تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٢

والخطاب بقوله (وَيْلَكُمْ) يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء ، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون : إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجها به فرعون بل واجه به السحرة خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ، أي قال موسى لأهل كيد فرعون ؛ وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة ، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر ، أغلظ القول زجرا له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييدا لمطلق الأمر بإلانة القول ، كما أذن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) الآيات في سورة الحج [٣٩] ؛ وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أنّ سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربّهم الأعلى وقالوا : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء : ٤٤] رأى واجبا عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع ، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة.

ويجوز أن تكون كلمة (وَيْلَكُمْ) مستعملة في التعجب من حال غريبة ، أي أعجب منكم وأحذركم ، كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بصير : «ويل أمه مسعر حرب» فحكى تعجب موسى باللفظ العربي الدال على العجب الشديد.

والويل : اسم للعذاب والشر ، وليس له فعل.

وانتصب (وَيْلَكُمْ) إما على إضمار فعل على التحذير أو الإغراء ، أي الزموا ويلكم ، أو احذروا ويلكم ؛ وإما على إضمار حرف النداء فإنهم يقولون : يا ويلنا ، ويا ويلتنا. وتقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩].

والافتراء : اختلاق الكذب. والجمع بينه وبين (كَذِباً) للتأكيد ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].

والافتراء الذي عناه موسى هو ما يخيّلونه للناس من الشعوذة ، ويقولون لهم : انظروا كيف تحرّك الحبل فصار ثعبانا ، ونحو ذلك من توجيه التخيّلات بتمويه أنها حقائق ، أو قولهم : ما نفعله تأييد من الله لنا ، أو قولهم : إن موسى كاذب وساحر ، أو قولهم : إن فرعون إلههم ، أو آلهة فرعون آلهة. وقد كانت مقالات كفرهم أشتاتا.

وقرأ الجمهور (فَيُسْحِتَكُمْ) ـ بفتح الياء ـ مضارع سحته : إذا استأصله ، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ، ورويس عن يعقوب ـ بضم الياء التحتية ـ من أسحته ، وهي لغة نجد وبني تميم ، وكلتا اللغتين فصحى.

١٤١

وجملة (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) في موضع الحال من ضمير (لا تَفْتَرُوا) وهي مسوقة مساق التعليل للنهي ، أي اجتنبوا الكذب على الله فقد خاب من افترى عليه من قبل. بعد أن وعظهم فنهاهم عن الكذب على الله وأنذرهم عذابه ضرب لهم مثلا بالأمم البائدة الذين افتروا الكذب على الله فلم ينجحوا فيما افتروا لأجله.

و (مَنِ) الموصولة للعموم.

وموقع هذه الجملة بعد التي قبلها كموقع القضية الكبرى من القياس الاقتراني.

وفي كلام موسى إعلان بأنه لا يتقول على الله ما لم يأمره به لأنه يعلم أنه يستأصله بعذاب ويعلم خيبة من افترى على الله ؛ ومن كان يعلم ذلك لا يقدم عليه.

[٦٢ ـ ٦٤] (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

أي تفرع على موعظة موسى تنازعهم الأمر بينهم ، وهذا يؤذن بأن منهم من تركت فيه الموعظة بعض الأثر ، ومنهم من خشي الانخذال ، فلذلك دعا بعضهم بعضا للتشاور فيما ذا يصنعون.

والتنازل : تفاعل من النزع ، وهو الجذب من البئر ، وجذب الثوب من الجسد ، وهو مستعمل تمثيلا في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب ، فالتنازع : التخالف.

والنّجوى : الحديث السريّ ، أي اختلوا وتحادثوا سرّا ليصدروا عن رأي لا يطّلع عليه غيرهم ، فجعل النجوى معمولا ل (أَسَرُّوا) يفيد المبالغة في الكتمان ، كأنه قيل : أسرّوا سرّهم ، كما يقال : شعر شاعر.

وزاده مبالغة قوله (بَيْنَهُمْ) المقتضي أنّ النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم.

وجملة (قالُوا إِنْ هذانِ) لسحران بدل اشتمال من جملة (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) ، لأن إسرار النجوى يشتمل على أقوال كثيرة ذكر منها هذا القول ، لأنّه القول الفصل بينهم والرأي الذي أرسوا عليه ، فهو زبدة مخيض النجوى. وذلك شأن التشاور وتنازع الآراء أن

١٤٢

يسفر عن رأي يصدر الجميع عنه.

وإسناد القول إلى ضمير جمعهم على معنى : قال بعضهم : هذان لساحران ، فقال جميعهم : نعم هذان لساحران ، فأسند هذا القول إلى جميعهم ، أي مقالة تداولوا الخوض في شأنها فأرسوا عليها. وقال بعضهم لبعض : نعم هو كذلك ، ونطقوا بالكلام الذي استقرّ عليه رأيهم ، وهو تحققهم أنّ موسى وأخاه ساحران.

واعلم أنّ جميع القراء المعتبرين قرءوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله «هذان» ما عدا أبا عمرو من العشرة وما عدا الحسن البصري من الأربعة عشر. وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ (هذان) أكثر تواترا بقطع النظر عن كيفيّة النطق بكلمة (إنّ) مشدّدة أو مخفّفة ، وأن أكثر مشهور القراءات المتواترة قرءوا ـ بتشديد نون ـ (إنّ) ما عدا ابن كثير وحفصا عن عاصم فهما قرءا (إن) ـ بسكون النون ـ على أنها مخففة من الثقيلة.

وإن المصحف الإمام ما رسموه إلّا اتّباعا لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرّاء أصحابه ، فإن حفظ القرآن في صدور القرّاء أقدم من كتابته في المصاحف ، وما كتب في أصول المصاحف إلّا من حفظ الكاتبين ، وما كتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحفاظ وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي.

فأما قراءة الجمهور (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ـ بتشديد نون ـ (إنّ) وبالألف في (هذانِ) وكذلك في (لَساحِرانِ) ، فللمفسرين في توجيهها آراء بلغت الستّة. وأظهرها أن تكون (إنّ) حرف جواب مثل : نعم وأجل ، وهو استعمال من استعمالات (إنّ) ، أي اتبعوا لما استقر عليه أمرهم بعد النّجوى كقول عبد الله بن قيس الرقيّات :

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

أي أجل أو نعم ، والهاء في البيت هاء السّكت ، وقول عبد الله بن الزبير لأعرابي استجداه فلم يعطه ، فقال الأعرابي : لعن الله ناقة حملتني إليك. قال ابن الزّبير : إنّ وراكبها. وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزجاج ذكره في «تفسيره». وقال : عرضته على عالمينا وشيخينا وأستاذينا محمد بن يزيد (يعني المبرد) ، وإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد (يعني القاضي الشهير) فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعاه في هذا.

وقلت : لقد صدقا وحقّقا ، وما أورده ابن جنّي عليه من الرد فيه نظر.

١٤٣

وفي «التفسير الوجيز» للواحدي سأل إسماعيل القاضي (هو ابن إسحاق بن حمّاد) ابن كيسان عن هذه المسألة ، فقال ابن كيسان : لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع (أي في قولهم هذا وهؤلاء إذ هما مبنيان) جرت التثنية مجرى الواحد إذ التثنية يجب أن لا تغيّر. فقال له إسماعيل : ما حسن هذا لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به! فقال له ابن كيسان : فليقل به القاضي حتى يؤنس به ، فتبسم.

وعلى هذا التوجيه يكون قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) حكاية لمقال فريق من المتنازعين ، وهو الفريق الذي قبل هذا الرأي لأنّ حرف الجواب يقتضي كلاما سبقه.

ودخلت اللّام على الخبر : إما على تقدير كون الخبر جملة حذف مبتدؤها وهو مدخول اللام في التقدير ، ووجود اللّام ينبئ بأن الجملة التي وقعت خبرا عن اسم الإشارة جملة قسميّة ؛ وإما على رأي من يجيز دخول اللام على خبر المبتدأ في غير الضرورة.

ووجهت هذه القراءة أيضا بجعل (إنّ) حرف توكيد وإعراب اسمها المثنى جرى على لغة كنانة وبلحارث بن كعب الذين يجعلون علامة إعراب المثنى الألف في أحوال الإعراب كلها ، وهي لغة مشهورة في الأدب العربي ولها شواهد كثيرة منها قول المتلمّس :

فأطرق إطراق الشجاع ولو درى

مساغا لنأباه الشجاع لصمّما

وقرأه حفص ـ بكسر الهمزة وتخفيف نون (إن) مسكنة ـ على أنها مخففة (إنّ) المشددة. ووجه ذلك أن يكون اسم (إن) المخففة ضمير شأن محذوفا على المشهور. وتكون اللّام في (لَساحِرانِ) اللّام الفارقة بين (إن) المخففة وبين (إن) النافية.

وقرأ ابن كثير ـ بسكون نون (إن) ـ على أنها مخففة من الثقيلة وبإثبات الألف في «هذان» وبتشديد نون (هاذانّ).

وأما قراءة أبي عمرو وحده إن هذين ـ بتشديد نون (إنّ) وبالياء بعد ذال «هذين». فقال القرطبي : هي مخالفة للمصحف. وأقل : ذلك لا يطعن فيها لأنّها رواية صحيحة ووافقت وجها مقبولا في العربيّة.

ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة المعاني متحدة المقصود. فلا التفات إلى ما روي من ادعاء أن كتابة «إن هذان» خطأ من كاتب المصحف ، وروايتهم ذلك عن أبان بن عثمان بن عفّان

١٤٤

عن أبيه ، وعن عروة بن الزبير عن عائشة ، وليس في ذلك سند صحيح. حسبوا أنّ المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفّل ، فإن المصحف ما كتب إلّا بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيّفا وعشرين سنة في أقطار الإسلام ، وما كتبت المصاحف إلّا من حفظ الحفّاظ ، وما أخذ المسلمون القرآن إلّا من أفواه حفّاظه قبل أن تكتب المصاحف ، وبعد ذلك إلى اليوم فلو كان في بعضها خطأ في الخطّ لما تبعه القراء ، ولكان بمنزلة ما ترك من الألفات في كلمات كثيرة وبمنزلة كتابة ألف الصلاة ، والزكاة ، والحياة ، والرّبا ـ بالواو ـ في موضع الألف وما قرءوها إلّا بألفاتها.

وتأكيد السحرة كون موسى وهارون ساحرين بحرف (إنّ) لتحقيق ذلك عند من يخامره الشكّ في صحّة دعوتهما.

وجعل ما أظهره موسى من المعجزة بين يدي فرعون سحرا لأنّهم يطلقون السحر عندهم على خوارق العادات ، كما قالت المرأة الّتي شاهدت نبع الماء من بين أصابع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومها : جئتكم من عند أسحر النّاس ، وهو في كتاب المغازي من «صحيح البخاري».

والقائلون : قد يكون بعضهم ممن شاهد ما أتى به موسى في مجلس فرعون ، أو ممن بلغهم ذلك بالتسامع والاستفاضة.

والخطاب في قوله (أَنْ يُخْرِجاكُمْ) لملئهم. ووجه اتهامهما بذلك هو ما تقدم عند قوله تعالى : (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) [طه : ٥٧]. ونزيد هنا أن يكون هذا من النجوى بين السحرة ، أي يريدان الاستئثار بصناعة السحر في أرضكم فتخرجوا من الأرض بإهمال الناس لكم وإقبالهم على سحر موسى وهارون.

والطريقة : السّنّة والعادة ؛ شبهت بالطريق الذي يسير فيه السائر ، بجامع الملازمة.

والمثلى : مؤنّث الأمثل. وهو اسم تفضيل مشتقّ من المثالة ، وهي حسن الحالة يقال : فلان أمثل قومه ، أي أقربهم إلى الخير وأحسنهم حالا.

وأرادوا من هذا إثارة حمية بعضهم غيرة على عوائدهم ، فإن لكلّ أمّة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا فرّعوا على ذلك أمرهم بأن يجمعوا حيلهم وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.

والباء في (بِطَرِيقَتِكُمُ) لتعدية فعل (يَذْهَبا). والمعنى : يذهبانها ، وهو أبلغ في تعلّق

١٤٥

الفعل بالمفعول من نصب المفعول. وتقدّم عند قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) في سورة البقرة [١٧].

وقرأ الجمهور (فَأَجْمِعُوا) بهمزة قطع وكسر الميم أمرا من : أجمع أمره ، إذا جعله متفقا عليه لا يختلف فيه.

وقرأ أبو عمرو فاجمعوا ـ بهمزة وصل وبفتح الميم ـ أمرا من جمع ، كقوله فيما مضى (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه : ٦٠]. أطلق الجمع على التعاضد والتعاون ، تشبيها للشيء المختلف بالمتفرّق ، وهو مقابل قوله (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ).

وسموا عملهم كيدا لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة أن ما جاء به موسى ليس بعجيب ، فهم يأتون بمثله أو أشدّ منه ليصرفوا الناس عن سماع دعوته فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به.

والظاهر أنّ عامة الناس تسامعوا بدعوة موسى ، وما أظهره الله على يديه من المعجزة ، وأصبحوا متحيّرين في شأنه ؛ فمن أجل ذلك اهتمّ السحرة بالكيد له ، وهو ما حكاه قوله تعالى : في آية سورة الشعراء [٣٨ ـ ٤٠] : (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ).

ودبروا لإرهاب الناس وإرهاب موسى وهارون بالاتفاق على أن يأتوا حين يتقدمون لإلقاء سحرهم مصطفين لأن ذلك أهيب لهم.

ولم يزل الذين يرومون إقناع العموم بأنفسهم يتخيّرون لذلك بهاء الهيبة وحسن السمت وجلال المظهر. فكان من ذلك جلوس الملوك على جلود الأسود ، وربما ليس الأبطال جلود النمور في الحرب. وقد فسر به فعل «تنمّروا» في قول ابن معد يكرب :

قوم إذا لبسوا الحديد

تنمروا حلقا وقدّا

وقيل : إن ذلك المراد من قولهم الجاري مجرى المثل «لبس لي فلان جلد النمر». وثبت في التاريخ المستند للآثار أنّ كهنة القبط في مصر كانوا يلبسون جلود النمور.

والصفّ : مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول ، أي صافّين أو مصفوفين ، إذا ترتبوا واحد حذو الآخر بانتظام بحيث لا يكونون مختلطين ، لأنهم إذا كانوا الواحد حذو الآخر وكان الصف منهم تلو الآخر كانوا أبهر منظرا ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصفّ : ٤]. وكان جميع سحرة البلاد المصريّة قد أحضروا بأمر فرعون

١٤٦

فكانوا عددا كثيرا. فالصفّ هنا مراد به الجنس لا الواحدة ، أي ثم ائتوا صفوفا ، فهو كقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] وقال : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

وانتصب (صَفًّا) على الحال من فاعل (ائْتُوا) والمقصود الإتيان إلى موضع إلقاء سحرهم وشعوذتهم ، لأنّ التناجي والتآمر كان في ذلك اليوم بقرينة قولهم (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى).

وجملة (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) تذييل للكلام يجمع ما قصدوه من تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع. ف (اسْتَعْلى) مبالغة في علا ، أي علا صاحبه وقهره ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استأخر.

وأرادوا الفلاح في الدنيا لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ أمثال هذه المواقف مما يؤثر في حال الحياة الأبديّة وإن كانوا يؤمنون بالحياة الثانية.

[٦٥ ـ ٦٦] (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦))

تقدمت هذه القصة ومعانيها في سورة الأعراف سوى أن الأوليّة هنا مصرّح بها في أحد الشقّين. فكانت صريحة في أن التخيير يتسلط على الأولية في الإلقاء ، وسوى أنه صرّح هنا بأن السحر الذي ألقوه كان بتخييل أن حبالهم وعصيّهم ثعابين تسعى لأنها لا يشبهها في شكلها من أنواع الحيوان سوى الحيات والثعابين.

والمفاجأة المستفادة من (إذا) دلّت على أنهم أعدّوها للإلقاء وكانوا يخشون أن يمرّ زمان تزول به خاصياتها فلذلك أسرعوا بإلقائها.

وقرأ الجمهور (يُخَيَّلُ) بتحتيّة في أول الفعل على أن فاعله المصدر من قوله (أَنَّها تَسْعى). وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وروح عن يعقوب «تخيّل» بفوقية في أوله على أنّ الفعل رافع لضمير (حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) ، أي هي تخيل إليه.

و (أَنَّها تَسْعى) بدل من الضمير المستتر بدل اشتمال.

وهذا التخييل الذي وجده موسى من سحر السحرة هو أثر عقاقير يشربونها تلك الحبال والعصيّ ، وتكون الحبال من صنف خاص ، والعصيّ من أعواد خاصة فيها فاعلية

١٤٧

لتلك العقاقير ، فإذا لاقت شعاع الشمس اضطربت تلك العقاقير فتحركت الحبال والعصيّ. قيل : وضعوا فيها طلاء الزئبق. وليس التخييل لموسى من تأثير السحر في نفسه لأنّ نفس الرسول لا تتأثر بالأوهام ، ويجوز أن تتأثر بالمؤثرات التي يتأثر منها الجسد كالمرض ، ولذلك وجب تأويل ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبار الآحاد لا تنقض القواطع. وليس هذا محلّ ذكره وقد حققته في كتابي المسمّى «النظر الفسيح» على صحيح البخاري.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ سِحْرِهِمْ) للسببيّة كما في قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥].

[٦٧ ـ ٦٩] (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩))

أوجس : أضمر واستشعر. وانتصاب (خِيفَةً) على المفعولية ، أي وجد في نفسه.

وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالى : (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) في سورة هود [٧٠].

و (خِيفَةً) اسم هيئة من الخوف ، أريد به مطلق المصدر ، وأصله خوفة ، فقلبت الواو ياء لوقوعها أثر كسرة.

وزيادة (فِي نَفْسِهِ) هنا للإشارة إلى أنها خيفة تفكّر لم يظهر أثرها على ملامحه. وإنما خاف موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعبانا ، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة ، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدّة فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومدّه لما تكون له العاقبة فخشي ذلك. وهذا مقام الخوف ، وهو مقام جليل مثله مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر إذ قال : «اللهم إني أسألك نصرك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض».

والدليل على هذا قوله تعالى : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقوية تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في (الْأَعْلى) دليل على أن ما خامره من الخوف إنّما هو خوف ظهور السحرة عند العامة ولو في وقت ما. وهو وإن كان موقنا بأن الله ينجز له ما أرسله لأجله لكنه لا مانع من أن يستدرج الله الكفرة مدّة قليلة لإظهار ثبات إيمان المؤمنين ، كما قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧].

١٤٨

وعبّر عن العصا ب (ما) الموصولة تذكيرا له بيوم التكليم إذ قال له : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] ليحصل له الاطمئنان بأنها صائرة إلى الحالة التي صارت إليها يومئذ ، ولذلك لم يقل له : وألق عصاك.

والتلقّف : الابتلاع. وقرأه الجمهور بجزم (تَلْقَفْ) في جواب قوله (وَأَلْقِ). وقرأه ابن ذكوان برفع (تَلْقَفْ) على الاستئناف.

وقرأ الجمهور (تَلْقَفْ) ـ بفتح اللام وتشديد القاف ـ.

وقرأه حفص ـ بسكون اللّام وفتح القاف ـ من لقف كفرح.

وجملة (إِنَّما صَنَعُوا) كيد سحر مستأنفة ابتدائية ، وهي مركبّة من (إنّ) و (ما) الموصولة. وكيد سحر خبر (إنّ). والكلام إخبار بسيط لا قصر فيه. وكتب (إنما) في المصحف موصولة (إنّ) ب (ما) الموصولة كما توصل ب (ما) الكافّة في نحو (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [البقرة : ١٧٣] ولم يكن المتقدمون يتوخّون الفروق في رسم الخط.

وقرأ الجمهور (كَيْدُ ساحِرٍ) بألف بعد السين. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف كيد سحر ـ بكسر السين ـ.

وجملة (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) من تمام الجملة التي قبلها ، فهي معطوفة عليها وحال من ضمير (إِنَّما صَنَعُوا) ، أي لا ينجح الساحر حيث كان ، لأن صنعته تنكشف بالتأمل وثبات النفس في عدم التأثّر بها. وتعريف (السَّاحِرُ) تعريف الجنس لقصد الجنس المعروف ، أي لا يفلح بها كلّ ساحر.

واختير فعل (أَتى) دون نحو : حيث كان ، أو حيث حلّ ، لمراعاة كون معظم أولئك السحرة مجلوبون من جهات مصر ، وللرعاية على فواصل الآيات الواقعة على حرف الألف المقصورة.

وتعميم (حَيْثُ أَتى) لعموم الأمكنة التي يحضرها ، أي بسحره.

وتعليق الحكم بوصف الساحر يقتضي أن نفي الفلاح عن الساحر في أمور السحر لا في تجارة أو غيرها. وهذا تأكيد للعموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي ، لأنّ عموم الأشياء يستلزم عموم الأمكنة التي تقع فيها.

[٧٠ ـ ٧١] (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ

١٤٩

أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))

الفاء عاطفة على محذوف يدلّ عليه قوله (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) [طه : ٦٩]. والتقدير : فألقى فتلقفت ما صنعوا ، كقوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣].

والإلقاء : الطرح على الأرض. وأسند الفعل إلى المجهول لأنّهم لا ملقي لهم إلّا أنفسهم ، فكأنّه قيل : فألقوا أنفسهم سجّدا ، فإنّ سجودهم كان إعلانا باعترافهم أنّ موسى مرسل من الله. ويجوز أن يكون سجودهم تعظيما لله تعالى.

ويجوز أن يكون دلالة على تغلب موسى عليهم فسجدوا تعظيما له.

ويجوز أن يريدوا به تعظيم فرعون ، جعلوه مقدمة لقولهم (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) حذرا من بطشه.

وسجّد : جمع ساجد.

وجملة (قالُوا) يصح أن تكون في موضع الحال ، أي ألقوا قائلين. ويصح أن تكون بدل اشتمال من جملة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) فإن سجودهم اشتمل على إيمانهم ، وأن تكون مستأنفة ابتدائية لافتتاح المحاورة بينهم وبين فرعون.

وإنما آمنوا بالله حينئذ لأنّهم أيقنوا أن ما جرى على يد موسى ليس من جنس السحر لأنّهم أئمّة السحر فعلموا أنّه آية من عند الله.

وتعبيرهم عن الرب بطريق الإضافة إلى هارون وموسى لأن الله لم يكن يعرف بينهم يومئذ إلا بهذه النسبة لأن لهم أربابا يعبدونها ويعبدها فرعون.

وتقديم هارون على موسى هنا وتقديم موسى على هارون في قوله تعالى في سورة الأعراف [١٢١ ، ١٢٢] : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) لا دلالة فيه على تفضيل ولا غيره ، لأنّ الواو العاطفة لا تفيد أكثر من مطلق الجمع في الحكم المعطوف فيه ، فهم عرفوا الله بأنه ربّ هذين الرجلين ؛ فحكي كلامهم بما يدلّ على ذلك ؛ ألا ترى أنه حكي في سورة الأعراف [١٢١] قول السحرة (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، ولم يحك ذلك هنا ، لأن حكاية الأخبار لا تقتضي الإحاطة بجميع المحكي وإنما المقصود موضع العبرة في ذلك المقام بحسب الحاجة.

١٥٠

ووجه تقديم هارون هنا الرعاية على الفاصلة ، فالتقديم وقع في الحكاية لا في المحكي ، إذ وقع في الآية الأخرى (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء : ٤٧ ، ٤٨]. ويجوز أن يكون تقديم هارون في هذه الآية من حكاية قول السحرة ، فيكون صدر منهم قولان ، قدموا في أحدهما اسم هارون اعتبارا بكبر سنّه ، وقدموا اسم موسى في القول الآخر اعتبارا بفضله على هارون بالرسالة وكلام الله تعالى ، فاختلاف العبارتين باختلاف الاعتبارين.

ويقال : آمن له ، أي حصل عنده الإيمان لأجله. كما يقال : آمن به ، أي حصل الإيمان عنده بسببه. وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأنّ آمنه بمعنى صدقه ، ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق إلّا بأحد هذين الحرفين.

وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وروح عن يعقوب (آمَنْتُمْ) بهمزة واحدة بعدها مدّة وهي المدّة الناشئة عن تسهيل الهمزة الأصلية في فعل آمن ، على أنّ الكلام استفهام.

وقرأه ورش من طريق الأصفهاني ، وابن كثير ، وحفص عن عاصم ، ورويس عن يعقوب ـ بهمزة واحدة على أنّ الكلام خبر ، فهو خبر مستعمل في التوبيخ.

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ـ بهمزتين ـ على الاستفهام أيضا.

ولما رأى فرعون إيمان السحرة تغيّظ ورام عقابهم ولكنه علم أنّ العقاب على الإيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفّي من الذين آمنوا علّة إعلانهم الإيمان قبل استئذان فرعون ، فعدّ ذلك جرأة عليه ، وأوهم أنّهم لو استأذنوه لأذن لهم ، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطئوا مع موسى من قبل فأظهروا العجز عند مناظرته. ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأنّ موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالا للشكّ على نفوس الذين شاهدوا الآيات. وهذه شنشنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر. ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء ، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة.

وضمير (لَهُ) عائد إلى موسى مثل ضمير (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ).

١٥١

ومعنى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به. يقال : أذن له ، إذ أباح له شيئا.

والتقطيع : شدّة القطع. ومرجع المبالغة إلى الكيفية ، وهي ما وصفه بقوله (مِنْ خِلافٍ) أي مختلفة ؛ بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين ، أي تقطع اليد ثمّ الرجل من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى. والظاهر : أنّ القطع على هذه الكيفية كان شعارا لقطع المجرمين ، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر ، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدّة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعا.

وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطّل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جرّاء قطع يد ثمّ رجل من جهة واحدة ، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين.

و (من) في قوله (مِنْ خِلافٍ) للابتداء ، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع. والمجرور في موضع الحال ، وقد تقدّم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة.

والتصليب : مبالغة في الصلب. والصلب : ربط الجسم على عود منتصب أو دقّه عليه بمسامير ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) في سورة النساء [١٥٧]. والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضا بشدّة الدقّ على الأعواد.

ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيها لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه.

والجذوع : جمع جذع ـ بكسر الجيم وسكون الذال ـ وهو عود النخلة. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥]. وتعدية فعل (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) بحرف (في) مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يشبه حصول المظروف في الظرف ، فحرف (في) استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلّق معنى (في) لمتعلّق معنى (على).

وأيّنا : استفهام عن مشتركين في شدّة التعذيب. وفعل (لَتَعْلَمُنَ) معلق عن العمل لوقوع الاستفهام في آخره. وأراد بالمشتركين نفسه وربّ موسى سبحانه لأنه علم من قولهم (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [الشعراء : ٤٧] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم

١٥٢

موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] ، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حذرتموه. وهذا من غروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) بقولهم (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ٧٣] ، أي خير منك وأبقى عملا من عملك ، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.

[٧٢ ـ ٧٣] (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣))

أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه ، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين ، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل صدق.

والإيثار : التفضيل. وتقدّم في قوله تعالى : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) في سورة يوسف [٩١]. والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات ، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى ، وبذلك يلتئم عطف (وَالَّذِي فَطَرَنا) ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.

وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل ، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار.

وأخر (الَّذِي فَطَرَنا) عن (ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله ، ولأنّ فيه تعريضا بدعوة فرعون للإيمان بالله.

وصيغة الأمر في قوله (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) مستعملة في التسوية ، لأن (ما أَنْتَ قاضٍ) ما صدقه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلب ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه ، فلا نطلب منك خلاصا منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل (والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.

١٥٣

وانتصب (هذِهِ الْحَياةَ) على النيابة عن المفعول فيه ، لأنّ المراد بالحياة مدّتها.

والقصر المستفاد من (إنما) قصر موصوف على صفة ، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة ، فهو قصر حقيقيّ.

وجملة (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا) في محلّ العلّة لما تضمنه كلامهم.

ومعنى (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أنه أكرههم على تحدّيهم موسى بسحرهم فعلموا أن فعلهم باطل وخطيئة لأنّه استعمل لإبطال إلهيّة الله ، فبذلك كان مستوجبا طلب المغفرة.

وجملة (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) في موضع الحال ، أو معترضة في آخر الكلام للتذييل. والمعنى : أنّ الله خير لنا بأن نؤثره منك ، والمراد : رضى الله ، وهو أبقى منك ، أي جزاؤه في الخير والشرّ أبقى من جزائك فلا يهولنا قولك (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) [طه : ٧١] ، فذلك مقابلة لوعيده مقابلة تامة.

[٧٤ ـ ٧٦] (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصّة خروج بني إسرائيل ، ساقها الله موعظة وتأييدا لمقالة المؤمنين من قوم فرعون. وقيل : هي من كلام أولئك المؤمنين. ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصّة.

والمجرم : فاعل الجريمة ، وهي المعصية والفعل الخبيث. والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩].

واللام في (لَهُ جَهَنَّمَ) لام الاستحقاق ، أي هو صائر إليها لا محالة ، ويكون عذابه متجدّدا فيها ؛ فلا هو ميت لأنّه يحس بالعذاب ولا هو حيّ لأنه في حالة الموت أهون منها ، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت ، وهو كقول عبّاس بن مرداس :

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ

فلم أعط شيئا ولم أمنع

١٥٤

وليس هذا من قبيل قوله (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) [البقرة : ٦٨] ولا قوله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥].

وأما خلود غير الكافرين في النّار من أهل الكبائر فإن قوله (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) جعلها غير مشمولة لهذه الآية. ولها أدلّة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي. ونازعنا فيها المعتزلة والخوارج. وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.

والإتيان باسم الإشارة في قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ) للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسم الإشارة.

وتقدم معنى (عَدْنٍ) وتفسير (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) في سورة براءة [٧٢].

والتزكّي : التطهر من المعاصي.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧))

افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم. وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصا طويت بين ذكر القصتين ، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهّم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتوهم أن الأمر بالخروج وقع مواليا لانتهاء محضر السحرة ، مع أن بين ذلك قصصا كثيرة ذكرت في سورة الأعراف وغيرها ، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما همّ بإطلاق بني إسرائيل للخروج. ثمّ نكل إلى أن أذن لهم بأخرة فخرجوا ثمّ ندم على ذلك فأتبعهم.

فجملة (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى) ابتدائية ، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.

و (أَسْرِ) أمر من السرى ـ بضم السين وفتح الراء ـ وتقدّم في سورة الإسراء أنه يقال : سرى وأسرى. وإنما أمره الله بذلك تجنّبا لنكول فرعون عليهم. والإضافة في قوله (بِعِبادِي) لتشريفهم وتقريبهم والإيماء إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسوا عبيدا لفرعون.

١٥٥

والضرب : هنا بمعنى الجعل كقولهم : ضرب الذهب دنانير. وفي الحديث : «واضربوا إليّ معكم بسهم» ، وليس هو كقوله (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) [الشعراء : ٦٣] لأنّ الضرب هنالك متعد إلى البحر وهنا نصب طريقا.

واليبس ـ بفتح المثناة والموحدة ـ. ويقال : ـ بسكون الموحدة ـ : وصف بمعنى اليابس. وأصله مصدر كالعدم والعدم ، وصف به للمبالغة ولذلك لا يؤنث فقالوا : ناقة يبس إذا جفّ لبنها.

و (لا تَخافُ) مرفوع في قراءة الجمهور ، وعد لموسى اقتصر على وعده دون بقية قومه لأنه قدوتهم فإذا لم يخف هو تشجعوا وقوي يقينهم ، فهو خبر مراد به البشرى. والجملة في موضع الحال.

وقرأ حمزة وحده لا تخف على جواب الأمر الذي في قوله (فَاضْرِبْ) ، وكلمة تخف مكتوبة في المصاحف بدون ألف لتكون قراءتها بالوجهين لكثرة نظائر هذه الكلمة ذات الألف في وسطها في رسم المصحف ويسميه المؤدبون «المحذوف».

وأما قوله (وَلا تَخْشى) فالإجماع على قراءته بألف في آخره. فوجه قراءة حمزة فيها مع أنّه قرأ بجزم المعطوف عليه أن تكون الألف للإطلاق لأجل الفواصل مثل ألف (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] وألف (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] ، أو أن تكون الواو في قوله (وَلا تَخْشى) للاستئناف لا للعطف.

و (الدَّرْكِ) ـ بفتحتين ـ اسم مصدر الإدراك ، أي لا تخاف أن يدركك فرعون.

والخشية : شدّة الخوف. وحذف مفعوله لإفادة العموم ، أي لا تخشى شيئا ، وهو عامّ مراد به الخصوص ، أي لا تخشى شيئا مما يخشى من العدوّ ولا من الغرق.

[٧٨ ـ ٧٩] (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

الفاء فصيحة عاطفة على مقدر يدلّ عليه الكلام السابق ، أي فسرى بهم فأتبعهم فرعون ، فإن فرعون بعد أن رأى آيات غضب الله عليه وعلى قومه وأيقن أنّ ذلك كله تأييد لموسى أذن لموسى وهارون أن يخرجا بني إسرائيل ، وكان إذن فرعون قد حصل ليلا لحدوث موتان عظيم في القبط في ليلة الشهر السابع من أشهر القبط وهو شهر (برمهات)

١٥٦

وهو الذي اتّخذه اليهود رأس سنتهم بإذن من الله وسمّوه (تسري) فخرجوا من مدينة (رعمسيس) قاصدين شاطئ البحر الأحمر. وندم فرعون على إطلاقهم فأراد أن يلحقهم ليرجعهم إلى مدينته ، وخرج في مركبته ومعه ستمائة مركبة مختارة ومركبات أخرى تحمل جيشه.

وأتبع : مرادف تبع. والباء في (بِجُنُودِهِ) للمصاحبة.

واليمّ : البحر. وغشيانه إياهم : تغطيته جثثهم ، أي فغرقوا.

وقوله (ما غَشِيَهُمْ) يفيد ما أفاده قوله (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِ) إذ من المعلوم أنهم غشيهم غاش ، فتعيّن أن المقصود منه التهويل ، أي بلغ من هول ذلك الغرق أنّه لا يستطاع وصفه. قال في «الكشاف» : «هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة». وهذا الجزء من القصة تقدم في سورة يونس.

وجملة (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) في موضع الحال من الضمير في (غَشِيَهُمْ). والإضلال : الإيقاع في الضلال ، وهو خطأ الطريق الموصّل. ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعمل ما فيه ضرّ وهو المراد هنا. والمعنى : أنّ فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بثّ فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب ، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وعطف (وَما هَدى) على (أَضَلَ) : إما من عطف الأعمّ على الأخص لأنّ عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال ؛ وإما أن يكون تأكيدا لفظيا بالمرادف مؤكدا لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله (وَما هَدى) تأكيدا ل (أَضَلَ) بالمرادف كقوله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] وقول الأعشى : حفاة لا نعال لنا» من قوله :

إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا

إنّا كذلك ما نحفى وننتعل

وفي «الكشاف» : إن نكتة ذكر (وَما هَدى) التهكم بفرعون في قوله (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) اه. يعني أن في قوله (وَما هَدى) تلميحا إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر [٢٩] : (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) وما في هذه من قوله (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) [طه : ٦٣] ، أي هي هدي ، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضيا إلى التلميح إلى القصة كما في قول مهلهل:

١٥٧

لو كشف المقابر عن كليب

فخبّر بالذّنائب أيّ زير

يشير إلى قول كليب له على وجه الملامة : أنت زير نساء.

[٨٠ ـ ٨٢] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

هذه الجمل معترضة في أثناء القصة مثل ما تقدم آنفا في قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) الآية. وهذا خطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكيرا لهم بنعم أخرى. وقدّمت عليها النعمة العظيمة ، وهي خلاصهم من استعباد الكفرة.

وقرأ الجمهور (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ) ـ و (واعَدْناكُمْ) ـ بنون العظمة. وقرأهما حمزة ، والكسائي ، وخلف قد أنجيتكم ـ ووعدتكم بتاء المتكلّم.

وذكّرهم بنعمة نزول الشريعة وهو ما أشار إليه قوله (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ). والمواعدة : اتّعاد من جانبين ، أي أمرنا موسى بالحضور للمناجاة فذلك وعد من جانب الله بالمناجاة ، وامتثال موسى لذلك وعد من جانبه ، فتم معنى المواعدة ، كما قال تعالى في سورة البقرة [٥٢] : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

ويظهر أنّ الآية تشير إلى ما جاء في الإصحاح ١٩ من سفر الخروج : «في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر جاءوا إلى برّية سيناء هنالك نزل إسرائيل مقابل الجبل. وأما موسى فصعد إلى الله فناداه الربّ من الجبل قائلا : هكذا نقول لبيت يعقوب أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين وأنا حملتكم على أجنحة النّسور ، إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة ...» إلخ.

وذكر الطور تقدم في سورة البقرة.

وجانب الطور : سفحه. ووصفه بالأيمن باعتبار جهة الشخص المستقبل مشرق الشمس ، وإلّا فليس للجبل يمين وشمال معيّنان ، وإنما تعرّف بمعرفة أصل الجهات وهو مطلع الشمس ، فهو الجانب القبلي باصطلاحنا. وجعل محلّ المواعدة الجانب القبلي وليس هو من الجانب الغربي الذي في سورة القصص [٣٠] : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) وقال فيها (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ

١٥٨

إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤] فهو جانب غربي ، أي من جهة مغرب الشمس من الجبل ، وهو الذي آنس موسى منه نارا.

وانتصب (جانِبَ الطُّورِ) على الظرفية المكانية لأنّه لاتساعه بمنزلة المكان المبهم.

ومفعول المواعدة محذوف ، تقديره : المناجاة.

وتعدية (واعَدْناكُمْ) إلى ضمير جماعة بني إسرائيل وإن كانت مواعدة لموسى ومن معه الذين اختارهم من قومه باعتبار أنّ المقصد من المواعدة وحي أصول الشريعة التي تصير صلاحا للأمّة فكانت المواعدة مع أولئك كالمواعدة مع جميع الأمّة.

وقرأ الجميع (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ) إلخ ؛ فباعتبار قراءة حمزة ، والكسائي ، وخلف قد أنجيتكم ـ وواعدتكم بتاء المفرد تكون قراءة وأنزلنا ـ بنون العظمة ـ قريبا من الالتفات وليس عينه ، لأن نون العظمة تساوي تاء المتكلّم.

والسلوى تقدم في سورة البقرة. وكان ذلك في نصف الشهر الثاني من خروجهم من مصر كما في الإصحاح ١٦ من سفر الخروج.

وجملة (كُلُوا) مقول محذوف. تقديره : وقلنا أو قائلين. وتقدم نظيره في سورة البقرة.

وقرأ الجمهور (ما رَزَقْناكُمْ) بنون العظمة. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ما رزقتكم بتاء المفرد.

والطغيان : أشدّ الكبر. ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق : النهي عن ترك الشكر عليه وقلّة الاكتراث بعبادة المنعم.

وحرف (في) الظرفيّة استعارة تبعية ؛ شبه ملابسة الطغيان للنّعمة بحلول الطغيان فيها تشبيها للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعم عليه على طريقة المكنية ، وحرف الظرفية قرينتها.

والحلول : النزول والإقامة بالمكان ؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم.

وقرأ الجمهور (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) ـ بكسر الحاء ـ وقرءوا (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي) ـ بكسر اللّام الأولى على أنهما فعلا ـ حلّ الدّين يقال : حلّ الدين إذا آن أجل أدائه. وقرأه الكسائي ـ بالضمّ في الفعلين على أنّه من حلّ بالمكان يحلّ إذا نزل به. كذا في «الكشاف»

١٥٩

ولم يتعقبوه.

وهذا مما أهمله ابن مالك في «لامية الأفعال» ، ولم يستدركه شارحها بحرق اليمني في «الشرح الكبير». ووقع في «المصباح» ما يخالفه ولا يعوّل عليه. وظاهر «القاموس» أن حلّ بمعنى نزل يستعمل قاصرا ومتعديا ، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك.

وهوى : سقط من علوّ ، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده ، كما قالوا : هوت أمّه ، دعاء عليه ، وكما يقال : ويل أمّه ، ومنه : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٩] ، فأريد هويّ مخصوص ، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد.

وجملة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) إلى آخرها استطراد بعد التحذير من الطغيان في النعمة بالإرشاد إلى ما يتدارك به الطغيان إن وقع بالتوبة والعمل الصالح. ومعنى (تابَ) : ندم على كفره وآمن وعمل صالحا.

وقوله (ثُمَّ اهْتَدى) (ثم) فيه للتراخي في الرتبة ؛ استعيرت للدلالة على التباين بين الشيئين في المنزلة كما كانت للتباين بين الوقتين في الحدوث. ومعنى (اهْتَدى) : استمرّ على الهدى وثبت عليه ، فهو كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف : ١٣].

والآيات تشير إلى ما جاء في الإصحاح من سفر الخروج «الرب إله رحيم ورءوف ، بطيء الغضب وكثير الإحسان غافر الإثم والخطيئة ولكنّه لن يبرئ إبراء».

[٨٣ ـ ٨٥] (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥))

عطف على جملة (أَسْرِ بِعِبادِي) [طه : ٧٧] الواقعة تفسيرا لفعل (أَوْحَيْنا إِلى مُوسى) [طه : ٧٧] ، فقوله (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) هو مما أوحى الله به إلى موسى. والتقدير : وأن : ما أعجلك إلخ. وهو إشارة إلى ما وقع لهم أيام مناجاة موسى في الطور في الشهر الثالث لخروجهم من مصر. وهذا الجزء من القصة لم يذكر في سورة الأعراف.

والإعجال : جعل الشيء عاجلا.

والاستفهام مستعمل في اللّوم. والذي يؤخذ من كلام المفسرين وتشير إليه الآية : أنّ موسى تعجّل مفارقة قومه ليحضر إلى المناجاة قبل الإبّان الذي عيّنه الله له ، اجتهادا منه

١٦٠