد حصل علم المراد في هذه السورة فعلم أنه المراد في بقية الآيات التي جاء فيها لفظ (اذْكُرْ). ولعل سورة مريم هي أول سورة أتى فيها لفظ (وَاذْكُرْ) في قصص الأنبياء فإنها السورة الرابعة والأربعون في عدد نزول السور.

و (إِذِ) ظرف متعلق ب (اذْكُرْ) باعتبار تضمنه معنى القصة والخبر ، وليس متعلقا به في ظاهر معناه لعدم صحة المعنى.

ويجوز أن يكون (إذ) مجرد اسم زمان غير ظرف ويجعل بدلا من (مريم) ، أي اذكر زمن انتباذها مكانا شرقيا. وقد تقدم مثله في قوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نادى

٢٠