تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

ورغبة في تلقي الشريعة حسبما وعده الله قبل أن يحيط بنو إسرائيل بجبل الطور ، ولم يراع في ذلك إلا السبق إلى ما فيه خير لنفسه ولقومه ، فلامه الله على أن غفل عن مراعاة ما يحفّ بذلك من ابتعاده عن قومه قبل أن يوصيهم الله بالمحافظة على العهد ويحذّرهم مكر من يتوسّم فيه مكرا ، فكان في ذلك بمنزلة أبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم راكعا فركع ودبّ إلى الصف فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زادك الله حرصا ولا تعد».

وقريب من تصرّف موسى ـ عليه‌السلام ـ أخذ المجتهد بالدليل الذي له معارض دون علم بمعارضة ، وكان ذلك سبب افتتان قومه بصنع صنم يعبدونه.

وليس في كتاب التّوراة ما يشير إلى أكثر من صنع بني إسرائيل العجل من ذهب اتخذوه إلها في مدّة مغيب موسى ، وأن سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه : ٩١].

وقوله هنا (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) يدل على أنّهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة.

واعتذر عن تعجّله بأنه عجّل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه ، فقوله تعالى : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) فيه ضرب من الملام على التعجل بأنّه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير.

والأثر ـ بفتحتين ـ : ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خفّ. ويقال : إثر ـ بكسر الهمزة وسكون الثاء ـ وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب. فمعنى قولهم : جاء على إثره ، جاء مواليا له بقرب مجيئه ، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام من مشى قبله قبل أن يتغيّر ذلك الأثر بأقدام أخرى ، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره.

والمعنى : هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي ، أي موالون لي في الوصول. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي» ، تقديره : يحشرون سائرين على آثار قدمي.

وقرأ الجمهور (عَلى أَثَرِي) بفتحتين. وقرأه رويس عن يعقوب ـ بكسر الهمزة وسكون الثاء ـ.

واستعمل تركيب (هُمْ أُولاءِ) مجرّدا عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافا

١٦١

لقوله في سورة النساء [١٠٩] : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ) ، وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة ، نحو قول عبد بني الحسحاس :

ها أنا دون الحبيب يا وجع

وتقدّم عند قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) في سورة آل عمران [١١٩].

وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مقدّره وخالق أسبابه البعيدة. وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.

و (السَّامِرِيُ) يظهر أن ياءه ياء نسبة ، وأن تعريفه باللّام للعهد. فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر ؛ فالسامريّ نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سامر ، وقد كان من الأسماء القديمة (شومر) و (شامر) وهما يقاربان اسم سامر لا سيما مع التعريب. وفي «أنوار التنزيل» : «السامريّ نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها : السامرة» اه. أخذنا من كلام البيضاوي أن السامريّ منسوب إلى قبيلة وأما قوله «من بني إسرائيل» فليس بصحيح. لأنّ السامرة أمّة من سكان فلسطين في جهة نابلس في عهد الدولة الروميّة (البيزنطية) وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثمّ امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود. فليس هو منسوبا إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأنّ مدينة السامرة بناها الملك (عمري) ملك مملكة إسرائيل سنة ٩٢٥ قبل المسيح. وجعلها قصبة مملكته ، وسماها (شوميرون) لأنّه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه (شامر) بوزنتين من الفضة ، فعرّبت في العربية إلى سامرة ، وكان اليهود يعدونها مدينة كفر وجور ، لأنّ (عمري) بانيها وابنه (آخاب) قد أفسدا ديانة التّوراة وعبدا الأصنام الكنعانية. وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما ، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ويحتمل أن يكون السامريّ نسبا إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر ، كما قال بعض أهل التفسير ، فيكون فتى قبطيا اندس في بني إسرائيل لتعلّقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم. وعن سعيد بن جبير : كان السامريّ من أهل (كرمان) ، وهذا يقرّب أن يكون السامريّ تعريب كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب.

١٦٢

ويجوز أن تكون الياء من السامريّ غير ياء نسب بل حرفا من اسم مثل : ياء عليّ وكرسيّ ، فيكون اسما أصليا أو منقولا في العبرانية ، وتكون اللّام في أوّله زائدة.

وذكر الزمخشري والقرطبي خليطا من القصة : أن السامريّ اسمه موسى بن ظفر ـ بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء ـ وأنه ابن خالة موسى ـ عليه‌السلام ـ أو ابن خاله ، وأنه كفر بدين موسى بعد أن كان مؤمنا به ، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئزّ النفس منها.

واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضا السامرة ، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهوديّة في أصول الدّين ، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع ، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلّا من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنيّة على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخّص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصهار ملوكهم ، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ففي إنجيل متى إصحاح ١٠ وفي إنجيل لوقا إصحاح ٩ ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح ، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم.

ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلّة كبرى ، إذ زعموا أنّ هارون صنع العجل لهم لمّا قالوا له : «اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ما ذا أصاب موسى في الجبل فصنع لهم عجلا من ذهب». وأحسب أنّ هذا من آثار تلاشي التّوراة الأصلية بعد الأسر البابلي ، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة. ومما نقطع به أنّ هارون معصوم من ذلك لأنه رسول.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦))

الغضب : انفعال للنفس وهيجان ينشأ عن إدراك ما يسوؤها ويسخطها دون خوف ، والوصف منه غضبان.

والأسف : انفعال للنفس ينشأ من إدراك ما يحزنها وما تكرهه مع انكسار الخاطر. والوصف منه أسف. وقد اجتمع الانفعالان في نفس موسى لأنه يسوؤه وقوع ذلك في أمته وهو لا يخافهم ، فانفعاله المتعلّق بحالهم غضب ، وهو أيضا يحزنه وقوع ذلك وهو في

١٦٣

مناجاة الله تعالى التي كان يأمل أن تكون سبب رضى الله عن قومه فإذا بهم أتوا بما لا يرضي الله فقد انكسر خاطره بين يديه ربّه.

وهذا ابتداء وصف قيام موسى في جماعة قومه وفيهم هارون وفيهم السامريّ ، وهو يقرع أسماعهم بزواجر وعظه ، فابتدأ بخطاب قومه كلهم ، وقد علم أن هارون لا يكون مشايعا لهم ، فلذلك ابتدأ بخطاب قومه ثمّ وجّه الخطاب إلى هارون بقوله (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ) [طه : ٩٢].

وجملة (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ) مستأنفة بيانية.

وافتتاح الخطاب ب (يا قَوْمِ) تمهيد للّوم لأن انجرار الأذى للرجل من قومه أحق في توجيه الملام عليهم ، وذلك قوله (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي).

والاستفهام في (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ) إنكاري ؛ نزّلوا منزلة من زعم أن الله لم يعدهم وعدا حسنا لأنّهم أجروا أعمالهم على حال من يزعم ذلك فأنكر عليهم زعمهم. ويجوز أن يكون تقريريا ، وشأنه أن يكون على فرض النّفي كما تقدم غير مرّة.

والوعد الحسن هو : وعده موسى بإنزال التّوراة ، ومواعدته ثلاثين ليلة للمناجاة ، وقد أعلمهم بذلك ، فهو وعد لقومه لأنّ ذلك لصلاحهم ، ولأنّ الله وعدهم بأن يكون ناصرا لهم على عدوّهم وهاديا لهم في طريقهم ، وهو المحكي في قوله (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠].

والاستفهام في (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) مفرّع على قوله (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ) ، وهو استفهام إنكاري ، أي ليس العهد بوعد الله إياكم بعيدا. والمراد بطول العهد طول المدّة ، أي بعدها ، أي لم يبعد زمن وعد ربّكم إياكم حتى يكون لكم يأس من الوفاء فتكفروا وتكذّبوا من بلغكم الوعد وتعبدوا ربا غير الذي دعاكم إليه من بلغكم الوعد فتكون لكم شبهة عذر في الإعراض عن عبادة الله ونسيان عهده.

والعهد : معرفة الشيء وتذكّره ، وهو مصدر يجوز أن يكون أطلق على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق ، أي طال المعهود لكم وبعد زمنه حتى نسيتموه وعملتم بخلافه. ويجوز أن يبقى على أصل المصدر وهو عهدهم الله على الامتثال والعمل بالشريعة. وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) وقوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) في [سورة البقرة : ٢٧ و ٤٠].

١٦٤

و (أَمْ) إضراب إبطالي. والاستفهام المقدّر بعد (أَمْ) في قوله (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [طه : ٨٦] إنكاري أيضا ، إذ التقدير : بل أردتم أن يحل عليكم غضب ، فلا يكون كفركم إذن إلا إلقاء بأنفسكم في غضب الله كحال من يحب أن يحل عليه غضب من الله.

ففي قوله (أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) استعارة تمثيلية ، إذ شبه حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بدون داع إلى ذلك بحال من يحبّ حلول غضب الله عليه ؛ إذ الحب لا سبب له.

وقوله (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) تفريع على الاستفهام الإنكاري الثاني. ومعنى (مَوْعِدِي) هو وعد الله على لسانه ، فإضافته إلى ضميره لأنه الواسطة فيه.

[٨٧ ـ ٨٨] (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨))

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) وقعت جملة (قالُوا) غير معطوفة لأنها جرت في المحاورة جوابا عن كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ. وضمير (قالُوا) عائد إلى القوم وإنما القائل بعضهم ، تصدّوا مجيبين عن القوم كلّهم وهم كبراء القوم وأهل الصلاح منهم.

وقوله (بِمَلْكِنا) قرأه نافع ، وعاصم ، وأبو جعفر ـ بفتح الميم ـ. وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ بكسر الميم ـ. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بضم الميم ـ. وهي وجوه ثلاثة في هذه الكلمة ، ومعناها : بإرادتنا واختيارنا ، أي لإخلاف موعدك ، أي ما تجرّأنا ولكن غرّهم السامريّ وغلبهم دهماء القوم. وهذا إقرار من المجيبين بما فعله دهماؤهم.

والاستدراك راجع إلى ما أفاده نفي أن يكون إخلافهم العهد عن قصد للضلال والجملة الواقعة بعده وقعت بإيجاز عن حصول المقصود من التنصّل من تبعة نكث العهد.

ومحل الاستدراك هو قوله (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) وما قبله تمهيد له ، فعطفت الجمل قبله بحرف الفاء واعتذروا بأنهم غلبوا على رأيهم بتضليل السامريّ.

١٦٥

فأدمجت في هذا الاعتذار الإشارة إلى قضية صوغ العجل الذي عبدوه واغتروا بما موّه لهم من أنه إلههم المنشود من كثرة ما سمعوا من رسولهم أن الله معهم أو أمامهم ، ومما جاش في خواطرهم من الطمع في رؤيته تعالى.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، ورويس عن يعقوب (حُمِّلْنا) ـ بضمّ الحاء وتشديد الميم مكسورة ، أي حمّلنا من حمّلنا ، أو حمّلنا أنفسنا.

وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو ، والكسائي ، وروح عن يعقوب ـ بفتح الحاء وفتح الميم مخففة ـ.

والأوزار : الأثقال. والزينة : الحلي والمصوغ. وقد كان بنو إسرائيل حين أزمعوا الخروج قد احتالوا على القبط فاستعار كلّ واحد من جاره القبطي حليا فضة وذهبا وأثاثا ، كما في الإصحاح ١٢ من سفر الخروج. والمعنى : أنهم خشوا تلاشي تلك الزينة فارتأوا أن يصوغوها قطعة واحدة أو قطعتين ليتأتى لهم حفظها في موضع مأمون.

والقذف : الإلقاء. وأريد به هنا الإلقاء في نار السامريّ للصوغ ، كما يومئ إليه الإصحاح ٣٢ من سفر الخروج. فهذا حكاية جوابهم لموسى ـ عليه‌السلام ـ مجملا مختصرا شأن المعتذر بعذر واه أن يكون خجلان من عذره فيختصر الكلام.

(فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) ظاهر حال الفاء التفريعية أن يكون ما بعدها صادرا من قائل الكلام المفرّع عليه. والمعنى : فمثل قذفنا زينة القوم ، أي في النّار ، ألقى السامريّ شيئا من زينة القوم فأخرج لهم عجلا. والمقصود من هذا التشبيه التخلّص إلى قصة صوغ العجل الذي عبدوه.

وضميرا الغيبة في قوله (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) وقوله : (فَقالُوا) عائدان إلى غير المتكلمين. علّق المتكلمون الإخراج والقول بالغائبين للدلالة على أن المتكلمين مع موسى لم يكونوا ممن اعتقد إلهية العجل ولكنهم صانعوا دهماء القوم ، فيكون هذا من حكاية قول القوم لموسى. وعلى هذا درج جمهور المفسرين ، فيكون من تمام المعذرة التي اعتذر بها المجيبون لموسى ، ويكون ضمير (فَأَخْرَجَ لَهُمْ) التفاتا قصد القائلون به التبرّي من أن يكون إخراج العجل لأجلهم ، أي أخرجه لمن رغبوا في ذلك.

وجعل بعض المفسرين هذا الكلام كلّه من جانب الله ، وهو اختيار أبي مسلم ،

١٦٦

فيكون اعتراضا وإخبارا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأمّة. وموقع الفاء يناكد هذا لأنّ الفاء لا ترد للاستئناف على التحقيق ، فتكون الفاء للتفريع تفريع أخبار على أخبار.

والمعنى : فمثل ذلك القذف الذي قذفنا ما بأيدينا من زينة القوم ألقى السامريّ ما بيده من النّار ليذوب ويصوغها فأخرج لهم من ذلك عجلا جسدا. فإنّ فعل (ألقى) يحكي حالة مشبهة بحالة قذفهم مصوغ القبط. والقذف والإلقاء مترادفان ، شبه أحدهما بالآخر.

والجسد : الجسم ذو الأعضاء سواء كان حيا أم لا ؛ لقوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) [ص : ٣٤]. قيل : هو شق طفل ولدته إحدى نسائه كما ورد في الحديث. قال الزجاج : الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميّز إنما هو الجثّة ، أي أخرج لهم صورة عجل مجسّدة بشكله وقوائمه وجوانبه ، وليس مجرد صورة منقوشة على طبق من فضة أو ذهب. وفي سفر الخروج أنّه كان من ذهب.

والإخراج : إظهار ما كان محجوبا. والتعبير بالإخراج إشارة إلى أنّه صنعه بحيلة مستورة عنهم حتى أتمّه.

والخوار : صوت البقر. وكان الذي صنع لهم العجل عارفا بصناعة الحيل التي كانوا يصنعون بها الأصنام ويجعلون في أجوافها وأعناقها منافذ كالزمارات تخرج منها أصوات إذا أطلقت عندها رياح بالكير ونحوه.

وصنع لهم السامريّ صنما على صورة عجل لأنهم كانوا قد اعتادوا في مصر عبادة العجل «ايبيس» ، فلما رأوا ما صاغه السامريّ في صورة معبود عرفوه من قبل ورأوه يزيد عليه بأن له خوارا ، رسخ في أوهامهم الآفنة أن ذلك هو الإله الحقيقي الذي عبّروا عنه بقولهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) ، لأنهم رأوه من ذهب أو فضة ، فتوهموا أنّه أفضل من العجل (إيبيس). وإذ قد كانوا يثبتون إلها محجوبا عن الأبصار وكانوا يتطلبون رؤيته ، فقالوا لموسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، حينئذ توهموا أن هذه ضالتهم المنشودة. وقصة اتخاذهم العجل في كتاب التّوراة غير ملائمة للنظر السليم.

وتفريع (فَنَسِيَ) يحتمل أن يكون تفريعا على (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ) تفريع علة على معلول ، فالضمير عائد إلى السامريّ ، أي قال السامري ذلك لأنه نسي ما كان تلقّاه من هدي ؛ أو تفريع معلول على علّة ، أي قال ذلك ، فكان قوله سببا في نسيانه ما كان عليه من هدي إذ طبع الله على قلبه بقوله ذلك فحرمه التوفيق من بعد.

١٦٧

والنسيان : مستعمل في الإضاعة ، كقوله تعالى : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) [طه : ١٢٦] وقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥].

وعلى هذا يكون قوله (فَنَسِيَ) من الحكاية لا من المحكي ، والضمير عائد إلى السامريّ فينبغي على هذا أن يتصل بقوله (أَفَلا يَرَوْنَ) [طه : ٨٩] ويكون اعتراضا. وجعله جمع من المفسرين عائدا إلى موسى ، أي فنسي موسى إلهكم وإلهه ، أي غفل عنه ، وذهب إلى الطور يفتّش عليه وهو بين أيديكم ، وموقع فاء التفريع يبعد هذا التفسير.

والنسيان : يكون مستعملا مجازا في الغفلة.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

يجوز أن يكون اعتراضا وليس من حكاية كلام القوم ، فهو معترض بين جملة (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) [طه : ٨٧] وجملة (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : ٩٢ ، ٩٣] إلخ ، فتكون الفاء لتفريع كلام متكلم على كلام غيره ، أي لتفريع الإخبار لا لتفريع المخبر به ، والمخبر متعدد. ويجوز أن يكون من حكاية كلام الذين تصدّوا لخطاب موسى ـ عليه‌السلام ـ من بين قومه وهم كبراؤهم وصلحاؤهم ليعلم أنهم على بصيرة من التوحيد.

والاستفهام : إنكاري ، نزلوا منزلة من لا يرى العجل لعدم جريهم على موجب البصر ، فأنكر عليهم عدم رؤيتهم ذلك مع ظهوره ، أي كيف يدّعون الإلهية للعجل وهم يرون أنه لا يتكلم ولا يستطيع نفعا ولا ضرا.

والرؤية هنا بصرية مكنى بها أو مستعملة في مطلق الإدراك فآلت إلى معنى الاعتقاد والعلم ، ولا سيما بالنسبة لجملة (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فإن ذلك لا يرى بالبصر بخلاف (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً). ورؤية انتفاء الأمرين مراد بها رؤية أثر انتفائهما بدوام عدم التكلّم وانتفاء عدم نفعهم وضرهم ، لأنّ الإنكار مسلّط على اعتقادهم أنه إلههم فيقتضي أن يملك لهم ضرّا ونفعا.

ومعنى (يَرْجِعُ) يردّ ، أي يجيب القول ، لأن ذلك محل العبرة من فقدانه صفات العاقل لأنهم يدعونه ويثنون عليه ويمجدونه وهو ساكت لا يشكر لهم ولا يعدهم باستجابة ، وشأن الكامل إذا سمع ثناء أو تلقّى طلبة أن يجيب. ولا شك أن في ذلك الجمع العظيم من هو بحاجة إلى جلب نفع أو دفع ضرّ ، وأنهم يسألونه ذلك فلم يجدوا ما

١٦٨

فيه نفعهم أو دفع ضر عنهم مثل ضر عدوّ أو مرض. فهم قد شاهدوا عدم غنائه عنهم ، ولأن شواهد حاله من عدم التحرك شاهدة بأنه عاجز عن أن ينفع أو يضر ، فلذلك سلط الإنكار على عدم الرؤية لأنّ حاله مما يرى.

ولام (لَهُمْ) متعلّق ب (يَمْلِكُ) الذي هو في معنى يستطيع كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة العقود. [٧٦].

وقدم الضرّ على النفع قطعا لعذرهم في اعتقاد إلهيته ، لأن عذر الخائف من الضرّ أقوى من عذر الراغب في النفع.

و (أن) في قوله (أَلَّا يَرْجِعُ) مخفّفة من (أنّ) المفتوحة المشددة واسمها ضمير شأن محذوف ، والجملة المذكورة بعدها هي الخبر ، ف (يَرْجِعُ) مرفوع باتفاق القراءات ما عدا قراءات شاذة. وليست (أن) مصدرية لأن (أن) المصدرية لا تقع بعد أفعال العلم ولا بعد أفعال الإدراك.

[٩٠ ـ ٩١] (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١))

الجملة في موضع الحال من ضمير (أَفَلا يَرَوْنَ) [طه : ٨٩] على كلا الاحتمالين ، أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة ، بأنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرّا ولا نفعا فيقلعون عن عبادة العجل ، وتلك دلالة عقلية ، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامريّ ، وأن ربّهم هو الرحمن لا ما لا يملك لهم نفعا فضلا عن الرحمة ، وأمرهم بأن يتبعوا أمره ، وتلك دلالة سمعيّة.

وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنع لهم العجل ، وأنه لم ينكر عليهم عبادته. وغاية الأمر أنه كان يستهزئ بهم في نفسه ، وذلك إفك عظيم في كتابهم.

والمضاف إليه (قبل) محذوف دل عليه المقام ، أي من قبل أن يرجع إليهم موسى وينكر عليهم.

وافتتاح خطابه ب (يا قَوْمِ) تمهيد لمقام النصيحة.

١٦٩

ومعنى (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) : ما هو إلّا فتنة لكم وليس ربّا ، وإن ربّكم الرحمن الذي يرحمكم في سائر الأحوال ، فأجابوه بأنّهم لا يزالون عاكفين على عبادته حتى يرجع موسى فيصرّح لهم بأن ذلك العجل ليس هو ربّهم.

ورتب هارون خطابه على حسب الترتيب الطبيعي لأنه ابتدأه بزجرهم عن الباطل وعن عبادة ما ليس برب ، ثمّ دعاهم إلى معرفة الرب الحق ، ثمّ دعاهم إلى اتباع الرسول إذ كان رسولا بينهم ، ثم دعاهم إلى العمل بالشرائع ، فما كان منهم إلّا التصميم على استمرار عبادتهم العجل فأجابوا هارون جوابا جازما.

و (عَلَيْهِ) متعلّق ب (عاكِفِينَ) قدم على متعلقه لتقوية الحكم ، أو أرادوا : لن نبرح نخصه بالعكوف لا نعكف على غيره.

والعكوف : الملازمة بقصد القربة والتعبد ، وكان عبدة الأصنام يلزمونها ويطوفون بها.

[٩٢ ـ ٩٤] (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤))

انتقل موسى من محاورة قومه إلى محاورة أخيه ، فجملة (قالَ يا هارُونُ) تابعة لجملة (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) [طه : ٨٦] ، ولجملة (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) [طه : ٨٧] وقد وجدت مناسبة لحكاية خطابه هارون بعد أن وقع الفصل بين أجزاء الحكاية بالجمل المعترضة التي منها جملة (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) [طه : ٩٠] إلخ فهو استطراد في خلال الحكاية للإشعار بعذر هارون كما تقدم. ويحتمل أن تكون عطفا على جملة (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ) إلخ على احتمال كون تلك من حكاية كلام قوم موسى.

علم موسى أن هارون مخصوص من قومه بأنّه لم يعبد العجل ، إذ لا يجوز عليه ذلك لأنّ الرسالة تقتضي العصمة ، فلذلك خصه بخطاب يناسب حاله بعد أن خاطب عموم الأمة بالخطاب الماضي. وهذا خطاب التوبيخ والتهديد على بقائه بين عبدة الصنم.

والاستفهام في قوله (ما مَنَعَكَ) إنكاري ، أي لا مانع لك من اللحاق بي ، لأنه أقامه خليفة عنه فيهم فلما لم يمتثلوا أمره كان عليه أن يرد الخلافة إلى من استخلفه.

١٧٠

و (إِذْ رَأَيْتَهُمْ) متعلق ب (مَنَعَكَ). و (أن) مصدرية ، و (لا) حرف نفي. وهي مؤذنة بفعل محذوف يناسب معنى النفي. والمصدر الذي تقتضيه (أن) هو مفعول الفعل المحذوف. وأما مفعول (مَنَعَكَ) فمحذوف يدلّ عليه (مَنَعَكَ) ويدل عليه المذكور.

والتقدير : ما منعك أن تتبعني واضطرّك إلى أن لا تتبعني ، فيكون في الكلام شبه احتباك. والمقصود تأكيد وتشديد التوبيخ بإنكار أن يكون لهارون مانع حينئذ من اللحاق بموسى ومقتض لعدم اللحاق بموسى ، كما يقال : وجد السبب وانتفى المانع.

ونظيره قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) في سورة الأعراف [١٢] فارجع إليه.

والاستفهام في قوله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) مفرع على الإنكار ، فهو إنكار ثان على مخالفة أمره ، مشوب بتقرير للتهديد.

وقوله في الجواب (يَا بْنَ أُمَ) نداء لقصد الترقيق والاستشفاع. وهو مؤذن بأن موسى حين وبّخه أخذ بشعر لحية هارون ، ويشعر بأنه يجذبه إليه ليلطمه ، وقد صرح به في الأعراف [٥٠] بقوله تعالى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ).

وقرأ الجمهور (يَا بْنَ أُمَ) ـ بفتح الميم. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بكسر الميم ـ وأصله : يا ابن أمّي ، فحذفت ياء المتكلم تخفيفا ، وهو حذف مخصوص بالنداء. والقراءتان وجهان في حذف ياء المتكلّم المضاف إليها لفظ أمّ ولفظ (عمّ) في النداء.

وعطف الرأس على اللحية لأنّ أخذه من لحيته أشد ألما وأنكى في الإذلال.

وابن الأم : الأخ. وعدل عن (يا أخي) إلى (ابن أم) لأن ذكر الأم تذكير بأقوى أواصر الأخوّة ، وهي آصرة الولادة من بطن واحد والرضاع من لبان واحد.

واللحية ـ بكسر اللّام ويجوز ـ فتح اللّام في لغة الحجاز ـ اسم للشعر النابت بالوجه على موضع اللحيين والذقن ، وقد أجمع القراء على ـ كسر اللّام ـ من لحيتي.

واعتذر هارون عن بقائه بين القوم بقوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ) ، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوما وتحميلا لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور فيقع انشقاق

١٧١

بين القوم وربما اقتتلوا فرأى من المصلحة أن يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون ، ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) في سورة الأعراف [١٤٢]. وهو الذي أشار إليه هنا بقوله (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه.

وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمّة فرجّح الثانية ، وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتيّ برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى ، بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.

وتضمن هذا قوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه ، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع ، كما بيناه في كتاب «أصول نظام الاجتماع الإسلامي». ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم ، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها ، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب «مقاصد الشريعة».

وفي قوله تعالى : (بَيْنَ بَنِي) جناس ، وطرد وعكس.

وهذا بعض ما اعتذر به هارون ، وحكي عنه في سورة الأعراف [١٥٠] أنه اعتذر بقوله (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي).

[٩٥ ـ ٩٦] (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦))

التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامريّ الذي كان سببا في إضلال القوم ، فالجملة ناشئة عن قول القوم (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً) [طه : ٨٨] إلخ ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلا بالدّين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل : إن السامريّ لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القبط أو من كرمان فاندسّ في بني إسرائيل. ولما كان موسى

١٧٢

مبعوثا لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل ، كان اتّباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمرا غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغّب فيه لما فيه من الاهتداء ، فلذلك لم يعنفه موسى لأنّ الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.

ومعنى (فَما خَطْبُكَ) ما طلبك ، أي ما ذا تخطب ، أي تطلب ، فهو مصدر. قال ابن عطية : «وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المكاره ، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالى : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) [الذاريات : ٣١] ، فالمعنى : ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.

وقوله (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) إلى قوله (فَنَبَذْتُها) إن حملت كلمات (بصرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة ، وأثر ، ونبذتها) على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يبصروه ، أي نظرت ما لم ينظروه ، بناء على أن بصرت ، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين ، إلا أن بصر بالشيء حقيقته صار بصيرا به أو بصيرا بسببه ، أي شديد الإبصار ، فهو أقوى من أبصرت ، لأنّه صيغ من فعل ـ بضم العين ـ الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية ، قال تعالى: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) في سورة القصص [١١].

ولما كان المعنى هنا جليّا عن أمر مرئيّ تعيّن حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصر الدال على قوّة الإبصار إلى معنى العلم القويّ بعلاقة الإطلاق عن التقييد ، كما في قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] ، وكما سميت المعرفة الراسخة بصيرة في قوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) [يوسف : ١٠٨]. وحكى في «لسان العرب» عن اللحياني : إنه لبصير بالأشياء ، أي عالم بها ، وبصرت بالشيء : علمته. وجعل منه قوله تعالى : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ، وكذلك فسرها الأخفش في نقل «لسان العرب» وأثبته الزجاج. فالمعنى : علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له ، كما جعله في «الكشاف» أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان : إما جعل بصرت مجازا ، وإما جعله حقيقة.

وقرأ الجمهور (يَبْصُرُوا) بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بفوقية ـ على أنه خطاب لموسى ومن معه.

والقبضة : ـ بفتح القاف ـ الواحدة : من القبض ، وهو غلق الراحة على شيء ، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول ، وضد القبض : البسط.

١٧٣

والنبذ : إلقاء ما في اليد.

والأثر : حقيقته : ما يتركه الماشي من صورة قدمه في الرمل أو التراب. وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) [طه : ٨٤].

وعلى حمل هذه الكلمات على حقائقها يتعين صرف الرسول عن المعنى المشهور ، فيتعين حمله على جبريل فإنه رسول من الله إلى الأنبياء. فقال جمهور المفسرين : المراد بالرسول جبريل ، ورووا قصة قالوا : إن السامري فتنه الله ، فأراه الله جبريل راكبا فرسا فوطئ حافر الفرس مكانا فإذا هو مخضرّ بالنبات. فعلم السامري أن أثر جبريل إذا ألقي في جماد صار حيا ، فأخذ قبضة من ذلك التراب وصنع عجلا وألقى القبضة عليه فصار جسدا ، أي حيا ، له خوار كخوار العجل ، فعبر عن ذلك الإلقاء بالنبذ. وهذا الذي ذكروه لا يوجد في كتب الإسرائيليين ولا ورد به أثر من السنّة وإنما هي أقوال لبعض السلف ولعلها تسربت للناس من روايات القصاصين.

فإذا صرفت هذه الكلمات الستّ إلى معان مجازية كان (بَصُرْتُ) بمعنى علمت واهتديت ، أي اهتديت إلى علم ما لم يعلموه ، وهو علم صناعة التماثيل والصور الذي به صنع العجل ، وعلم الحيل الذي أوجد به خوار العجل ، وكانت القبضة بمعنى النصيب القليل ، وكان الأثر بمعنى التعليم ، أي الشريعة ، وكان نبذت بمعنى أهملت ونقضت ، أي كنت ذا معرفة إجمالية من هدي الشريعة فانخلعت عنها بالكفر. وبذلك يصح أن يحمل لفظ الرسول على المعنى الشائع المتعارف وهو من أوحي إليه بشرع من الله وأمر بتبليغه.

وكان المعنى : إني بعملي العجل للعبادة نقضت اتباع شريعة موسى. والمعنى : أنه اعترف أمام موسى بصنعه العجل واعترف بأنه جهل فضلّ ، واعتذر بأن ذلك سوّلته له نفسه.

وعلى هذا المعنى فسر أبو مسلم الأصفهاني ورجحه الزمخشري بتقديمه في الذكر على تفسير الجمهور واختاره الفخر.

والتسويل : تزيين ما ليس بزين.

والتشبيه في قوله (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) تشبيه الشيء بنفسه ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، أي كذلك التسويل سولت لي نفسي ، أي تسويلا لا يقبل التعريف بأكثر من ذلك.

١٧٤

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧))

لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة ، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب ، مثل الذين قال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧] ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنه من أهل النّار» ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.

فقوله (فَاذْهَبْ) الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) [الإسراء : ٦٣] ، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في «كتابه» ولم يعزه :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما وبك لأيام من عجب

ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء «الحماسة» :

فإن كنت سيدنا سدتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخل

أما قوله (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حظه في حياته أن يقول لا مساس ، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا ، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس ، عائشا وحده لا يترك أحدا يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [هود : ٦٤] ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.

ومساس ـ بكسر الميم ـ في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّه بمعنى مسه ، و (لا) نافية للجنس ، و (مِساسَ) اسمها مبني على الفتح.

١٧٥

وقوله (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) اللام في (لَكَ) استعارة تهكمية ، كقوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي فعليها. وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعدا له ، أي موعد الحشر والعذاب ، فالموعد مصدر ، أي وعد لا يخلف (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) [الروم : ٦]. وهنا توعّد بعذاب الآخرة.

وقرأ الجمهور (لَنْ تُخْلَفَهُ) ـ بفتح اللّام ـ مبنيّا للمجهول للعلم بفاعله ، وهو الله تعالى ، أي لا يؤخره الله عنك ، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد.

وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ـ بكسر اللام ـ مضارع أخلف وهمزته للوجدان. يقال : أخلف الوعد إذا وجده مخلفا ، وإما على جعل السامريّ هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه ، وذلك على طريق التهكم تبعا للتهكم الذي أفاده لام الملك.

وبعد أن أوعد موسى السامريّ بيّن له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهيّة لأنّه معرّض للامتهان والعجز ، فقال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). فجعل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بيّن لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات.

وأضاف الإله إلى ضمير السامريّ تهكما بالسامريّ وتحقيرا له ، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدلّ عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه.

وقوله (ظَلْتَ) ـ بفتح الظاء ـ في القراءات المشهورة ، وأصله : ظللت : حذفت منه اللام الأولى تخفيفا من توالي اللامين وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس.

وفعل (ظلّ) من أخوات (كان). وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النّهار ، وهو هنا مجاز في معنى (دام) بعلاقة الإطلاق بناء على أنّ غالب الأعمال يكون في النّهار.

والعكوف : ملازمة العبادة وتقدم آنفا. وتقديم المجرور في قوله (عَلَيْهِ عاكِفاً) للتخصيص ، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره ، أي دون الله تعالى.

وقرأ الجمهور (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ـ بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة ـ. والتحريق : الإحراق الشديد ، أي لنحرقنه إحراقا لا يدع له شكلا. وأراد به أن يذيبه بالنّار

١٧٦

حتى يفسد شكله ويصير قطعا.

وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ـ بضم النّون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء ـ. وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر ـ بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء ـ لأنّه يقال : أحرقه وحرّقه.

والنسف : تفريق وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب.

وأراد باليمّ البحر الأحمر المسمى بحر القلزم ، والمسمى في التوراة : بحر سوف ، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور.

و (ثم) للتّراخي الرتبي ، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له.

وأكد «ننسفنّه» بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنّه إله.

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

هذه الجملة من حكاية كلام موسى ـ عليه‌السلام ـ فموقعها موقع التذييل لوعظه ، وقد التفت من خطاب السامري إلى خطاب الأمّة إعراضا عن خطابه تحقيرا له ، وقصدا لتنبيههم على خطئهم ، وتعليمهم صفات الإله الحق ، واقتصر منها على الوحدانية وعموم العلم لأن الوحدانية تجمع جميع الصفات ، كما قرر في دلالة كلمة التوحيد عليها في كتب علم الكلام.

وأما عموم العلم فهو إشارة إلى علم الله تعالى بجميع الكائنات الشاملة لأعمالهم ليرقبوه في خاصتهم.

واستعير فعل (وَسِعَ) لمعنى الإحاطة التامة ، لأن الإناء الواسع يحيط بأكثر أشياء مما هو دونه.

وانتصب (عِلْماً) على أنه تمييز نسبة السعة إلى الله تعالى ، فيؤول المعنى : وسع علمه كل شيء بحيث لا يضيق علمه عن شيء ، أي لا يقصر عن الاطلاع على أخفى الأشياء ، كما أفاده لفظ (كل) المفيد للعموم. وتقدم قريب منه عند قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في سورة البقرة [٢٥٥].

١٧٧

[٩٩ ـ ١٠١] (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١))

جملة مستأنفة تذييلية أفادت التنويه بقصّة رسالة موسى وما عقبها من الأعمال التي جرت مع بني إسرائيل ابتداء من قوله (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ رَأى ناراً) [طه : ٩ ، ١٠] ، أي مثل هذا القصص نقصّ عليك من أنباء القرون الماضية. والإشارة راجعة إلى القصة المذكورة.

والمراد بقوله (نَقُصُ) قصصنا ، وإنما صيغ المضارع لاستحضار الحالة الحسنة في ذلك القصص.

والتشبيه راجع إلى تشبيهها بنفسها كناية عن كونها إذا أريد تشبيهها وتقريبها بما هو أعرف منها في بابها لم يجد مريد ذلك طريقا لنفسه في التشبيه إلا أن يشبهها بنفسها ، لأنها لا يفوقها غيرها في بابها حتى تقرّب به ، على نحو ما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، ونظائره كثيرة في القرآن.

و (من) في قوله (مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) تبعيضية ، هي صفة لمحذوف تقديره : قصصا من أنباء ما قد سبق. ولك أن تجعل (من) اسما بمعنى بعض ، فتكون مفعول (نَقُصُ).

والأنباء : الأخبار. و (ما) الموصولة ما صدقها الأزمان ، لأنّ الأخبار تضاف إلى أزمانها ، كقولهم : أخبار أيام العرب ، والقرون الوسطى. وهي كلها من حقها في الموصولية أن تعرف ب (ما) الغالبة في غير العاقل. ومعلوم أن المقصود ما فيها من أحوال الأمم ، فلو عرفت ب (من) الغالبة في العقلاء لصح ذلك وكل ذلك واسع.

وقوله (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) إيماء إلى أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطع حصة الزمان ولا إيناس السامعين بالحديث إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لبصائر المشركين من العرب إلى موضع الاعتبار من هذه القصة ، وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها. فللإيماء إلى هذا قال تعالى : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً* خالِدِينَ فِيهِ).

١٧٨

وتنكير (ذِكْراً) للتعظيم ، أي آتيناك كتابا عظيما. وقوله (مِنْ لَدُنَّا) توكيد لمعنى (آتَيْناكَ) وتنويه بشأن القرآن بأنه عطية كانت مخزونة عند الله فخص بها خير عباده.

والوزر : الإثم. وجعل محمولا تمثيل لملاقاة المشقة من جراء الإثم ، أي من العقاب عنه. فهنا مضاف مقدر وقرينته الحال في قوله (خالِدِينَ فِيهِ) ، وهو حال من اسم الموصول أو الضمير المنصوب بحرف التوكيد ، وما صدقهما ، متّحد وإنما اختلف بالإفراد والجمع رعيا للفظ (من) مرة ولمدلولها مرة. وهو الجمع المعرضون. فقال (مَنْ أَعْرَضَ) ثم قال (خالِدِينَ).

وجملة (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) حال ثانية ، أي ومسوءين به. و (ساء) هنا هو أحد أفعال الذم مثل (بئس). وفاعل (ساءَ) ضمير مستتر مبهم يفسره التمييز الذي بعده وهو (حِمْلاً). والحمل ـ بكسر الحاء ـ اسم بمعنى المحمول كالذّبح بمعنى المذبوح. والمخصوص بالذم محذوف لدلالة لفظ (وِزْراً) عليه. والتقدير : وساء لهم حملا وزرهم ، وحذف المخصوص في أفعال المدح والذم شائع كقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٣٠] أي سليمان هو الأواب.

واللّام في قوله (وَساءَ لَهُمْ) لام التبيين. وهي مبيّنة للمفعول في المعنى ، لأن أصل الكلام : ساءهم الحمل ، فجيء باللام لزيادة تبيين تعلق الذم بحمله ، فاللّام لبيان الذين تعلّق بهم سوء الحمل.

والحمل ـ بكسر الحاء ـ المحمول مثل الذبح.

[١٠٢ ـ ١٠٤] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) [طه : ١٠١] في قوله (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [طه : ١٠١] ، وهو اعتراض بين جملة (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) [طه : ٩٩] وما تبعها وبين جملة (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [طه : ١١٣] ، تخلّص لذكر البعث والتذكير به والنذارة بما يحصل للمجرمين يومئذ.

والصور : قرن عظيم يجعل في داخله سداد لبعض فضائه فإذا نفخ فيه النافخ بقوة

١٧٩

خرج منه صوت قوي ، وقد اتخذ للإعلام بالاجتماع للحرب. وتقدم عند قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في سورة الأنعام [٧٣].

وقرأ الجمهور (يُنْفَخُ) بياء الغيبة مبنيا للمجهول ، أي ينفخ نافخ ، وهو الملك الموكل بذلك. وقرأه أبو عمرو وحده ننفخ ـ بنون العظمة وضم الفاء ـ وإسناد النفخ إلى الله مجاز عقلي باعتبار أنّه الأمر به ، مثل : بنى الأمير القلعة.

والمجرمون : المشركون والكفرة.

والزرق : جمع أزرق ، وهو الذي لونه الزّرقة. والزرقة : لون كلون السماء إثر الغروب ، وهو في جلد الإنسان قبيح المنظر لأنه يشبه لون ما أصابه حرق نار. وظاهر الكلام أن الزرقة لون أجسادهم فيكون بمنزلة قوله (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦]، وقيل : المراد لون عيونهم ، فقيل : لأنّ زرقة العين مكروهة عند العرب. والأظهر على هذا المعنى أن يراد شدّة زرقة العين لأنّه لون غير معتاد ، فيكون كقول بشّار :

وللبخيل على أمواله علل

زرق العيون عليها أوجه سود

وقيل : المراد بالزّرق العمي ، لأن العمى يلوّن العين بزرقة. وهو محتمل في بيت بشّار أيضا.

والتخافت : الكلام الخفي من خوف ونحوه. وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه : ١٠٨].

وجملة (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) مبيّنة لجملة (يَتَخافَتُونَ) ، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتا ورفاتا فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر.

ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة ، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلّا عشر ليال فلم يصيروا رفاتا ، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال ، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا بردّ الأرواح إلى الأجساد. فالمراد باللبث : المكث في القبور ، كقوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) في سورة المؤمنين [١١٢ ، ١١٣] ، وقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) في سورة الروم [٥٥].

و (إذ) ظرف ، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقة. والأمثل : الأرجح

١٨٠