تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

الأفضل. والمثالة : الفضل ، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز.

والطريقة : الحالة والسنّة والرأي ، والمراد هنا الرأي ، وتقدم في قوله (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) [طه : ٦٣] في هذه السورة ، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس.

والذي أراه : أنه يحتمل الحقيقة والمجاز ؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعا بعد طول المكث في الأرض طولا تتلاشى فيه أجزاء الأجسام ، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ، فكان ذلك القول عذرا لأن عشر الليالي تتغيّر في مثلها الأجسام. فكان الذي قال (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أقرب إلى رواج الاعتذار. فالمراد : أنه الأمثل من بينهم في المعاذير ، وليس المراد أنه مصيب.

وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور ، فلما كان كلا التقديرين متوغّلا في الغلظ مؤذنا بجهل المقدّرين واستبهام الأمر عليهم دالا على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قضّى الأزمان الطويلة والأمم العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة ، فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقلّ قدر أوغل في الغلط فعبر عنه ب (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) تهكما به وبهم معا إذ استوى الجميع في الخطأ.

وجملة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) معترضة بين فعل (يَتَخافَتُونَ) وظرفية (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ) ، أي إنهم يقولون ذلك سرا ونحن أعلم به وإننا نخبر عن قولهم يومئذ خبر العليم الصادق.

[١٠٥ ـ ١٠٧] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧))

لما جرى ذكر البعث ووصف ما سينكشف للذين أنكروه من خطئهم في شبهتهم بتعذر إعادة الأجسام بعد تفرق أجزائها ذكرت أيضا شبهة من شبهاتهم كانوا يسألون بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال تعنت لا سؤال استهداء ، فكانوا يحيلون انقضاء هذا العالم ويقولون : فأين تكون هذه الجبال التي نراها. وروي أنّ رجلا من ثقيف سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وهم أهل جبال لأن موطنهم الطائف وفيه جبل كرى. وسواء كان سؤالهم استهزاء أم

١٨١

استرشادا ، فقد أنبأهم الله بمصير الجبال إبطالا لشبهتهم وتعليما للمؤمنين. قال القرطبي : «جاء هنا (أي قوله (فَقُلْ يَنْسِفُها) بفاء وكل سؤال في القرآن «قل» (أي كل جواب في لفظ منه مادة سؤال) بغير فاء إلا هذا ، لأن المعنى إن سألوك عن الجبال فقل ، فتضمن الكلام معنى الشرط ، وقد علم أنّهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال. وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ا. ه».

وأكد ينسفها نسفا لإثبات أنه حقيقة لا استعارة. فتقدير الكلام : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ... إلى آخره ، وننسف الجبال نسفا ، فقل ذلك للذين يسألونك عن الجبال.

والنسف : تفريق وإذراء ، وتقدم آنفا.

والقاع : الأرض السهلة.

والصفصف : الأرض المستوية التي لا نتوء فيها.

ومعنى (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) أنها تندك في مواضعها وتسوى مع الأرض حتى تصير في مستوى أرضها ، وذلك يحصل بزلزال أو نحوه ، قال تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٤ ـ ٦].

وجملة (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) حال مؤكدة لمعنى (قاعاً صَفْصَفاً) لزيادة تصوير حالة فيزيد تهويلها. والخطاب في (لا تَرى فِيها عِوَجاً) لغير معين يخاطب به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم سائليه.

والعوج ـ بكسر العين وفتح الواو ـ : ضد الاستقامة ، ويقال : ـ بفتح العين والواو ـ كذلك فهما مترادفان على الصحيح من أقوال أئمة اللّغة. وهو ما جزم به عمرو واختاره المرزوقي في «شرح الفصيح». وقال جماعة : ـ مكسور العين ـ يجري على الأجسام غير المنتصبة كالأرض وعلى الأشياء المعنوية كالدين. و ـ مفتوح العين ـ يوصف به الأشياء المنتصبة كالحائط والعصا ، وهو ظاهر ما في «لسان العرب» عن الأزهري. وقال فريق : ـ مكسور العين ـ توصف به المعاني ، و ـ مفتوح العين ـ توصف به الأعيان. وهذا أضعف الأقوال. وهو منقول عن ابن دريد في «الجمهرة» وتبعه في «الكشاف» هنا ، وكأنه مال إلى ما فيه من التفرقة في الاستعمال ، وذلك من الدقائق التي يميل إليها المحققون. ولم يعرج عليه صاحب «القاموس» ، وتعسف صاحب «الكشاف» تأويل الآية على اعتباره خلافا

١٨٢

لظاهرها. وهو يقتضي عدم صحة إطلاقه في كل موضع. وتقدم هذا اللّفظ في أول سورة الكهف فانظره.

والأمت : النتوء اليسير ، أي لا ترى فيها وهدة ولا نتوءا ما.

والمعنى : لا ترى في مكان فسقها عوجا ولا أمتا.

[١٠٨ ـ ١١٢] (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

جملة (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) في معنى المفرعة على جملة (يَنْسِفُها) [طه : ١٠٥]. و (يَوْمَئِذٍ) ظرف متعلق ب (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ). وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم ، وليكون تقديمه قائما مقام العطف في الوصل ، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال ، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.

والداعي ، قيل : هو الملك إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ يدعو بنداء التسخير والتكوين ، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه. وقيل : الداعي الرسول ، أي يتبع كلّ قوم رسولهم.

و (عِوَجَ لَهُ) حال من (الدَّاعِيَ). واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجل ، أي لا عوج لأجل الداعي ، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يراد بالعوج الباطل تعريضا بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم العوج كقولهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨] ، ونحو ذلك من أكاذيبهم ، كما عرض بهم في قوله تعالى : (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١].

فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي ، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم ، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم ، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العوج.

١٨٣

وبين قوله (لا تَرى فِيها عِوَجاً) [طه : ١٠٧] وقوله (لا عِوَجَ لَهُ) مراعاة النظير ، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قال (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٤] كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.

والخشوع : الخضوع ، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع ؛ فمظهر الخشوع في الصوت : الإسرار به ، فلذلك فرع عليه قوله (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً).

والهمس : الصوت الخفيّ.

والخطاب بقوله (لا تَرى فِيها عِوَجاً) وقوله (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) خطاب لغير معين ، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.

وجملة (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) في موضع الحال من ضمير (يَتَّبِعُونَ) وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي ، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات ؛ أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره ، وهذا الخشوع من هول المقام.

وجملة (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) كجملة (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) في معنى التفريع على (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) ، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلّا همسا ولا يجرءون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلّا بإذنه ، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.

واستثناء (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعا ، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلا ، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمن في أن يشفع ، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.

واللّام في (أَذِنَ لَهُ) لام تعدية فعل (أَذِنَ) ، مثل قوله (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣]. وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيقال لي : سل تعطه واشفع تشفّع».

وقوله (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) عائد إلى (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) وهو الشافع. واللّام الداخلة على ذلك الضمير لام التّعليل ، أي رضي الرحمن قول الشّافع لأجل الشافع ، أي إكراما له كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته ، فصار الإذن بالشّفاعة وقبولها عنوانا على كرامة الشافع عند الله تعالى.

١٨٤

والمجرور متعلق بفعل (رَضِيَ). وانتصب (قَوْلاً) على المفعولية لفعل «رضي» لأن (رَضِيَ) هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.

وجملة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) مستأنفة بيانية لجواب سؤال من قد يسأل بيان ما يوجب رضى الله عن العبد الذي يأذن بالشفاعة فيه. فبيّن بيانا إجماليا بأن الإذن بذلك يجري على ما يقتضيه علم الله بسائر العبيد وبأعمالهم الظاهرة ، فعبر عن الأعمال الظاهرة بما بين أيديهم لأنّ شأن ما بين الأيدي أن يكون واضحا ، وعبر عن السرائر بما خلفهم لأنّ شأن ما يجعل خلف المرء أن يكون محجوبا. وقد تقدم ذلك في آية الكرسي ، فهو كناية عن الظاهرات والخفيات ، أي فيأذن لمن أراد تشريفه من عباده المقربين بأن يشفع في طوائف مثل ما ورد في الحديث «يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال حبّة من إيمان» ، أو بأن يشفع في حالة خاصة مثل ما ورد في حديث الشفاعة العظمى في الموقف لجميع الناس بتعجيل حسابهم.

وجملة (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) تذييل للتعليم بعظمة علم الله تعالى وضآلة علم البشر ، نظير ما وقع في آية الكرسي.

وجملة (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) معطوفة على جملة (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) ، أي ظهر الخضوع في الأصوات والعناء في الوجوه.

والعناء : الذلة ، وأصله الأسر ، والعاني : الأسير. ولما كان الأسير ترهقه ذلة في وجهه أسند العناء إلى الوجوه على سبيل المجاز العقلي ، والجملة كلها تمثيل لحال المجرمين الذين الكلام عليهم من قوله ونحشر (الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه : ١٠٢] ، فاللّام في (الْوُجُوهُ) عوض عن المضاف إليه ، أي وجوههم ، كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٩] أي لهم. وأما وجوه أهل الطاعات فهي وجوه يومئذ ضاحكة مستبشرة.

ويجوز أن يجعل التعريف في (الْوُجُوهُ) على العموم ، ويراد ب (عَنَتِ) خضعت ، أي خضع جميع الناس إجلالا لله تعالى.

والحيّ : الذي ثبت له وصف الحياة ، وهي كيفية حاصلة لأرقى الموجودات ، وهي قوّة للموجود بها بقاء ذاته وحصول إدراكه أبدا أو إلى أمد ما. والحياة الحقيقية هي حياة الله تعالى لأنّها ذاتية غير مسبوقة بضدها ولا منتهية.

١٨٥

والقيوم : القائم بتدبير النّاس ، مبالغة في القيّم ، أي الذي لا يفوته تدبير شيء من الأمور. وتقدم (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) في سورة البقرة [٢٥٥].

وجملة (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ؛ إما معترضة في آخر الكلام تفيد التعليل إن جعل التعريف في (الْوُجُوهُ) عوضا عن المضاف إليه ، أي وجوه المجرمين. والمعنى : إذ قد خاب كلّ من حمل ظلما ؛ وإما احتراس لبيان اختلاف عاقبة عناء الوجوه ، فمن حمل ظلما فقد خاب يومئذ واستمر عناؤه ، ومن عمل صالحا عاد عليه ذلك الخوف بالأمن والفرح. والظلم : ظلم النفس.

وجملة (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إلخ : شرطية مفيدة قسيم مضمون جملة (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً). وصيغ هذا القسيم في صيغة الشرط تحقيقا للوعد ، و (فَلا يَخافُ) جواب الشرط ، واقترانه بالفاء علامة على أن الجملة غير صالحة لموالاة أداة الشرط ، فتعين ؛ إما أن تكون (لا) التي فيها ناهية ، وإما أن يكون الكلام على نيّة الاستئناف. والتقدير : فهو لا يخاف.

وقرأ الجمهور (فَلا يَخافُ) بصيغة المرفوع بإثبات ألف بعد الخاء ، على أن الجملة استئناف غير مقصود بها الجزاء ، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر لأنه مؤمن ويعمل الصالحات. وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم بحذف الألف بعد الخاء ، على أن الكلام نهي مستعمل في الانتفاء. وكتبت في المصحف بدون ألف فاحتملت القراءتين. وأشار الطيبي إلى أن الجمهور توافق قوله تعالى : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) في أن كلتا الجملتين خبرية. وقراءة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من الظلم والهضم ، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية.

ومعنى (فَلا يَخافُ ظُلْماً) لا يخاف جزاء الظالمين لأنّه آمن منه بإيمانه وعمله الصالحات.

والهضم : النقص ، أي لا ينقصون من جزائهم الذي وعدوا به شيئا كقوله (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [هود : ١٠٩].

ويجوز أن يكون الظلم بمعنى النقص الشديد كما في قوله (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] ، أي لا يخاف إحباط عمله ، وعليه يكون الهضم بمعنى النقص الخفيف ، وعطفه على الظلم على هذا التفسير احتراس.

١٨٦

[١١٣ ـ ١١٤] (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

عطف على جملة (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) [طه : ٩٩] ، والغرض واحد ، وهو التنويه بالقرآن. فابتدئ بالتنويه به جزئيا بالتنويه بقصصه ، ثمّ عطف عليه التنويه به كليّا على طريقة تشبه التذييل لما في قوله (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) من معنى عموم ما فيه.

والإشارة ب (كَذلِكَ) نحو الإشارة في قوله (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) ، أي كما سمعته لا يبين بأوضح من ذلك.

و (قُرْآناً) حال من الضمير المنصوب في (أَنْزَلْناهُ). وقرآن تسمية بالمصدر. والمراد المقروء ، أي المتلو ، وصار القرآن علما بالغلبة على الوحي المنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بألفاظ معينة متعبّدا بتلاوتها يعجز الإتيان بمثل سورة منها. وسمي قرآنا لأنه نظم على أسلوب تسهل تلاوته. ولوحظ هنا المعنى الاشتقاقي قبل الغلبة وهو ما تفيده مادة قرأ من يسر تلاوته ؛ وما ذلك إلّا لفصاحة تأليفه وتناسب حروفه. والتنكير يفيد الكمال ، أي أكمل ما يقرأ.

و (عَرَبِيًّا) صفة (قُرْآناً). وهذا وصف يفيد المدح ، لأنّ اللغة العربية أبلغ اللّغات وأحسنها فصاحة وانسجاما. وفيه تعريض بالامتنان على العرب ، وتحميق للمشركين منهم حيث أعرضوا عنه وكذبوا به ، قال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء : ١٠].

والتصريف : التنويع والتفنين. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) في سورة الأنعام [٤٦] ، وقوله (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) في سورة الإسراء [٤١].

وذكر الوعيد هنا للتهديد ، ولمناسبة قوله قبله (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه : ١١١].

والتقوى : الخوف. وهي تستعمل كناية عن الطاعة لله ، أي فعلنا ذلك رجاء أن يؤمنوا ويطيعوا. والذكر هنا بمعنى التذكر ، أي يحدث لهم القرآن تذكرا ونظرا فيما يحق عليهم أن يختاروه لأنفسهم.

١٨٧

وعبر ب (يُحْدِثُ) إيماء إلى أن الذكر ليس من شأنهم قبل نزول القرآن ، فالقرآن أوجد فيهم ذكرا لم يكن من قبل ، قال ذو الرمة :

ولما جرت في الجزل جريا كأنه

سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا

و (لعل) للرجاء ، أي إن حال القرآن أن يقرّب الناس من التقوى والتذكر ، بحيث يمثّل شأن من أنزله وأمر بما فيه بحال من يرجو فيلفظ بالحرف الموضوع لإنشاء الرجاء. فحرف (لعل) استعارة تبعية تنبئ عن تمثيلية مكنية ، وقد مضى معنى (لعل) في القرآن عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) في سورة البقرة [٢١].

وجملة (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) معترضة بين جملة (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) وبين جملة (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ). وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن ، وتلقين لشكره على ما بيّن لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) إلى آخرها ...

والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كلّ ذلك ناشئ عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة.

وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن ملك غيره من المتسمين بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦]. وفي الحديث : «فيقول الله أنا الملك أين ملوك الأرض» ، أي أحضروهم هل تجدون منهم من ينازع في ذلك ، كقول الخليفة معاوية حين خطب في المدينة «يا أهل المدينة أين علماؤكم».

والجمع بين اسم الجلالة واسمه (الملك) إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحقّان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال ، وهو الدال على انحصار الإلهيّة وكمالها.

ثمّ أتبع ب (الحق) للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلّا بما هو مقتضى الحكمة.

والحق : الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره ، وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف.

١٨٨

وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضا إلى أن القرآن قانون ذلك الملك ، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة.

وجملة (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس. فلمّا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على صلاح الأمّة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عقب سماع تلك الآيات رغبة أو طلبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعا بعظة الناس وصلاحهم ، فعلمه الله أن يكل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العامّ.

ومعنى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك ، أي ما نفذ إنزاله فإنه هو المناسب. فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد ، فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر ـ عليهما‌السلام ـ «وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما».

ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته. فعن ابن عبّاس : كان النبي يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل حرصا على الحفظ وخشية من النسيان فأنزل الله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الآية. وهذا كما قال ابن عبّاس في قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] كما في «صحيح البخاري». وعلى هذين التأويلين يكون المراد بقضاء وحيه إتمامه وانتهاؤه ، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول.

وعن مجاهد وقتادة أن معناه : لا تعجل بقراءة ما أنزل إليك لأصحابك ولا تمله عليهم حتى تتبين لك معانيه. وعلى هذا التأويل يكون قضاء الوحي تمام معانيه. وعلى كلا التفسيرين يجري اعتبار موقع قوله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).

وقرأ الجمهور (يُقْضى) بتحتية في أوله مبنيا للنائب ، ورفع (وَحْيُهُ) على أنه نائب الفاعل. وقرأه يعقوب ـ بنون العظمة وكسر الضاد وبفتحة على آخر نقضي وبنصب وحيه.

وعطف جملة (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) يشير إلى أن المنهي عنه استعجال مخصوص وأن الباعث على الاستعجال محمود. وفيه تلطف مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أتبع نهيه عن التعجل

١٨٩

الذي يرغبه بالإذن له بسؤال الزيادة من العلم ، فإن ذلك مجمع كل زيادة سواء كانت بإنزال القرآن أم بغيره من الوحي والإلهام إلى الاجتهاد تشريعا وفهما ، إيماء إلى أن رغبته في التعجل رغبة صالحة كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي راكعا فلم يلبث أن يصل إلى الصف بل ركع ودبّ إلى الصف راكعا فقال له : «زادك الله حرصا ولا تعد».

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

لما كانت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاندوه ، وذلك المقصود من قصصها كما أشرنا إليه آنفا عند قوله (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) [طه : ٩٩ ، ١٠٠] فكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استحب الزيادة من هذه القصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريبا عند قوله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤] ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم ـ عليه‌السلام ـ وما عرّض له به الشيطان ، تحقيقا لفائدة قوله (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤]. فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعت.

والكلام معطوف على جملة (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ). وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيها على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد ، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله ، كما قال فيها (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) [طه : ٨٦] ، وفي قصة آدم تفريطا في العهد أيضا. وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) [طه : ٩٦] وقال في هذه (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) [طه: ١٢٠]. وفي أن في القصتين نسيانا لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى (فَنَسِيَ) [طه : ١٦] وقال في هذه القصة (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

وعليه فقوله (مِنْ قَبْلُ) حذف ما أضيف إليه (قبل). وتقديره : من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر ، فإن بناء (قبل) على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه. والذي ذكر : إما عهد موسى الذي في قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) [طه : ١٣] وقوله (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [طه : ١٦] ؛ وإما عهد الله

١٩٠

لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى ـ عليه‌السلام ـ لما رجع إليهم غضبان أسفا ، وهو ما في قوله (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) [طه : ٨٦] الآية.

والمراد بالعهد إلى آدم : العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها.

والنسيان : أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمدا ، كقوله في قصة السامري (فَنَسِيَ) ، فيكون عصيانا ، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الآية ، وقد مضت في سورة الأعراف [٢٠ ، ٢١]. وهذا العهد هو المبيّن في الآية بقوله (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧] الآية.

والعزم : الجزم بالفعل وعدم التردد فيه ، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه. وتقدم قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) في سورة البقرة [٢٢٧]. والمراد هنا : العزم على امتثال الأمر وإلغاء ما يحسّن إليه عدم الامتثال ، قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] ، وقال (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وموسى ، وداود ، وعيسى عليهم‌السلام.

واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلا لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦))

هذا بيان لجملة (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) [طه : ١١٥] إلى آخرها ، فكان مقتضى الظاهر أن لا يكون معطوفا بالواو بل أن يكون مفصولا ، فوقوع هذه الجملة معطوفة اهتمام بها لتكون قصة مستقلة فتلفت إليها أذهان السامعين. فتكون الواو عاطفة قصة آدم على قصة موسى عطفا على قوله (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً) [طه : ١٠] ، ويكون التقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، وتكون جملة (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) تذييلا لقصة هارون مع السامريّ وقوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هارون. والمعنى : أنّ هارون لم يكن له عزم في الحفاظ على ما عهد إليه موسى. وانتهت القصة بذلك التذييل ، ثمّ عطف على قصة موسى قصة آدم تبعا لقوله (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) [طه : ٩٩].

١٩١

[١١٧ ـ ١١٩] (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

قصة خلق آدم وسجود الملائكة له وإباء الشيطان من السجود تقدمت في سورة البقرة وسورة الأعراف ، فلنقتصر على بيان ما اختصت به هاته السورة من الأفانين والتراكيب.

فقوله (إِنَّ هذا) إشارة إلى الشيطان إشارة مرادا منها التحقير ، كما حكى الله في سورة الأنبياء [٣٦] من قول المشركين (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) ، وفي سورة الأعراف [٢٢] (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ) عبر عنه باسمه.

وقوله (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) هو كقوله في الأعراف [٢٢] : (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ). فذكرت عداوته لهما جملة هنالك وذكرت تفصيلا هنا ، فابتدئ في ذكر متعلّق عداوته بآدم لأنّ آدم هو منشأ عداوة الشيطان لحسده ، ثم اتّبع بذكر زوجه لأنّ عداوته إياها تبع لعداوته آدم زوجها ، وكانت عداوته متعلّقة بكليهما لاتحاد علّة العداوة ، وهي حسده إياهما على ما وهبهما الله من علم الأسماء الذي هو عنوان الفكر الموصل إلى الهدى وعنوان التعبير عن الضمير الموصل للإرشاد ، وكل ذلك مما يبطل عمل الشيطان ويشق عليه في استهوائهما واستهواء ذريتهما ، ولأنّ الشيطان رأى نفسه أجدر بالتفضيل على آدم فحنق لما أمر بالسجود لآدم.

(فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩)

قوله (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) تفريع على الإخبار بعداوة إبليس له ولزوجه : بأن نهيا نهي تحذير عن أن يتسبب إبليس في خروجهما من الجنة ، لأنّ العدوّ لا يروقه صلاح حال عدوه. ووقع النهي في صورة نهي عن عمل هو من أعمال الشيطان لا من أعمال آدم كناية عن نهي آدم عن التأثر بوسائل إخراجهما من الجنّة ، كما يقال : لا أعرفنّك تفعل كذا ، كناية عن : لا تفعل ، أي لا تفعل كذا حتى أعرفه منك ، وليس المراد النهي عن أن يبلغ إلى المتكلّم خبر فعل المخاطب.

وأسند ترتب الشقاء إلى آدم خاصة دون زوجه إيجازا ، لأنّ في شقاء أحد الزوجين

١٩٢

شقاء الآخر لتلازمهما في الكون مع الإيماء إلى أنّ شقاء الذكر أصل شقاء المرأة ، مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.

وجملة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) تعليل للشقاء المترتب على الخروج من الجنّة المنهي عنه ، لأنه لما كان ممتعا في الجنة برفاهية العيش من مأكل وملبس ومشرب واعتدال جوّ مناسب للمزاج كان الخروج منها مقتضيا فقدان ذلك.

و (تَضْحى) مضارع ضحي : كرضي ، إذا أصابه حر الشمس في وقت الضحى ، ومصدره الضحو ، وحر الشمس في ذلك الوقت هو مبدأ شدته ، والمعنى : لا يصيبك ما ينافر مزاجك ، فالاقتصار على انتفاء الضحو هنا اكتفاء ، أي ولا تصرد ، وآدم لم يعرف الجوع والعرى والظمأ والضحو بالوجدان ، وإنما عرفها بحقائقها ضمن تعليمه الأسماء كلّها كما تقدّم في سورة البقرة.

وجمع له في هذا الخبر أصول كفاف الإنسان في معيشته إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلة ، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعارا بخصائص المكوّن في مقوماته ، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لاختيار اللبن على الخمر فقيل له : لو اخترت الخمر لغوت أمّتك.

وقد قرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) ، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله (لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) لمناسبة بين الجوع والعرى ، في أن الجوع خلوّ باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام ، وأن العري خلوّ ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد ؛ ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر. فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع ، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما ، إذ جمع النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لو لا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر.

ومن هذا القبيل في تفريق النظائر قصة أدبيّة طريفة جرت بين سيف الدولة وبين أبي الطيّب المتنبي ذكرها المعري في «معجز أحمد» شرحه على «ديوان أبي الطيّب» إجمالا ، وبسطها الواحدي في «شرحه على الديوان». وهي : أن أبا الطيّب لما أنشد سيف الدولة قصيدته التي طالعها :

١٩٣

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

قال في أثنائها يصف موقعة بين سيف الدولة والروم في ثغر الحدث :

وقفت ما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

فاستعادها سيف الدولة منه بعد ذلك فلما أنشده هذين البيتين ، قال له سيف الدولة : إن صدري البيتين لا يلائمان عجزيهما وكان ينبغي أن تقول :

وقفت وما في الموت شك لواقف

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة

كأنك في جفن الردى وهو نائم

وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله :

كأني لم أركب جوادا للذة

ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبإ الزقّ الرويّ ولم أقل

لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال

ووجه الكلام على ما قال العلماء بالشعر أن يكون عجز البيت الأول للثّاني وعجز البيت الثاني للأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر ، ويكون سباء الخمر للذة مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيّب : أدام الله عزّ الأمير ، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك لأن البزاز لا يعرف إلّا جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله لأنه أخرجه من الغزليّة إلى الثوبية. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذة الركوب للصيد ، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء. وأنا لما ذكرت الموت أتبعته بذكر الردى لتجانسه ولما كان وجه المهزوم لا يخلو أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت :

ووجهك وضّاح وثغرك باسم

لأجمع بين الأضداد في المعنى.

ومعنى هذا أن امرؤ القيس خالف مقتضى الظاهر في جمع شيئين مشتهري المناسبة فجمع شيئين متناسبين مناسبة دقيقة ، وأن أبا الطيّب خالف مقتضى الظاهر من جمع النظيرين ففرقهما لسلوك طريقة أبدع ، وهي طريقة الطباق بالتضاد وهو أعرق في صناعة البديع.

١٩٤

وجعلت المنة على آدم بهذه النعم مسوقة في سياق انتفاء أضدادها ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة تحذيرا منها لكي يتحامى من يسعى إلى إرزائه منها.

وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم وإنك لا تظمؤا ـ بكسر همزة (إنّ) ـ عطفا للجملة على الجملة. وقرأ الباقون (وَأَنَّكَ) ـ بفتح الهمزة ـ عطفا على (أَلَّا تَجُوعَ) عطف المفرد على المفرد ، أي إن لك نفي الجوع والعري ونفي الظّمأ والضحو.

وقد حصل تأكيد الجميع على القراءتين ب (إن) وبأختها ، وبين الأسلوبين تفنّن.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠))

قوله (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) تقدم مثله في الأعراف. والفاء لتعقيب مضمون جملتها على مضمون التي قبلها ، وهو تعقيب نسبي بما يناسب مدّة تقلب في خلالها بخيرات الجنة حتى حسده الشيطان واشتد حسده.

وتعدية فعل (وسوس) هنا بحرف (إلى) وباللام في سورة الأعراف [٢٠] (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) باعتبار كيفية تعليق المجرور بذلك الفعل في قصد المتكلّم ، فإنه فعل قاصر لا غنى له عن التعدية بالحرف ، فتعديته بحرف (إلى) هنا باعتبار انتهاء الوسوسة إلى آدم وبلوغها إياه ، وتعديته باللّام في الأعراف باعتبار أن الوسوسة كانت لأجلهما.

وجملة (قالَ يا آدَمُ) [طه : ١١٧] بيان لجملة (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ). وهذه الآية مثال للجملة المبيّنة لغيرها في علم المعاني.

وهذا القول خاطر ألقاه الشيطان في نفس آدم بطريق الوسوسة وهي الكلام الخفي ؛ إما بألفاظ نطق بها الشيطان سرا لآدم لئلا يطّلع عليه الملائكة فيحذروا آدم من كيد الشيطان ، فيكون إطلاق القول عليه حقيقة ؛ وإما بمجرد توجه أراده الشيطان كما يوسوس للناس في الدنيا ، فيكون إطلاق القول عليه مجازا باعتبار المشابهة.

و (هَلْ أَدُلُّكَ) استفهام مستعمل في العرض ، وهو أنسب المعاني المجازية للاستفهام لقربه من حقيقته.

والافتتاح بالنداء ليتوجه إليه.

والشجرة هي التي نهاه الله عن الأكل منها دون جميع شجر الجنّة ، ولم يذكر النهي

١٩٥

عنها هنا وذكر في قصة سورة البقرة. وهذا العرض متقدم على الإغراء بالأكل منها المحكي في قوله تعالى في سورة الأعراف [٢٠] (قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ، ولم يدله الشيطان على شجرة الخلد بل كذبه ودله على شجرة أخرى بآية أن آدم لم يخلّد ، فحصل لآدم توهم أنه إذا أكل من الشجرة التي دله عليها الشيطان أن يخلد في الحياة.

والدلالة : الإرشاد إلى شيء مطلوب غير ظاهر لطالبه ، والدلالة على الشجرة لقصد الأكل من ثمرتها.

وسماها هنا (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) بالإجمال للتشويق إلى تعيينها حتى يقبل عليها ، ثم عيّنها له عقب ذلك بما أنبأ به قوله تعالى : (فَأَكَلا مِنْها) [طه : ١٢١].

وقد أفصح هذا عن استقرار محبّة الحياة في جبلة البشر.

والملك : التحرر من حكم الغير ، وهو يوهم آدم أنه يصير هو المالك للجنة المتصرّف فيها غير مأمور لآمر.

واستعمل البلى مجازا في الانتهاء ، لأنّ الثوب إذا بلي فقد انتهى لبسه.

[١٢١ ـ ١٢٢] (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

تفريع على ما قبله وثمّ جملة محذوفة دل عليها العرض ، أي فعمل آدم بوسوسة الشيطان فأكل من الشجرة وأكلت حواء معه.

واقتصار الشيطان على التسويل لآدم وهو يريد أن يأكل آدم وحواء ، لعلمه بأن اقتداء المرأة بزوجها مركوز في الجبلة. وتقدم معنى (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) في سورة الأعراف [٢٢].

وقوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) عطف على (فَأَكَلا مِنْها) ، أي أكلا معا ، وتعمد آدم مخالفة نهي الله تعالى إياه عن الأكل من تلك الشجرة. وإثبات العصيان لآدم دون زوجه يدل على أن آدم كان قدوة لزوجه فلما أكل من الشجرة تبعته زوجه ، وفي هذا المعنى قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].

والغواية : ضدّ الرشد ، فهي عمل فاسد أو اعتقاد باطل ، وإثبات العصيان لآدم دليل

١٩٦

على أنه لم يكن يومئذ نبيئا ، ولأنّه كان في عالم غير عالم التكليف وكانت الغواية كذلك ، فالعصيان والغواية يومئذ : الخروج عن الامتثال في التربية كعصيان بعض العائلة أمر كبيرها ، وإنما كان شنيعا لأنّه عصيان أمر الله.

وليس في هذه الآية مستند لتجويز المعصية على الأنبياء ولا لمنعها ، لأنّ ذلك العالم لم يكن عالم تكليف.

وجملة (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) معترضة بين جملة (وَعَصى آدَمُ) وجملة (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) ، لأن الاجتباء والتوبة عليه كانا بعد أن عوقب آدم وزوجه بالخروج من الجنة كما في سورة البقرة ، وهو المناسب لترتب الإخراج من الجنة على المعصية دون أن يترتب على التوبة.

وفائدة هذا الاعتراض التعجيل ببيان مآل آدم إلى صلاح.

والاجتباء : الاصطفاء. وتقدم عند قوله تعالى : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في الأنعام [٨٧] ، وقوله (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في النحل [١٢١].

والهداية : الإرشاد إلى النفع. والمراد بها إذا ذكرت مع الاجتباء في القرآن النبوءة كما في هذه الآيات الثلاث.

[١٢٣ ـ ١٢٧] (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)

استئناف بياني ، لأنّ الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالا عن جزاء ذلك. وضمير (قالَ) عائد إلى (رَبَّهُ) [طه : ١٢١] من قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) والخطاب لآدم وإبليس.

والأمر في (اهْبِطا) أمر تكوين ، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض إلّا بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى.

١٩٧

و (جَمِيعاً) يظهر أنه اسم لمعنى كل أفراد ما يوصف بجميع ، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل : فريق ، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره ، قال تعالى : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) [هود : ٥٥] ونصبه على الحال ، وهو هنا حال من ضمير (اهْبِطا).

وجملة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) حال ثانية من ضمير (اهْبِطا). فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها.

والخطاب في قوله (بَعْضُكُمْ) خطاب لآدم وإبليس. وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما ، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧)

تفريع جملة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباء بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنّهم أودعوا في عالم خليط خيره بشرّه ، وحقائقه بأوهامه ، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص ، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان معدّا له من أصل تركيبه.

والخطاب في قوله (يَأْتِيَنَّكُمْ) لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعارا له بأنه سيكون منه جماعة ، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم ، فلا يكلفه الله باتباع الهدى ، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثا ينزه عنه فعل الحكيم تعالى. وليس هذا مثل أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقن بأنهم لا يؤمنون ، ولم يرد في السنّة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين ، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجنّ ، قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : وإياي ولكن الله أعانني فأسلم». فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير ، والمراد بالقرين : شيطان قرين ، والمراد بالهدى : الإرشاد إلى الخير.

١٩٨

وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي ، وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشريّة حتى قال كثير من علماء الإسلام : إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور. وإنه لذلك لم يعذر أهل الشرك في مدد الفتر التي لم تجىء فيها رسل للأمم. وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام ، وحررناها في «رسالة النسب النبوي».

وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأولين في سورة البقرة.

وأما قوله (فَلا يَضِلُ) فمعناه : أنه إذا اتبع الهدى الوارد من الله على لسان رسله سلم من أن يعتريه شيء من ضلال ، وهذا مأخوذ من دلالة الفعل في حيّز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي ، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا ، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحوال أخرى. وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غفلات ، أو تعارض أدلة ، أو انفعال بعادات مستقرة ، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلب مرضاتهم. وهذا سقراط وهو سيّد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان ، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد ربّ الحكمة. وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علّام الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى ، وأيدهم الله ، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء ، وكوّنهم تكوينا خاصا مناسبا لما سبق في علمه من مراده منهم ، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء ، ولا يخافون في الله لومة لائم. وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات.

والشقاء المنفي في قوله (وَلا يَشْقى) هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة.

ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حاله في الدنيا والآخرة ، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة ، أي مدّة الحياة.

والضنك : مصدر ضنك ، من باب كرم ضناكة وضنكا ، ولكونه مصدرا لم يتغيّر لفظه

١٩٩

باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا (مَعِيشَةً) وهي مؤنث. والضنك : الضيق ، يقال : مكان ضنك ، أي ضيق. ويستعمل مجازا في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة :

إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا

أشدد وإن نزلوا بضنك أنزل

أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله. وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله. والمعنى : أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسه غير مطمئنة.

وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا ، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك العمى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته ، ف (أَعْمى) الأول مجاز و (أَعْمى) الثاني حقيقة.

وجملة (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

وجملة (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ) إلخ واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف.

وفي هذه الآية دليل على أنّ الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك ، فكان ذلك مستقرا في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام : بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب ، وقال جماعة من أهل السنّة والمعتزلة قاطبة : إنّ معرفة الله واجبة بالعقل (١) ، ولا شك أنّ المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله ، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم.

والإشارة في (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا) راجعة إلى العمى المضمن في قوله (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك ، وكنت تعرض عن النظر في الآيات حين تدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاء وفاقا.

وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات ، وأن تقدير الأول : ونحشره يوم القيامة أعمى وننساه ، أي نقصيه من رحمتنا. وتقدير الثاني والثالث : قال كذلك أتتك آياتنا

__________________

(١) في المطبوعة (بالفعل).

٢٠٠